المؤلفات » التوحيد عند مذهب أهل البیت (علیهم السلام)

الفصل الحادي عشر

قدرة اللّه تعالى

معنى القدرة (لغة واصطلاحاً)
أقسام القادر
خصائص قدرة الله تعالى
سعة قدرة الله تعالى
أدلة عموم قدرة الله تعالى


الصفحة 219

الصفحة 220

المبحث الأوّل

معنى القدرة (لغةً واصطلاحاً)

معنى القدرة (في اللغة) :

القدرة تعني التمكّن من الفعل وتركه.

ورد في "مجمع البحرين": قدرت على الشيء: قويت عليه وتمكّنت منه(1).

ورد في "لسان العرب": يقال: قدر على الشيء، أي: ملكه، فهو قادر(2).

ورد في "مصباح الكفعمي": القادر هو الموجد للشيء اختياراً من غير عجز ولا فتور(3).

وقال الشيخ الصدوق: قَدِر، أي: ملك، وقدرته على ما لم يوجد واقتداره على إيجاده هو قهره وملكه له(4).

تنبيه :

"القدير" هو الذي لا تتناهى قدرته، فهو أبلغ من "القادر"، ولهذا لا يوصف بصفة القدير إلاّ الله تعالى.

و "المقتدر" هو التام في القدرة الذي لا يمنعه شيء عن مراده(5).

____________

1- مجمع البحرين، الشيخ الطريحي: 3 / 466.

2- لسان العرب، ابن منظور: 11 / 57. مادة (قدر).

3- مصباح الكفعمي، الشيخ الكفعمي: ج 1، في الأسماء الحسنى وشرحها، ص 382.

4- التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 29، ذيل ح 9، ص 192.

5- مصباح الكفعمي، الشيخ الكفعمي: ج 1، في الأسماء الحسنى وشرحها، ص 383.


الصفحة 221

معاني القدرة (في الاصطلاح العقائدي) :

المعنى الأوّل :

قال الشيخ الصدوق: "إنّ الله لم يزل قادراً، إنّما نريد بذلك نفي العجز عنه، ولا نريد إثبات شيء معه; لأنّه عزّ وجلّ لم يزل واحداً لا شيء معه"(1).

وهذا المعنى مقتبس من قول الإمام محمّد بن علي الجواد(عليه السلام) حيث قال لأحد أصحابه:

"فقولك: إنّ الله قدير خبّرت أنّه لا يعجزه شيء، فنفيت بالكلمة العجز، وجعلت العجز سواه"(2).

المعنى الثاني :(3)

القدرة هي "الفعل" عند "المشيئة"، و "ترك الفعل" عند "عدم المشيئة". والقادر هو الذي إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل.

بعبارة أخرى: إذا شاء أن يفعل فعل، وإذا شاء أن يترك ترك.

المعنى الثالث :(4)

القدرة تعني صحّة الفعل والترك(5).

والقادر هو الذي يصح أن يفعل ويصح أن يترك (أي: لا يفعل).

____________

1- التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 9، ذيل حديث 12، ص 127.

2- المصدر السابق: باب 29، ح 7، ص 188.

3- انظر: الرسائل العشر، الشيخ الطوسي: مسائل كلامية ، مسألة (5 ) ، ص 94 . قواعد المرام، ميثم البحراني : القاعدة الرابعة، الركن الثالث، البحث الأوّل، ص 83 . مناهج اليقين، العلاّمة الحلّي: المنهج الرابع، البحث الرابع، ص 161، وقد نسب العلاّمة الحلّي هذا المعنى للأوائل.

4- انظر: قواعد العقائد، نصيرالدين الطوسي: الباب الثاني، قدرته تعالى، ص 48. تلخيص المحصّل، نصيرالدين الطوسي: القول في الصفات الثبوتية، ص 269. المسلك في أصول الدين، المحقّق الحلّي: النظر الأوّل، المطلب الثاني، ص 42. عجالة المعرفة، محمّد بن سعيد الراوندي: فصل في الصانع وصفاته، ص 30. المنقذ من التقليد، سديدالدين الحمصي: ج 1، القول في صفات المحدث، ص 35. مناهج اليقين، العلاّمة الحلّي: المنهج الرابع، البحث الرابع، ص 160.

5- إذا كان الفعل ممكناً ولم يمنع منه مانع.

انظر: المسلك في أصول الدين، المحقّق الحلّي: النظر الأوّل، المطلب الثاني، ص 42.


الصفحة 222

بعبارة أخرى: القادر هو الذي يصح أن يصدر عنه الفعل ويصح أن لا يصدر عنه الفعل.

تنبيه :

إنّ الله تعالى قادر على الأشياء كلّها على ثلاثة أوجه:

أوّلاً: على المعدومات بأن يوجدها.

ثانياً: على الموجودات بأن يفنيها أو يتصرّف فيها بجمعها أو تفريقها أو تحويلها أو نحو ذلك.

ثالثاً: على مقدور غيره بأن يقدر عليه ويمنع منه(1).

أسماء الله التي تعود إلى صفة قدرة الله تعالى(2)

1 ـ القوي

أي: ذو القوّة الكاملة، فلا يعجزه أمر ممكن في إيجاد أو إعدام، ولا يمسّه نَصَب، ولا يلحقه ضعف.

قال تعالى: { إنّ ربّك هو القوي العزيز } [ هود: 66 ]

2 ـ المتين

أي: ذو المتانة الكاملة. والمتانة أبلغ من مطلق القوّة; لأنّها القوّة الزائدة.

فمعنى المتين: هو الذي له كمال القوّة التي لا تعارضها ولا تشاركها ولا تدانيها قوّة، كما لا يعرض لها عجز ولا تعب ولا تناقض في التصرّف بكلّ أمر ممكن.

قال تعالى: { إنّ الله هو الرّزاق ذو القوة المتين } [ الذاريات: 58 ]

3 ـ القادر

أي: ذو القدرة الكاملة، وقد مرّ معنى القدرة قبل قليل.

قال تعالى: { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم } [ الأنعام: 65 ]

____________

1- انظر: مجمع البيان، الشيخ الطبرسي: ج 1، تفسير آية 20 من سورة البقرة ص 152.

2- العقيدة الإسلامية، عبدالرحمن حسن جنكة الميداني: 161 ـ 163 (بتصرّف).


الصفحة 223

4 ـ المقتدر

أي: ذو القدرة الكاملة. والمقتدر أبلغ من القادر.

قال تعالى: { وكان الله على كلّ شيء مقتدراً } [ الكهف: 45 ]

5 ـ الواجد

أي: ذو الجدّة الكاملة، والجدة هي الغنى مع امتلاك قدرة التصرّف وعدم الاحتياج إلى مساعد ومعين. فمعنى الواجد: القادر على التصرّف بكلّ شيء وفق مراده. ولم يرد هذا الاسم في القرآن الكريم.

6 ـ العزيز

أي: ذو العزّة الكاملة، والعزّة هي القدرة على التغلّب.

قال تعالى: { إنّ ربّك هو القوي العزيز } [ هود: 66 ]

7 ـ المُـقيت

أي: الحافظ للشيء والشاهد والمقتدر، وبعبارة أخرى: المُقيت يعني المستولي القادر على كلّ شيء. وهذا المعنى هو أحد معاني هذا الاسم.

قال تعالى: { وكان الله على كلّ شيء مقيتاً } [ النساء: 85 ]

8 ـ مالك المُلك

أي: الذي تنفذ مشيئته في ملكه كيف يشاء، لا مردّ لقضائه، ولا يكون ذلك إلاّ من كمال القوّة والمتانة والقدرة والعزّة والغنى.

قال تعالى: { قل اللّهم مالك الملك توتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء } [ آل عمران: 26 ]

9 ـ المِلك (بكسر الميم)

أي: المتصرّف بالأمر والنهي التكويني في كلّ شيء، فإذا قال لشيء: كُن، وُجد ذلك الشيء حسب مشيئته تعالى، وهذا يرجع إلى كمال القدرة على التصرّف


الصفحة 224

بالممكنات.

قال تعالى: { فتعالى الله الملك الحق } [ طه: 114 ]


الصفحة 225

المبحث الثاني

أقسام القادر

1 ـ القادر المختار

مثاله: الله سبحانه وتعالى، الإنسان في أفعاله الاختيارية.

2 ـ القادر الموجب (المضطر)

مثاله: الشمس بالنسبة إلى الإشراق، والنار بالنسبة إلى الإحراق.

الفرق بين "القادر المختار" و "القادر الموجب" :

1 ـ القادر المختار هو المتمكِّن من الفعل والترك.

القادر الموجب هو المتمكِّن من الفعل فقط دون الترك(1).

2 ـ القادر المختار يصح منه أن لا يفعل.

القادر الموجب يمتنع منه أن لا يفعل(2).

3 ـ القادر المختار يصح منه أن يفعل الفعل.

القادر الموجب يجب أن يصدر عنه الفعل(3).

4 ـ القادر المختار هو الذي يفعل مع شعوره بفعله.

القادر الموجب هو الذي يصدر منه الفعل مع عدم شعوره به(4).

____________

1- انظر: النكت الاعتقادية، الشيخ المفيد: الفصل الأوّل، ص 22.

الاعتماد في شرح واجب الاعتقاد، مقداد السيوري: في صفات الله تعالى، ص 56.

2- انظر: قواعد المرام، ميثم البحراني: القاعدة الرابعة، الركن الثالث، البحث الأوّل، ص 93.

3- انظر: قواعد العقائد، نصيرالدين الطوسي: الباب الثاني، ص 49.

4- انظر: المنقذ من التقليد، سديدالدين الحمصي: ج 1، القول في صفات المحدث، ص 35.


الصفحة 226

5 ـ القادر المختار هو الذي يعلم بأثره.

القادر الموجب هو الذي لا يعلم بأثره(1).

وبصورة عامّة:

القادر المختار هو الذي يؤدّي فعله بإرادته واختياره.

القادر الموجب هو الذي يصدر منه الفعل من دون إرادته واختياره(2).

تنبيهان :

1 ـ اشتهر عن بعض الفلاسفة القول بأنّ الله تعالى "قادر موجب" لا "قادر مختار"(3).

ولهذا قال هؤلاء بقدم العالم(4)، وأثبتوا لله إرادة وقدرة لا بالمعنى الذي أثبته المتكلّمون، بل شبّهوا الله تعالى بجهاز مبرمج يعمل من دون إرادة واختيار وفق ما يملي عليه علمه بالنظام الأحسن. تعالى الله عن ذلك، وسبحانه عمّا يصفه هؤلاء(5).

2 ـ القادر المختار أشرف وأسمى من القادر الموجب.

لأنّ القادر الموجب لا فضل له في ألطافه وتفضّله على العباد; لأنّه يفعل من دون

____________

1- انظر: قواعد المرام، ميثم البحراني: القاعدة الرابعة، الركن الثالث، البحث الأوّل، ص 83 .

2- انظر: الأنوار الجلالية، مقداد السيوري: الفصل الأوّل، ص 75.

3- انظر: قواعد العقائد، نصيرالدين الطوسي: الباب الثاني، قدرته تعالى، ص 47. كشف الفوائد، العلاّمة الحلّي: الباب الثاني، الصفات الثبوتية، القدرة، ص 159. إرشاد الطالبين، مقداد السيوري: مباحث التوحيد، إثبات القدرة للباري، ص 182. الأنوار الجلالية، مقداد السيوري: الفصل الأوّل، ص 75.

4- لأنّ الموجب هو الذي لا يتخلّف أثره عنه بالضرورة، وهو الذي لا ينفك عنه فعله، والذين يقولون بأنّه تعالى قادر موجب، يعتقدون بأنّ العالم بالنسبة إلى الله كالنور بالنسبة إلى الشمس، وبما أنّه تعالى كان من الأزل، فالعالم أيضاً كان معه من الأزل; لأنّ العالم لا ينفك عن الله; وهو كالنور بالنسبة إلى الشمس، فمادامت الشمس موجودة فالنور موجود معها.

انظر: الباب الحادي عشر، العلاّمة الحلّي: الفصل الثاني، ص 32. الاعتماد، مقداد السيوري: في صفات الله تعالى، ص 57.

وإثبات حدوث العالم (أي: وجود العالم بعد عدمه) يثبت بأنّ الله تعالى قادر مختار لا قادر موجب.

انظر: الاقتصاد، الشيخ الطوسي: القسم الأوّل، الفصل الثاني، ص 53 ـ 54. تجريد الاعتقاد، نصيرالدين الطوسي: المقصد الثالث، الفصل الثاني، ص 191.

5- لمعرفة أدلة تنزيه الله عن الاتّصاف بالقادر الموجب راجع:

مناهج اليقين، العلاّمة الحلّي: المنهج الرابع، البحث الرابع، ص 160 ـ 161.


الصفحة 227

إرادته واختياره.

ولكن القادر المختار، فإنّه متفضّل في تقديم الطافه ومواهبه; لأنّه إن شاء منح هذه الألطاف والمواهب وإن شاء منعها.

أضف إلى ذلك:

القادر الموجب أشبه ما يكون بجهاز مبرمج يعمل وفق البرمجة الموجودة فيه، وهكذا ذات لا تستحق العبادة والإطاعة; لأنّها فاقدة للاختيار، ولهذا من المستحيل أن نقول بأنّه تعالى ـ والعياذ بالله ـ قادر موجب ومضطر!


الصفحة 228

المبحث الثالث

أدلة اثبات قدرة الله تعالى

الدليل الأوّل :

إنّ "الفعل" كما يكشف عن وجود "الفاعل"، فإنّه يكشف أيضاً عن اتّصاف الفاعل بالقدرة التي مكّنته من أداء هذا الفعل.

ومن هذا المنطلق:

فإنّنا كما نكتشف من خلال النظر في هذا العالم بأنّ لهذا العالم خالقاً. فإنّنا نكتشف أيضاً من خلال هذا النظر بأنّ خالق هذا العالم متّصف بالقدرة; لأنّ "الفعل لا يصح أن يصدر إلاّ من قادر".(1)(2)

قال الإمام محمّد بن علي الباقر(عليه السلام): "العجب كلّ العجب للشاك في قدرة الله، وهو يرى خلق الله"(3).

الدليل الثاني :

فقدان "القدرة" يثبت "العجز"، و "العجز" نقص لا يليق بالذات الإلهية، والله تعالى مستجمع لجميع الصفات الكمالية، ومنزّه عن جميع النقائص والصفات الجلالية.

الدليل الثالث :

لو لم يكن الله قادراً، لكان محتاجاً إلى غيره، والله تعالى منزّه عن الاحتياج.

____________

1- الاقتصاد، الشيخ الطوسي: القسم الأوّل، الفصل الثاني، ص 53.

2- انظر: التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 9، ذيل ح 17، ص 129.

تقريب المعارف، أبو الصلاح الحلبي: مسائل التوحيد، مسألة في كونه تعالى قادراً، ص 73. كشف المراد، العلاّمة الحلّي: المقصد الثالث، الفصل الثاني، المسألة الأولى، ص 393.

3- المحاسن، أبو جعفر البرقي: ج 1، باب 23: باب جوامع من التوحيد، ح [831] 233.


الصفحة 229

الصفحة 230

المبحث الرابع

خصائص قدرة الله تعالى

1 ـ "القدرة" من صفات الله الذاتية الكمالية.

والله تعالى قادر فيما لم يزل(1).

ولا يصحّ ـ في جميع الأحوال ـ سلب القدرة من الله، ونسبة "العجز" إليه تعالى; لأنّ هذا السلب يوجب احتياجه تعالى في الخلق إلى شيء غير ذاته، والله تعالى منزّه عن الاحتياج.

قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): "لم يزل الله عزّ وجلّ ربّنا... والقدرة ذاته ولا مقدور، فلمّا أحدث الأشياء ... وقع ... القدرة على المقدور ... "(2).

سُئل الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام): خلق الله الأشياء بالقدرة أم بغير القدرة؟ فقال(عليه السلام): "لا يجوز أن يكون خلق الأشياء بالقدرة.

لأنّك إذا قلت: خلق الأشياء بالقدرة فكأنّك قد جعلت القدرة شيئاً غيره، وجعلتها آلة له بها خلق الأشياء، وهذا شرك.

وإذا قلت: خلق الأشياء بغير قدرة، فإنّما تصفه أنّه جعلها باقتدار عليها وقدرة، ولكن ليس هو بضعيف ولا عاجز ولا محتاج إلى غيره، بل هو سبحانه قادر لذاته لا بالقدرة"(3).

2 ـ قدرة الله غير مقيّدة بالقوانين والأسباب الطبيعية، بل الله تعالى قادر على فعل الأشياء من دون توسّط هذه القوانين والأسباب، كما أنّه تعالى قادر على إلغاء هذه

____________

1- انظر: شرح جمل العلم والعمل، الشريف المرتضى: وجوب كونه تعالى قادراً فيما لم يزل، ص63. تقريب المعارف، أبو الصلاح الحلبي: مسائل التوحيد، مسألة في كونه تعالى قادراً فيما لم يزل، ص 81 .

2- الكافي، الشيخ الكليني: ج 1، كتاب التوحيد، باب صفات الذات، ح 1، ص 107.

3- عيون أخبار الرضا(عليه السلام)، الشيخ الصدوق: ج 1، باب 11، ح 7، ص 108.


الصفحة 231

القوانين والأسباب والعمل بمشيئته وفق قوله تعالى: { إنّما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } [ النحل: 40 ](1)

إذن:

لا تنحصر قدرة الله في المجالات العادية، بل لله تعالى أن يجري الأمور من طرق أخرى كالإعجاز.

3 ـ امتلاك "القدرة" على فعل شيء لا يعني لزوم فعل ذلك الشيء; لأنّ "القدرة" لا تؤثّر لوحدها، وإنّما يكون منها التأثير عند مقارنتها مع الإرادة.

فنستنتج بأنّ قدرة الله على جميع الممكنات لا يلزم وجود جميع هذه الكائنات، وإنّما تحقّق أيّ كائن يكون بعد إرادة الله تعالى له.

وبعبارة أخرى: إنّ الله تعالى قادر على كلّ الممكنات، ولكنّه غير مؤثّر في كلّها، وإنّما يؤثّر على بعضها وفق ما يريد(2).

4 ـ مفهوم "القدرة" أوسع من مفهوم "الإرادة".

مثال ذلك:

"القدرة" تتعلّق بالفعل والترك.

ولكن "الإرادة" لا تتعلّق إلاّ بواحدة من "الفعل" أو "الترك".

توضيح ذلك:

قدرة الله تتعلّق بأن "يفعل" وأن "لا يفعل"، ولهذا يكون نطاق قدرته تعالى واسع وشامل للفعل وترك الفعل.

ولكن إرادة الله لا تتعلّق إلاّ بواحد من "أن يفعل" أو أن "لا يفعل"، والله تعالى إمّا أن يريد الفعل وإمّا أن لا يريده.

____________

1- هذا بخلاف قدرة الإنسان التي مهما تعاظمت فإنّها تبقى في إطار الأسباب الطبيعية، وغاية ما يستطيع الإنسان فعله عبارة عن تسخير القوانين الطبيعية وتنفيذ إرادته في دائرة لا تتجاوز حدود هذه القوانين.

2- انظر: تلخيص المحصّل، نصيرالدين الطوسي: الركن الثالث، القسم الثاني، مسألة: الله تعالى قادر على كلّ المقدورات...، ص 299.


الصفحة 232

ولا يمكن تعلّق الإرادة بالفعل والترك في آن واحد; لأنّ تعلّق الإرادة بكليهما مستحيل، ويلزم منه التناقض.

ولهذا يكون نطاق تعلّق "القدرة" أوسع من نطاق تعلّق "الإرادة".

5 ـ لا يوجد في قبال قدرة الله قدرة مضاهية أو معارضة أو مانعة من نفوذها; لأنّ كلّ ما سوى الله فهو "ممكن الوجود" وكلّ "ممكن الوجود" لا "استقلالية" له بذاته في الوجود، بل هو مقهور له تعالى، فلهذا ليس بإمكان هذا الممكن أن يزاحم القدرة الإلهية أو يمنعها من نفوذها.


الصفحة 233

المبحث الخامس

سعة قدرة الله تعالى

قدرة الله تعالى قدرة مطلقة وشاملة وغير محدودة.

دليل ذلك :

قدرة الله ـ كما ثبت في المبحث السابق ـ هي عين ذات الله، وبما أنّ الذات الإلهية مطلقة وغير متناهية، فنستنتج بأنّ القدرة الإلهية أيضاً غير متناهية، ولا تعرف حدّاً، ولا تقف عند نهاية.

ولهذا:

لا تكون قدرة الله مختصّة ببعض المقدورات دون بعض، بل تكون هذه القدرة شاملة ومتعلّقة بكلّ ما هو ممكن ومقدور.

موارد تعلَّق القدرة الإلهية :

لا تتعلّق قدرة الله إلاّ بالأمور الممكنة والمقدورة.

ولا تتعلّق هذه القدرة أبداً بالأمور المستحيلة والممتنعة بالذات.

تنبيه :

عدم تعلّق قدرة الله بالأمر المستحيل والممتنع بالذات ليس من جهة عجز أو قصور في قدرته تعالى، بل هو من جهة القصور في جانب الأمر المستحيل وعدم امتلاكه قابلية الإيجاد.

نماذج من الأمور المستحيلة عقلاً :

1 ـ أن يخلق الله تعالى مثله.


الصفحة 234

2 ـ أن يفني الله تعالى نفسه.

3 ـ أن يوجد الله تعالى شيئاً لا يقدر على تحريكه أو إفنائه.

4 ـ أن يجعل الله تعالى الشيء الكبير (مثل العالم) في الشيء الصغير (مثل البيضة) من دون أن يصغر حجم العالم أو تكبر البيضة.

فإذا سُئل: هل الله تعالى قادر على القيام بهذه الموارد؟

فالجواب: القدرة إنّما تتعلّق بالموارد التي يمكن وقوعها، وهذه الموارد يستحيل وقوعها; فلهذا لا تتعلّق القدرة بها.

والسؤال عن تعلّق القدرة بالموارد المستحيلة سؤال خاطىء.

ولهذا ورد في الحديث الشريف:

سُئل الإمام علي(عليه السلام): هل يقدر ربّك أن يدخل الدنيا في بيضة من غير أن يصغّر الدنيا أو يكبّر البيضة؟!

قال(عليه السلام): "إنّ الله تبارك وتعالى لا ينسب إلى العجز، والذي سألتني لا يكون"(1).

مثال توضيحي:

1 ـ إذا سألك شخص: هل تستطيع أن تجعل نتيجة 2 + 2 تساوي 5؟

فسيكون جوابك: من المستحيل أن تكون نتيجة 2 + 2 تساوي 5.

وعدم قدرتي على الحصول على هذه النتيجة ليس لعجزي وقصور قدرتي، بل لأنّ هذا المورد محال ولا يمكن تحقّقه.

____________

1- التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 9، ح 9، ص 126.

ورد في حديث آخر:

سُئل الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام): هل يقدر ربّك أن يجعل السماوات والأرض وما بينهما في بيضة؟

قال(عليه السلام): "نعم، وفي أصغر من البيضة، قد جعلها في عينك، وهي أقل من البيضة، لأنّك إذا فتحتها عاينت السماء والأرض وما بينهما، ولو شاء لأعماك عنها".

التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 9، ح 11، ص 126.

ولا يخفى بأنّ إجابة الإمام الرضا(عليه السلام) في هذا المقام وبهذه الصورة كانت لأجل إزالة حالة شكّ السائل في قدرة الله تعالى، فكلّم الإمام(عليه السلام) السائل على قدر عقله، ولم يبيّن له استحالة ما سأله لئلا يشوش ذهنه، وأجابه بجواب يصرف ذهنه إلى عظمة قدرة الله تعالى.


الصفحة 235

والاستفسار عن امتلاك القدرة أو عدم امتلاكها لا يصح إلاّ في الموارد التي يصح وقوعها.

2 ـ إذا سألك شخص: هل تستطيع أن تكون في وقت ومكان واحد موجوداً ومعدوماً؟

فسيكون جوابك:

إنّ هذا الأمر مستحيل، ولا يمكن وقوعه أبداً; لأنّه من قبيل اجتماع النقيضين، والعقل يحكم باستحالة اجتماع النقيضين.

ولا يقال لمن لا يفعل المستحيل أنّه عاجز; لأنّ عدم وقوع المستحيل ليس لعدم استطاعته من القيام به، بل لعدم امتلاك ذلك الشيء المستحيل قابلة الإيجاد والتحقّق.

الفرق بين المستحيل العقلي والمستحيل العادي :

المستحيل الذي لا تتعلّق به قدرة الله هو المستحيل العقلي دون المستحيل العادي، وأمّا المستحيل العادي فهو ممّا تتعلّق به القدرة الإلهية.

توضيح ذلك:

ينقسم المستحيل إلى قسمين:(1)

1 ـ المستحيل العقلي:

وهو الأمر الذي يحكم العقل بعدم إمكان وقوعه وتحقّقه أبداً.

من قبيل: ما يشتمل فرضه على التناقض (ويسمّى المستحيل ذاتاً).

ومثاله: أن يكون الشيء الواحد موجوداً ومعدوماً في وقت ومكان واحد.

ومن قبيل: ما يشتمل وجوده في الواقع الخارجي على التناقض (ويسمّى المستحيل وقوعاً).

____________

1- انظر: معارف القرآن، محمّد تقي المصباح: 202 ـ 203.


الصفحة 236

ومثاله: وجود المعلول من دون علّته الخاصة في الواقع الخارجي.

2 ـ المستحيل العادي:

وهو أنّنا اعتدنا على تحقّق كلّ شيء في الواقع الخارجي من خلال علّة أو علل معيّنة، فإذا سُئلنا: هل يمكن تحقّق هذا الشيء من دون وجود علّته المتعارفة؟ فإنّنا سنقول: هذا الأمر مستحيل.

ولكن قد يكون لتحقّق هذا الشيء علّة أخرى نجهلها، فإذا أدّت العلّة إلى وقوع ذلك الشيء فإنّنا نتصوّر وقوع المستحيل.

تنبيه :

تسمية هذا القسم الثاني "بالمستحيل" من باب التسامح، وهذا المستحيل ليس من قبيل المستحيل الذي يحكم العقل باستحالة وقوعه، وإنّما هو المستحيل الذي يحكم العرف والعادة بعدم تحقّقه.

مثال المستحيل العادي :(1)

لو سُئل أحد الأشخاص قبل اختراع الهاتف: هل تستطيع أن تتكلّم فيسمع صوتك من يبعد عنك آلاف الكيلومترات.

فإنّه سيجيب: هذا مستحيل.

وهذا المستحيل هو من قبيل المستحيل العادي، وليس من قبيل المستحيل العقلي.

ويحكم الإنسان باستحالة الشيء عادةً لعدم علمه بالأسباب، فإذا عرف الأسباب، وأصبح عنده إلمام بجهاز الهاتف، فإنّه سيدرك عدم استحالة ما حكم عليه بالاستحالة.

جميع المعاجز هي من قبيل اختراق المستحيل العادي، وهي ظواهر لا توجد عن طريق العلل العادية، وإنّما توجد عن طريق العلل غير العادية خارجة عن نطاق علمنا.

____________

1- انظر: المصدر السابق.


الصفحة 237

المبحث السادس

أدلة عموم قدرة الله تعالى

1 ـ قدرة الله عين ذات الله .

وبما أنّ الذات الإلهية مطلقة وغير متناهية، نستنتج بأنّ قدرة الله أيضاً غير متناهية، ولا تعرف حدّاً، ولا تقف عند نهاية، (وقد ذكرنا هذا المعنى، وبيّنا موارد تعلّق القدرة الإلهية في المبحث السابق).

2 ـ نسبة ذات الله إلى جميع المقدورات متساوية.

فلهذا تتعلّق قدرة الله بجميع المقدورات من غير استثناء.

ومن هذا المنطلق:

يكون اختصاص قدرة الله بمقدور دون آخر ترجيح بلا مرجّح، وهو باطل(1).

فتثبت قدرة الله على كلّ مقدور(2).

3 ـ تجلّي القدرة الإلهية في إيجاد كائنات السماوات والأرض من اللاشيء تنبىء عن عظمة قدرته تعالى، وتبيّن بأنّ كلّ ما نفترضه من أمور مقدورة وممكنة هي أهون عنده تعالى.

____________

1- بعبارة أخرى: المقتضي لكون الشيء مقدوراً هو اتّصافه بصفة "الإمكان"، وهذه الصفة متساوية بين جميع الممكنات، فلهذا تكون صفة "المقدورية" مشتركة بين جميع "الممكنات".

2- انظر: النكت الاعتقادية، الشيخ المفيد: الفصل الأوّل، ص 23.

الرسائل العشر، الشيخ الطوسي: مسائل كلامية، مسألة (8)، ص 94.

المنقذ من التقليد، سديد الدين الحمصي: ج 1، القول في أنّه تبارك وتعالى يقدر...، ص 82 . تلخيص المحصّل، نصيرالدين الطوسي: الركن الثالث، القسم الثاني، مسألة: الله تعالى قادر على كلّ المقدورات...، ص 299. المسلك في أصول الدين، المحقّق الحلّي: النظر الأوّل، المطلب الثاني، ص 53. قواعد المرام، ميثم البحراني: القاعدة الرابعة، الركن الثالث، البحث الثامن، ص 96 ـ 97. مناهج اليقين، العلاّمة الحلّي: المنهج الرابع، البحث الرابع، ص 163.


الصفحة 238

قال تعالى: { أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثهلم } [ يس: 81 ]

آيات قرآنية حول عمومية قدرة الله تعالى :

1 ـ { إنّ الله على كلّ شيء قدير } [ البقرة: 20 ]

2 ـ { وكان الله على كلّ شيء مقتدراً } [ الكهف: 45 ]

3 ـ { تبارك الذي بيده الملك وهو على كلّ شيء قدير } [ الملك: 1 ]

4 ـ { له الملك وله الحمد وهو على كلّ شيء قدير } [ التغابن: 10 ]

5 ـ { وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض إنّه كان عليماً قديراً } [ فاطر: 44 ]

أحاديث لأهل البيت(عليهم السلام) حول عمومية قدرة الله تعالى :

1 ـ قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): "الأشياء كلّها له سواء علماً وقدرة..."(1).

2 ـ قال الإمام موسى بن جعفر الكاظم(عليه السلام): "إنّ الله تعالى... القادر الذي لا يعجز"(2).

مناقشة أهم الإشكالات الواردة حول عموم قدرة الله تعالى

الإشكال الأوّل :(3)

إنّ الله غير قادر على فعل القبيح.

____________

1- الكافي، الشيخ الكليني: كتاب التوحيد، باب الحركة والانتقال، ح 4، ص 126.

2- التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 2، ح 32، ص 74.

3- أشير إلى هذا الإشكال والردّ عليه في:

تقريب المعارف، أبو الصلاح الحلبي: مسائل العدل، ص 100. المسلك في أصول الدين، المحقّق الحلّي: النظر الثاني، البحث الثالث، ص 89 . المنقذ من التقليد، سديدالدين الحمصي: ج 1، القول في العدل، ص 154. كشف المراد، العلاّمة الحلّي: المقصد الثالث، الفصل الثاني، ص 396. مناهج اليقين، العلاّمة الحلّي: المنهج الرابع، البحث الرابع، ص 162 ـ 163.


الصفحة 239

دليل ذلك :

لو كان الله قادراً على فعل القبيح لصحّ منه فعله، وصحّة فعل القبيح منه تعالى دليل على اتّصافه بالجهل والاحتياج، ولكنّه تعالى منزّه عن هذه الأوصاف، فيثبت عدم قدرته على فعل القبيح.

يرد عليه :

الاتّصاف بالجهل والاحتياج يكون مع "فعل القبيح" لا مع "امتلاك القدرة على فعله"، وعدم فعله تعالى للقبيح ليس لعدم قدرته على فعله، بل لأنّه تعالى حكيم، فلا يريد فعل القبيح.

أدلة قدرته تعالى على فعل القبيح :

1 ـ إن الله تعالى قادر على كلّ مقدور، والقبيح مقدور، فيثبت أنّه تعالى قادر على فعل القبيح(1).

2 ـ إنّ "الفعل الحسن" من جنس "الفعل القبيح"، والقادر على أحد الجنسين يكون قادراً على الآخر(2).

3 ـ لو لم يكن الله قادراً على فعل القبيح، لم يستحق المدح إزاء عدم فعله للقبيح; لأنّ "المدح" يكون لمن يقدر على فعل القبيح ثمّ لم يفعله(3).

____________

1- انظر: المسلك في أصول الدين، المحقّق الحلّي: النظر الثاني، البحث الثالث، ص 88 .

2- انظر: شرح جمل العلم والعمل، الشريف المرتضى: باب ما يجب اعتقاده في أبواب العدل، ص 83 ـ 84 .

تقريب المعارف، أبو الصلاح الحلبي: مسائل العدل، مسألة في كونه تعالى قادراً على القبيح، ص 99. الاقتصاد، الشيخ الطوسي: القسم الثاني، الفصل الأوّل، ص 88 .

3- الياقوت في علم الكلام، أبو إسحاق إبراهيم بن نوبخت: نكت في التوحيد، ص 57.


الصفحة 240

الإشكال الثاني(1) :

إنّ الله تعالى لا يقدر على مثل مقدور العبد.

أي: إنّ الله تعالى لا يقدر على القيام بمثل الأفعال التي يقوم بها الإنسان.

دليل ذلك :

إنّ مقدور الإنسان (أي: الفعل الذي يقدر الإنسان على إيجاده) ينقسم إلى قسمين:

أوّلاً: ليس فيه غرض، فيوصف هذا الفعل بـ"العبث".

ثانياً: فيه غرض.

وهذا الغرض ينقسم إلى قسمين:

أوّلاً: موافق للأوامر الشرعية، فيوصف الفعل بـ"الطاعة"

ثانياً: غير موافق للأوامر الشرعية، فيوصف الفعل بـ "المعصية".

إذن، فعل الإنسان لا يخلو عن أحد هذه الأوصاف الثلاثة، وهي العبث والطاعة والمعصية.

فلو قلنا بأنّ الله تعالى قادر على القيام بمثل فعل الإنسان فسيكون معنى ذلك أنّ أفعال الله أيضاً ستوصف بالعبث أو الطاعة أو المعصية، وهذا باطل(2)، فيثبت عدم قدرة الله على مثل مقدور العبد.

يرد عليه :

إنّ لكلّ فعل بُعدين:

____________

1- أُشير إلى هذا الإشكال والردّ عليه في:

قواعد المرام، ميثم البحراني: القاعدة الرابعة، الركن الثالث، البحث الثامن، ص 96 ـ 97.

كشف المراد، العلاّمة الحلّي: المقصد الثالث، الفصل الثاني، المسألة الأولى، ص 396 ـ 397. إرشاد الطالبين، مقداد السيوري: مباحث التوحيد، مذهب الكعبي...، ص 191.

2- دليل ذلك:

أوّلاً: يستلزم وصف فعل الله بالعبث نفي الحكمة عنه، والله تعالى منزّه عن ذلك.

ثانياً: يستلزم وصف فعل الله بالطاعة والمعصية أن يكون له تعالى آمر وناهي، وهذا محال.


الصفحة 241

1 ـ ذات الفعل.

2 ـ صفات الفعل، وهي الصفات التي تُنتزع من خلال لحاظ "دواعي" القيام بالفعل.

وهذه الصفات في أفعال الإنسان عبارة عن :

أوّلاً: "العبث"، فيما لو كان داعي الفعل من دون غرض.

ثانياً: "الطاعة"، فيما لو كان داعي الفعل تلبية الأوامر الشرعية.

ثالثاً: "المعصية"، فيما لو كان داعي الفعل مخالفة الأوامر الشرعية.

وما ينبغي الالتفات إليه: أنّ ما يستلزم المحذور عبارة عن تشابه دواعي الله في الفعل مع دواعي الإنسان.

لأنّنا إذا قلنا بأنّ دواعي الله مشابهة لدواعي الإنسان، فإنّ أفعال الله تعالى ستُصوف بالعبث أو الطاعة أو المعصية، وهذا محال.

لكنّنا إذا قلنا بأنّ الله قادر على القيام بما يقوم به العبد من حيث ذات الفعل وهيئته، وله تعالى دواعي مغايرة لدواعي الإنسان، فإنّه لا يكون أيّ محذور في هذا المجال.

فتثبت قدرة الله على مثل ما يقدر عليه الإنسان.

بعبارة أخرى:

دواعي فعل الله مغايرة لدواعي فعل الإنسان.

فلهذا لا يوصف فعل الله بالأوصاف التي يوصف بها فعل الإنسان (وهي: العبث أو الطاعة أو المعصية).

وعدم اتّصاف فعله تعالى بالأوصاف التي يتّصف بها فعل الإنسان لا يوجب إنكار قدرته تعالى على مثل ما يقوم به الإنسان.

بل غاية ما يثبته أنّ دواعي فعل الله مغايرة لدواعي فعل الإنسان.

فلا يبقى أيّ إشكال في أن يكون الله قادراً على مثل ما يقوم به الإنسان، وأن


الصفحة 242

يكون الله فاعلاً لمثل الفعل الذي يفعله الإنسان من حيث "الذات والهيئة" لا من حيث "الداعي والأوصاف".

تنبيه :

المقصود من قدرة الله على مثل ما يقوم به الإنسان هي الأفعال التي يصح نسبتها إلى الله عزّ وجلّ، وليس المقصود منها الأفعال القائمة بالفاعل المادي والجسماني كالأكل والشرب وما شابه ذلك; لأنّ هذه الأفعال ممّا يتنزّه عنها الله تعالى، وهي خارجة عن البحث.

الإشكال الثالث :(1)

إنّ الله تعالى لا يقدر على عين مقدور العبد.

أي: إذا تعلّقت قدرة الإنسان بشيء فلا يمكن بعد ذلك أن تتعلّق قدرة الله بذلك الشيء.

دليل ذلك :

إذا تعلّقت قدرة الإنسان بشيء، وتعلّقت قدرة الله ـ في نفس الوقت ـ فإنّه يلزم اجتماع قادرين على مقدور واحد، وهو محال; لأنّ الإنسان قد يريد وقوع الشيء، ويريد الله تعالى عدم وقوعه.

فيكون ذلك الشيء ـ في نفس الوقت ـ "واقع" و "غير واقع"، وهذا محال; لأنّه من قبيل اجتماع النقيضين.

فيثبت عدم تعلّق قدرة الله بالشيء فيما لو تعلّقت قدرة الإنسان بذلك الشيء.

يرد عليه :

إنّ هذا الإشكال يصحّ فيما لو قلنا بأنّ قدرة الإنسان قدرة مستقلة وقائمة بذاتها، فيؤدّي اجتماعها مع قدرة الله إلى اجتماع النقيضين.

ولكن قدرة الإنسان غير مستقلة، وهي لا تترك أثرها إلاّ بإذن الله، ولهذا لا

____________

1- أشير إلى هذا الإشكال والرد عليه في:

قواعد المرام، ميثم البحراني: القاعدة الرابعة، الركن الثالث، البحث الثامن، ص 97. كشف المراد، العلاّمة الحلّي: المقصد الثالث، الفصل الثاني، المسألة الأولى، ص 396. إرشاد الطالبين، مقداد السيوري: مباحث التوحيد، مذهب الكعبي، ص 193.


الصفحة 243

يشكّل فرض اجتماع قدرة الإنسان مع قدرة الله أيّ محذور أبداً; لأنّ قدرة الإنسان لوحدها لا تشكّل العلّة التامّة في التأثير، بل لابدّ من وجود إذن إلهي في هذا الصعيد لتترك هذه القدرة أثرها في الواقع الخارجي.

الإشكال الرابع :

نظرية الواحد لا يصدر عنه إلاّ الواحد .

ذهب بعض الفلاسفة إلى أنّ قدرة الله تعالى لا تتعلّق مباشرة إلاّ بشيء واحد، أي: لا يفعل الله بذاته إلاّ شيئاً واحداً فقط، ثمّ يكون تعلّق قدرة الله بسائر الأشياء بصورة غير مباشرة وعن طريق وجود واسطة(1).

دليل ذلك :

إنّ الله تعالى واحد بذاته، وهو منزّه عن جميع أنواع الكثرة، وصدور أكثر من شيء واحد عنه تعالى يلزم وجود تكثّر في ذاته، فيكون الله تعالى مركّباً، وهذا محال.

يرد عليه :

1 ـ نظرية "الواحد لا يصدر عنه إلاّ الواحد" تصحّ مع الفاعل الموجب (المضطر)، وبما أنّ هؤلاء الفلاسفة يقولون أو يلازم قولهم بأنّ الله تعالى فاعل موجب، فلهذا يذهبون إلى أنّ الله تعالى لا يصدر عنه إلاّ شيئاً واحداً، ولا تتعلّق قدرته مباشرة إلاّ بشيء واحد.

ولكن الله تعالى ـ في الواقع ـ فاعل مختار، فلهذا لا تشمله هذه النظرية(2).

قال العلاّمة الحلّي:

____________

1- انظر: قواعد العقائد، نصيرالدين الطوسي: الباب الثاني: في ذكر صفات الله، عموم العلم والقدرة، ص 54.

كشف الفوائد، العلاّمة الحلّي: الباب الثاني، الصفات الثبوتية ( 2)، العلم، الواحد لا يصدر عنه إلاّ الواحد، ص 170.

وللمزيد راجع: المطالب العالية، فخرالدين الرازي: 4 / 381 ـ 397.

2- مرّ في هذا الفصل، المبحث الثاني التعريف بالفاعل الموجب والفاعل المختار.


الصفحة 244

"المؤثّر إن كان مختاراً جاز أن يتكثّر أثره مع وحدته وإن كان موجباً فذهب الأكثر إلى استحالة تكثّر معلوله باعتبار واحد"(1).

2 ـ الامتناع وعدم الصدور في نظرية "الواحد لا يصدر عنه إلاّ الواحد" يكون فيما لو كان الصدور من جهة واحدة، ولكن الله فاعل مختار، وبإمكانه أن يصدر عنه الفعل من جهات متعدّدة حسب اختلاف مشيئته وإرادته; فلهذا يصحّ عنه صدور أفعال كثيرة بحيث يكون لكلّ فعل جهة مغايرة للأخرى(2).

3 ـ يلزم القول بأنّ الله تعالى لا يصدر عنه إلاّ الواحد:

أوّلاً: أن تكون رتبة الله في التأثير أقل من رتبة المؤثّرات الأخرى.

ثانياً: إنكار قدرة الله الشاملة لكلّ المقدورات.

ثالثاً: إخراج الله عن سلطانه.

وبما أنّه تعالى يتنزّه عن هذه الأمور فلا يصح قبول هذه النظرية.

الإشكال الخامس :(3)

إنّ الله تعالى غير قادر على خلاف ما يعلم.

دليل ذلك :

إنّ ما علم الله وقوعه، يقع قطعاً، فهو "واجب" الوقوع.

وإنّ ما علم الله عدم وقوعه، لا يقع قطعاً، فهو "ممتنع" الوقوع.

وما هو "واجب" أو "ممتنع" الوقوع، لا تتعلّق به القدرة.

لأنّ القدرة إنّما تتعلّق بما يصح "وقوعه" و "عدم وقوعه"، ويمكن "فعله" و"عدم فعله".

____________

1- كشف المراد، العلاّمة الحلّي: المقصد الأوّل، الفصل الثالث، المسألة الثالثة، ص 172.

2- انظر: تلخيص المحصّل، نصيرالدين الطوسي: رسالة في العلل والمعلولات، ص 509.

3- أُشير إلى هذا الإشكال والرد عليه في:

قواعد المرام، ميثم البحراني: القاعدة الرابعة: الركن الثالث، البحث الثامن، ص 97. كشف المراد، العلاّمة الحلّي: المقصد الثالث، الفصل الثاني، المسألة الأولى، ص 396. إرشاد الطالبين، مقداد السيوري: مباحث التوحيد، مذهب الكعبي...، ص 189 ـ 190.


الصفحة 245

فيثبت أنّ الله تعالى غير قادر على خلاف ما يعلم.

بعبارة أخرى:

لو لم يقع ما علم الله وقوعه.

أو وقع ما علم الله عدم وقوعه.

لزم انقلاب علمه تعالى جهلاً، وهو محال.

يرد عليه :

1 ـ إنّ الله تعالى بكلّ شيء عليم، والأشياء كلّها تنقسم في علم الله تعالى إلى قسمين:

أوّلاً: يعلم بأنّها تقع، فتكون هذه الأشياء ـ حسب الإشكال المذكور ـ واجبة الوقوع.

ثانياً: يعلم بأنّها لا تقع، فتكون هذه الأشياء ـ حسب الإشكال المذكور ـ ممتنعة الوقوع.

ولازم هذا القول أن لا تتعلّق قدرة الله بأيّ شيء أبداً، لأ نّه تعالى بكلّ شيء عليم، وهذا الأمر واضح البطلان.

والصحيح أن يُقال:

1 ـ علم الله بوقوع شيء يعني أنّه يعلم بأنّ ذلك الشيء سيقع بتأثير من قدرته المباشرة أو غير المباشرة.

2 ـ إنّ علم الله تعالى بعدم وقوع شيء يعنى أنّه يعلم بأنّ ذلك الشيء لا يقع لعدم تعلّق قدرته أو قدرة مخلوقاته به أو عدم سعة قدرة غيره لتحقّقه.

فتكون القدرة ـ في جميع الأحوال ـ هي المؤثّرة في وقوع الأشياء.

بعبارة أخرى:

إنّ العلم لا يشكّل العلّة لوقوع أو عدم وقوع الأشياء، وإنّما العلم مجرّد كاشف يكشف عن:


الصفحة 246

وقوع الشيء عند تحقّق علّته التامّة.

أو عدم وقوع الشيء عند عدم تحقق علّته التامّة.

وإحدى العلل الحتمية لوقوع الشيء هي "القدرة".

ومن المستحيل أن يقع شيء من دون وجود "قدرة".

إذن:

تعلّق العلم بوقوع "شيء" لا يجعل ذلك الشيء واجب الوقوع نتيجة تعلّق العلم به .

وإنّما يكون الشيء واجب الوقوع من خلال علّته التامّة، والتي تكون القدرة جزءاً أساسياً من هذه العلّة.

ومهم ة "العلم" هو الكشف عن تلك العلّة والإخبار عن وقوع ذلك الشيء لا غير، وليس لهذا العلم أي أثر في وقوعه أبداً.


الصفحة 247

الصفحة 248

فهرس المطالب / تحميل الكتاب

فهرس المطالب

zip pdf