الفصل الثالث - آثار ارتقاء الوعي الديني

إنّ الوعي الديني يحصّن صاحبه من التخبّط في أوحال الرذائل والابتلاء بالآفات السيئة والانحراف وراء الاغراءات المزيّفة. وهو يدفع صاحبه إلى اكتساب أسمى الصفات الرائعة والتحلّي بأفضل السمات النبيلة التي تعين صاحبها على نيل الأهداف السامية.

وبصورة عامّة فإنّ الوعي الديني يترك أروع الآثار الإيجابية في حياة الإنسان، والتي منها:

1ـ عدم الاغترار بالدنيا:

إنّ الإنسان المتمتّع بالوعي الديني لا تلهيه زخارف الحياة ولا يغتر بزينتها، لأنّه ينظر إليها على حقيقتها، فيدرك أنّها فانية وأنّها ممرّ وسوق ومزرعة للآخرة، فلهذا لا يركن إليها ولا يفسح لمتعها ولذّاتها أن تلهيه عن ذكر ما هو أهمّ منها. لأنّه يعي أنّ الله سبحانه وتعالى قد خلقه لمسيرة طويلة، وقد جرت سنّته تعالى أن يكدح الإنسان من أجل نيل السعادة في المستقبل.

ولكنّ الإنسان بما أنّه يحب العاجلة فقد ينشغل بالدنيا وينظر إليها على أنّها غايته وفرصته، فيغفل عن التزوّد منها لدار المقرّ فيخسر صفقة الحياة ولا يكون حصاده يوم معاده سوى تحمّل مرارة الندم.

وقال قال تعالى:

( الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَوا ةَ الدُّنْيَا عَلَى الاَْخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أوْلَـئِكَ فِى ضَلال بَعِيد ) إبراهيم: 3.

وأيضاً قال تعالى:

( ا لْمَالُ وَا لْبَنُونَ زِينَةُ ا لْحَيَوا ةِ الدُّنْيَا وَا لْبَـقِيَـتُ الصَّـلِحَـتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً ) [الكهف: 46].

فالدنيا عند الإنسان الواعي تمثّل مرحلة عابرة لابدّ أن يتزوّد منها ليوم معاده، وقد أبلغ الإمام علي(عليه السلام) في وصفه للدنيا حيث قال:

( إنّ الدنيا دار صدق لمَن صدقها، ودار عافية لمَن فهم عنها ودار غنى لمَن تزوّد عنها، ودار موعظة لمَن تعظ بها، مسجد أحبّاء الله، ومصلى ملائكة الله، ومهبط وحي الله، ومتجر أولياء الله...) [ نهج البلاغة: الحكمة رقم 132].

فلهذا لا يركن الإنسان إلى الدنيا ولا يتعلّق بها إلاّ لدناءة مستوى وعيه الديني.

وقد قال الإمام الصادق(عليه السلام):

(لو يعلم الناس ما في فضل معرفة الله عزّ وجل ما مدّوا أعينهم إلى ما متع الله به الأعداء من زهرة الحياة الدنيا ونعيمها، وكانت دنياهم أقلّ عندهم ممّا يطؤونه بأرجلهم...) [ الكافي: 8/247/347].

وقد ورد عن الإمام علي(عليه السلام) في تحذيره عن التعلّق بالدنيا والغفلة عن الآخرة:

(لا تغرّنكم الحياة الدنيا، فانّها دار بالبلاء محفوفة، وبالفناء معروفة، وبالغدر موصوفة، فكل ما فيها إلى زوال، وهي بين أهلها دول وسجال، لا تدوم أحوالها، ولا يسلم من شرّها نزالها...) [ جامع السعادات: 2/28].

فلهذا يهيّىء الإنسان الواعي نفسه دائماً للتزوّد من هذه الدنيا إلى دار المعاد، لأنّه يدرك هذه الحقيقة بوضوح بأن الحياة ساحة جهاد ومواجهة بين الخير والشر، وأنّ كل بحث عن راحة أو دعة أو استقرار فيها، هو خطوة نحو الفشل في هذه الساحة، وهو دلالة على الانهزام والانتكاس فيها.

ومن هنا يكون الإنسان الواعي على الدوام مستيقظاً ومدركاً لما يجري من حوله من مخطّطات من قبل شياطين الانس والجن للإطاحة بكرامته واستلاب عزّته، فهو يجاهد باستمرار ولا يفتر قطّ عن جهاده، لأنّه يعي قوله تعالى:

( يَـأَيُّهَا ا لاِْنسَـنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَـقِيهِ ) [الانشقاق: 6].

فلهذا يسير باندفاع وعيه لنيل الأهداف السامية في هذه الحياة.

2ـ عدم الانخداع بالأفكار الباطلة:

إنّ الوعي الديني يحصّن صاحبه من الانخداع بالأفكار الباطلة والآراء المزيفة والحقائق المشوّهة التي يلقيها المنحرفون، ولا سيما منهم الشخصيات الضالة التي تمتلك القدرة الفائقة في كسب الآخرين والتأثير فيهم وإقناعهم بمختلف الأفكار. لأنّ الإنسان الواعي يمتلك بوعيه الميزان الذي يقيّم به الأفكار. فلهذا يكون في غنىً عن التقليد الأعمى والسير الهمجي وراء الهتافات البراقة.

ومن جهة أخرى فإنّ النفس البشرية قد تندفع بدافع الكسل الفكري إلى قبول بعض الأحكام والإذعان بها من دون بحث وتحقيق، أو ربّما يعتاد الناس على الخطأ حتى يألفوه.

لكنّ الإنسان المتمتّع بالوعي الديني يجعل ميزانه في تقييم الواقع هو المنهج الرباني الذي ينبغي أن ترد القضايا كلّها إليه، فهو لا يعاني من اضطراب التصوّر الإيماني أو جفاف العلم بمنهاج الله تعالى أو الغيبوبة عن الواقع ليعتمد على السبل الخاطئة في معرفة الحق.

فلهذا يكون الإنسان الواعي مصاناً من الانخداع بالشبهات التي يصفها الإمام علي(عليه السلام):

(فلو أن الباطل خلص من مزاج الحق لم يخف على المرتادين، ولو أن الحق خلص من لبس الباطل انقطعت عنه السن المعاندين، ولكن يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث فيمزجان،فهنالك يستولي الشيطان على اوليائه.) [ نهج البلاغة ;الخطبة:50].

وله(عليه السلام) أيضاً:

(كم من ضلالة زخرفت بآية من كتاب الله كما يزخرف الدرهم النحاس بالفضة المموهة) [ غرر الحكم: 6885].

ولكن أصحاب الشخصيات الواعية والعقول النيرة مصانة من الانخداع بهذه الفتن والشبهات، لأنّها تمتلك بنور إيمانها الفرقان الذي يمنحها قدرة تمييز الحق عن الباطل، لأنّ للحق نور لا يمتلكه الباطل مهما خدع زخرفة وسرابه، وقد قال الإمام أمير المؤمنين علي(عليه السلام) في هذا المجال:

(إنّما سميت الشبهة شبهة لأنّها تشبه الحقّ، فأمّا أولياء الله فضياؤهم فيها اليقين ودليلهم سمتُ الهدى) [ نهج البلاغة: الخطبة 38].

3 ـ سلامة الباطن والنية:

إنّ الإنسان بارتقاء مستوى وعيه الديني يدرك أنّ الملاك في تقييم الأعمال التي يقوم بها هو مقدار مساعدتها له في تطهير قلبه وتنقية سريرته وتهذيب نفسه وتأهيله للتقرّب إلى الله سبحانه وتعالى.

ولهذا لا يجعل الإنسان الواعي رضا الناس ملاكاً لتقييم سلوكه وتصرّفاته، لأنّه يدرك بأنّ الاهتمام المفرط برأي الآخرين يدفعه للاكتفاء من الصفات الجميلة بأسمائها وعناوينها والعمل فقط بمقدار ما يحقّق له الاحترام والوجاهة بين الناس، بينما الهدف الحقيقي من الأعمال الصالحة التي يقوم بها الإنسان هو الاستفادة من حقيقة الصفات الجميلة، لأنّ العمل الصالح ليس غاية بل هو وسيلة لتطهير القلب وتنقية السريرة وتصفية الضمير والوجدان.

كما يعلم الإنسان الواعي بأن الناس يحشرون يوم المعاد على نيّاتهم، وأن العمل الصالح ينبغي أن يطلب لله تعالى ليترك مفعوله الإيجابي في النفس، وأن الرياء والازدواجية والتوجّه للعمل العبادي لنيل رضا الناس يفسد القلب. فلهذا يندفع صاحب الشخصية الواعية في أعماله إلى نيل اللب وعدم الاكتفاء بالقشور والظواهر.

4 ـ الإيمان والحياة الطيبة:

إنّ الإيمان يبحث دائماً على القلوب الطاهرة والسرائر النزيهة ليجعلها مستقراً ومستوطناً لنفسه.

وقد ذكرنا فيما سبق أن الوعي الديني لا يسمو ولا يرتقي إلاّ بمقدار طهارة القلب وخلوه من جنود الجهل وأدران الشهوات وشوائب الهوى. فلهذا يكون قلب الإنسان بمقدار سمو وعيه الديني أكثر استعداداً لقبول الحق وأكثر إيماناً وأكثر انفتاحاً على الله سبحانه وتعالى.

ومن منطلق الإيمان يدخل الإنسان في رحاب الحياة الطيبة التي قال عنها تعالى:

( مَنْ عَمِلَ صَـلِحًا مِّن ذَكَر أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَوا ةً طَيِّبَةً ) [النحل: 97].

لأنّ الإيمان ينظّم نزعات الإنسان ورغباته ويروّض غرائزه بما يحفظ له نفسه، ويوجه طاقاته نحو الخير ويسمو بتطلعاته إلى القيم السامية والأخلاق الفاضلة، ويقوم عن طريق تنمية الوازع الذاتي والتنبيه على وجود الرقابة الإلهيّة بتهذيب سلوكه وتصرّفاته وصيانة علاقته الاجتماعية مع الآخرين من غائلة الهوى والطيش.

كما أنّ الإيمان يردع صاحبه عن اتخاذ أيّة خطوة يخطوها نحو الإثم، ويصونه من حالة الضعف الروحي والانزلاق في مهاوي المغريات ويسدّده في الحياة ليمشي بثبات واستقامة وبخطوات لا تزيغ ولا تنحرف، ويخطّ له المنهج الذي يسمو به إلى أعلى المستويات.

ويفسّر الإيمان للفرد علاقته بما حوله من الناس والأحداث والأشياء ويوضّح له غايته واتجاهه وطريقه، ثم يجمع طاقاته وقواه كلّها ليدفعها في اتجاه الخير، وليصونها في نفس الوقت من البعثرة في شتى الاتجاهات المتناقضة التي لا تعود على الإنسان سوى تضييع الجهد والطاقة في غير محلّها.

ومن هذا المنطلق يمتلك الإنسان قيمته وترد عليه كرامته، وتتعزّز ثقته بنفسه ويندفع بتسديد من إيمانه وعناية من بارئه سبحانه وتعالى إلى مواجهة الحياة بشجاعة وثبات، وذلك كما قال تعالى:

( يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِى الْحَيَوا ةِ الدُّنْيَا وَفِى الاَْخِرَةِ ) [إبراهيم: 27].

وبهذا الثبات تتهيأ النفس لتحمّل الصدمات في الحياة والصمود أمام المصاعب بثقة تامّة، لأنّ الإنسان المؤمن يدرك هذه الحقيقة بأنّ العاقبة للمتّقين، وأنّ الله سبحانه وتعالى معه، فلهذا لا يهمّه بعد ذلك شيء ما دامت صلته قوية بالله عزّ وجل.

كما أنّ الإيمان يزرع في قلب صاحبه القوّة والصبر في مواجهة الكوارث ويصونه من الانهيار والابتلاء بمشاعر اليأس والهزيمة أمام مشاكل الحياة، فتتضاءل أمامه هموم الحياة فيراها تافهة.لأنّ الإنسان المؤمن يعي أنّ البلاء ليس إلاّ وسيلة لاختباره في هذه الحياة، وهو يعلم بأنّ الشهوات تفنى والثروة تضيع والصحة تضمحل والمتاع يزول، فلهذا لا يهن ولا يضعف ولا يستكين أمام ضغوط الحياة ولا يكون همّه سوى العمل لله سبحانه وتعالى.

وبهذا يعيش المؤمن في كنف الله سبحانه وتعالى آمناً مطمئنّاً بعيداً عن الاضطراب والقلق والانهيار والاكتئاب والملل وفقدان التوازن وجميع الحالات السلبية الناتجة من ضعف الإيمان وعدم التوكّل على الله عزّ وجل.

ومن هنا تمتلىء روح الإنسان الواعي على قدر إيمانها بالأمان والسكينة والرضا والسعادة والرفعة والاستقرار، وهي سمات الحياة الطيبة التي يحصل عليها الإنسان نتيجة ارتقاء مستوى وعيه الديني.

***

أهم مراجع البحث

1 ـ القرآن الكريم

2 ـ نهج البلاغة

3 ـ الإبداع في حلّ المشكلات، د. صفاء الأعسر، دار قباء للطباعة والنشر ـ القاهرة 2000 م.

4 ـ اغتيال العقل، د. برهان غليون، مكتبة مدبولي، ط3، 1419هـ .

5 ـ الالتقاط الفكري والتحجّر العقائدي في نظرة العلامة المطهري، محسن آجيني، منظمة الاعلام الاسلامي، ط1، 1421هـ .

6 ـ الإنسان وحريته في الاسلام، د. محمد محمد بابللي، دار السبل ـ السعودية، ط1، 1411هـ .

7 ـ الإنسان والعقل، د. نايف معروف، سبيل الرشاد ـ بيروت 1418هـ .

8 ـ إنفعالات النفس، رينه ديكارت، ترجمة: جورج زيناتى، دار المنتخب العربي، ط1، 1413هـ .

9 ـ التأصيل الاسلامي للدراسات الاسلامية، محمد عزالدين توفيق.

10 ـ تعليم التفكير، د. ابراهيم أحمد مسلم الحارثي، مكتبة الشقري ـ الرياض، ط2، 1422هـ .

11 ـ تعليم من أجل التفكير، تعريب: صفاء الأعسر، دار قباء ـ القاهرة 1998م.

12 ـ التفكّر من المشاهد إلى الشهود، د. مالك بدري، دار الوفاء للطباعة، ط1، 1991م.

13 ـ التقويم الذاتي للباحث في العلوم السلوكية، د. صالح بن حمد العساف، مكتبة العبيكان ـ الرياض، ط2، 1995م.

14 ـ حتى يغيروا ما بأنفسهم، جودت سعيد، دار الفكر المعاصر، بيروت، ط7، 1972م.

15 ـ حرية الاعتقاد في ظل الإسلام، د. تيسير خميس العمر، دار الفكر، دمشق، ط، 1419هـ .

16 ـ الخطاب الفلسفي المعاصر، د. السيد محمد الشاهد، دار قباء، القاهرة، 200م.

17 ـ الخيال ودوره في تقدّم المعرفة العلمية، تنسيق: عبدالسلام بن ميس، جامعة محمد الخامس، المملكة المغربية، ط1، 2000م.

18 ـ دراسات في علم النفس الإسلامي، د. محمود البستاني، دار البلاغة، بيروت، ط3، 1421.

19 ـ دراسات في الفلسفة الحديثة، د. محمود حمدي زقزوق، دار الفكر العربي، القاهرة، ط3، 1993م.

20 ـ دليلك إلى تطوير شخصيتك، خمسة اجزاء، يوسف الأقصري، دار اللطائف، ط1، 2001م.

21 ـ الدين والعقل الحديث، د. ولتر ستيس، ترجمة: د. امام عبدالفتاح امام، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط1، 1998م.

22 ـ سرّ النجاح في ممارسة اليوغ، حلقة الدراسات الهندية، انتشارات نوفل، ط1، 1999م.

23 ـ الصوفية والعقل، د. محمد عبدالله الشرقاني، دار الجيل ـ مكتبة الزهراء، ط1، 1416هـ .

24 ـ العقل الفلسفي في الإسلام، د. سعيد مراد، مكتبة الأنجلو المصرية، 1993م.

25 ـ علم النفس الديني،د. رشاد علي عبدالعزيز،مؤسسة مختار،1416هـ .

26 ـ العمل الديني وتجديد العقل، طه عبدالرحمن، المركز الثقافي العربي، ط2، 1997م.

27 ـ العوائق، محمد أحمد الراشد، مؤسسة الرسالة، ط18، 1420هـ .

28 ـ فصول في التفكير الموضوعي، عبدالكريم بكّار، دار القلم، دمشق، ط3، 1421هـ .

29 ـ القرآن والنظر العقلي، فاطمة اسماعيل محمد اسماعيل، المعهد العالمي للفكر الاسلامي، ط1، 1993م.

30 ـ المدخل إلى علم الاخلاق، د. وليام ليلى، ترجمة علي عبدالمعطي محمد.

31 ـ مشكلة الحب، د. زكريا ابراهيم، مكتبة مصر، دار مصر للطباعة.

32 ـ معايير الفكر العلمي، جان فوراستيه، ترجمة: فايزكم نقش، منشورات عويدات، بيروت، باريس، ط2، 1984م.

33 ـ معرفة الذات، ماري مادلين دافي، ترجمة: نسيم نصر، منشورات عويدات، بيروت، باريس، ط3، 1983م.

34 ـ من المعرفة إلى العقل، د. محمد المصباحي، دار الطليعة ـ بيروت، ط1، 1990م.