الصفحة 142

المبحث الثاني

أحدية الله ووحدانيته في القرآن الكريم

أوّلاً : في القرآن الكريم

1 ـ { قل هو الله أحد } [ الإخلاص: 2 ]

{ وإلهكم إله واحد لا إله إلاّ هو الرحمن الرحيم } [ البقرة: 163 ]

2 ـ { وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنّما هو إله واحد } [ النحل: 51 ]

3 ـ { لقد كفر الذين قالوا إنّ الله ثالث ثلاثة وما من إله إلاّ إله واحد } [ المائدة: 73 ]

4 ـ { ما اتّخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذاً لذهب كلّ إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض } [ المؤمنون: 91 ]

ثانياً : في الأحاديث الشريفة

قال الإمام علي(عليه السلام): "إنّ القول في أنّ الله واحد على أربعة أقسام:

فوجهان منها لا يجوزان على الله عزّ وجلّ، ووجهان يثبتان فيه.

فأمّا اللذان لا يجوزان عليه:

1 ـ فقول القائل: واحد، يقصد به باب الأعداد، فهذا ما لا يجوز.

لأنّ ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد، أما ترى أنّه كفّر من قال: ثالث ثلاثة.

2 ـ وقول القائل: هو واحد من الناس، يريد به النوع من الجنس، فهذا ما لا يجوز عليه; لأنّه تشبيه، وجلّ ربّنا عن ذلك وتعالى.

وأمّا الوجهان اللذان يثبتان فيه:

1 ـ فقول القائل: هو واحد ليس له في الأشياء شبه، كذلك ربّنا. [ أي: توحيد الواحدية ]


الصفحة 143

2 ـ وقول القائل: إنّه عزّ وجلّ أحديّ المعنى، يعني به أنّه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم، كذلك ربّنا عزّ وجلّ. [ أي: توحيد الأحدية ]"(1).

سُئل الإمام الرضا(عليه السلام): الله واحد والإنسان واحد، فليس قد تشابهت الوحدانية؟ فقال(عليه السلام): "... إنّما التشبيه في المعاني، فأمّا في الأسماء فهي واحدة، وهي دلالة على المسمّى...

والإنسان نفسه ليس بواحد; لأنّ أعضاءه مختلفة، وألوانه مختلفة غير واحدة، وهو أجزاء مجزّأة...

فالإنسان واحد في الاسم، لا واحد في المعنى.

والله جلّ جلاله واحد لا واحد غيره..."(2).

____________

1- التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 3، ح 3، ص 81 .

2- المصدر السابق: باب 2، ح 18، ص 61.


الصفحة 144

المبحث الثالث

أدلة أحدية الله ووحدانيته

دليل أحدية الله :

لو لم يكن الله أحدياً، فسيلزم ذلك كونه تعالى مركّباً من أجزاء، والمركب من أجزاء "محتاج" إلى أجزائه، و "الاحتياج" نقص، والله منزّه عن النقص، فيثبت كونه تعالى أحدياً وبسيطاً لا جزء له.

سئل الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): فكيف هو الله واحد؟

فقال(عليه السلام) واحد في ذاته، فلا واحد كواحد; لأنّ ما سواه من الواحد متجزّئ، وهو تبارك وتعالى واحد لا يتجزّئ، ولا يقع عليه العدّ"(1).

أدلة وحدانية الله تعالى :

الدليل الأوّل :

لو كان لله شريك في الوجود، لزم أن يكون كلّ واحد من الله وشريكه مركّباً من:

1 ـ ما به الاشتراك مع الآخر.

2 ـ ما به الامتياز عن الآخر.

و "المركب" في الواقع "محتاج" إلى أجزائه.

وبما أنّه تعالى منزّه عن الاحتياج، فلهذا يثبت أنّه تعالى منزّه عن وجود الشريك له(2).

____________

1- الاحتجاج، الشيخ الطبرسي: ج 2، احتجاجات الإمام الصادق(عليه السلام)، رقم 223، ص 217.

2- انظر: قواعد العقائد، نصيرالدين الطوسي: الباب الثاني، وحدانية تعالى، ص 62 ـ 63.

المسلك في أصول الدين، المحقّق الحلّي: النظر الأوّل المطلب الثالث، ص 55.

قواعد المرام، ميثم البحراني: القاعدة الرابعة، الركن الثالث، البحث العاشر، ص 100.

كشف المراد، العلاّمة الحلّي: المقصد الثالث، الفصل الثاني، المسألة الثامنة، ص 405.

إرشاد الطالبين، مقداد السيوري: مباحث التوحيد، إثبات وحدة واجب الوجود، ص 249 ـ 250.


الصفحة 145

الدليل الثاني :

لو كان لله شريك في الوجود، وكان بين الله وشريكه ما به الاشتراك وما به الامتياز، فسيلزم أن يكون كلّ واحد من الله وشريكه "محدوداً" بحدود تميّزه عن الآخر.

والمحدود مقهور للحدود والقيود الحاكمة عليه، فيثبت أنّ "الحدّ" نقص.

وبما أنّه تعالى منزّه عن النقص، فيثبت أنّه تعالى منزّه عن وجود الشريك له(1).

الدليل الثالث :

لو كان في الوجود إلهان، لم يخلُ الأمر فيهما من أن يكون كلّ واحد منهما:

1 ـ قادراً على منع الآخر:

فيكون الآخر عاجزاً، وليس من صفات الله العجز.

فيثبت أنّ الله واحد، وهو المتّصف بالقدرة المطلقة.

2 ـ عاجزاً عن منع الآخر:

فيكون هذا الإله عاجزاً، وليس من صفات الله العجز.

فيثبت أنّ الله تعالى واحد، وهو المتصّف بالقدرة المطلقة(2).

____________

1- لهذا نجد الله تعالى يصف نفسه بالوحدانية ثمّ يتبعها بصفة القاهرية، لتكون صفة "القاهرية" دليلاً على صفته بـ "الوحدانية".

قال تعالى: (الله الواحد القهار ) [يوسف: 39]

وقال تعالى: (وما من إله إلاّ الله الواحد القهار ) [ص: 65]

وقال تعالى: (سبحانه هو الله الواحد القهار ) [الزمر: 4]

2- انظر: التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 36، ذيل ح 5، ص 263.

الملخّص في أصول الدين، الشريف المرتضى: الجزء الثاني، فصل في الدلالة على أنّه تعالى واحد...، ص 269.

شرح جمل العلم والعمل، الشريف المرتضى: في أنّه تعالى واحد لا ثاني له، ص 79.

تقريب المعارف، أبو الصلاح الحلبي: مسائل التوحيد، مسألة في كونه تعالى واحداً، ص 88 ـ 89 . غنية النزوع، ابن زهرة الحلبي: ج 2، الفصل الخامس، في أنّه تعالى واحد لا ثاني له، ص 64 ـ 65. تلخيص المحصل، نصيرالدين الطوسي: الركن الثالث، القسم الثاني، مسألة: الإله واحد، ص 322، كشف الفوائد، العلاّمة الحلّي: الباب الثاني، الصفات الثبوتية، الوحدانية، ص 194.


الصفحة 146

بعبارة أخرى:

لو كان في الوجود إلهان:

وأراد أحدهما تحريك جسم، وأراد الآخر تسكينه في حالة واحدة.

فلا يخلو الأمر عندئذ من ثلاث نتائج:

1 ـ يقع مرادهما، فيلزم الاجتماع بين الضدّين، وهو باطل.

2 ـ لا يقع مرادهما، فيلزم كونهما عاجزين، والعجز يتنافى مع الألوهية.

3 ـ يقع مراد أحدهما، فيلزم عجز من لم يقع مراده، فتنتفي ألوهيته(1).

قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام) في مقام الردّ على مقولة أحد الزنادقة: "لا يخلو قولك: إنّهما اثنان من:

أن يكونا قديمين قويين.

أو يكونا ضعيفين.

أو يكون أحدهما قويّاً والآخر ضعيفاً.

فإن كانا قويين فلمَ لا يدفع كلّ واحد منهما صاحبه ويتفرّد بالتدبير؟!

وإن زعمت أنّ أحدهما قوي والآخر ضعيف ثبت أنّه واحد كما نقول للعجز الظاهر في الثاني(2).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام) أيضاً:

"لو كان إلهين كما زعمتم، لكانا يخلقان:

فيخلق هذا ولا يخلق هذا.

ويريد هذا ولا يريد هذا.

ولطلب كلّ واحد منهما الغلبة.

وإذا أراد أحدهما خلق الإنسان، وأراد الآخر خلق بهيمة.

____________

1- انظر: التبيان في تفسير القرآن، الشيخ الطوسي: ج 7، تفسير آية 22 من سورة الأنبياء، ص 239.

المنقذ من التقليد، سديد الدين الحمصي: ج 1، القول في أنّه تعالى واحد لا ثاني له، ص 135. مناهج اليقين، العلاّمة الحلّي، المنهج الخامس، البحث الثالث عشر، ص 220.

2- الكافي، الشيخ الكليني: ج1، كتاب التوحيد، باب حدوث العالم وإثبات المُحدِث، ح5، ص80 ـ 81 .


الصفحة 147

فيكون إنساناً وبهيمة في حالة واحدة، وهذا غير موجود.

فلمّا بطل هذا، ثبت التدبير والصنع لواحد.

ودلّ أيضاً التدبير وثباته وقوام بعضه ببعض على أنّ الصانع واحد جلّ جلاله"(1).

قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام):

"... ثمّ يلزمك إن ادّعيت اثنين [ فلابدّ من ] فرجة بينهما حتّى يكونا اثنين، فصارت الفرجة ثالثاً بينهما قديماً معهما فيلزمك ثلاثة.

فإن ادّعيت ثلاثة لزمك ما قلت في الاثنين حتّى تكون بينهم فُرجة فيكونوا خمسة، ثمّ يتناهى في العدد إلى ما لا نهاية له في الكثرة"(2).

سُئل الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): ما الدليل على أنّ الله واحد؟ فقال(عليه السلام): "اتّصال التدبير(3) وتمام الصنع(4) كما قال عزّ وجلّ: { لو كان فيهما آلهة إلاّ الله لفسدتا } [ الأنبياء: 22 ]"(5).

وقال الإمام الصادق(عليه السلام) أيضاً:

"فلمّا رأينا الخلق منتظماً، والفلك جارياً، والتدبير واحداً، والليل والنهار والشمس والقمر دلّ صحّة الأمر والتدبير وائتلاف الأمر على أنّ المدّبر واحد"(6).

الدليل الرابع :

جاء في وصية الإمام علي(عليه السلام) لولده الإمام الحسن(عليه السلام):

"... واعلم يا بني! أنّه لو كان لربّك شريك لأتتك رسله، ولرأيت آثار مُلكه

____________

1- بحار الأنوار، العلاّمة المجلسي: ج 3، كتاب التوحيد، باب 6، ح 6، ص 219 ـ 220.

2- الكافي، الشيخ الكليني: ج1، كتاب التوحيد، باب حدوث العالم وإثبات المحدث، ح 5، ص 81 .

3- اتّصال التدبير: استمراره على التوالي وعدم انقطاعه; لأنّ انقطاعه يؤدّي إلى الفساد.

4- تمام الصنع: إتقانه وكماله.

5- التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 36، ح 2، ص 244.

6- الكافي، الشيخ الكليني: ج 1، كتاب التوحيد، باب حدوث العالم واثبات المحدث، ح 5، ص 81 .


الصفحة 148

وسلطانه، ولعرفت أفعاله وصفاته"(1).

النتيجة :

لا يصح نسبة الشريك إلى الله; لأنّ هذه النسبة دليل الحاجة والعجز والافتقار، والله منزّه عن جميع هذه النواقص.

____________

1- نهج البلاغة، الشريف الرضي: قسم الرسائل، رسالة 31، ص 542.


الصفحة 149

المبحث الرابع

الثنوية

ادّعاء الثنوية :

يوجد في الكون خير وشر، وهما ضدّان.

والفاعل الواحد لا يترك أثرين ضدّين، بل لكلّ فاعل أثره الخاص المنسجم سنخياً معه.

فنستنتج وجود مؤثّرين في الكون، هما النور والظلمة.

والنور يفعل الخير بطبعه، والظلمة تفعل الشرّ بطبعها(1).

والنور إله الخير، وهو يُدعى "يزدان".

والظلمة إله الشرّ، وهي تُدعى "أهريمن".

وهما في صراع دائم حتّى يغلب النور الظلمة.

أدلة بطلان ادّعاء الثنوية :

1 ـ لو كان التضاد بين الخير والشر سبباً في ادّعاء وجود إلهين في الكون، فيلزم ادّعاء أكثر من إلهين; لأنّ الأضداد لا تنحصر في ضدّين، بل هي أضداد كثيرة.

قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) في مناظرته مع الثنوية:

"أفلستم قد وجدتم سواداً وبياضاً وحمرة وصفرة وخضرة وزرقة، وكلّ واحدة ضدّ لسائرها لاستحالة اجتماع اثنين منها في محل واحد، كما كان الحرّ والبرد ضدّين لاستحالة اجتماعهما في محل واحد؟

____________

1- انظر: المنقذ من التقليد، سديدالدين الحمصي: ج 1، الردّ على الفرق المخالفة في التوحيد، ص 140.


الصفحة 150

قالوا: نعم.

قال(صلى الله عليه وآله) : فهلاّ أثبتم بعدد كلّ لون صانعاً قديماً، ليكون فاعل كلّ ضدّ من هذه الألوان غير فاعل الضدّ الآخر؟ فسكتوا"(1).

2 ـ يترك كلّ من النور والظلمة أثره على الآخر، ويوجب فيه التغيير.

و "التغيير" من علامات "المحدثات".

و "الإله" يلزم أن يكون منزّهاً من "الحدوث".

فنستنتج استحالة ألوهية النور والظلمة.

3 ـ ما هو خير لإنسان قد يكون شراً لإنسان آخر.

وما هو شرّ لإنسان قد يكون خيراً لإنسان آخر.

فلو كان خالق "الخير" غير خالق "الشر".

فمَن سيكون خالق هذا الشيء الذي يكون في حالة واحدة خيراً وشراً لجهات متعدّدة؟!(2)

النتيجة :

وجود الخير والشر في الكون ينبىء عن وجود الحكمة في خلقهما فحسب، ولابد للإنسان من البحث لمعرفة هذه الحكمة بمقدار وسعه في العلم والمعرفة.

والجهل بهذه الحكمة لا يعني القول بوجود الحاجة إلى أكثر من إله لتفسير الظواهر الكونية المتضادّة، وإسناد كلّ واحدة منها إلى إله.

____________

1- الاحتجاج، الشيخ الطبرسي: ج 1، فصل في أنّ الجدال على قسمين، في ذكر طرف مما جاء عن النبي(صلى الله عليه وآله) من الجدال والمحاجة...، رقم 20، ص 38.

2- انظر: الملخّص في أصول الدين، الشريف المرتضى: الجزء الثاني، فصل في الكلام على الثنوية، ص 287 .

الاقتصاد، الشيخ الطوسي: القسم الأوّل، الفصل الخامس، ص 79.

المنقذ من التقليد، سديدالدين الحمصي: ج 1، الرد على الفرق المخالفة في التوحيد، ص 140.

مناهج اليقين، العلاّمة: المنهج الخامس، البحث الثالث عشر، ص 211.


الصفحة 151

المبحث الخامس

التثليث

خصائص مسألة التثليث :

1 ـ نظرية التثليث ـ في الواقع ـ نظرية غير معقولة، وقلّما توجد في مختلف الأديان مثل هذه المسألة في غاية التعقيد والإبهام والغموض.

2 ـ ورد في بعض التحقيقات بأنّ عقيدة التثليث تسرّبت إلى الديانة المسيحية من الديانة البراهمانية الهندوسية، وهي ديانة كانت تعتقد قبل المسيحية بأنّ الربّ الأزلي، والأبدي متجسّد في ثلاثة مظاهر، وهي:

أوّلاً: برهما (الخالق): وهو الموجد في بدء الخلق.

ثانياً: فيشو (الواقي): وهو الواقي والابن الذي جاء من قبل أبيه.

ثالثاً: سيفا (الهادم): وهو المفتي الهادم المُعيد للكون إلى سيرته الأولى(1).

3 ـ يعتبر المسيحيون "الاعتقاد بالتثليث" من المسائل التعبّدية التي لا تدخل في نطاق التحليل العقلي، وهي منطقة محرّمة على العقل، لأنّ حقيقتها فوق القياسات المادية.

يرد عليه :

لا يخفى خطأ مقايسة عالم ما وراء الطبيعة مع عالم الطبيعة، ولكن لا يعني هذا الأمر هيمنة الفوضى على عالم ما وراء الطبيعة وخلوّه من المعايير المنطقية.

كما لا يخفى وجود سلسلة من القضايا العقلية البديهية التي لا يوجد أدنى شك

____________

1- للمزيد راجع : مفاهيم القرآن، جعفر سبحاني: 6 / 488 ـ 489.


الصفحة 152

في أنّ هيمنتها على "عالم ما وراء المادة" و "عالم المادة" سواء.

مثال ذلك:

مسألة احتياج المعلول إلى علّة.

مسألة امتناع اجتماع النقيضين.

حقيقة التثليث :

الطبيعة الإلهية تتألّف من ثلاثة أقانيم(1) متساوية الجوهر، هي الأب والابن وروح القدس، وهذه الأقانيم الثلاثة مع ذلك ذات رتبة واحدة وعمل واحد(2).

يرد عليه :

القول بأنّ الإله "ثلاثة أقانيم وجوهر واحد" لا يخلو من أمرين:

1 ـ الإله حال كونه ثلاثة واحد، وحال كونه واحداً ثلاثة!

وهذا كلام متناقض وباطل.

2 ـ الإله جملة واحدة ذات أجزاء ثلاثة.

كما نقول في الإنسان: إنّه واحد ذات أجزاء كثيرة.

ويلزم من هذا المعنى أنّه تعالى مركّب، وبما أنّ المركّب محتاج إلى أجزائه فسيكون الإله أيضاً محتاجاً في تحقّق وجوده إلى الأقانيم، ولكنّه تعالى منزّه عن الاحتياج، فلهذا نستنتج بطلان القول بإله ذي ثلاثة أقانيم وجوهر واحد(3).

الأدلة القرآنية على إبطال ألوهية المسيح :

1 ـ كان المسيح يعبد الله ويدعو الناس إلى عبادة الله أيضاً: فلو كان المسيح إلهاً لما صحّ منه هذا الفعل.

قال تعالى: { لقد كفر الذين قالوا إنّ الله هو المسيح ابن المريم وقال المسيح

____________

1- الأقانيم: الأصول، وأحدها أقنوم.

لسان العرب، ابن منظور: 11 / 326 مادة (قنن).

2- انظر: قاموس الكتاب المقدّس: حرف الثاء، الثالوث الأقدس، ص 232.

3- انظر: الملخّص، الشريف المرتضى: الجزء الثاني، فصل في الكلام على النصارى، ص 291 ـ 292.

المنقذ من التقليد، سديدالدين الحمصي: ج 1، الردّ على الفرق المخالفة في التوحيد، ص 145.


الصفحة 153

يا بني اسرائيل اعبدوا الله ربّي وربّكم } [ المائدة: 72 ]

2 ـ كان المسيح كبقيّة البشر يأكل الطعام، وليس من صفات الإله هذا الأمر.

قال تعالى: { ما المسيح ابن مريم إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل وأمّه صديقة كانا يأكلان الطعام } [ المائدة: 75 ]

3 ـ الله تعالى قادر على إهلاك المسيح فتثبت ألوهية الله تعالى فحسب دون غيره.

قال تعالى: { فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمّه ومن في الأرض جميعاً } [ المائدة: 17 ](1)

____________

1- انظر: الملخّص، الشريف المرتضى: الجزء الثاني، فصل في الكلام على النصارى، ص 299.


الصفحة 154

المبحث السادس

الله تعالى واتّخاذ الولد

ذهب النصارى إلى أنّ الله اتّخذ المسيح ولداً له.

يرد عليه :

قول النصارى بأنّ الله اتّخذ المسيح ابناً له لا يخلو من أمرين:

1 ـ المعنى الحقيقي: والولد ـ حقيقة ـ جزء من والده انفصل عنه ونما خارجه.

وبعبارة أخرى: الولد هو انفصال جزء من الوالد واستقراره في رحم الأم.

وهذا المعنى يستلزم كون الله مركّباً ومتّصفاً بالآثار الجسمانية، ولكنّه تعالى منزّه عن ذلك، فنستنتج بطلان اتخاذ الله ابناً له حقيقة.

2 ـ المعنى المجازي: يستعمل هذا المعنى بين الناس بأن يتّخذ أحد الأشخاص شخصاً آخر ابناً له، وذلك في الموارد التي يكون هذا التبني متناسباً، ولهذا لا يصح للإنسان أن يتّخذ الجمادات والبهائم ولداً له أو يتّخذ من هو أكبر سنّاً ولداً له.

ومن هذا المنطلق لا يصح نسبة هذا المعنى إلى الله; لأنّه تعالى منزّه عن الجسمانية، فلهذا لا يصح أن يتّخذ ما هو جمساني ابناً له(1).

أضف إلى ذلك:

1 ـ يستلزم اتّخاذ الله ابناً له أن تكون له صاحبة.

قال تعالى: { بديع السماوات والأرض أنّى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة } [ الأنعام: 101 ]

____________

1- الملخّص، الشريف المرتضى: الجزء الثاني، فصل في الكلام على النصارى، ص 293 ـ 294.

الاقتصاد، الشيخ الطوسي: القسم الأوّل، الفصل الخامس، ص 81 .

غنية النزوع، ابن زهرة الحلبي: باب الكلام في التوحيد، الفصل الخامس، ص 69 ـ 70.،


الصفحة 155

2 ـ يستلزم اتّخاذ الله ابناً له أن يكون الابن مثيلاً ونظيراً له في الاتّصاف بالصفات الإلهية، من قبيل: الاستقلال والغنى عن الغير، فيلزم وجود الشريك لله، وهو محال.

قال تعالى: { الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتّخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك } [ الفرقان: 2 ]

وقال تعالى: { وقالوا اتخذ الله ولداً سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كلّله قانتون } [ البقرة: 116. ]

تنبيه :

قال بعض النصارى: بأنّ المسيح وُلد من غير أب، فلهذا يصح القول بأنّه ابن لله تعالى. فجاء في القرآن الكريم ردّاً على هذه المقولة:

{ إنّ مثل عيسى عندالله كمثل آدم خلقه من تراب } [ آل عمران: 59 ]


الصفحة 156

المبحث السابع

عبادة الاصنام

ورد في مناظرة رسول الله(صلى الله عليه وآله) مع عبدة الأصنام: أنّه(صلى الله عليه وآله) قال لهم:

"لمَ عبدتم الأصنام من دون الله؟

فقالوا: نتقرّب بذلك إلى الله تعالى...، إنّ هذه [ الأصنام ] صور أقوام سلفوا، كانوا مطيعين لله قبلنا، فمثّلنا صورهم وعبدناها تعظيماً لله.... كما تقرّبت الملائكة بالسجود لآدم إلى الله تعالى، وكما أمرتم بالسجود ـ بزعمكم ـ إلى جهة "مكة" ففعلتم، ثمّ نصبتم في غير ذلك البلد بأيديكم محاريب سجدتم إليها وقصدتم الكعبة لا محاريبكم، وقصدتم بالكعبة إلى الله عزّ وجلّ لا إليها.

فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): أخطأتم الطريق وضللتم... لقد ضربتم لنا مثلاً، وشبّهتمونا بأنفسكم ولسنا سواء، وذلك أنّا عباد الله مخلوقون مربوبون، نأتمر له فيما أمرنا، وننزجر عمّا زجرنا، ونعبده من حيث يريده منّا، فإذا أمرنا بوجه من الوجوه أطعناه ولم نتعدّ إلى غيره مما لم يأمرنا به ولم يأذن لنا، لأنّا لا ندري لعلّه إن أراد منّا الأوّل فهو يكره الثاني، وقد نهانا أن نتقدّم بين يديه.

فلمّا أمرنا أن نعبده بالتوجّه إلى الكعبة أطعناه، ثمّ أمرنا بعبادته بالتوجّه نحوها في سائر البلدان التي نكون بها فاطعناه، ولم نخرج في شيء من ذلك من اتّباع أمره.

والله عزّ وجلّ حيث أمر بالسجود لآدم لم يأمر بالسجود لصورته التي هي غيره، فليس لكم أن تقيسوا ذلك عليه; لأنّكم لا تدرون لعلّه يكره ما تفعلون إذ لم يأمركم به .

ثمّ قال لهم رسول الله(صلى الله عليه وآله): أرأيتم لو أذن لكم رجل دخول داره يوماً بعينه، ألكم أن تدخلوها بعد ذلك بغير أمره؟ أولكم أن تدخلوا داراً له أخرى مثلها بغير أمره؟ أو وهب لكم رجل ثوباً من ثيابه، أو عبداً من عبيده أو دابة من دوابه، ألكم أن


الصفحة 157

تأخذوا ذلك؟

قالوا: نعم.

قال: فإن لم تأخذوه ألكم أخذ آخر مثله؟

قالوا: لا; لأنّه لم يأذن لنا في الثاني كما أذن في الأوّل...

قال(صلى الله عليه وآله): فلم فعلتم ومتى أمركم أن تسجدوا لهذه الصور؟".

فقال القوم: سننظر في أمورنا، وسكتوا(1)... ثمّ عادوا بعد ثلاثة أيام وأسلموا.

____________

1- الاحتجاج، الشيخ الطبرسي: ج1، فصل في ذكر طرف مما جاء عن النبي(صلى الله عليه وآله) من الجدال والمحاجّة والمناظرة، رقم 20، ص 39 ـ 44.


الصفحة 158

المبحث الثامن

أقسام وحدانية الله

1 ـ توحيد الذات

أي: إنّ الله تعالى أحد لا جزء له، وواحد لا ثاني له(1).

2 ـ توحيد الصفات

أي: صفات الله عين ذاته تعالى(2).

3 ـ توحيد العبودية

أي: تخصيص العبادة لله، ونفي الشريك عنه في استحقاق العبودية(3).

تنبيه :

أشار بعض العلماء إلى أقسام أخرى من التوحيد ـ تدخل في إطار التوحيد الأفعالي ـ ولكن الصحيح عدم إلحاق هذه الأقسام بالتوحيد; لأنّها غير مختصة بالله، بل يصح للعباد القيام بها بإذن الله تعالى .

ومن هذه الأقسام: التوحيد في الأفعال.

فالله تعالى يفعل، والإنسان أيضاً يفعل

ولكن الفرق أنّه تعالى يفعل بصورة مستقلة

ولكن الإنسان يفعل بإذن الله تعالى وبحوله وقوّته.

فلهذا لا يصح القول: لا فاعل إلاّ الله تعالى.

____________

1- للمزيد راجع المباحث السابقة في هذا الفصل.

2- للمزيد راجع في هذا الكتاب: الفصل الثالث، المبحث السادس، القول الخامس.

3- تنبيه: إنّ توحيد الذات والصفات متقدّم في الرتبة عن توحيد العبودية; لأنّ الله تعالى منزّه عن الشريك والتركيب سواء كان هناك معبوداً أو لا .


الصفحة 159

وإنّما الصحيح القول: لا فاعل ـ على نحو الاستقلال ـ إلاّ الله تعالى.

تتمة :

ويتفرّع عن التوحيد في الأفعال أقسام أخرى للتوحيد، منها:

التوحيد في الخالقية والمؤثّرية والتدبير والتقنين والمالكية والرازقية والطاعة والحاكمية والاستعانة و...

فالله تعالى خالق ومؤثّر ومدبّر ومقنّن ومالك ورازق ومطاع وحاكم و...

والإنسان أيضاً خالق ومؤثّر ومدبّر ومقنّن ومالك ورازق ومطاع وحاكم و...

ولكن الفرق أنّه تعالى يخلق ويؤثّر ويدبّر و... على نحو الاستقلال.

ولكن الإنسان يخلق ويؤثّر ويدبّر و... بإذن الله تعالى.

ولهذا لا يصح القول: لا خالق ولا مؤثّر ولا مدبّر و... إلاّ الله تعالى.

وإنّما الصحيح القول: لا خالق ولا مؤثّر ولا مدبّر و... ـ على نحو الاستقلال ـ إلاّ الله تعالى.


الصفحة 160

الفصل السابع

حياة اللّه تعالى

معنى الحياة
   أدلة ثبوت صفة الحياة للذات الإلهية
   خصائص حياة الله تعالى
   حياة الله في القرآن والأحاديث الشريفة


الصفحة 161

الصفحة 162

المبحث الأوّل

معنى الحياة

مفهوم "الحياة" واضح وبديهي يدركه الإنسان بالوجدان إدراكاً فطرياً، ويمكن القول بأنّ كثرة وضوح وظهور هذا المفهوم أدّى إلى عسر تعريفه بالبيان.

وقد ذكر العلماء في بيان مفهوم الحياة عدّة معاني أهمّها:

المعنى العام للحياة :

الحياة صفة تجعل المتّصف بها مبدءاً للآثار المتوقّع صدورها منه.

مثال ذلك:

حياة الأرض كونها نابتة ومخضرة، وموتها خلافه.

حياة العمل عبارة عن انتهائه إلى الغرض المبتغى منه، وموته خلافه.

حياة القلب عبارة عن ازدهار الفضائل الأخلاقية فيه، وموته خلافه.

المعنى الخاص للحياة :

الحياة صفة توجب صحة الاتّصاف بالعلم والقدرة.

أي: لا تتصف أيّة ذات بصفة العلم والقدرة إلاّ بعد اتّصافها بصفة الحياة.

والضرورة تقضي بأنّ كلّ عالم وقادر حي(1).

____________

1- انظر: النكتب الاعتقادية، الشيخ المفيد: الفصل الأوّل، ص 24.

شرح جمل العلم والعمل، الشريف المرتضى: وجوب كونه تعالى حياً، ص 51. تقريب المعارف، أبو الصلاح الحلبي: مسائل التوحيد، مسألة: في كونه حيّاً، ص 74. المسلك في أصول الدين، المحقّق الحلّي: النظر الأوّل، المطلب الثاني، ص 45. قواعد العقائد، نصيرالدين الطوسي: الباب الثاني، حياته تعالى، ص 55. المنقذ من التقليد، سديدالدين الحمصي: القول في كونه تبارك وتعالى حيّاً، ص 41. كشف المراد العلاّمة الحلّي: المقصد الثالث، الفصل الثاني، المسألة الثالثة، ص 401. الاعتماد في شرح واجب الاعتقاد، مقداد السيوري: في صفات الله تعالى، ص 60.


الصفحة 163

تنبيه :

ذكر البعض(1) بأنّ الحي هو "المدرك الفاعل" أو "الدرّاك الفعّال" أو "الفعّال المدبّر".

ولكن لا يخفى بأنّ نسبة هذا المعنى من الحياة إلى الله تعالى يستلزم القول بقدم العالم.

لأنّ "الحياة" من صفات الله الذاتية.

و "الفعل والتدبير" من صفات الله الفعلية.

وجعل "الحياة" وهي صفة ذاتية ملازمة "للخلق والتدبير" وهي صفة فعلية يستلزم القول بأنّه تعالى خالق ومدبّر مادام حيّاً، فيؤدّي هذا الأمر إلى القول بقدم العالم.

ولكن هذه النظرية ـ كما بيّنا سابقاً ـ باطلة، وكلّ ما سوى الله تعالى حادث.

تتمّة :

يمكن القول بأنّ المقصود من تعريف الحي بالفعّال المدبّر أنّه تعالى متمكّن من الفعل دائماً وله القدرة على التأثير; لأنّ ما يقابل الحي هو الميّت، والميّت هو الذي

____________

1- ينسب هذا القول إلى الفلاسفة.

انظر: بحار الأنوار، العلاّمة المجلسي: كتاب التوحيد، أبواب الصفات، باب 1، ذيل ح 12، ص 68 ـ 69.

ونسب العلاّمة الحلّي هذا التعريف إلى الأوائل في كتابه مناهج اليقين، وصرّح به في كتابه الأبحاث المفيدة.

انظر: مناهج اليقين: المنهج الرابع، البحث السادس، ص 170.

الأبحاث المفيدة: الفصل الرابع، المبحث السادس، ص 33.

والغريب أنّ الشيخ الصدوق على رغم اعتقاده ببطلان قدم العالم (انظر: التوحيد: باب 42)، فإنّه قال: الحي معناه أنّه الفعّال المدبّر (التوحيد: باب 29، ص 195) وهذا المعنى يستلزم القول بقدم العالم; لأنّ الفعل والتدبير والخلق أمور متأخّرة عن وجود الذات الإلهية، والقول بأنّ الحي فعّال ومدبّر يستلزم القول بأنّ الفعل والتدبير الإلهي صفة ذاتية فيكون الخلق قديماً بقدم الذات الإلهية، وقد بيّن الشيخ الصدوق بطلان قدم العالم في باب 42 من كتابه التوحيد .


الصفحة 164

لا يصدر منه فعل، ولا أثر له على الواقع الخارجي.


الصفحة 165

المبحث الثاني

أدلة ثبوت صفة الحياة للذات الالهية

1 ـ الضرورة تحكم باتّصاف كلّ عالم وقادر بصفة الحياة.

وحيث ثبت اتّصافه تعالى بالعلم والقدرة، فلهذا يلزم كونه تعالى حيّاً(1).

2 ـ "الحياة" صفة كمالية، وبما أنّ لله الكمال كلّه، فلهذا يثبت كونه تعالى حياً.

3 ـ وهب الله الحياة لبعض مخلوقاته، وقد ذكرنا بأنّ "الحياة" صفة كمالية، فلهذا يثبت من منطلق "معطي الكمال غير فاقد له" بأنّه تعالى حيّ وغير فاقد لهذه الصفة الكمالية.

____________

1- انظر: النكت الاعتقادية: ص 24، تقريب المعارف: ص 74، المسلك في أصول الدين: ص 45، وقد أشرنا إلى هذه المصادر قبل قليل.

وانظر: الملخّص في أصول الدين، الشريف المرتضى: الجزء الأوّل، باب الكلام في الصفات، فصل في الدلالة على أنّ صانع الأجسام حيّ، ص 82 . غنية النزوع، ابن زهرة الحلبي: ج 2، الفصل الرابع، ص36. مناهج اليقين، العلاّمة الحلّي: المنهج الرابع، البحث السادس، ص 170.


الصفحة 166

المبحث الثالث

خصائص حياة الله تعالى

1 ـ "الحياة" صفة من صفات الله الذاتية، والله حيّ بذاته، ولا يصح أبداً سلب هذه الصفة عنه تعالى(1).

2 ـ "الحياة" التي تطلق على الله مغايرة تماماً عن "الحياة" التي تطلق على غيره تعالى من الكائنات الحية، ومن أوجه التغاير:

أوّلاً: حياة الله أزلية وباقية ولا تفنى .

حياة ما سوى الله مسبوقة دائماً بالعدم.

ثانياً: حياة الله منزّهة عن الخصائص الجسمانية.

حياة ما سوى الله ممزوجة بالكيفات النفسانية والمزاجية، ومقترنة بالجذب والتماسك والنمو والإحساس وغيرها من الأمور الجسمانية أو الأمور المحدودة.

ثالثاً: حياة الله عين ذاته، وليست هذه الصفة زائدة على ذاته تعالى.

حياة ما سوى الله تعالى صفة زائدة على الذات.

تنبيه :

ما نتصوّره بصورة عامة من "الحياة" هي الحياة المرتبطة بالمخلوقات الحيّة، وحياة الله مغايرة لحياة المخلوقات، فلهذا يلزم علينا عند نسبة صفة الحياة إلى الله أن نقوم بتنزيه هذه الصفة عن كلّ نقص وشائبة ليكون ما ننسبه إلى الله تعالى لائقاً بمقامه الأسمى ومنزلته العليا.

____________

1- انظر: قواعد المرام، ميثم البحراني: القاعدة الرابعة، الركن الثالث، البحث الثالث، ص 87 .


الصفحة 167

المبحث الرابع

حياة الله في القرآن وأحاديث أهل البيت(عليهم السلام)

حياة الله في القرآن الكريم :

1 ـ قال تعالى: { الله لا إله إلا هو الحيّ القيوم } [ البقرة: 255 ]

2 ـ قال تعالى: { هو الحي لا إله إلاّ هو فادعوه مخلصين له الدين } [ غافر: 65 ]

3 ـ قال تعالى: { وتوكّل على الحيّ الذي لا يموت وسبّح بحمده} [ الفرقان: 58 ]

حياة الله في أحاديث أهل البيت(عليهم السلام) :

1 ـ قال الإمام محمّد بن علي الباقر(عليه السلام): "إنّ الله تبارك وتعالى كان ولا شيء غيره... حيّاً لا موت فيه، وكذلك هو اليوم، وكذلك لا يزال أبداً"(1).

2 ـ قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): "... والله... حي لا موت له... حيّ الذات"(2).

3 ـ قال الإمام موسى بن جعفر الكاظم(عليه السلام): "إنّ الله... حيّاً بلا كيف... حيّاً بلا حياة حادثة... بل حي لنفسه..."(3).

4 ـ قيل للإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام): "روينا أنّ الله... حياة لا موت فيه...".

____________

1- التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 11، ح 5، ص 136.

2- المصدر السابق: ح 4، ص 136.

3- المصدر السابق: ح 6، ص 137.


الصفحة 168

قال: "كذلك هو"(1).

____________

1- المصدر السابق: باب 10، ح 12، ص 133.


الصفحة 169

الفصل الثامن

علم اللّه تعالى

معنى العلم
   أقسام العلم
   خصائص علم الله تعالى
   كيفية علم الله تعالى
   أقسام علم الله تعالى
   علم الله الذاتي
   علم الله بذاته
   علم الله بالأشياء قبل إيجادها
   علم الله بالأشياء بعد إيجادهما
   سعة علم الله تعالى


الصفحة 170

الصفحة 171

المبحث الأوّل

معنى العلم

العلم: صفة من شأنها كشف المعلومات انكشافاً تامّاً لا يحتمل الخطأ.

وتكون هذه الصفة لله تعالى من غير سبق خفاء.

قال الشيخ المفيد: "العالم بالشيء هو الذي يكون الشيء منكشفاً له حاضراً عنده غير غائب عنه"(1).

تنبيه :

قال سديدالدين الحمصي: "قد حُدّ العلم بحدود [ أي: عُرِّف العلم بتعاريف ] لا تصلح، فالأولى أن لا يُحدّ [ أي: لا يعرّف ] العالم والعلم"(2).

____________

1- النكت الاعتقادية، الشيخ المفيد: الفصل الأوّل، ص 23.

2- المنقذ من التقليد، سديدالدين الحمصي: ج 1، القول في كونه عالماً، ص 38.


الصفحة 172

المبحث الثاني

أقسام العلم(1)

1 ـ العلم الحضوري

وهو عبارة عن حضور "المعلوم" عند "العالم"(2) بواقعيته ومن دون توسّط أيّ شيء.

أي: يكون الشيء معلوماً عند العالم بنفسه لا بتوسّط صورته.

نماذج من العلم الحضوري :

1 ـ علم الإنسان بذاته.

2 ـ علم الإنسان بأحاسيسه ومشاعره.

أقسام العلم الحضوري :

1 ـ أن يكون "العالِم" هو "المعلوم"، من قبيل علم الإنسان بذاته.

2 ـ أن يكون "العالم" غير "المعلوم"، من قبيل علم الإنسان بأحاسيسه ومشاعره.

2 ـ العلم الحصولي :

وهو العلم بالشيء عن طريق صورته المنتزعة منه والحاكية عنه، ومعظم علم الإنسان من هذا القبيل، وفيه يعلم الإنسان الأشياء عن طريق انعكاس الصورة الحاصلة منها على صفحة ذهنه.

تنبيهات حول العلم الحصولي :

1 ـ الأدوات الحسيّة في الإنسان كلّها، موظّفة في خدمة هذا العلم.

____________

1- انظر: كشف المراد، العلاّمة الحلّي: المقصد الثالث، الفصل الثاني، المسألة الثانية، ص 399 ـ 400 .

2- انظر: الأسرار الخفية، العلاّمة الحلّي: الفن الثالث، المقالة السادسة، المبحث الأوّل، سرّ 121، ص 561.


الصفحة 173

2 ـ يكون "الشيء الخارجي" في العلم الحصولي معلوماً عن طريق صورته، وتكون الصورة معلومة بذاتها.

أي: يكون الشيء معلوماً بغيره (بالصورة المطابقة له).

وتكون الصورة معلومة بنفسها بالعلم الحضوري.

3 ـ تكون الصورة المطابقة للأشياء في العلم الحصولي هي الوسيلة الوحيدة لإدراك الخارج، ولولاها لانقطعت صلة الإنسان بالخارج.

4 ـ العلم الحصولي في الواقع ليس بعلم حقيقة، وإنّما هو طريق إلى الواقع لمن لم يتمكّن من العلم الواقعي والعيان الحقيقي بالأشياء.


الصفحة 174

المبحث الثالث

خصائص علم الله تعالى

1 ـ علم الله تعالى غير حصولي.

دليل ذلك:

أوّلاً: إنّ العالِم بالعلم الحصولي، يحتاج في علمه إلى "صورة" الشيء الذي يريد أن يعلمه.

والله تعالى منزّه عن الاحتياج.

فلهذا لا يكون علمه تعالى من قبيل العلم الحصولي الذي يفتقر إلى "صورة الأشياء".

ثانياً: إنّ العلم الحصولي علم جزئي، وفيه تغيب بعض أجزاء المعلوم لدى العالم، والله تعالى منزّه عن هذه الجزئية والتبعيض.

2 ـ لا يوجد أيّ تشابه بين علمنا وعلم الله تعالى أبداً.

لأنّ علمنا مهما كان بديهياً فهو علم محدود، حادث، عارض وطارىء على وجودنا.

ولكن علمه تعالى ليس كمثله شيء، وهو علم غير محدود، قديم، ذاتي ولا يشوبه أيّ نقص.

3 ـ إنّ "العلم" من صفات الله الذاتية.

قال الإمام موسى بن جعفر الكاظم(عليه السلام): "ليس بين الله وبين علمه حدّ"(1).

ولهذا:

أوّلاً: لا يصح سلب صفة العلم عنه تعالى في جميع الأحوال.

____________

1- التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 10، ح 16، ص 134.


الصفحة 175

دليل ذلك:

نفي العلم عن الله في أيّ حالة من الحالات يوجب المنقصة له تعالى، فلهذا لا يصح نفي صفة العلم عنه تعالى في جميع الأحوال.

ثانياً: لا يصح القول بأنّ علم الله غير ذاته، بل علمه تعالى عين ذاته.

دليل ذلك:

ألف ـ إذا كان علم الله غير ذاته، فسيكون الله عند علمه بالأشياء:

1 ـ محتاجاً إلى شيء خارج عن ذاته.

2 ـ ناقصاً بذاته ومستفيداً للكمال من غيره.

ولكنّ الله منزّه عن الاحتياج والنقص.

فلهذا يقتضى تنزيهه القول بأنّ علمه عين ذاته.

ب ـ إذا قلنا بأنّ العلم غير الله، ثمّ قلنا لم يزل الله عالماً، أثبتنا معه شيئاً قديماً لم يزل، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً(1).

ولهذا قيل للإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام): إنّ قوماً يقولون: إنّه عزّ وجلّ لم يزل عالماً بعلم ...

فقال(عليه السلام): "من قال ذلك، ودان به، فقد اتّخذ مع الله آلهة أخرى...".

ثم قال(عليه السلام): "لم يزل الله عزّ وجلّ عليماً... لذاته".(2)(3)

ثالثاً: علم الله تعالى لا حدّ له ولا نهاية.

دليل ذلك:

____________

1- المصدر السابق: باب 10، ص 131.

2- المصدر السابق: باب 11، ح 3، ص 135.

3- تنبيه: قال تعالى: (لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه ) [النساء: 166]

لا يصح القول بأنّ هذه الآية تدلّ على أنّه تعالى عالم بعلم; لأنّ "أنزله بعلمه" تعني: أنزله وهو عالم به، ولو كان المقصود من العلم ذاتاً أخرى لوجب أن يكون العلم آلة في الإنزال، كما يقال: "كتبت بالقلم"، ولكن العلم ليس آله.


الصفحة 176

الذات الإلهية لا حدّ لها ولا نهاية، وعلم الله عين ذاته.

ولهذا قال الإمام الصادق(عليه السلام) لأحد أصحابه: "لا تقل ذلك [ أي: لا تقل الحمد لله منتهى علمه ]، فإنّه ليس لعلمه [ تعالى ] منتهى"(1).

رابعاً: علم الله لا يتغيّر ولا يتبدّل.

دليل ذلك:

علم الله عين ذاته، ويلزم التغيير والتبدّل فيه التغيير والتبدّل في ذات الله تعالى، وهذا محال، لأنّه تعالى ليس محلاًّ للتغيّرات والتبدلاّت، وإنّما التغيير والتبدّل يكون في "المعلومات" لا في "العلم".

____________

1- التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 10، ح 1، ص 130.


الصفحة 177

المبحث الرابع

كيفية علم الله تعالى

لا يصح السؤال أو البحث عن كيفية علم الله تعالى.

دليل ذلك:

ورد في أحاديث أئمة أهل البيت(عليهم السلام) النهي عن الكلام أو البحث عن كيفية ذات الله، وبما أنّ العلم الإلهي من صفات الله الذاتية، فلهذا لا يصح الكلام أو البحث عن كيفيته.

قال الإمام موسى بن جعفر الكاظم(عليه السلام):

"لا يوصف العلم من الله بكيف"(1).

وما يجب علينا معرفته أنّه تعالى "عالم" بمعنى أنّه لا يجهل شيئاً. ولهذا ورد في أحاديث أئمة أهل البيت(عليهم السلام).

قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): "إنّما سُمّي [ الله تعالى ] عليماً; لأنّه لا يجهل شيئاً من الأشياء، لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء"(2).

قال الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام): "إنّما سُمّي الله عالماً; لأنّه لا يجهل شيئاً"(3).

قال الإمام محمّد بن علي الجواد(عليه السلام): "قولك [ عن الله ]: عالم، إنّما نفيت بالكلمة الجهل، وجعلت الجهل سواه"(4).

____________

1- التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 10، ح 16، ص 134.

2- بحار الأنوار، العلاّمة المجلسي: ج 3، ب 5، ص 194.

3- التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 29، ح2 ، ص183. الكافي، الشيخ الكليني: ج1 باب آخر وهو من الباب الأوّل، ح2، ص121.

4- التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 29، ح7، ص 188.


الصفحة 178

الصفحة 179

المبحث الخامس

أقسام علم الله تعالى

ينقسم علم الله بحسب متعلَّق العلم إلى عدّة أقسام، منها:

1 ـ علم الله الذاتي.

2 ـ علم الله بذاته.

3 ـ علم الله بالأشياء قبل إيجادها.

4 ـ علم الله بالأشياء بعد إيجادها.

وسنبيّن هذه الأقسام في المباحث القادمة.


الصفحة 180

المبحث السادس

علم الله الذاتي

علم الله الذاتي: هو العلم الذي يبتدع الله سبحانه وتعالى به الخلائق.

وقد أشار الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) إلى هذا العلم بقوله:

"سبحان من خلق الخلق بقدرته، وأتقن ما خلق بحكمته، ووضع كلّ شيء منه موضعه بعلمه"(1).

أدلة اتّصافه تعالى بالعلم الذاتي :

الدليل الأوّل(2):

فعل الله الأفعال المحكمة المتقنة.

وكلّ من فعل ذلك كان عالماً(3).

فلهذا نستنتج بأنّ الله تعالى عالم(4).

____________

1- بحار الأنوار، العلاّمة المجلسي: ج 4، باب 2، ح 20، ص 85 .

2- انظر: النكتب الاعتقادية، الشيخ المفيد: الفصل الأوّل، ص 23.

تلخيص المحصّل، نصيرالدين الطوسي: الركن الثالث، القسم الثاني، ص 277. المسلك في أصول الدين، المحقّق الحلّي: النظر الأوّل، المطلب الثاني، ص 44. قواعد المرام، ميثم البحراني: القاعدة الرابعة، الركن الثالث، البحث الثاني، ص 85 . كشف الفوائد، العلاّمة الحلّي: الباب الثاني: الصفات الثبوتية، العلم، ص 167. كشف المراد، العلاّمة الحلّي: المقصد الثالث، الفصل الثاني، المسألة الثانية، ص 397، مناهج اليقين، العلاّمة الحلّي: المنهج الرابع، البحث الخامس، ص 164. إرشاد الطالبين، مقداد السيوري: مباحث التوحيد، الدليل على أنّه تعالى عالم، ص 194.

3- أي: لا يتأتّى ذلك إلاّ من عالم.

وإنّ غير العالم يستحيل منه وقوع الفعل المتقن مرّة بعد أخرى.

انظر: كشف المراد، العلاّمة الحلّي: المقصد الثالث، الفصل الثاني، المسألة الثانية، ص 397.

4- إنّ هذا الدليل يثبت فقط اتّصاف الله تعالى بالعلم، وأمّا السبيل لمعرفة سعة علم الله تعالى فهو يتطلّب بيان أدلة أخرى سنذكرها في المباحث القادمة.


الصفحة 181

تنبيهات :

1 ـ المقصود من الفعل المحكم والمتقن صدوره مرّة بعد أخرى، لا صدوره مرّة واحدة ولهذا لا يصح الإشكال بأنّ الفعل المحكم والمتقن لا يدل على علم الفاعل; لأنّ النائم والساهي والجاهل قد تصدر منه بعض الأفعال المحكمة والمتقنة وهو غير عالم بها.

دليل عدم صحة هذا الإشكال :

صدور الفعل المحكم والمتقن مرّة واحدة أو مرّتين قد لا يدل على علم الفاعل، ولكن صدور هذا الفعل مرّة بعد أخرى يدل بالضرورة على علم الفاعل، وذلك لاستحالة وقوع الفعل المحكم والمتقن مرّة بعد أخرى من غير العالم(1).

2 ـ الفعل المحكم والمتقن هو المطابق للمنافع المقصودة منه(2).

وبما أنّ المقصود من هذا العالم هو اختبار الإنسان، فلهذا تكون الشرور والآلام والآفات من الأفعال المحكمة والمتقنة; لأنّها الوسيلة المطلوبة لهذا الاختبار، وهي الأداة اللازمة لمعرفة مدى صبر وتحمّل الإنسان.

3 ـ إنّ الله تعالى هو الذي يدبّر الحيوانات، وهو الذي يهديها إلى القيام ببعض الأفعال المحكمة والمتقنة.

ولهذا فإنّ قيام هذه الكائنات الحيّة ببعض الأفعال المحكمة مع عدم امتلاكها للعلم لا يعني صحّة صدور الفعل المحكم والمتقن من الجهة غير العالمة.

الدليل الثاني:

"إنّه [ تعالى ] مختار، وكلّ مختار عالم... لأنّ فعل المختار تابع لقصده، ويستحيل قصد شيء من دون العلم به"(3).

____________

1- انظر: قواعد العقائد، نصيرالدين الطوسي: الباب الثاني، علمه تعالى، ص 52. قواعد المرام، ميثم البحراني: القاعدة الرابعة، الركن الثالث، البحث الثاني، ص 85 .

2- انظر: تلخيص المحصّل، نصيرالدين الطوسي: الركن الثالث، القسم الثاني، ص 277.

3- النافع يوم الحشر في شرح الباب الحادي عشر، مقداد السيوري: الفصل الثاني، الصفة الثانية، ص 35.


الصفحة 182

الدليل الثالث:

العلم صفة من صفات الكمال، ووجوده عند المخلوقات دليل على وجوده عند الخالق بأكمل مراتبه وأظهر مصاديقه.

الدليل الرابع:

الجهل نقص، والله منزّه عن جميع أنواع النقص.


الصفحة 183

المبحث السابع

علم الله بذاته

يتعلّق العلم الإلهي بجميع الأشياء، وبما أنّ الله "شيء"، فلهذا يتعلّق هذا العلم بذات الله، فيثبت علم الله تعالى بذاته.

سُئل الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام): هل كان الله عارفاً بنفسه قبل أن يخلق الخلق؟

قال(عليه السلام): نعم"(1).

شبهة علم الله بذاته(2)

"العلم" نسبة قائمة بين "العالم" و "المعلوم".

والنسبة إنّما تكون بين شيئين متغايرين.

فإذا قلنا بأنّ الله يعلم بذاته، فإنّه يلزم أن يكون "علم الله" شيئاً مغايراً "لذات الله " .

وهذا يخالف القول بأنّ "علم الله" عين "ذاته".

جواب الشبهة :

أوّلاً:

ليس "العلم" نسبة قائمة بين "العالم" و "المعلوم".

____________

1- التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 29، ح 4، ص 186.

2- أُشير إلى هذه الشبهة وجوابها في كتاب:

تلخيص المحصّل، نصيرالدين الطوسي: الركن الثالث، القسم الثاني، ص 394 ـ 395.

كشف المراد، العلاّمة الحلّي: المقصد الثالث، الفصل الثاني، المسألة الثانية، ص 399. اللوامع الإلهية، مقداد السيوري: اللامع الثامن، المرصد الثاني، الفصل الأوّل، ص 199.


الصفحة 184

وإنّما العلم حقيقة.

قد تكون بين شيئين متغايرين.

وقد تكون في شيء واحد.

فإذا قلنا بأنّ الله يعلم بذاته، فإنّه لا يلزم التغاير بين "علم الله" و "ذاته".

وإنّما المقصود بيان حقيقة في شيء واحد.

ثانياً:

لو سلّمنا بأنّ العلم نسبة قائمة بين "العالم" و "المعلوم".

فإنّ التغاير الموجود بين العالم والمعلوم في هذا المقام تغاير من حيث "المفهوم" لا من حيث "المصداق".

وتعدّد "المفهوم"(1) لا يوجب تعدّد "المصداق"(2).

ومثاله:

إنّ لله تعالى العديد من الأسماء وهي مفاهيم، وتعدّد هذه الأسماء لا يوجب تعدّد الذات الإلهية التي هي مصداق لهذه الأسماء والمفاهيم.

بعبارة أخرى:

الشبهة المذكورة واردة فيما لو كان التغاير الموجود بين العالم والمعلوم في هذا المقام هو التغاير "الحقيقي"، ولكن التغاير الموجود هنا تغاير "اعتباري"، ولا يرد الإشكال المذكور في هذا النمط من التغاير.

____________

1- المفهوم: مجموع الصفات والخصائص الموضّحة لمعنى كلّي.

انظر: المعجم الوسيط، مادة (ف هـ م).

2- المصداق: الفرد الذي يتحقّق فيه معنى كلّي.

انظر: المعجم الوسيط: مادة (ص د ق).


الصفحة 185

المبحث الثامن

علم الله بالاشياء قبل ايجادها

قال الشيخ المفيد: "إنّ الله تعالى عالم بكلّ ما يكون قبل كونه، وإنّه لا حادث إلاّ وقد علمه قبل حدوثه... وبهذا قضت دلائل العقول والكتاب المسطور والأخبار المتواترة عن آل الرسول(عليهم السلام)، وهو مذهب جميع الإماميّة"(1).

أحاديث أهل البيت(عليهم السلام) حول علم الله بالأشياء قبل إيجادها

1 ـ وردت إلى الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) رسالة فيها سؤال حول الله، والسؤال :

"أكان يعلم الأشياء قبل أن خلق الأشياء وكوّنها أو لم يعلم ذلك حتّى خلقها وأراد خلقها وتكوينها فعلم ما خلق عندما خلق وما كوّن؟"

فوقّع(عليه السلام) بخطه: "لم يزل الله عالماً بالأشياء قبل أن يخلق الأشياء كعلمه بالأشياء بعدما خلق الأشياء"(2).

2 ـ قال الإمام محمّد بن علي الباقر(عليه السلام): "كان الله ولا شيء غيره ولم يزل عالماً بما يكون، فعلمه به قبل كونه كعلمه به بعد كونه"(3).

3 ـ قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): "لم يزل الله عزّ وجلّ ربّنا والعلم ذاته ولا معلوم...، فلمّا أحدث الأشياء وكان المعلوم وقع العلم منه على المعلوم"(4).

4 ـ قال الإمام علي(عليه السلام): "... كلّ عالم فمن بعد جهل تعلّم، والله لم يجهل ولم

____________

1- أوائل المقالات، الشيخ المفيد: القول 21: القول في علم الله تعالى بالأشياء قبل كونها، ص 54 ـ 55.

2- الكافي، الشيخ الكليني: ج 1، كتاب التوحيد، باب صفات الذات، ح 4، ص 107.

3- المصدر السابق: ح 2.

4- المصدر السابق: ح 1.


الصفحة 186

يتعلّم، أحاط بالأشياء علماً قبل كونها، فلم يزدد بكونها علماً، علمُه بها قبل أن يكوّنها كعلمه بعد تكوينها..."(1).

5 ـ سُئل الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): أرأيت ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة أليس كان في علم الله؟

قال(عليه السلام): "بلى قبل أن يخلق السماوات والأرض"(2).

6 ـ سئل الإمام علي بن موسى الرضا(عليهما السلام): أيَعلم الله الشيء الذي لم يكن أن لو كان كيف كان يكون، أو لا يعلم إلاّ ما يكون؟

فقال(عليه السلام): "إنّ الله تعالى هو العالم بالأشياء قبل كون الأشياء"(3).

7 ـ سُئل الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): عن الله تبارك وتعالى أكان يعلم المكان قبل أن يخلق المكان، أم علمه عندما خلقه وبعدما خلقه؟

فقال(عليه السلام): "تعالى الله، بل لم يزل عالماً بالمكان قبل تكوينه كعلمه به بعد ما كوّنه، وكذلك علمه بجميع الأشياء كعلمه بالمكان"(4).

8 ـ سُئل الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): هل يكون اليوم شيء لم يكن في علم الله تعالى.

قال(عليه السلام): "لا ، من قال هذا فأخزاه الله".

أرأيت ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة أليس في علم الله؟!

قال(عليه السلام): "بلى، قبل أن يخلق الخلق".(5)

9 ـ عن جعفر بن محمّد بن حمزة قال: كتبت إلى الرجل(عليه السلام) أسأله: أنِّ مواليك اختلفوا في العلم، فقال بعضهم: لم يزل الله عالماً قبل فعل الأشياء. وقال بعضهم: لا نقول: لم يزل الله عالماً; لأنّ معنى يعلم يفعل، فإن أثبتنا العلم فقد أثبتنا في الأزل

____________

1- التوحيد، الشيخ الصدوق: الباب الثاني، باب التوحيد ونفي التشبيه، ح 3، ص 44.

2- المصدر السابق: الباب العاشر، باب العلم، ح 5، ص 131.

3- المصدر السابق، ح 8 ، ص 132.

4- المصدر السابق: ح 9، ص 132.

5- المصدر السابق، باب 54، باب البداء، ح 8 ، ص 325.


الصفحة 187

معه شيئاً .

فإن رأيت ـ جعلني الله فداك ـ أن تعلّمني من ذلك ما أقف عليه ولا أجوزه؟

فكتب(عليه السلام) بخطه: "لم يزل الله عالماً تبارك وتعالى ذكره"(1).

10 ـ قال الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام)"... لم يزل الله عزّ وجلّ علمه سابقاً للأشياء قديماً قبل أن يخلقها..."(2).

تنبيه :

دور علم الله بالأشياء قبل وجودها هو الكشف عمّا سيقع في الواقع الخارجي فقط، وليس لهذا العلم أيّ دور في علّة صدور الأشياء(3) بل يستحيل أن يكون لهذا العلم أيّ أثر على أفعال الله تعالى .

كيفية علم الله بالأشياء قبل إيجادها :

ذهب بعض العلماء(4) إلى أنّ العلم بالعلّة يوجب العلم بالمعلول(5).

فمع لحاظ الأمور التالية:

1 ـ إنّ الله تعالى عالم بذاته.

2 ـ إنّ الذات الإلهية علّة لجميع ما سواه.

نستنتج:

____________

1- الكافي، الشيخ الكليني، ج1، كتاب التوحيد، باب صفات الله، ح5، ص108.

2- التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 10، ح 8 ، ص 132.

3- انظر: تلخيص المحصّل، نصيرالدين الطوسي: الركن الثالث، القسم الثاني، ص 296.

4- انظر: كشف المراد، العلاّمة الحلّي: المقصد الثالث، الفصل الثاني، المسألة الثانية، ص 398. الأسرار الخفية، العلاّمة الحلّي: الفن الثالث، المقالة السادسة، المبحث الأوّل، سرّ 120،ص 560.

إشراق اللاهوت، عميدالدين العبيدلي: المقصد الخامس، المسألة 16، المبحث الثالث، ص 275.

5- قال العلاّمة الحلّي بأنّ العلم بالعلّة يقع على ثلاثة أقسام، وفي قسمين لا يوجب العلم بالعلّة العلم التام بالمعلول، وإنّما يوجب العلم بالعلّة العلم التام بالمعلول فيما لو كان العلم بالعلّة من حيث هي هي، ومن حيث لوازمها وأعراضها وملزوماتها ومعروضاتها ومالها في نفسها ومالها بالقياس إلى الغير.

انظر: الأسرار الخفية، العلاّمة الحلّي: الفن الثالث، المقالة السادسة، المبحث الأوّل، سرّ 120، ص560.


الصفحة 188

علم الله بذاته يستلزم علمه تعالى بجميع ما سواه(1).

يرد عليه :

1 ـ العلم بالعلّة لا يوجب العلم بالمعلول إلاّ إذا كانت العلّة غير ممتلكة للإرادة، وغير مختارة(2)، ولكن إذا كانت العلّة لها إرادة ومختارة، أي: كانت العلّة تفعل متى ما تشاء ولا تفعل متى ما لا تشاء، فلا يؤدّي العلم بها العلم بمعلولاتها.

وبما أنّ الذات الإلهية، علّة مختارة فلا يؤدّي العلم بها العلم بمعلولاتها.

2 ـ العلم بالمعلول من خلال العلم بالعلّة لا يثبت إلاّ العلم الإجمالي، ولكن علم الله بالأشياء قبل ايجادها ـ كما ورد في أحاديث أهل البيت(عليهم السلام) ـ علم تام وغير إجمالي.

النتيجة :

إنّ الله تعالى عالم بالأشياء قبل إيجادها، ولكنّنا نجهل كيفية ذلك; لأنّ هذا العلم يرتبط بذات الله تعالى، وعلم الله ـ كما قال الإمام الكاظم(عليه السلام) ـ لا يوصف بكيف، وقد بيّنا هذه الحقيقة في المبحث الرابع من هذا الفصل.

____________

1- تنبيه: لا يصحّ القول بأنّنا عالمون بذواتنا التي هي علل لأفعالنا الآتية ولكننا مع ذلك لا نعلم ما سيصدر منّا .

دليل ذلك: إنّ ذواتنا ليست علّة مستقلّة لأفعالنا، بل أفعالنا محتاجة إلى أسباب خارجية بخلاف أفعال الله تعالى .

2- مثاله: إنّ علم المنجّم بالقوانين الكونية وحركة الشمس والأرض والقمر يوجب علمه بوقوع الخسوف والكسوف وما شابه ذلك.


الصفحة 189

المبحث التاسع

علم الله بالاشياء بعد ايجادها (العلم الفعلي)

إنّ الله تعالى محيط بجميع الأشياء بعد إيجادها.

وتسمّى هذه الإحاطة بعد تحقّق الأشياء في الواقع الخارجي بـ "العلم الفعلي لله".

تنبيه :

لا يوجد فرق بين علم الله بالشيء قبل وجوده وبين علمه تعالى به بعد وجوده إلاّ في متعلّق العلم.

فإذا كان متعلّق العلم "ما هو موجود"، فسيسمّى هذا العلم بـ "العلم الفعلي".

قال الشيخ الطوسي حول تفسير قوله تعالى: { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم } [ التوبة: 105 ]:

"إنّما قال { فسيرى الله } على وجه الاستقبال، وهو عالم بالأشياء قبل وجودها; لأنّ المراد بذلك أنّه سيعلمها "موجودة" بعد أن علمها "معدومة"، وكونه عالماً بأنّها "ستوجد" من كونه عالماً "بوجودها" إذا "وُجدت" لا يجدّد حال له بذلك"(1).

الآيات القرآنية المشيرة إلى العلم الفعلي لله :

1 ـ { الآن خفف الله عنكم وعلم أنّ فيكم ضعفاً } [ الأنفال: 66 ]

2 ـ { فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عدداً ثمّ بعثناهم لنعلم أيّ الحزبين أحصى لما لبثوا أمداً } [ الكهف: 12 ]

____________

1- التبيان في تفسير القرآن، الشيخ الطوسي: ج 5، تفسير آية 105 من سورة التوبة، ص 295.


الصفحة 190

3 ـ { ولنبلونكم حتّى نعلم المجاهدين منكم والصابرين } [ محمّد: 31 ]

4 ـ { أم حسبتم أن تدخلوا الجنّة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين } [ آل عمران: 142 ]

5 ـ { يا أيّها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب } [ المائدة: 94 ]

6 ـ { وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب } [ الحديد: 25 ]

7 ـ { وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلاّ لنعلم من يتبع الرسول ممّن ينقلب على عقبيه } [ البقرة: 143 ]

تنبيه :

إذن، المقصود من علم الله بهذه الأمور هو علمه تعالى "بوجودها"; لأنّ قبل وجود هذه الأمور لا يصح القول بأنّه تعالى عالم بوجودها، بل الله تعالى يعلم قبل ذلك بأنّها "ستوجد" أو "لا توجد، فإذا "وُجدت" صح القول بأنّه تعالى عالم "بوجودها".