المؤلفات » التوحيد عند مذهب أهل البیت (علیهم السلام)

الفصل الثامن

علم اللّه تعالى

معنى العلم
أقسام العلم
خصائص علم الله تعالى
كيفية علم الله تعالى
أقسام علم الله تعالى
علم الله الذاتي
علم الله بذاته
علم الله بالأشياء قبل إيجادها
علم الله بالأشياء بعد إيجادهما
سعة علم الله تعالى


الصفحة 170

الصفحة 171

المبحث الأوّل

معنى العلم

العلم: صفة من شأنها كشف المعلومات انكشافاً تامّاً لا يحتمل الخطأ.

وتكون هذه الصفة لله تعالى من غير سبق خفاء.

قال الشيخ المفيد: "العالم بالشيء هو الذي يكون الشيء منكشفاً له حاضراً عنده غير غائب عنه"(1).

تنبيه :

قال سديدالدين الحمصي: "قد حُدّ العلم بحدود [ أي: عُرِّف العلم بتعاريف ] لا تصلح، فالأولى أن لا يُحدّ [ أي: لا يعرّف ] العالم والعلم"(2).

____________

1- النكت الاعتقادية، الشيخ المفيد: الفصل الأوّل، ص 23.

2- المنقذ من التقليد، سديدالدين الحمصي: ج 1، القول في كونه عالماً، ص 38.


الصفحة 172

المبحث الثاني

أقسام العلم(1)

1 ـ العلم الحضوري

وهو عبارة عن حضور "المعلوم" عند "العالم"(2) بواقعيته ومن دون توسّط أيّ شيء.

أي: يكون الشيء معلوماً عند العالم بنفسه لا بتوسّط صورته.

نماذج من العلم الحضوري :

1 ـ علم الإنسان بذاته.

2 ـ علم الإنسان بأحاسيسه ومشاعره.

أقسام العلم الحضوري :

1 ـ أن يكون "العالِم" هو "المعلوم"، من قبيل علم الإنسان بذاته.

2 ـ أن يكون "العالم" غير "المعلوم"، من قبيل علم الإنسان بأحاسيسه ومشاعره.

2 ـ العلم الحصولي :

وهو العلم بالشيء عن طريق صورته المنتزعة منه والحاكية عنه، ومعظم علم الإنسان من هذا القبيل، وفيه يعلم الإنسان الأشياء عن طريق انعكاس الصورة الحاصلة منها على صفحة ذهنه.

تنبيهات حول العلم الحصولي :

1 ـ الأدوات الحسيّة في الإنسان كلّها، موظّفة في خدمة هذا العلم.

____________

1- انظر: كشف المراد، العلاّمة الحلّي: المقصد الثالث، الفصل الثاني، المسألة الثانية، ص 399 ـ 400 .

2- انظر: الأسرار الخفية، العلاّمة الحلّي: الفن الثالث، المقالة السادسة، المبحث الأوّل، سرّ 121، ص 561.


الصفحة 173

2 ـ يكون "الشيء الخارجي" في العلم الحصولي معلوماً عن طريق صورته، وتكون الصورة معلومة بذاتها.

أي: يكون الشيء معلوماً بغيره (بالصورة المطابقة له).

وتكون الصورة معلومة بنفسها بالعلم الحضوري.

3 ـ تكون الصورة المطابقة للأشياء في العلم الحصولي هي الوسيلة الوحيدة لإدراك الخارج، ولولاها لانقطعت صلة الإنسان بالخارج.

4 ـ العلم الحصولي في الواقع ليس بعلم حقيقة، وإنّما هو طريق إلى الواقع لمن لم يتمكّن من العلم الواقعي والعيان الحقيقي بالأشياء.


الصفحة 174

المبحث الثالث

خصائص علم الله تعالى

1 ـ علم الله تعالى غير حصولي.

دليل ذلك:

أوّلاً: إنّ العالِم بالعلم الحصولي، يحتاج في علمه إلى "صورة" الشيء الذي يريد أن يعلمه.

والله تعالى منزّه عن الاحتياج.

فلهذا لا يكون علمه تعالى من قبيل العلم الحصولي الذي يفتقر إلى "صورة الأشياء".

ثانياً: إنّ العلم الحصولي علم جزئي، وفيه تغيب بعض أجزاء المعلوم لدى العالم، والله تعالى منزّه عن هذه الجزئية والتبعيض.

2 ـ لا يوجد أيّ تشابه بين علمنا وعلم الله تعالى أبداً.

لأنّ علمنا مهما كان بديهياً فهو علم محدود، حادث، عارض وطارىء على وجودنا.

ولكن علمه تعالى ليس كمثله شيء، وهو علم غير محدود، قديم، ذاتي ولا يشوبه أيّ نقص.

3 ـ إنّ "العلم" من صفات الله الذاتية.

قال الإمام موسى بن جعفر الكاظم(عليه السلام): "ليس بين الله وبين علمه حدّ"(1).

ولهذا:

أوّلاً: لا يصح سلب صفة العلم عنه تعالى في جميع الأحوال.

____________

1- التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 10، ح 16، ص 134.


الصفحة 175

دليل ذلك:

نفي العلم عن الله في أيّ حالة من الحالات يوجب المنقصة له تعالى، فلهذا لا يصح نفي صفة العلم عنه تعالى في جميع الأحوال.

ثانياً: لا يصح القول بأنّ علم الله غير ذاته، بل علمه تعالى عين ذاته.

دليل ذلك:

ألف ـ إذا كان علم الله غير ذاته، فسيكون الله عند علمه بالأشياء:

1 ـ محتاجاً إلى شيء خارج عن ذاته.

2 ـ ناقصاً بذاته ومستفيداً للكمال من غيره.

ولكنّ الله منزّه عن الاحتياج والنقص.

فلهذا يقتضى تنزيهه القول بأنّ علمه عين ذاته.

ب ـ إذا قلنا بأنّ العلم غير الله، ثمّ قلنا لم يزل الله عالماً، أثبتنا معه شيئاً قديماً لم يزل، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً(1).

ولهذا قيل للإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام): إنّ قوماً يقولون: إنّه عزّ وجلّ لم يزل عالماً بعلم ...

فقال(عليه السلام): "من قال ذلك، ودان به، فقد اتّخذ مع الله آلهة أخرى...".

ثم قال(عليه السلام): "لم يزل الله عزّ وجلّ عليماً... لذاته".(2)(3)

ثالثاً: علم الله تعالى لا حدّ له ولا نهاية.

دليل ذلك:

____________

1- المصدر السابق: باب 10، ص 131.

2- المصدر السابق: باب 11، ح 3، ص 135.

3- تنبيه: قال تعالى: (لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه ) [النساء: 166]

لا يصح القول بأنّ هذه الآية تدلّ على أنّه تعالى عالم بعلم; لأنّ "أنزله بعلمه" تعني: أنزله وهو عالم به، ولو كان المقصود من العلم ذاتاً أخرى لوجب أن يكون العلم آلة في الإنزال، كما يقال: "كتبت بالقلم"، ولكن العلم ليس آله.


الصفحة 176

الذات الإلهية لا حدّ لها ولا نهاية، وعلم الله عين ذاته.

ولهذا قال الإمام الصادق(عليه السلام) لأحد أصحابه: "لا تقل ذلك [ أي: لا تقل الحمد لله منتهى علمه ]، فإنّه ليس لعلمه [ تعالى ] منتهى"(1).

رابعاً: علم الله لا يتغيّر ولا يتبدّل.

دليل ذلك:

علم الله عين ذاته، ويلزم التغيير والتبدّل فيه التغيير والتبدّل في ذات الله تعالى، وهذا محال، لأنّه تعالى ليس محلاًّ للتغيّرات والتبدلاّت، وإنّما التغيير والتبدّل يكون في "المعلومات" لا في "العلم".

____________

1- التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 10، ح 1، ص 130.


الصفحة 177

المبحث الرابع

كيفية علم الله تعالى

لا يصح السؤال أو البحث عن كيفية علم الله تعالى.

دليل ذلك:

ورد في أحاديث أئمة أهل البيت(عليهم السلام) النهي عن الكلام أو البحث عن كيفية ذات الله، وبما أنّ العلم الإلهي من صفات الله الذاتية، فلهذا لا يصح الكلام أو البحث عن كيفيته.

قال الإمام موسى بن جعفر الكاظم(عليه السلام):

"لا يوصف العلم من الله بكيف"(1).

وما يجب علينا معرفته أنّه تعالى "عالم" بمعنى أنّه لا يجهل شيئاً. ولهذا ورد في أحاديث أئمة أهل البيت(عليهم السلام).

قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): "إنّما سُمّي [ الله تعالى ] عليماً; لأنّه لا يجهل شيئاً من الأشياء، لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء"(2).

قال الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام): "إنّما سُمّي الله عالماً; لأنّه لا يجهل شيئاً"(3).

قال الإمام محمّد بن علي الجواد(عليه السلام): "قولك [ عن الله ]: عالم، إنّما نفيت بالكلمة الجهل، وجعلت الجهل سواه"(4).

____________

1- التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 10، ح 16، ص 134.

2- بحار الأنوار، العلاّمة المجلسي: ج 3، ب 5، ص 194.

3- التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 29، ح2 ، ص183. الكافي، الشيخ الكليني: ج1 باب آخر وهو من الباب الأوّل، ح2، ص121.

4- التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 29، ح7، ص 188.


الصفحة 178

الصفحة 179

المبحث الخامس

أقسام علم الله تعالى

ينقسم علم الله بحسب متعلَّق العلم إلى عدّة أقسام، منها:

1 ـ علم الله الذاتي.

2 ـ علم الله بذاته.

3 ـ علم الله بالأشياء قبل إيجادها.

4 ـ علم الله بالأشياء بعد إيجادها.

وسنبيّن هذه الأقسام في المباحث القادمة.


الصفحة 180

المبحث السادس

علم الله الذاتي

علم الله الذاتي: هو العلم الذي يبتدع الله سبحانه وتعالى به الخلائق.

وقد أشار الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) إلى هذا العلم بقوله:

"سبحان من خلق الخلق بقدرته، وأتقن ما خلق بحكمته، ووضع كلّ شيء منه موضعه بعلمه"(1).

أدلة اتّصافه تعالى بالعلم الذاتي :

الدليل الأوّل(2):

فعل الله الأفعال المحكمة المتقنة.

وكلّ من فعل ذلك كان عالماً(3).

فلهذا نستنتج بأنّ الله تعالى عالم(4).

____________

1- بحار الأنوار، العلاّمة المجلسي: ج 4، باب 2، ح 20، ص 85 .

2- انظر: النكتب الاعتقادية، الشيخ المفيد: الفصل الأوّل، ص 23.

تلخيص المحصّل، نصيرالدين الطوسي: الركن الثالث، القسم الثاني، ص 277. المسلك في أصول الدين، المحقّق الحلّي: النظر الأوّل، المطلب الثاني، ص 44. قواعد المرام، ميثم البحراني: القاعدة الرابعة، الركن الثالث، البحث الثاني، ص 85 . كشف الفوائد، العلاّمة الحلّي: الباب الثاني: الصفات الثبوتية، العلم، ص 167. كشف المراد، العلاّمة الحلّي: المقصد الثالث، الفصل الثاني، المسألة الثانية، ص 397، مناهج اليقين، العلاّمة الحلّي: المنهج الرابع، البحث الخامس، ص 164. إرشاد الطالبين، مقداد السيوري: مباحث التوحيد، الدليل على أنّه تعالى عالم، ص 194.

3- أي: لا يتأتّى ذلك إلاّ من عالم.

وإنّ غير العالم يستحيل منه وقوع الفعل المتقن مرّة بعد أخرى.

انظر: كشف المراد، العلاّمة الحلّي: المقصد الثالث، الفصل الثاني، المسألة الثانية، ص 397.

4- إنّ هذا الدليل يثبت فقط اتّصاف الله تعالى بالعلم، وأمّا السبيل لمعرفة سعة علم الله تعالى فهو يتطلّب بيان أدلة أخرى سنذكرها في المباحث القادمة.


الصفحة 181

تنبيهات :

1 ـ المقصود من الفعل المحكم والمتقن صدوره مرّة بعد أخرى، لا صدوره مرّة واحدة ولهذا لا يصح الإشكال بأنّ الفعل المحكم والمتقن لا يدل على علم الفاعل; لأنّ النائم والساهي والجاهل قد تصدر منه بعض الأفعال المحكمة والمتقنة وهو غير عالم بها.

دليل عدم صحة هذا الإشكال :

صدور الفعل المحكم والمتقن مرّة واحدة أو مرّتين قد لا يدل على علم الفاعل، ولكن صدور هذا الفعل مرّة بعد أخرى يدل بالضرورة على علم الفاعل، وذلك لاستحالة وقوع الفعل المحكم والمتقن مرّة بعد أخرى من غير العالم(1).

2 ـ الفعل المحكم والمتقن هو المطابق للمنافع المقصودة منه(2).

وبما أنّ المقصود من هذا العالم هو اختبار الإنسان، فلهذا تكون الشرور والآلام والآفات من الأفعال المحكمة والمتقنة; لأنّها الوسيلة المطلوبة لهذا الاختبار، وهي الأداة اللازمة لمعرفة مدى صبر وتحمّل الإنسان.

3 ـ إنّ الله تعالى هو الذي يدبّر الحيوانات، وهو الذي يهديها إلى القيام ببعض الأفعال المحكمة والمتقنة.

ولهذا فإنّ قيام هذه الكائنات الحيّة ببعض الأفعال المحكمة مع عدم امتلاكها للعلم لا يعني صحّة صدور الفعل المحكم والمتقن من الجهة غير العالمة.

الدليل الثاني:

"إنّه [ تعالى ] مختار، وكلّ مختار عالم... لأنّ فعل المختار تابع لقصده، ويستحيل قصد شيء من دون العلم به"(3).

____________

1- انظر: قواعد العقائد، نصيرالدين الطوسي: الباب الثاني، علمه تعالى، ص 52. قواعد المرام، ميثم البحراني: القاعدة الرابعة، الركن الثالث، البحث الثاني، ص 85 .

2- انظر: تلخيص المحصّل، نصيرالدين الطوسي: الركن الثالث، القسم الثاني، ص 277.

3- النافع يوم الحشر في شرح الباب الحادي عشر، مقداد السيوري: الفصل الثاني، الصفة الثانية، ص 35.


الصفحة 182

الدليل الثالث:

العلم صفة من صفات الكمال، ووجوده عند المخلوقات دليل على وجوده عند الخالق بأكمل مراتبه وأظهر مصاديقه.

الدليل الرابع:

الجهل نقص، والله منزّه عن جميع أنواع النقص.


الصفحة 183

المبحث السابع

علم الله بذاته

يتعلّق العلم الإلهي بجميع الأشياء، وبما أنّ الله "شيء"، فلهذا يتعلّق هذا العلم بذات الله، فيثبت علم الله تعالى بذاته.

سُئل الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام): هل كان الله عارفاً بنفسه قبل أن يخلق الخلق؟

قال(عليه السلام): نعم"(1).

شبهة علم الله بذاته(2)

"العلم" نسبة قائمة بين "العالم" و "المعلوم".

والنسبة إنّما تكون بين شيئين متغايرين.

فإذا قلنا بأنّ الله يعلم بذاته، فإنّه يلزم أن يكون "علم الله" شيئاً مغايراً "لذات الله " .

وهذا يخالف القول بأنّ "علم الله" عين "ذاته".

جواب الشبهة :

أوّلاً:

ليس "العلم" نسبة قائمة بين "العالم" و "المعلوم".

____________

1- التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 29، ح 4، ص 186.

2- أُشير إلى هذه الشبهة وجوابها في كتاب:

تلخيص المحصّل، نصيرالدين الطوسي: الركن الثالث، القسم الثاني، ص 394 ـ 395.

كشف المراد، العلاّمة الحلّي: المقصد الثالث، الفصل الثاني، المسألة الثانية، ص 399. اللوامع الإلهية، مقداد السيوري: اللامع الثامن، المرصد الثاني، الفصل الأوّل، ص 199.


الصفحة 184

وإنّما العلم حقيقة.

قد تكون بين شيئين متغايرين.

وقد تكون في شيء واحد.

فإذا قلنا بأنّ الله يعلم بذاته، فإنّه لا يلزم التغاير بين "علم الله" و "ذاته".

وإنّما المقصود بيان حقيقة في شيء واحد.

ثانياً:

لو سلّمنا بأنّ العلم نسبة قائمة بين "العالم" و "المعلوم".

فإنّ التغاير الموجود بين العالم والمعلوم في هذا المقام تغاير من حيث "المفهوم" لا من حيث "المصداق".

وتعدّد "المفهوم"(1) لا يوجب تعدّد "المصداق"(2).

ومثاله:

إنّ لله تعالى العديد من الأسماء وهي مفاهيم، وتعدّد هذه الأسماء لا يوجب تعدّد الذات الإلهية التي هي مصداق لهذه الأسماء والمفاهيم.

بعبارة أخرى:

الشبهة المذكورة واردة فيما لو كان التغاير الموجود بين العالم والمعلوم في هذا المقام هو التغاير "الحقيقي"، ولكن التغاير الموجود هنا تغاير "اعتباري"، ولا يرد الإشكال المذكور في هذا النمط من التغاير.

____________

1- المفهوم: مجموع الصفات والخصائص الموضّحة لمعنى كلّي.

انظر: المعجم الوسيط، مادة (ف هـ م).

2- المصداق: الفرد الذي يتحقّق فيه معنى كلّي.

انظر: المعجم الوسيط: مادة (ص د ق).


الصفحة 185

المبحث الثامن

علم الله بالاشياء قبل ايجادها

قال الشيخ المفيد: "إنّ الله تعالى عالم بكلّ ما يكون قبل كونه، وإنّه لا حادث إلاّ وقد علمه قبل حدوثه... وبهذا قضت دلائل العقول والكتاب المسطور والأخبار المتواترة عن آل الرسول(عليهم السلام)، وهو مذهب جميع الإماميّة"(1).

أحاديث أهل البيت(عليهم السلام) حول علم الله بالأشياء قبل إيجادها

1 ـ وردت إلى الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) رسالة فيها سؤال حول الله، والسؤال :

"أكان يعلم الأشياء قبل أن خلق الأشياء وكوّنها أو لم يعلم ذلك حتّى خلقها وأراد خلقها وتكوينها فعلم ما خلق عندما خلق وما كوّن؟"

فوقّع(عليه السلام) بخطه: "لم يزل الله عالماً بالأشياء قبل أن يخلق الأشياء كعلمه بالأشياء بعدما خلق الأشياء"(2).

2 ـ قال الإمام محمّد بن علي الباقر(عليه السلام): "كان الله ولا شيء غيره ولم يزل عالماً بما يكون، فعلمه به قبل كونه كعلمه به بعد كونه"(3).

3 ـ قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): "لم يزل الله عزّ وجلّ ربّنا والعلم ذاته ولا معلوم...، فلمّا أحدث الأشياء وكان المعلوم وقع العلم منه على المعلوم"(4).

4 ـ قال الإمام علي(عليه السلام): "... كلّ عالم فمن بعد جهل تعلّم، والله لم يجهل ولم

____________

1- أوائل المقالات، الشيخ المفيد: القول 21: القول في علم الله تعالى بالأشياء قبل كونها، ص 54 ـ 55.

2- الكافي، الشيخ الكليني: ج 1، كتاب التوحيد، باب صفات الذات، ح 4، ص 107.

3- المصدر السابق: ح 2.

4- المصدر السابق: ح 1.


الصفحة 186

يتعلّم، أحاط بالأشياء علماً قبل كونها، فلم يزدد بكونها علماً، علمُه بها قبل أن يكوّنها كعلمه بعد تكوينها..."(1).

5 ـ سُئل الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): أرأيت ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة أليس كان في علم الله؟

قال(عليه السلام): "بلى قبل أن يخلق السماوات والأرض"(2).

6 ـ سئل الإمام علي بن موسى الرضا(عليهما السلام): أيَعلم الله الشيء الذي لم يكن أن لو كان كيف كان يكون، أو لا يعلم إلاّ ما يكون؟

فقال(عليه السلام): "إنّ الله تعالى هو العالم بالأشياء قبل كون الأشياء"(3).

7 ـ سُئل الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): عن الله تبارك وتعالى أكان يعلم المكان قبل أن يخلق المكان، أم علمه عندما خلقه وبعدما خلقه؟

فقال(عليه السلام): "تعالى الله، بل لم يزل عالماً بالمكان قبل تكوينه كعلمه به بعد ما كوّنه، وكذلك علمه بجميع الأشياء كعلمه بالمكان"(4).

8 ـ سُئل الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): هل يكون اليوم شيء لم يكن في علم الله تعالى.

قال(عليه السلام): "لا ، من قال هذا فأخزاه الله".

أرأيت ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة أليس في علم الله؟!

قال(عليه السلام): "بلى، قبل أن يخلق الخلق".(5)

9 ـ عن جعفر بن محمّد بن حمزة قال: كتبت إلى الرجل(عليه السلام) أسأله: أنِّ مواليك اختلفوا في العلم، فقال بعضهم: لم يزل الله عالماً قبل فعل الأشياء. وقال بعضهم: لا نقول: لم يزل الله عالماً; لأنّ معنى يعلم يفعل، فإن أثبتنا العلم فقد أثبتنا في الأزل

____________

1- التوحيد، الشيخ الصدوق: الباب الثاني، باب التوحيد ونفي التشبيه، ح 3، ص 44.

2- المصدر السابق: الباب العاشر، باب العلم، ح 5، ص 131.

3- المصدر السابق، ح 8 ، ص 132.

4- المصدر السابق: ح 9، ص 132.

5- المصدر السابق، باب 54، باب البداء، ح 8 ، ص 325.


الصفحة 187

معه شيئاً .

فإن رأيت ـ جعلني الله فداك ـ أن تعلّمني من ذلك ما أقف عليه ولا أجوزه؟

فكتب(عليه السلام) بخطه: "لم يزل الله عالماً تبارك وتعالى ذكره"(1).

10 ـ قال الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام)"... لم يزل الله عزّ وجلّ علمه سابقاً للأشياء قديماً قبل أن يخلقها..."(2).

تنبيه :

دور علم الله بالأشياء قبل وجودها هو الكشف عمّا سيقع في الواقع الخارجي فقط، وليس لهذا العلم أيّ دور في علّة صدور الأشياء(3) بل يستحيل أن يكون لهذا العلم أيّ أثر على أفعال الله تعالى .

كيفية علم الله بالأشياء قبل إيجادها :

ذهب بعض العلماء(4) إلى أنّ العلم بالعلّة يوجب العلم بالمعلول(5).

فمع لحاظ الأمور التالية:

1 ـ إنّ الله تعالى عالم بذاته.

2 ـ إنّ الذات الإلهية علّة لجميع ما سواه.

نستنتج:

____________

1- الكافي، الشيخ الكليني، ج1، كتاب التوحيد، باب صفات الله، ح5، ص108.

2- التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 10، ح 8 ، ص 132.

3- انظر: تلخيص المحصّل، نصيرالدين الطوسي: الركن الثالث، القسم الثاني، ص 296.

4- انظر: كشف المراد، العلاّمة الحلّي: المقصد الثالث، الفصل الثاني، المسألة الثانية، ص 398. الأسرار الخفية، العلاّمة الحلّي: الفن الثالث، المقالة السادسة، المبحث الأوّل، سرّ 120،ص 560.

إشراق اللاهوت، عميدالدين العبيدلي: المقصد الخامس، المسألة 16، المبحث الثالث، ص 275.

5- قال العلاّمة الحلّي بأنّ العلم بالعلّة يقع على ثلاثة أقسام، وفي قسمين لا يوجب العلم بالعلّة العلم التام بالمعلول، وإنّما يوجب العلم بالعلّة العلم التام بالمعلول فيما لو كان العلم بالعلّة من حيث هي هي، ومن حيث لوازمها وأعراضها وملزوماتها ومعروضاتها ومالها في نفسها ومالها بالقياس إلى الغير.

انظر: الأسرار الخفية، العلاّمة الحلّي: الفن الثالث، المقالة السادسة، المبحث الأوّل، سرّ 120، ص560.


الصفحة 188

علم الله بذاته يستلزم علمه تعالى بجميع ما سواه(1).

يرد عليه :

1 ـ العلم بالعلّة لا يوجب العلم بالمعلول إلاّ إذا كانت العلّة غير ممتلكة للإرادة، وغير مختارة(2)، ولكن إذا كانت العلّة لها إرادة ومختارة، أي: كانت العلّة تفعل متى ما تشاء ولا تفعل متى ما لا تشاء، فلا يؤدّي العلم بها العلم بمعلولاتها.

وبما أنّ الذات الإلهية، علّة مختارة فلا يؤدّي العلم بها العلم بمعلولاتها.

2 ـ العلم بالمعلول من خلال العلم بالعلّة لا يثبت إلاّ العلم الإجمالي، ولكن علم الله بالأشياء قبل ايجادها ـ كما ورد في أحاديث أهل البيت(عليهم السلام) ـ علم تام وغير إجمالي.

النتيجة :

إنّ الله تعالى عالم بالأشياء قبل إيجادها، ولكنّنا نجهل كيفية ذلك; لأنّ هذا العلم يرتبط بذات الله تعالى، وعلم الله ـ كما قال الإمام الكاظم(عليه السلام) ـ لا يوصف بكيف، وقد بيّنا هذه الحقيقة في المبحث الرابع من هذا الفصل.

____________

1- تنبيه: لا يصحّ القول بأنّنا عالمون بذواتنا التي هي علل لأفعالنا الآتية ولكننا مع ذلك لا نعلم ما سيصدر منّا .

دليل ذلك: إنّ ذواتنا ليست علّة مستقلّة لأفعالنا، بل أفعالنا محتاجة إلى أسباب خارجية بخلاف أفعال الله تعالى .

2- مثاله: إنّ علم المنجّم بالقوانين الكونية وحركة الشمس والأرض والقمر يوجب علمه بوقوع الخسوف والكسوف وما شابه ذلك.


الصفحة 189

المبحث التاسع

علم الله بالاشياء بعد ايجادها (العلم الفعلي)

إنّ الله تعالى محيط بجميع الأشياء بعد إيجادها.

وتسمّى هذه الإحاطة بعد تحقّق الأشياء في الواقع الخارجي بـ "العلم الفعلي لله".

تنبيه :

لا يوجد فرق بين علم الله بالشيء قبل وجوده وبين علمه تعالى به بعد وجوده إلاّ في متعلّق العلم.

فإذا كان متعلّق العلم "ما هو موجود"، فسيسمّى هذا العلم بـ "العلم الفعلي".

قال الشيخ الطوسي حول تفسير قوله تعالى: { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم } [ التوبة: 105 ]:

"إنّما قال { فسيرى الله } على وجه الاستقبال، وهو عالم بالأشياء قبل وجودها; لأنّ المراد بذلك أنّه سيعلمها "موجودة" بعد أن علمها "معدومة"، وكونه عالماً بأنّها "ستوجد" من كونه عالماً "بوجودها" إذا "وُجدت" لا يجدّد حال له بذلك"(1).

الآيات القرآنية المشيرة إلى العلم الفعلي لله :

1 ـ { الآن خفف الله عنكم وعلم أنّ فيكم ضعفاً } [ الأنفال: 66 ]

2 ـ { فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عدداً ثمّ بعثناهم لنعلم أيّ الحزبين أحصى لما لبثوا أمداً } [ الكهف: 12 ]

____________

1- التبيان في تفسير القرآن، الشيخ الطوسي: ج 5، تفسير آية 105 من سورة التوبة، ص 295.


الصفحة 190

3 ـ { ولنبلونكم حتّى نعلم المجاهدين منكم والصابرين } [ محمّد: 31 ]

4 ـ { أم حسبتم أن تدخلوا الجنّة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين } [ آل عمران: 142 ]

5 ـ { يا أيّها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب } [ المائدة: 94 ]

6 ـ { وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب } [ الحديد: 25 ]

7 ـ { وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلاّ لنعلم من يتبع الرسول ممّن ينقلب على عقبيه } [ البقرة: 143 ]

تنبيه :

إذن، المقصود من علم الله بهذه الأمور هو علمه تعالى "بوجودها"; لأنّ قبل وجود هذه الأمور لا يصح القول بأنّه تعالى عالم بوجودها، بل الله تعالى يعلم قبل ذلك بأنّها "ستوجد" أو "لا توجد، فإذا "وُجدت" صح القول بأنّه تعالى عالم "بوجودها".

كتاب التوحيد عند مذهب أهل البيت (عليهم السلام) علاء الحسّون (ص 191 - ص 236)

الصفحة 191

المبحث العاشر

سعة علم الله تعالى

إنّ الله تعالى عالم بكلّ ما يصح أن يكون معلوماً، سواء كان هذا المعلوم موجوداً أو معدوماً، واجباً أو ممكناً، قديماً أو حادثاً، كلّياً أو جزئياً، متناهياً أو غير متناه و..(1).

دليل ذلك :

إنّ الله تعالى عالم بكلّ ما يصح تعلّق العلم به من دون وجود مخصّص يخصّصه ببعض المعلومات دون البعض.

ولهذا يلزم أن يكون علمه تعالى شاملاً لجميع المعلومات(2).

بعبارة أخرى:

نسبة تعلّق علم الله بجميع المعلومات متساوية.

وعدم تعلّق علم الله بمعلوم يحتاج إلى سبب.

ولا يوجد في هذا الصعيد أيّ سبب.

فنستنتج بأنّ علم الله يتعلّق بجميع المعلومات(3).

____________

1- انظر: قواعد العقائد، نصيرالدين الطوسي: الباب الثاني، ص 53. كشف الفوائد، العلاّمة الحلّي: الباب الثاني: صفات الصانع، العلم، ص 171. النافع يوم الحشر في شرح الباب الحادي عشر، مقداد السيوري: الفصل الثاني، الصفة الثانية: أنّه تعالى عالم، المقصد الثاني، ص 36.

2- انظر: المنقذ من التقليد، سديدالدين الحمصي: 1 / 82 .

3- انظر: الياقوت، أبو إسحاق إبراهيم بن نوبخت: القول في إثبات الصانع، ص 42.

النكت الاعتقادية، الشيخ المفيد: الفصل الأوّل، ص 24. إشراق اللاهوت، عميدالدين العبيدلي: المقصد الخامس، المسألة 16، المبحث الأوّل، ص 273. النافع يوم الحشر في شرح الباب الحادي عشر، مقداد السيوري: الفصل الثاني، الصفة الثانية: أنّه تعالى عالم، المقصد الثاني، ص 36.


الصفحة 192

علم الله بالجزئيات :

إنّ الله تعالى عالم بالجزئيات.

دليل ذلك :

1 ـ العلم بالجزئيات صفة كمال، والجهل بها صفة نقصان.

وبما أنّ الله أكمل الموجودات، فلهذا يوجب وصفه بالكمال الاعتقاد بأنّه عالم بالجزئيات.

تنبيه :

علم الله بالجزئيات المتغيّرة لا يوجب التغيّر في علمه تعالى; لأنّ التغيير في هذا المقام يكون في "المعلومات" لا في "العلم".

وحقيقة علم الله شيء واحد، وهي الإحاطة الشاملة بكلّ المعلومات المتغيّرة من دون أن يطرء على هذه الإحاطة أيّ تغيير، بل لا معنى لوقوع التغيير في الإحاطة(1).

الآيات القرآنية الدالة على سعة علم الله تعالى :

1 ـ { إنّ الله بكل شيء عليم } [ الأنفال: 75 ] [ التوبة: 115 ] [ العنكبوت: 62 ]

2 ـ { إنّ الله قد أحاط بكل شيء علماً } [ الطلاق: 12 ]

3 ـ { وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلاّ هو ويعلم ما في البرِّ والبحر و... } [ الأنعام: 59 ]

4 ـ { لا يعزب [ أي: لا يغيب ] عنه مثقال ذرّة في السماوات ولا في

____________

1- انظر: الياقوت، أبو إسحاق إبراهيم بن نوبخت: القول في إثبات الصانع، ص 42. تلخيص المحصّل، نصيرالدين الطوسي: الركن الثالث، القسم الثاني، ص 295. قواعد المرام، ميثم البحراني: القاعدة الرابعة، الركن الثالث، البحث التاسع، ص 98 ـ 99. كشف المراد، العلاّمة الحلّي: المقصد الثالث، الفصل الثاني، المسألة الثانية، ص 400. إشراق اللاهوت، عميدالدين العبيدلي: المقصد الخامس، المسألة 16، المبحث الثالث، ص 275 ـ 276. اللوامع الإلهية، مقداد السيوري: اللامع الثامن، المرصد الثاني، الفصل الأوّل، ص 200.


الصفحة 193

الأرض } [ سبأ: 3 ]

5 ـ { إنّه يعلم الجهر وما يخفى } [ الأعلى: 7 ]

6 ـ { إنّ الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء } [ آل عمران: 5 ]

7 ـ { وسع ربّنا كلّ شيء علماً } [ الأعراف: 89 ]

8 ـ { قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السموات وما في الأرض } [ آل عمران: 29 ]


الصفحة 194

الصفحة 195

فهرس المطالب / تحميل الكتاب

فهرس المطالب

zip pdf