(9)
الصفات التنزيهيّة
الحلول
الحلول عبارة عن: "قيام موجود بموجود على سبيل التبعية"(1).
الحلول عبارة عن دخول شيء في محل يحويه، ويحلّ داخله على سبيل التبعية.
ومعنى "على سبيل التبعية":
أن تكون الصلة بين "الحال" و "المحل" صلة تبعية كالصلة بين الجسم ومكانه.
القائلون بالحلول :(2)
ذهب بعض النصارى إلى القول بحلول الله في المسيح(عليه السلام).
ذهب بعض الصوفية إلى القول بحلول الله في أبدان العارفين.
أدلة استحالة حلوله تعالى في الأشياء :
1 ـ الحلول ملازم للجسمانية، والله منزّه عن الجسمانية(3).
2 ـ إذا جوّزنا الحلول على الله فإنّه تعالى:
أوّلاً: إمّا يكون حالاًّ في محل واحد:
____________
1- ، (2) انظر: تلخيص المحصل، نصيرالدين الطوسي: القسم الثاني، الصفات السلبية، ص 260 ـ 261. قواعد المرام، ميثم البحراني: القاعدة الرابعة، الركن الأوّل، البحث الخامس، ص 73. كشف المراد، العلاّمة الحلّي: المقصد الثالث، الفصل الثاني، المسألة الثالثة عشر، ص 407. إشراق اللاهوت، عميدالدين العبيدلي: المقصد الخامس، المسألة الثانية عشر، ص 250. إرشاد الطالبين، مقداد السيوري: مباحث التوحيد، استحالة التحيّز للباري تعالى، ص 227. 3- حق اليقين، عبدالله شبر: الباب الثاني، ص 61.
فيلزم كونه تعالى جزءاً لا يتجزّأ، وهو محال.
لأنّ الجزء الذي لا يتجزّأ صغير جدّاً، والله منزّه عن الاتّصاف بهذه الصورة.
ثانياً: أن يكون حالاًّ في أكثر من محل واحد:
فيلزم كونه تعالى مركّباً وقابلاً للقسمة، وهو محال(1).
____________
1- مناهج اليقين، العلاّمة الحلّي: المنهج الخامس، البحث الثالث، ص 203.
(10)
الصفات التنزيهيّة
الحوادث
الحوادث هي ما يطرء على الذات من التغيّرات المختلفة، من قبيل: الحركة والسكون، النوم واليقظة، اللذّة والألم، النشاط والضعف، ونحوها من الأعراض التي تنقل الذّات من حالة إلى أخرى.
دليل بطلان كونه تعالى محلاًّ للحوادث :
الحوادث تستلزم التغيّر والانفعال والتأثّر.
لأنّ الذات التي تطرء عليها الحوادث تتغيّر وتنفعل وتنتقل من حالة إلى أخرى.
وهذه من صفات الأشياء المادية والجسمانية.
وبما أنّه تعالى منزّه عن الأمور المادية والجسمانية، فلهذا يستحيل عليه أن يكون محلاًّ للحوادث(1).
حديث شريف :
قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): "... إنّه ليس شيء إلاّ يبيد أو يتغيّر، أو يدخله التغيّر والزوال، أو ينتقل من لون إلى لون، ومن هيئة إلى هيئة، ومن صفة إلى صفة، ومن زيادة إلى نقصان، ومن نقصان إلى زيادة، إلاّ ربّ العالمين فإنّه لم يزل ولا يزال بحالة واحدة..."(2).
____________
1- قواعد المرام، ميثم البحراني: القاعدة الرابعة، الركن الأوّل، البحث السابع، ص 74 . كشف المراد، العلاّمة الحلّي: المقصد الثالث، الفصل الثاني، المسألة (16)، ص 408. إرشاد الطالبين، مقداد السيوري: مباحث التوحيد ص 232. 2- الكافي، الشيخ الكليني: ج 1، كتاب التوحيد، باب معاني الأسماء واشتقاقها، ح 5، ص 115.
(11)
الصفات التنزيهيّة
الرويـة
قال الشيخ المفيد: "لا يصح رؤية الباري سبحانه بالأبصار، وبذلك شهد العقل، ونطق القرآن، وتواتر الخبر عن أئمة الهدى من آل محمّد(عليهم السلام)، وعليه جمهور أهل الإمامة وعامّة متكلّميهم ... والمعتزلة بأسرها توافق أهل الإمامة في ذلك".(1)(2)
____________
1- أوائل المقالات، الشيخ المفيد: قول 25: القول في نفي الرؤية على الله تعالى بالأبصار، ص 57. 2- للمزيد راجع في هذا الكتاب: الفصل الخامس: رؤية الله بالبصر.
(12)
الصفات التنزيهيّة
الزمان
اختلفت الأقوال حول حقيقة الزمان، ومن هذه الأقوال أنّ الزمان عبارة عن:
1 ـ الفلك الأعظم; لأنّه محيط بكلّ الأجسام.
2 ـ مقدار حركة الفلك الأعظم (قول أرسطو).
3 ـ مقدار حركة الطبيعة الفلكية(1).
تنزيه الله عن إحاطة الزمان به :
1 ـ قال الإمام علي(عليه السلام): "الحمد لله الذي... لم يسبقه وقت، ولم يتقدّمه زمان"(2).
2 ـ سئل الإمام علي(عليه السلام): يا أميرالمؤمنين متّى كان ربّنا؟
فقال(عليه السلام): ".. إنّما يقال: متى كان لمن لم يكن فكان، هو كائن بلا كينونة كائن..."(3).
3 ـ قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): "إنّ الله تبارك وتعالى لا يُوصف بزمان... بل هو خالق الزمان"(4).
4 ـ سأل أحد الأشخاص الإمام محمّد بن علي الباقر(عليه السلام): أخبرني عن الله متى كان؟ فقال له(عليه السلام): ويلك أخبرني أنت متى لم يكن حتّى أخبرك متى كان، سبحان من لم يزل ولم يزال..."(5).
____________
1- للمزيد راجع: صراط الحق، محمّد آصف المحسني: ج 2، المطلب الثالث، ص 32. 2- التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 2، ح 1، ص 33. 3- المصدر السابق: باب 27، ح 6، ص 171. 4- الأمالي، الشيخ الصدوق: المجلس (47)، ح 430 / 7، ص 353. 5- التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 28، ح 1، ص 168.
دليل تنزيه الله عن إحاطة الزمان به :
يلزم إحاطة الزمان بالله تعالى:
أن يتقدّم جزء من الزمان على الله، وأن يتأخّر جزء آخر منه عليه فيكون الجزء الأول ماضياً.
ويكون الجزء الثاني مستقبلاً.
وهذا ما لا شك في امتناعه عليه تعالى.
لأنّ الله تعالى، لا يتقدّم عليه شيء، وهو عزّ وجلّ بكلّ شيء محيط.
(13)
الصفات التنزيهيّة
الشبيه
لا خلاف بأنّ الله تبارك وتعالى لا يشبه شيئاً من مخلوقاته.
وقد قال تعالى واصفاً نفسه { ليس كمثله شيء } [ الشورى: 11 ](1)
____________
1- للمزيد راجع في هذا الكتاب: "الفصل الخامس عشر، المبحث الثاني، قول المشبّهة: تشبيه صفات اللّه بصفات الإنسان .
(14)
الصفات التنزيهيّة
الشريك
أدلة استحالة وجود الشريك لله تعالى:
1 ـ دليل الاشتراك والامتياز
لو فُرض إلاهان في الوجود، فإنّهما:
سيشتركان في مفهوم "الإله".
وسيمتاز كلّ واحد منهما بأمر مغاير لما فيه اشتراكهما.
وحينئذ يكون كلّ واحد منهما مركباً مما به الاشتراك ومما به الامتياز.
وكلّ مركّب ممكن، ولكن الله تعالى واجب الوجود.
فيثبت بطلان وجود الشريك له تعالى(1).
2 ـ دليل التمانع
وجود الشريك يستلزم اختلاف إرادتيهما في بعض الأحيان.
وهذا ما يؤدّي إلى الفساد في نظام الوجود والإخلال بنظام الكون.
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة بقوله تعالى: { لو كان فيهما آلهة إلاّ الله لفسدتا } [ الانبياء: 23 ]
* قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام):
"...إن قلت: إنّهما اثنان لم يخل من أن يكونا:
____________
1- أنظر: المسلك في أصول الدين، المحقق الحلّي: النظر الأوّل، المطلب الثالث، ص 55.
متّفقين من كلّ جهة.
أو مفترقين من كلّ جهة.
فلمّا رأينا الخلق منتظماً، والفلك جارياً، والتدبير واحداً، والليل والنهار والشمس والقمر، دلّ صحة الأمر والتدبير وائتلاف الأمر على أنّ المدبّر واحد(1).
بعبارة أخرى:
لو كان في الوجود إلاهان، لكان كلّ واحد منهما قادراً لذاته.
فإذا أراد أحدهما تحريك جسم، وأراد الآخر تسكينه في حالة واحدة، فلا يخلو الأمر من الأقسام التالية:
الأوّل: يقع مرادهما، وهو محال; لأنّه جمع بين النقيضين، ويكون الجسم في هذه الحالة متحرّكاً وساكناً في وقت واحد، وهو محال.
الثاني: لا يقع مرادهما، ويلزم منه عجزهما، والإله لا يكون عاجزاً.
الثالث: يقع مراد أحدهما، فيكون الإله هو القادر، وأمّا العاجز فليس أهلاً للألوهية(2).
* سُئل الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): لم لا يجوز أن يكون صانع العالم أكثر من واحد؟
قال(عليه السلام): "لا يخلو قولك: إنّهما اثنان من أن يكونا قديمين قويين، أو يكونا ضعيفين، أو يكون أحدهما قويّاً والآخر ضعيفاً.
فإن كانا قويين فلم لا يدفع كلّ واحد منهما صاحبه ويتفرّد بالربوبية؟
وإن زعمت أنّ أحدهما قوي والآخر ضعيف ثبت أنّه واحد ـ كما نقول ـ للعجز الظاهر في الثاني"(3).
3 ـ جاء في وصية الإمام علي(عليه السلام) لولده الإمام الحسن(عليه السلام):
لو كان لربّك شريك لأتتك رسله، ولرأيت آثار ملكه وسلطانه، ولعرفت أفعاله
____________
1- الكافي، الشيخ الكليني: ج 1، كتاب التوحيد، باب حدوث العالم وإثبات المحدث، ح 5، ص 81 . 2- المصدر السابق، ص 55 ـ 56. 3- بحار الأنوار، العلاّمة المجلسي: ج 3، كتاب التوحيد، باب 6، ح 22، ص 230.
وصفاته، ولكنه إله واحد كما وصف نفسه...."(1).
____________
1- نهج البلاغة، الشريف الرضي: قسم الرسائل، رسالة رقم 31، ص 541.
(15)
الصفات التنزيهيّة
الضـدّ
معاني "الضدّية" بين الشيئين:
المعنى الأوّل: لا يجتمعان في محل وزمان واحد.
مثال ذلك: الحرارة والبرودة، السواد والبياض.
المعنى الثاني: لكلّ واحد منهما أثر ينافي أثر الآخر.
مثال ذلك: الماء والنار.
المعنى الثالث: لأحدهما قدرة تمنع الآخر.
مثال ذلك: أن يتنازع شخصان في فعل واحد، وأحدهما أقوى من الآخر(1).
أدلة تنزيه الله عن وجود ضدّ له(2):
بالنسبة إلى المعنى الأوّل:
إنّ الله منزّه عن المكان والزمان، كما أنّ اجتماعه مع شيء آخر في مكان واحد يستلزم الحلول، والحلول ـ كما ثبت سابقاً ـ محال بالنسبة إلى الله تعالى.
بالنسبة إلى معنى الثاني:
كلّ ما سوى الله مخلوق، وليس له الاستقلالية في وجوده; لأنّ وجوده قائم بغيره، فلهذا يستحيل على أي مخلوق أن يترك أثراً منافياً عليه تعالى.
بالنسبة إلى المعنى الثالث:
____________
1- انظر: كشف المراد، العلاّمة الحلّي: المقصد الثالث، الفصل الثاني، المسألة (11)، ص 406. اللوامع الإلهية، مقداد السيوري: اللامع الثامن، المرصد الأوّل، الفصل الثالث،ص 156. إيضاح المراد، علي رباني كلبايكاني: المسألة (11) في أنّه تعالى لا ضدّ له، ص 87 . 2- انظر: المصدر السابق.
كلّ ما سوى الله ممكن الوجود، والممكن لا يستطيع أبداً مواجهة الواجب، ولهذا قال تعالى { وهو القاهر فوق عباده } [ الأنعام: 18 ].
(16)
الصفات التنزيهيّة
الكيفيات المحسوسة
الكيفيات المحسوسة: من قبيل اللون والطعم والرائحة والحرارة والبرودة والرطوبة و...
أدلة تنزيه الله عن الكيفيات المحسوسة :
1 ـ الكيفيات المحسوسة من خواص الجسم والله تعالى منزّه عن الجسمانية.
2 ـ الكيفيات المحسوسة حادثة، لكن الباري غير حادث، فيمتنع أن يكون قابلاً للحوادث.
3 ـ الكيفيات المحسوسة تستلزم الانفعال، والله منزّه من الانفعال(1).
أحاديث لأهل البيت(عليهم السلام) حول تنزيه الله عن الكيفية :
1 ـ سئل رسول الله(صلى الله عليه وآله) عن الله تعالى: كيف هو؟
قال(صلى الله عليه وآله): "وكيف أصف ربّي بالكيف، والكيف مخلوق الله، والله لا يوصف بخلقه"(2).
2 ـ قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) حول الله تعالى: "لا كيف له ولا أين; لأنّه عزّ وجلّ كيّف الكيف، وأيّن الأين"(3).
3 ـ قال الإمام علي(عليه السلام) حول الله تعالى: "... المعروف بغير كيفية"(4).
____________
1- انظر: تلخيص المحصّل، نصيرالدين الطوسي: الركن الثالث: القسم الثاني، ص 267 ـ 268. مناهج اليقين، العلاّمة الحلّي: المنهج الخامس، البحث الثامن، ص 209. 2- التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 44، ح 1، ص 303. 3- التوحيد، الشيخ الصدوق، باب 44، ح 2، ص 304. 4- المصدر السابق: باب 2، ح 34، ص 76.
4 ـ قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام) حول الله تعالى: "... ولا يوصف بكيف... فكيف أصفه بكيف، وهو الذي كيّف الكيف حتّى صار كيفاً..."(1).
5 ـ قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): "من نظر في الله كيف هو هلك"(2).
6 ـ قال الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام): "إذا سألوك عن الكيفية، فقل كما قال الله عزّ وجلّ: { ليس كمثله شيء } [ الشورى: 11 ]"(3)
____________
1- المصدر السابق: باب 8 ، ح 14، ص 111. 2- الكافي، الشيخ الكليني: كتاب التوحيد، باب النهي عن الكلام في الكيفية، ح 5، ص 93. 3- التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 4، ح 14، ص 92 ـ 93.
(17)
الصفات التنزيهيّة
اللذة والالم(1)
تعريف اللذة والألم عند المتكلّمين :
اللذة: حالة حاصلة من تغيّر المزاج إلى الاعتدال.
الألم: حالة حاصلة من تغيّر المزاج إلى الفساد.
تعريف اللذة والألم عند الفلاسفة :
اللذة: إدراك الذات ما يلائمها.
الألم: إدراك الذات ما ينافيها.
الألم في الذات الإلهية :
اتّفق الجميع على انتفاء الألم عنه تعالى، ودليل ذلك:
المتكلّمون: الألم من توابع المزاج، والمزاج يوجب التغيير والانفعال، والله تعالى منزّه عن هذه الأمور.
الفلاسفة: الألم إدراك الذات ما ينافيها، ولا مناف له تعالى; لأنّ ما عداه صادر عنه، فلا يكون منافياً له.
____________
1- انظر: قواعد العقائد، نصيرالدين الطوسي: الباب الثاني، الصفات السلبية، ص 70. قواعد المرام، ميثم البحراني: القاعدة الرابعة، الركن الثاني، البحث الثامن، ص 75. كشف المراد، العلاّمة الحلّي: المقصد الثالث، الفصل الثاني، المسألة (18)، ص 409. مناهج اليقين، العلاّمة الحلّي: المنهج الخامس، البحث السابع، ص 208 ـ 209. إرشاد الطالبين، مقداد السيوري: مباحث التوحيد، استحالة قيام اللذة والألم بذاته تعالى، ص 233.
اللذة في الذات الإلهية :
وقع الخلاف بين العلماء حول وجود اللذة في الذات الإلهية:
المتكلّمون: إنّ الله تعالى منزّه عن اللذة; لأنّ اللذة من توابع المزاج، وملازمة للانفعال، ولا تصح إلاّ في الأجسام، والله تعالى منزّه عن المزاج والانفعال والجسمانية.
الفلاسفة: اللذة عبارة عن إدراك الذات ما يلائمها، والله تعالى مدرك لذاته بذاته، وذاته في غاية الجمال والكمال والبهاء، فلهذا يكون لله تعالى أعظم البهجة والسرور واللذة بذاته.
تنبيه :
منع العلماء توصيفه تعالى باللذة; لأنّ أوصاف الله توقيفية، ولا يجوز توصيفه تعالى إلاّ بما وصف به نفسه(1).
وقال مقداد السيوري في هذا الخصوص: "والذي يقتضيه العقل هو عدم التهجّم على هذه الذات المقدّسة بما لا ضرورة إلى إثباته ولم يرد الإذن فيه"(2).
____________
1- انظر من المصدر السابق: قواعد المرام: 75، كشف المراد: 409، مناهج اليقين: 209، إرشاد الطالبين: 236. 2- اللوامع الإلهية، مقداد السيوري: اللامع الثامن، المرصد الأوّل، الفصل التاسع، ص 161.
(18)
الصفات التنزيهيّة
المثيل
"المثل" هو الشيء الذي يتوافق مع غيره في الماهية.
مثال ذلك: زيد مثل عمر في الإنسانية.
أدلة استحالة مماثلته تعالى لغيره :
1 ـ المماثلة تكون في "الماهية"، والله تعالى ليس له ماهية، فلا مثل له.
2 ـ إذا كان الشيئان متماثلين، فسيلزم من ذلك:
اشتراكهما في لوازم الذات.
ومن لوازم ذات الله تعالى "القدم".
ومن لوازم ذات غيره تعالى "الحدوث".
فإذا قلنا بأنّ ذاته تعالى مماثلة لذات غيره، فمعنى ذلك: أن يكون "الحدوث" من لوازم ذات الله تعالى الذي هو قديم.
وأن يكون "القدم" من لوازم ذات غير الله الذي هو حادث.
فيصبح الحادث قديماً، والقديم حادثاً، وهذا خلف.
فيثبت استحالة مماثلته تعالى لغيره(1).
3 ـ كلّ ذاتين اشتركا في أمر ذاتي:
فلابد أن يتميّز أحدهما عن الآخر بأمر عرضي.
____________
1- انظر: كشف المراد، العلاّمة الحلّي: المقصد الثالث، الفصل الثاني، المسألة (9)، ص405، نهج الحق وكشف الصدق، العلاّمة الحلّي: المسألة الثالثة، البحث الثاني،ص 54. إرشاد الطالبين، مقداد السيوري: مباحث التوحيد، كونه تعالى لا مثل له، ص 224.
فيكون "ما به الامتياز" جزء لكلّ واحد منهما.
فلو شارك الله غيره في شيء من الأشياء، لكان مركباً، وبما أنّ الله منزّه عن التركيب، فلا يصح أن يكون له مماثل(1).
نفي المثيل عنه تعالى في القرآن الكريم :
قال عزّ وجلّ: { ليس كمثله شيء } [ الشورى: 11 ]
أي: ليس مثله شيء على وجه من الوجوه(2).
نفي المثيل عنه تعالى في الأحاديث الشريفة :
1 ـ قال الإمام علي(عليه السلام): "... فلا شبه له من المخلوقين، وإنّما يُشبّه الشيء بعديله، فأمّا ما لا عديل له، فكيف يُشبّه بغير مثاله..."(3).
2 ـ قال الإمام علي(عليه السلام): "كلّ ما في الخلق لا يوجد في خالقه"(4).
3 ـ قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): "كلّ شيء وقع عليه اسم شيء سواه [ تعالى ] فهو مخلوق"(5).
4 ـ قال الإمام محمّد بن علي الباقر(عليه السلام): "ما وقع همّك عليه من شيء فهو خلافه، لا يشبهه شيء..."(6).
____________
1- مناهج اليقين، العلاّمة الحلّي: المنهج الخامس، البحث العاشر، ص 211. 2- فتكون "الكاف" في "كمثله" زائدة. وقال الشريف المرتضى: "الكاف ليست زائدة، وإنّما نفى أن يكون لمثله مثل، فإذا ثبت ذلك عُلم أنّه لا مثل له; لأنّه لو كان له مثل لكان له أمثال، وكان لمثله مثل... نعلم بذلك أنّه لا مثل له أصلاً... فأراد الله تعالى أن يبيّن أنّه منزّه عن التشبيه أنّه كشيء أو مثل شيء". متشابه القرآن ومختلفه، محمّد بن علي بن شهر آشوب: سورة الشورى، ص 104. 3- التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 2، ح 13، ص 52. 4- التوحيد، الشيخ الصدوق: ح 1، ص 41. 5- المصدر السابق، ح 16، ص 58. 6- الكافي، الشيخ الكليني: كتاب التوحيد، باب إطلاق القول بأنّه شيء، ح1، ص 82 .
(19)
الصفات التنزيهيّة
المكان
أدلة تنزيه الله عن وجوده في مكان:
1 ـ يستلزم ذلك احتياج الله إلى المكان، ولكنّه تعالى هو الغني الذي لا يحتاج إلى شيء(1).
سئل الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): هل يجوز أن نقول: إنّ الله عزّ وجلّ في مكان؟
فقال(عليه السلام): "سبحان الله وتعالى عن ذلك، إنّه لو كان في مكان لكان محدَثاً; لأنّ الكائن في مكان محتاج إلى المكان، والاحتياج من صفات المُحدَث لا من صفات القديم"(2).
2 ـ إنّ المكان الذي يكون الله فيه لا يخلو من أمرين:
الأوّل: قديم، فيستلزم ذلك تعدّد القدماء، وهذا باطل.
الثاني: حادث، والحادث محدود، ولكنّه تعالى غير محدود، والشيء المحدود لا يسعه إحاطة الشيء غير المحدود.
فيثبت بطلان وجوده تعالى في مكان(3).
____________
1- انظر: النكتب الاعتقادية، الشيخ المفيد: الفصل الأوّل، ص 29. قواعد العقائد: نصيرالدين الطوسي، الباب الثاني، الصفات السلبية، ص 69. قواعد المرام، ميثم البحراني: القاعدة الرابعة، الركن الثاني، البحث الرابع، ص 71. الباب الحادي عشر، العلاّمة الحلّي: الفصل الثالث: الصفات السلبية، الصفة الثانية، ص 52. 2- التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 28، ح11، ص174 . 3- انظر: كنز الفوائد، أبو الفتح الكراجكي: ج 2، فصل: من الكلام في أنّ الله تعالى لا يجوز أن يكون له مكان، ص 104. إرشاد الطالبين، مقداد السيوري: مباحث التوحيد، استحالة التحيّز للباري تعالى، ص 227.
أحاديث لأهل البيت(عليهم السلام) حول تنزيه الله تعالى عن الوجود في مكان :
1 ـ قال الإمام علي(عليه السلام): "... إنّ اللّه جلّ وعزّ أيّن الأين فلا أين له، وجلّ عن أن يحويه مكان..."(1).
2 ـ قال الامام علي(عليه السلام): "كان الله ولا مكان"(2).
3 ـ قال الإمام جعفر بن محمّد(عليه السلام): "ولا يوصف [ عزّ وجلّ ] بكيف ولا أين...، كيف أصفه بأين وهو الذي أيّن الأين حتّى صار أيناً، فعرفت الأين بما أيّنه لنا من الأين..."(3).
4 ـ سُئل الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): أين كان ربّنا قبل أن يخلق سماءً أو أرضاً؟ فقال(عليه السلام): "أين سؤال عن مكان، وكان الله ولا مكان"(4).
معنى نسبة بعض الأماكن إلى الله تعالى :
1 ـ ورد في معنى قول إبراهيم(عليه السلام): { إنّي ذاهب إلى ربّي سيهدين } [ الصافات: 99 ]
ومعنى قول موسى(عليه السلام): { وعجلت إليك ربِّ لترضى } [ طه: 84 ]
وقوله عزّ وجلّ: { ففرُّوا إلى الله } [ الذاريات: 51 ]
وغيرها من الآيات القرآنية التي تدل بظاهرها على وجود مكان لله تعالى(5).
قال الإمام علي بن الحسين زين العابدين(عليه السلام) ".. إنّ الكعبة بيت الله فمن حجّ بيت
____________
1- بحار الأنوار، العلاّمة المجلسي، ج 57، باب 1، ح 63، ص 83 . 2- الإرشاد، الشيخ المفيد: ج 1، باب الخبر عن أميرالمؤمنين(عليه السلام) فصل: في ذكر مختصر من قضائه(عليه السلام)في إمارة أبي بكر، ص 201. 3- الكافي، الشيخ الكليني: ج 1، كتاب التوحيد، باب النهي عن الصفة...، ح 12، ص 103 ـ 104. التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 8 ، ح 14، ص 111 ـ 112. 4- الكافي، الشيخ الكليني: ج 1، كتاب التوحيد، باب الكون والمكان، ح 5، ص 89 ـ 90. التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 28، ح 4، ص 170. 5- من قبيل قوله تعالى في قصّة عيسى (بل رفعه الله إليه) [النساء: 158] راجع: بحار الأنوار، العلاّمة المجلسي: ج 3، كتاب التوحيد، باب 14، ح 17، ص 321.
الله فقد قصد إلى الله.
والمساجد بيوت الله، فمن سعى إليها فقد سعى إلى الله وقصد إليه. والمصلّي مادام في صلاته فهو واقف بين يدي الله جلّ جلاله...
وإنّ لله تبارك وتعالى بقاعاً في سماواته، فمن عُرج به إليها، فقد عرج به إليه، ألا تسمع الله عزّ وجلّ يقول: { تعرج الملائكة والروح إليه } [ المعارج: 4 ] ويقول عزّ وجلّ: { إليه يصعد الكلم الطيّب والعمل الصالح يرفعه } [ فاطر: 1 ](1)
2 ـ سئل الإمام موسى بن جعفر الكاظم(عليه السلام):
لأيّ علّة عرج الله بنبيه(صلى الله عليه وآله) إلى السماء، ومنها إلى سِدرَة المنتهى، ومنها إلى حجب النور، وخاطبه وناجاه هناك، والله لا يوصف بمكان؟
فقال(عليه السلام): "إنّ الله تبارك وتعالى لا يوصف بمكان، ولا يجري عليه زمان، ولكنّه عزّ وجلّ أراد أن يشرّف به ملائكته وسكّان سماواته ويكرمهم بمشاهدته، ويريه من عجائب عظمته ما يخبر به بعد هبوطه، وليس ذلك على ما يقول المشبّهون، سبحان الله وتعالى عما يشركون"(2).
معنى وجود الله في كلّ مكان :
1 ـ قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): "هو في كلّ مكان، وليس هو في شيء من المكان بمحدود..."(3).
2 ـ قال الإمام علي(عليه السلام): "... هو في كلّ مكان بغير مماسة ولا مجاورة، يحيط علماً بما فيها، ولا يخلو شيء منها من تدبيره..."(4).
3 ـ قال الإمام علي(عليه السلام):
"لم يحلُل في الأشياء فيقال هو فيها كائن.
____________
1- التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 28، ح 8 ، ص 172 ـ 173. 2- التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 28، ح 5، ص 170. 3- المصدر السابق: باب 44، ح 1، ص 303. 4- الإرشاد، الشيخ المفيد: ج 1، باب: الخبر عن أميرالمؤمنين(عليه السلام)، فصل: في ذكر مختصر من قضائه(عليه السلام)في إمارة أبي بكر، ص 201.
ولم ينأ عنها فيقال هو عنها بائن
ولم يخل منها فيقال أينَ.
ولم يقرب منها بالالتزاق.
ولم يبعد عنها بالافتراق.
بل هو في الأشياء بلا كيفية(1).
4 ـ سئل الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): فهو [ عزّ وجلّ ] في كلّ مكان؟
أليس إذا كان في السماء كيف يكون في الأرض؟!
وإذا كان في الأرض كيف يكون في السماء؟!
فقال(عليه السلام): "إنّما وصفت المخلوق الذي إذا انتقل عن مكان، واشتغل به مكان، وخلا منه مكان، فلا يدري في المكان الذي صار إليه ما حدث في المكان الذي كان فيه.
فأمّا الله العظيم الشأن المَلِك الديّان فلا يخلو منه مكان، ولا يشتغل به مكان، ولا يكون إلى مكان أقرب منه إلى مكان"(2).
5 ـ عن محمّد بن نعمان قال: سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن قول الله عزّ وجلّ: { وهو الله في السماوات وفي الأرض } [ الأنعام: 3 ]
قال(عليه السلام): "كذلك هو في كلّ مكان".
قلت: بذاته.
قال(عليه السلام): "ويحك! إنّ الأماكن أقدار، فإذا قلت: في مكان بذاته، لزمك أن تقول: في أقدار وغير ذلك، ولكن هو بائن من خلقه، محيط بما خلق علماً وقدرة وإحاطة وسلطاناً وملكاً... لا يبعد منه شيء، والأشياء له سواء علماً وقدرة وسلطاناً وملكاً
____________
1- التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 2، ح 34، ص 77. 2- التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 36، ح 3، ص248.
وإحاطة"(1).
____________
1- المصدر السابق: باب 9، ح 15، ص 128 ـ 129.
الفصل الخامس
رؤية اللّه تعالى بالبصر
معنى الرؤية البصرية
عقيدة الشيعة وأهل السنة
أدلة نفي رؤية الله بالبصر
مناقشة أدلة القائلين بإمكانية رؤية الله بالبصر
المبحث الأوّل
معنى الرؤية البصرية
الرؤية البصرية عبارة عن: انعكاس صورة المرئي على العين عن طريق وصول النور النابع أو المنعكس من الأشياء إلى العين، ثمّ انتقال هذا النور على شكل أمواج عصبية إلى الدماغ من أجل تحليله وتفسيره وتعقّل شكل وصورة المرئي.
تنبيه :
ما يجدر الالتفات إليه عند دراسة الخلاف الواقع بين المسلمين حول رؤية الله تعالى هو أنّ الرؤية التي وقع الاختلاف حول إمكانها أو استحالتها هي الرؤية بمعنى إدراكه تعالى عن طريق حاسّة البصر، أمّا تفسير رؤية الله بالإدراك المعرفي أو الكشف الشهودي (الرؤية القلبية) أو العلم الحضوري فهو مما لم يقع الاختلاف حول إمكانه ولا خلاف في جوازه.
المبحث الثاني
عقيدة الشيعة وأهل السنّة حول رؤية الله تعالى
عقيدة الشيعة :
قال الشيخ المفيد: "لا يصح رؤية الباري سبحانه بالأبصار، وبذلك شهد العقل ونطق القرآن وتواتر الخبر عن أئمة الهدى من آل محمّد(عليهم السلام)، وعليه جمهور أهل الإمامة وعامّة متكلّميهم... والمعتزلة بأسرها توافق أهل الإمامة في ذلك"(1).
عقيدة أهل السنّة :
قال أبو الحسن الأشعري: "وندين بأنّ الله يُرى في الآخرة بالأبصار كما يُرى القمر ليلة البدر"(2).
وجاء في كتب الحديث لأهل السنة:
ورد عن جرير بن عبدالله قال: كنّا عند النبي(صلى الله عليه وآله)، فنظر إلى القمر ليلةً ـ يعني البدر ـ فقال: "إنّكم سترون ربّكم كما ترون هذا القمر..."(3).
قال النبي(صلى الله عليه وآله): "إنّكم سترون ربّكم عياناً"(4).
____________
1- أوائل المقالات، الشيخ المفيد: قول 25: القول في نفي الرؤية على الله تعالى بالأبصار، ص 57. 2- الإبانة، أبو الحسن الأشعري: باب في إبانة قول أهل الحق والسنّة، ص 17. 3- صحيح البخاري : ج1، كتاب 9 : كتاب مواقيت الصلاة، باب 17 : باب فضل صلاة العصر، ح554، ص138. صحيح مسلم: ج 1، كتاب 5: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب 37: باب فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما، ح 211 (633)، ص 367. 4- صحيح البخاري: ج 4، كتاب 98: كتاب التوحيد، باب 24: باب قول الله تعالى (وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربّها ناظرة)، ح 7435، ص 453.
المبحث الثالث
أدلة نفي رؤية الله بالبصر
الأدلة العقلية على استحالة رؤية الله بالبصر:
1 ـ تستلزم رؤية الله عن طريق حاسّة البصر إثبات الجهة له تعالى، وبما أنّه تعالى منزّه عن الجهة، فلهذا تكون رؤيته أمراً محالاً.
بعبارة أخرى:
تستلزم الرؤية البصرية أن يكون المرئي مقابلاً للرائي(1)، وكلّ مقابل فهو في جهة من الجهات، وبما أنّه تعالى منزّه عن الجهة، فلهذا تستحيل عليه الرؤية(2).
2 ـ لا تتحقّق الرؤية البصرية إلاّ عن طريق وصول الأشعة من المرئي إلى العين، ويستلزم هذا الأمر أن يكون المرئي جسماً.
وبما أنّ الله منزّه عن الجسمانية، فلهذا تستحيل رؤيته عن طريق حاسّة البصر(3).
3 ـ لا تتحقّق الرؤية البصرية إلاّ عن طريق انطباع صورة المرئي في العين، وبما أنّه تعالى منزّه عن الصورة، فلهذا تستحيل رؤيته عن طريق حاسّة البصر.
4 ـ رؤية الله عن طريق حاسّة البصر لا تخلو من أمرين:
____________
1- أو في حكم المقابل للرائي، كرؤية الإنسان المرئيات التي حوله عن طريق المرآة. 2- انظر: الاقتصاد، الشيخ الطوسي: القسم الأوّل، الفصل الرابع، في الرؤية، ص 74 ـ 75. غنية النزوع، ابن زهرة الحلبي: ج 2، باب الكلام في التوحيد، الفصل الخامس، ص 52 ـ 53. قواعد المرام، ميثم البحراني: القاعدة الرابعة، الركن الثاني، البحث العاشر، ص 76. كشف المراد، العلاّمة الحلّي: المقصد الثالث، الفصل الثاني، المسألة العشرون، ص 411. اللوامع الإلهية، مقداد السيوري: اللامع الثامن، المرصد الأوّل، الفصل الحادي عشر، ص 163. 3- انظر: الرسائل العشر، الشيخ الطوسي: رسالة في الاعتقادات، رقم 14، ص 105.
أوّلاً: أن تقع على كلّ الذات الإلهية.
فيستلزم أن تكون الذات الإلهية محدودة ومحصورة في ناحية من النواحي، ولكنّه تعالى منزّه عن المحدودية والحصر.
ثانياً: أن تقع على بعض الذات الإلهية.
فيستلزم أن تكون الذات الإلهية مركّبة وذات أجزاء، ولكنّه تعالى منزّه عن التركيب والأجزاء.
فلهذا نستنتج استحالة رؤية الله عن طريق حاسّة البصر.
النتيجة :
القول برؤية الله عن طريق حاسّة البصر تستلزم نسبة الجهة والمحدودية والجمسانية والشكل والصورة إلى الله، وبما أنّه تعالى منزّه عن هذه الأمور، فلهذا نستنتج استحالة وقوع الرؤية البصرية عليه تعالى.
الأدلة القرآنية على نفي رؤية الله بالبصر :
1 ـ { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير } [ الأنعام: 103 ]
و "الإدراك" المضاف إلى "البصر" يفيد "الرؤية"، وقد بيّنت هذه الآية بأنّه تعالى منزّه عن الرؤية البصرية(1).
2 ـ { ولما جاء موسى لميقاتنا وكلّمه ربّه قال ربّ أرني أنظر إليك قال لن تراني... } [ الأعراف: 143 ]
و "لن" تفيد النفي الأبدي، فيثبت من قوله تعالى لموسى(عليه السلام): { لن تراني } أنّه تعالى لن يُرى بالبصر أبداً(2).
____________
1- انظر: التبيان، الشيخ الطوسي: ج 4، تفسير آية 103 من سورة الأنعام، ص 223 ـ 224. المسلك في أصول الدين، المحقّق الحلّي: النظر الأوّل، المطلب الثالث، ص 67. المنقذ من التقليد، سديدالدين الحمصي: ج 1، القول في أنّه تعالى ليس بمرئي و...، ص 122. إرشاد الطالبين، مقداد السيوري: مباحث التوحيد، استحالة الرؤية على الباري تعالى، ص 241. 2- انظر: التبيان، الشيخ الطوسي: ج 4، تفسير آية 143 من سورة الأعراف، ص 536. المسلك في أصول الدين، المحقّق الحلّي: النظر الأوّل، المطلب الثالث، ص 68. نهج الحقّ وكشف الصدق، العلاّمة الحلّي: المسألة الأولى، ص 48. اللوامع الإلهية، مقداد السيوري: اللامع الثامن، المرصد الأوّل، الفصل الحادي عشر، ص 164.
ولو كان الله ممكن الرؤية بحاسّة البصر لكان النبي موسى(عليه السلام) أولى الناس برؤيته(1).
وتوجد مناقشات أخرى حول هذه الآية سنذكرها لاحقاً.
أحاديث لأهل البيت(عليهم السلام) حول نفي رؤية الله بالبصر :
1 ـ جاء شخص إلى أميرالمؤمنين(عليه السلام) فقال: يا أميرالمؤمنين هل رأيت ربّك حين عبدته؟
فقال(عليه السلام): ويلك ما كنت أعبد ربّاً لم أره.
قال: وكيف رأيته؟
قال(عليه السلام): ويلك لا تدركه العيون في مشاهدة الأبصار، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان(2).
2 ـ قال الإمام علي(عليه السلام): "انحسرت الأبصار عن أن تناله فيكون بالعيان موصوفاً"(3).
3 ـ وقال(عليه السلام) حول الله تعالى: "... ولا بمحدث فيبصر..."(4).
4 ـ وقال(عليه السلام): "الحمد لله الذي لا تدركه الشواهد، ولا تحويه المشاهد، ولا تراه النواظر، ولا تحجبه السواتر"(5).
5 ـ سُئل الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام) حول الله تبارك وتعالى هل يُرى في
____________
1- انظر: قواعد المرام، ميثم البحراني: القاعدة الرابعة، الركن الثاني، البحث العاشر، ص 77. 2- الكافي، الشيخ الكليني: كتاب التوحيد، باب في إبطال الرؤية، ح 6، ص 98. التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 8 ، ح 6، ص 106. 3- التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 2، ح 13، ص 51. 4- المصدر السابق: باب 2، ح 34، ص 76. 5- نهج البلاغة، الشريف الرضي: خطبة 185، ص 360.
المعاد؟
فقال(عليه السلام): "سبحان الله وتعالى عن ذلك علواً كبيراً... إنّ الأبصار لا تُدْرِك إلاّ ماله لون وكيفية، والله خالق الألوان والكيفية"(1).
6 ـ سئل الإمام الصادق(عليه السلام): إنّ رجلاً رأى ربّه عزّ وجلّ في منامه، فما يكون ذلك؟ فقال(عليه السلام): "ذلك رجل لا دين له، إنّ الله تبارك وتعالى لا يُرى في اليقظة، ولا في المنام، ولا في الدنيا، ولا في الآخرة"(2).
7 ـ سئل الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام):... إنّا روينا أنّ الله قسّم الرؤية والكلام بين نبيين، فقسّم الكلام لموسى(عليه السلام) ولمحمّد(صلى الله عليه وآله) الرؤية.
قال(عليه السلام): "... كيف يجيىء رجل إلى الخلق جميعاً فيخبرهم أنّه جاء من عند الله، وأنّه يدعوهم إلى الله بأمر الله، فيقول: { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار } { ولا يحيطون به علماً } { وليس كمثله شيء } ثمّ يقول: أنا رأيته بعيني...؟!"(3).
8 ـ سئل الإمام الرضا(عليه السلام): هل رأى رسول الله(صلى الله عليه وآله) ربّه عزّ وجلّ؟
فقال(عليه السلام): "نعم، بقلبه رآه، أما سمعت الله عزّ وجلّ يقول: { ما كذب الفؤاد ما رأى } أي: لم يره بالبصر، ولكن رآه بالفؤاد"(4).
____________
1- الأمالي، الشيخ الصدوق: المجلس (64)، ح 674 / 3، ص 495. 2- المصدر السابق، المجلس (89)، ح 974 / 6، ص 708. 3- الكافي، الشيخ الكليني: ج 1، كتاب التوحيد، باب في إبطال الرؤية، ح 2، ص 96. 4- التوحيد، الشيخ الصدوق: ب 8 ، ح 17، ص 112.
المبحث الرابع
مناقشة أدلة القائلين بامكان رؤية الله بالبصر
الدليل العقلي :
ملاك الرؤية هو "الوجود"، وكلّ موجود يصح رؤيته، وبما أنّه تعالى موجود فيمكن رؤيته(1).
يرد عليه :
ملاك الرؤية ليس "الوجود" بما هو وجود، بل هو الوجود المقيّد بقيود، منها كونه جسماً مادّياً واقعاً في إطار ظروف خاصّة، لتصح رؤيته.
ولهذا توجد أُمور من قبيل: العلم، الإرادة، العقل، النفس، اللذة، والألم موجودة، ولكنّها لا ترى بالعين(2).
مناقشة الأدلة القرآنية التي تمسّك بها القائلون بإمكان رؤية الله :
الآية الأولى :
{ وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربّها ناظرة * ووجوه يومئذ باسرة * تظن أن يفعل بها فاقرة } [ القيامة: 22 ـ 25 ]
الاستدلال :
استعمال "النظر" مع حرف "إلى" يعني "الرؤية".
واستعمل "النظر" في هذه الآية مع حرف "إلى"، فيكون معنى الآية بأنّ أصحاب
____________
1- الإبانة عن أصول الديانة، أبو الحسن الأشعري: باب الكلام في إثبات رؤية الله تعالى بالأبصار في الآخرة، ص 26. 2- انظر: المسلك في أصول الدين، المحقّق الحلّي: النظر الأوّل، المطلب الثالث، ص 69. كشف المراد، العلاّمة الحلّي: المقصد الثالث، الفصل الثاني، المسألة العشرون، ص 413.
الوجوه المبتهجة تنظر إلى ربّها يوم القيامة، وهذا ما يثبت إمكانية رؤية الله تعالى(1).
يرد عليه :
1 ـ "النظر" لا يفيد "الرؤية" دائماً; لأنّ حقيقة "النظر" في اللغة هو تقليب حدقة العين نحو الشيء طلباً لرؤيته(2)، وقد يقلّب الإنسان نظره طلباً للعثور على شيء، ولكنّه لا يراه، ولذلك يقال: "نظرت إلى الهلال فلم أره"(3).
2 ـ البراهين العقلية والقرآنية، على استحالة رؤية الله بالبصر ـ والتي أشرنا إليها سابقاً ـ تلزمنا اتّباع تفسير يجنّبنا الوقوع في محاذير القول برؤية الله بالبصر.
وقد فسّر لنا أهل البيت(عليهم السلام) هذه الآية بتقدير مضاف محذوف(4).
فيكون الأصل: وجوه يومئذ ناضرة إلى [ ثواب ] ربّها ناظرة.
والنظر إلى الثواب ـ في الواقع ـ كناية عن توقّع مجيئه وانتظار قدومه من الله تعالى(5).
قال الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) حول تفسير قوله تعالى: { وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربّها ناظرة } : "يعني مشرقة تنتظر ثواب ربّها"(6).
____________
1- انظر: الإبانة عن أصول الديانة، أبو الحسن الأشعري: باب الكلام في إثبات رؤية الله تعالى بالأبصار في الآخرة، ص 22. 2- ورد في الصحاح للجوهري: 2 / 830: "النظر: تأمّل الشيء بالعين". وجاء في مفردات ألفاظ القرآن للراغب: ص 812 (مادة نظر): "النظر: تقليب البصر والبصيرة لإدراك الشيء ورؤيته". 3- انظر: الأمالي، الشريف المرتضى: ج 1، المجلس الثالث، ص 36. الاقتصاد في شرح الاعتقاد، الشيخ الطوسي: القسم الأوّل، الفصل الثاني، ص 76. المسلك في أصول الدين، المحقّق الحلّي: النظر الأوّل، المطلب الثاني، ص 70. المنقذ من التقليد، سديد الدين الحمصي: القول في أنّه تعالى ليس بمرئي، ص 128. كشف المراد، العلاّمة الحلّي: المقصد الثالث، الفصل الثاني، المسألة العشرون، ص 412. 4- من أمثلة حذف المضاف وقيام المضاف إليه مكانه في القرآن الكريم: (واسأل القرية) [يوسف: 82] أي: واسأل أهل القرية، لعدم إمكان السؤال من أحجار القرية وبيوتها. (وجاء ربّك والملك صفاً صفاً) [الفجر: 22] أي: وجاء أمر ربّك; لأنّ الحركة من لوازم الجسمانية، والله تعالى منزّه عن ذلك. 5- ورد في لسان العرب: 14 / 191 (مادة نظر): "ويقول القائل للمؤمّل يرجوه: إنّما ننظر إلى الله ثمّ إليك، أي: إنّما أتوقّع فضل الله ثمّ فضلك. 6- التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 8 ، ح 19، ص 113.
دعم سياق الآية لهذا المعنى :
توجد في هذه الآية أمور متقابلة:
التقابل الأوّل: { وجوه يومئذ ناضرة } ، ويقابلها: { وجوه يومئذ باسرة }
أي: وجوه يومئذ مستبشرة ومبتهجة، ويقابلها وجوه يومئذ كالحة وعابسة.
التقابل الثاني: { إلى ربّها ناظرة } ، ويقابلها: { تظن أن يفعل بها فاقرة }
وهنا يتمّ رفع الإبهام الموجود في الفقرة الأولى عن طريق التأمّل في الفقرة الثانية التي تقابلها.
لأنّ التقابل الموجود بين هاتين الآيتين يرشدنا إلى تفسير الفقرة الأولى بما يقابل الفقرة الثانية.
والمقصود من الفقرة الثانية: { تظن أن يفعل بها فاقرة }
أي: إنّ الطائفة العاصية ذات الوجوه الكالحة والعابسة نتوقّع أن ينزل عليها عذاب يكسر فقارها ويقصم ظهرها.
ومن هنا يتبيّن مقصود الفقرة الأولى: { إلى ربّها ناظرة }
أي: إنّ الطائفة المطيعة ذات الوجوه المستبشرة والمبتهجة تتوقّع عكس ما تتوقّعه الطائفة العاصية، فهي تتوقّع ثواب الله ورحمته وكرمه وفضله تعالى.
فنستنتج بأنّ "النظر" في هذه الآية كناية عن "التوقّع والانتظار".
النتيجة :
محور البحث في هذه الآية هو: "توقّع الرحمة" و "توقّع العذاب".
والعباد المطيعون لله يتوقّعون الرحمة.
والعباد العاصون لله يتوقّعون العذاب.
وليست الآية بصدد الحديث عن رؤية الله البصرية أو القلبية.
ومن هنا نستنتج بأنّ مصطلح "النظر" استخدم في هذه الآية كناية عن التوقّع والانتظار.
تنبيه :
قيل: بأنّ الانتظار يوجب الغم والتنغيص والتكدير، ولكن الآية جاءت لبيان النعم، فلهذا لا يصح تفسير النظر بمعنى الانتظار في هذه الآية(1).
يرد عليه :
"الانتظار" الذي يورث الغم والتنغيص والتكدير هو انتظار النعم مع عدم الاطمئنان من الحصول عليها، وهذا ما يؤدّي إلى الإزعاج والتوتّر والقلق.
ولكن هذه الآية تشير إلى انتظار النعم بعد البشارة الإلهية بها واطمئنان الحصول عليها، وهذا لا يوجب الغم، بل يوجب الفرح والسرور ونضارة الوجه(2).
بعبارة أخرى:
"الانتظار يوجب الغم... في وعد من يجوز منه خلف الوعد.
أمّا إذا كان وعد من لا يخلف الوعد ـ مع علم الموعود بذلك ـ فإنّه لا يوجب الغم، بل هو سبب للفرح والسرور ونضارة الوجه"(3).
الآية الثانية :
{ ولما جاء موسى لميقاتنا وكلّمه ربّه قال ربّ أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلمّا تجلّى ربُّه للجبل جعله دكّاً وخرّ موسى صعقاً فلمّا أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أوّل المؤمنين } [ الأعراف:143 ]
أوجه دلالة هذه الآية على إمكانية رؤية الله تعالى :
الوجه الأوّل :
لو كانت رؤية الله مستحيلة لما سألها النبي(عليه السلام) من الله، وبما أنّه سألها فهذا يدل
____________
1- انظر: الإبانة عن أصول الديانة، أبو الحسن الأشعري: باب الكلام في إثبات رؤية الله تعالى بالأبصار في الآخرة، ص 21. 2- انظر: كشف المراد، العلاّمة الحلّي: المقصد الثالث، الفصل الثاني، المسألة العشرون، ص 412 ـ 413. 3- إرشاد الطالبين، مقداد السيوري: مباحث التوحيد، دليل الأشاعرة على الرؤية، ص 248 ـ 249.
على أنّها غير مستحيلة(1).
توضيح ذلك:
رؤية الله لا تخلو من أمرين:
1 ـ الإمكان، وهو المطلوب.
2 ـ الاستحالة، فإذا كانت رؤية الله بالبصر مستحيلة، فلا يخلو علم النبي موسى(عليه السلام) باستحالة هذه الرؤية عندما طلبها من الله تعالى من أمرين:
أوّلاً: يعلم استحالة الرؤية، وهذا غير صحيح; لأنّه لو كان كذلك لما سأل الله ذلك; لأنّ العاقل لا يسأل المستحيل.
ثانياً: لا يعلم استحالة الرؤية، وهذا غير صحيح; لأنّ النبي ـ في الواقع ـ أعلم الناس بالله وصفاته.
فنستنتج إمكانية رؤية الله تعالى.
يرد عليه :
لم يطلب النبي موسى(عليه السلام) من الله الرؤية نتيجة علمه بإمكانية هذه الرؤية أو عدم علمه باستحالتها، بل طلب ذلك لدواعي أخرى تتبيّن من خلال ما جرى بينه(عليه السلام)وبين قومه بني إسرائيل، ومجمل ما جرى هو:
1 ـ كلّم الله تعالى النبي موسى(عليه السلام).
2 ـ أخبر النبي موسى(عليه السلام) قومه بني إسرائيل بأنّ الله كلّمه وناجاه.
3 ـ قال قومه له: لن نؤمن لك حتّى نسمع كلام الله كما سمعت!
4 ـ اختار النبي موسى(عليه السلام) من قومه سبعين رجلاً لميقات ربّه.
5 ـ خرج النبي موسى(عليه السلام) مع هؤلاء السبعين إلى طور سيناء، وسأل الله أن يكلّمه.
____________
1- الإبانة عن أصول الديانة، أبو الحسن الأشعري: باب الكلام في إثبات رؤية الله تعالى بالأبصار في الآخرة، ص 23.
6 ـ كلّم الله النبي موسى(عليه السلام)، وسمع هؤلاء كلام الله .
7 ـ قال هؤلاء للنبي موسى(عليه السلام): لن نؤمن بأنّ هذا الكلام الذي سمعناه هو كلام الله حتّى نرى الله جهرة!
8 ـ عندما قال هؤلاء هذا القول الدال على استكبارهم بعث الله عليهم صاعقة قضت عليهم جميعاً، فماتوا.
9 ـ طلب النبي موسى(عليه السلام) من الله أن يُحيي هؤلاء السبعين لئلا يشكل عليه بنو إسرائيل بأ نّك أخذت هؤلاء وقتلتهم لئلا يشهدوا عليك بأنّك لم تكلّم الله.
10 ـ استجاب الله دعاء النبي موسى(عليه السلام) وأحياهم.
11 ـ قال النبي موسى(عليه السلام) لهم: ياقوم إنّ الله لا يُرى بالأبصار، ولا كيفية له، وإنّما يعرف بآياته، ويعلم بأعلامه.
12 ـ لجّ قوم موسى وقالوا: إنّك إذا طلبت من الله أن يريك تنظر إليه أجاب الله دعاءك.
13 ـ قال النبي موسى(عليه السلام) للّه: ياربّ إنّك قد سمعت بني إسرائيل، وأنت أعلم بصلاحهم.
14 ـ أوحى الله: يا موسى سلني ما سألوك، فلن أؤاخذك بجهلهم.
15 ـ طلب النبي موسى(عليه السلام) من الله هذه الرؤية ليكون الجواب الإلهي حجّة على قومه، فقال(عليه السلام): { ربّ أرني أنظر إليك } .
16 ـ أجابه الله بصوت سمعه بنو إسرائيل: { لن تراني ولكن أُنظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني }
17 ـ { فلمّا تجلّى ربّه للجبل } بآية من آياته { جعله دكاً وخرّ موسى صعقاً }
18 ـ { فلمّا أفاق } النبي موسى(عليه السلام) { قال سبحانك تبت إليك } أي: رجعت من معرفتي بك عن جهل قومي { وأنا أوّل المؤمنين } بأنّك لا تُرى(1).
____________
1- انظر: التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 8 ، ح 24، ص 117 ـ 118.
النتيجة :
لم يطلب النبي موسى(عليه السلام) من الله الرؤية لنفسه نتيجة علمه بإمكان هذه الرؤية أو جهله باستحالتها، بل قام بذلك نتيجة إلحاح وإصرار قومه، فطلب هذه الرؤية منه تعالى ليكون الجواب الإلهي حجّة على هؤلاء(1).
ولهذا لا نجد أيّ عتاب أو مؤاخذة من الله لموسى(عليه السلام) إزاء طلبه للرؤية، بل نجد العتاب والمؤاخذة موجّه لقوم موسى(عليه السلام) إزاء طلبهم للرؤية، حيث وصفهم النبي موسى(عليه السلام) بـ "السفهاء" نتيجة هذا الطلب(2).
الوجه الثاني :
علّق الله الرؤية على استقرار الجبل، وهو أمر ممكن، والمعلّق على الممكن ممكن(3).
بعبارة أخرى:
كما أنّه تعالى قادر ـ بعد تجلّيه للجبل ـ أن يجعل الجبل بدون استقرار.
فإنّه تعالى قادر ـ بعد تجلّيه للجبل ـ أن يجعل الجبل مع استقرار.
فنستنتج:
كما أنّه تعالى قادر على أن لا يُري نفسه لموسى وقومه.
فإنّه تعالى قادر على أن يُري نفسه لموسى وقومه(4).
____________
1- للمزيد راجع: الأمالي، الشريف المرتضى: ج 2، المجلس السبعون، ص 215. مجمع البيان، الشيخ الطبرسي: ج 4، تفسير آية 143 من سورة الأعراف، ص 730. تلخيص المحصّل، نصيرالدين الطوسي: الركن الثالث، القسم الثاني، ص 320. المسلك في أصول الدين، المحقّق الحلّي: النظر الأوّل، المطلب الثالث، ص 68. كشف المراد، العلاّمة الحلّي: المقصد الثالث، الفصل الثاني، المسألة العشرون، ص 412. 2- عندما طلب قوم موسى رؤية الله تعالى أنزل الله تعالى عليهم صاعقة من السماء وأهلكهم، فقال موسى لله تعالى: (أتهلكنا بما فعل السفهاء) [الأعراف: 155] فنلاحظ أنّ موسى(عليه السلام)يصف "طلب رؤية الله تعالى" بالسفاهة، فكيف يطلبها بعد ذلك لنفسه؟! انظر: تخليص المحصّل، نصيرالدين الطوسي: الركن الثالث، القسم الثاني، ص 320. 3- انظر: الإبانة، أبو الحسن الأشعري: باب الكلام في إثبات رؤية الله تعالى بالأبصار في الآخرة، ص 23. 4- المصدر السابق.
يرد عليه :
لم يعلّق الله رؤيته على أمر ممكن، بل علّقها على أمر مستحيل.
بيان ذلك:
إنّ "استقرار" الجبل قبل تحطيم الله له أمر ممكن.
ولكن "استقرار" الجبل حين تحطيم الله له أمر محال.
والرؤية في هذه الآية تعلّقت باستقرار الجبل حين تحطّمه لا قبل ذلك.
توضيح ذلك:
إنّ قوله تعالى حول الجبل: { فإن استقر مكانه فسوف تراني }
يعني: لو صار الجبل مستقراً في الزمان المستقبل فسوف تراني.
وفي الزمان المستقبل جعل الله الجبل متحرّكاً عن طريق تحطيمه.
فالله ـ في الواقع ـ علّق الرؤية باستقرار جبل متحرّك.
ولا يخفى أنّ استقرار الشيء حال كونه متحرّكاً محال.
ومن المستحيل أن يكون الشيء الواحد ساكناً ومتحرّكاً في وقت واحد(1).
النتيجة :
علّق الله رؤيته على أمر مستحيل، والمعلّق على أمر مستحيل أيضاً مستحيل، فنستنتج استحالة رؤية الله بالبصر.
وهذا الأسلوب في بيان امتناع تحقّق بعض الأمور نظير قوله تعالى: { ولا يدخلون الجنّة حتّى يلج الجمل في سمّ الخياط } [ الأعراف: 40 ]
أي: من المستحيل أن يدخل هؤلاء الجنّة كما يستحيل دخول الجمل بحجمه الكبير في ثقب إبرة الخياطة بحجمها الصغير.
____________
1- انطر: التبيان في تفسير القرآن، الشيخ الطوسي: ج 4، تفسير آية 142 من سورة الأعراف، ص 536. تلخيص المحصّل، نصيرالدين الطوسي: الركن الثالث، القسم الثاني، ص 319.
تتمة :
توجد آيات أخرى، ظنّ البعض أنّها تدل على رؤية الله، ولكنّها في الواقع لا تفيد ذلك، منها:
1 ـ قال الله تعالى حول النبي محمّد(صلى الله عليه وآله) عند المعراج: { ولقد رآه نزلة أُخرى } [ النجم: 13 ] .
فظن البعض بأنّ هذه الآية تثبت رؤية الرسول(صلى الله عليه وآله) لله في المعراج بالرؤية البصرية، في حين تصرّح الآية بأنّ رؤية الرسول(صلى الله عليه وآله) لم تكن بالبصر، بل كانت بالقلب .
وقال تعالى في سياق هذه الآية: { ما كذب الفؤاد ما رأى } [ النجم: 11 ].
كما أخبر الله ما رآه الرسول بالبصر بعد ذلك حيث قال تعالى: { لقد رأى من آيات ربّه الكبرى } [ النجم: 18 ] وآيات الله عزّ وجلّ غير الله(1).
2 ـ قوله تعالى: { كلا انّهم عن ربّهم لمحجوبون } [ المطفّفين: 15 ]
فظن البعض أنّ المقصود من الحجاب هو الحجاب عن الرؤية، وأنّ الآية تفيد بأنّ البعض غير محجوبين، وهذا ما يدل على إمكانية روية الله بالبصر(2).
ولكن أجاب الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) عن هذه الشبهة قائلاً: "إنّ الله تبارك وتعالى لا يوصف بمكان يُحلّ فيه فيحجب عنه فيه عباده، ولكنّه يعني أنّهم عن ثواب ربّهم لمحجوبون"(3).
____________
1- انظر: الكافي، الشيخ الكليني،: كتاب التوحيد، باب في إبطال الرؤية، ح 2، ص 96. التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 8 ، ح 9، ص 108. 2- انظر: الإبانة عن أصول الديانة، أبو الحسن الأشعري: باب الكلام في إثبات رؤية الله تعالى بالأبصار، ص 24. 3- التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 18، ح 1، ص 157.
الفصل السادس
وحدانيّة اللّه تعالى
معنى أحدية الله ووحدانيته أحدية الله ووحدانيته في القرآن والسنة أدلة أحدية الله ووحدانيته الثنوية التثليث الله تعالى واتّخاذ الولد عبادة الأصنام أقسام وحدانية الله
المبحث الأوّل
معنى أحدية الله ووحدانيته
1 ـ أحدية الله :
المقصود من التوحيد الأحدي: نفي التركيب عنه تعالى.
والله تعالى أحد، أي: لا يتجزّأ ولا ينقسم في ذاته.
2 ـ وحدانية الله :
المقصود من التوحيد الواحدي: نفي الكثرة العددية(1).
والله تعالى واحد، أي: ليس له نظير ولا مثيل ولا شريك.
____________
1- قال الإمام علي(عليه السلام) في وصف الله تعالى: "واحد لا من عدد". التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 2، ح 26، ص 69.