المؤلفات » التوحيد عند مذهب أهل البیت (علیهم السلام)

الفصل الخامس

رؤية اللّه تعالى بالبصر

معنى الرؤية البصرية
عقيدة الشيعة وأهل السنة
أدلة نفي رؤية الله بالبصر
مناقشة أدلة القائلين بإمكانية رؤية الله بالبصر


الصفحة 121

الصفحة 122

المبحث الأوّل

معنى الرؤية البصرية

الرؤية البصرية عبارة عن: انعكاس صورة المرئي على العين عن طريق وصول النور النابع أو المنعكس من الأشياء إلى العين، ثمّ انتقال هذا النور على شكل أمواج عصبية إلى الدماغ من أجل تحليله وتفسيره وتعقّل شكل وصورة المرئي.

تنبيه :

ما يجدر الالتفات إليه عند دراسة الخلاف الواقع بين المسلمين حول رؤية الله تعالى هو أنّ الرؤية التي وقع الاختلاف حول إمكانها أو استحالتها هي الرؤية بمعنى إدراكه تعالى عن طريق حاسّة البصر، أمّا تفسير رؤية الله بالإدراك المعرفي أو الكشف الشهودي (الرؤية القلبية) أو العلم الحضوري فهو مما لم يقع الاختلاف حول إمكانه ولا خلاف في جوازه.


الصفحة 123

المبحث الثاني

عقيدة الشيعة وأهل السنّة حول رؤية الله تعالى

عقيدة الشيعة :

قال الشيخ المفيد: "لا يصح رؤية الباري سبحانه بالأبصار، وبذلك شهد العقل ونطق القرآن وتواتر الخبر عن أئمة الهدى من آل محمّد(عليهم السلام)، وعليه جمهور أهل الإمامة وعامّة متكلّميهم... والمعتزلة بأسرها توافق أهل الإمامة في ذلك"(1).

عقيدة أهل السنّة :

قال أبو الحسن الأشعري: "وندين بأنّ الله يُرى في الآخرة بالأبصار كما يُرى القمر ليلة البدر"(2).

وجاء في كتب الحديث لأهل السنة:

ورد عن جرير بن عبدالله قال: كنّا عند النبي(صلى الله عليه وآله)، فنظر إلى القمر ليلةً ـ يعني البدر ـ فقال: "إنّكم سترون ربّكم كما ترون هذا القمر..."(3).

قال النبي(صلى الله عليه وآله): "إنّكم سترون ربّكم عياناً"(4).

____________

1- أوائل المقالات، الشيخ المفيد: قول 25: القول في نفي الرؤية على الله تعالى بالأبصار، ص 57.

2- الإبانة، أبو الحسن الأشعري: باب في إبانة قول أهل الحق والسنّة، ص 17.

3- صحيح البخاري : ج1، كتاب 9 : كتاب مواقيت الصلاة، باب 17 : باب فضل صلاة العصر، ح554، ص138.

صحيح مسلم: ج 1، كتاب 5: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب 37: باب فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما، ح 211 (633)، ص 367.

4- صحيح البخاري: ج 4، كتاب 98: كتاب التوحيد، باب 24: باب قول الله تعالى (وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربّها ناظرة)، ح 7435، ص 453.


الصفحة 124

الصفحة 125

المبحث الثالث

أدلة نفي رؤية الله بالبصر

الأدلة العقلية على استحالة رؤية الله بالبصر:

1 ـ تستلزم رؤية الله عن طريق حاسّة البصر إثبات الجهة له تعالى، وبما أنّه تعالى منزّه عن الجهة، فلهذا تكون رؤيته أمراً محالاً.

بعبارة أخرى:

تستلزم الرؤية البصرية أن يكون المرئي مقابلاً للرائي(1)، وكلّ مقابل فهو في جهة من الجهات، وبما أنّه تعالى منزّه عن الجهة، فلهذا تستحيل عليه الرؤية(2).

2 ـ لا تتحقّق الرؤية البصرية إلاّ عن طريق وصول الأشعة من المرئي إلى العين، ويستلزم هذا الأمر أن يكون المرئي جسماً.

وبما أنّ الله منزّه عن الجسمانية، فلهذا تستحيل رؤيته عن طريق حاسّة البصر(3).

3 ـ لا تتحقّق الرؤية البصرية إلاّ عن طريق انطباع صورة المرئي في العين، وبما أنّه تعالى منزّه عن الصورة، فلهذا تستحيل رؤيته عن طريق حاسّة البصر.

4 ـ رؤية الله عن طريق حاسّة البصر لا تخلو من أمرين:

____________

1- أو في حكم المقابل للرائي، كرؤية الإنسان المرئيات التي حوله عن طريق المرآة.

2- انظر: الاقتصاد، الشيخ الطوسي: القسم الأوّل، الفصل الرابع، في الرؤية، ص 74 ـ 75. غنية النزوع، ابن زهرة الحلبي: ج 2، باب الكلام في التوحيد، الفصل الخامس، ص 52 ـ 53. قواعد المرام، ميثم البحراني: القاعدة الرابعة، الركن الثاني، البحث العاشر، ص 76. كشف المراد، العلاّمة الحلّي: المقصد الثالث، الفصل الثاني، المسألة العشرون، ص 411. اللوامع الإلهية، مقداد السيوري: اللامع الثامن، المرصد الأوّل، الفصل الحادي عشر، ص 163.

3- انظر: الرسائل العشر، الشيخ الطوسي: رسالة في الاعتقادات، رقم 14، ص 105.


الصفحة 126

أوّلاً: أن تقع على كلّ الذات الإلهية.

فيستلزم أن تكون الذات الإلهية محدودة ومحصورة في ناحية من النواحي، ولكنّه تعالى منزّه عن المحدودية والحصر.

ثانياً: أن تقع على بعض الذات الإلهية.

فيستلزم أن تكون الذات الإلهية مركّبة وذات أجزاء، ولكنّه تعالى منزّه عن التركيب والأجزاء.

فلهذا نستنتج استحالة رؤية الله عن طريق حاسّة البصر.

النتيجة :

القول برؤية الله عن طريق حاسّة البصر تستلزم نسبة الجهة والمحدودية والجمسانية والشكل والصورة إلى الله، وبما أنّه تعالى منزّه عن هذه الأمور، فلهذا نستنتج استحالة وقوع الرؤية البصرية عليه تعالى.

الأدلة القرآنية على نفي رؤية الله بالبصر :

1 ـ { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير } [ الأنعام: 103 ]

و "الإدراك" المضاف إلى "البصر" يفيد "الرؤية"، وقد بيّنت هذه الآية بأنّه تعالى منزّه عن الرؤية البصرية(1).

2 ـ { ولما جاء موسى لميقاتنا وكلّمه ربّه قال ربّ أرني أنظر إليك قال لن تراني... } [ الأعراف: 143 ]

و "لن" تفيد النفي الأبدي، فيثبت من قوله تعالى لموسى(عليه السلام): { لن تراني } أنّه تعالى لن يُرى بالبصر أبداً(2).

____________

1- انظر: التبيان، الشيخ الطوسي: ج 4، تفسير آية 103 من سورة الأنعام، ص 223 ـ 224. المسلك في أصول الدين، المحقّق الحلّي: النظر الأوّل، المطلب الثالث، ص 67. المنقذ من التقليد، سديدالدين الحمصي: ج 1، القول في أنّه تعالى ليس بمرئي و...، ص 122. إرشاد الطالبين، مقداد السيوري: مباحث التوحيد، استحالة الرؤية على الباري تعالى، ص 241.

2- انظر: التبيان، الشيخ الطوسي: ج 4، تفسير آية 143 من سورة الأعراف، ص 536. المسلك في أصول الدين، المحقّق الحلّي: النظر الأوّل، المطلب الثالث، ص 68. نهج الحقّ وكشف الصدق، العلاّمة الحلّي: المسألة الأولى، ص 48. اللوامع الإلهية، مقداد السيوري: اللامع الثامن، المرصد الأوّل، الفصل الحادي عشر، ص 164.


الصفحة 127

ولو كان الله ممكن الرؤية بحاسّة البصر لكان النبي موسى(عليه السلام) أولى الناس برؤيته(1).

وتوجد مناقشات أخرى حول هذه الآية سنذكرها لاحقاً.

أحاديث لأهل البيت(عليهم السلام) حول نفي رؤية الله بالبصر :

1 ـ جاء شخص إلى أميرالمؤمنين(عليه السلام) فقال: يا أميرالمؤمنين هل رأيت ربّك حين عبدته؟

فقال(عليه السلام): ويلك ما كنت أعبد ربّاً لم أره.

قال: وكيف رأيته؟

قال(عليه السلام): ويلك لا تدركه العيون في مشاهدة الأبصار، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان(2).

2 ـ قال الإمام علي(عليه السلام): "انحسرت الأبصار عن أن تناله فيكون بالعيان موصوفاً"(3).

3 ـ وقال(عليه السلام) حول الله تعالى: "... ولا بمحدث فيبصر..."(4).

4 ـ وقال(عليه السلام): "الحمد لله الذي لا تدركه الشواهد، ولا تحويه المشاهد، ولا تراه النواظر، ولا تحجبه السواتر"(5).

5 ـ سُئل الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام) حول الله تبارك وتعالى هل يُرى في

____________

1- انظر: قواعد المرام، ميثم البحراني: القاعدة الرابعة، الركن الثاني، البحث العاشر، ص 77.

2- الكافي، الشيخ الكليني: كتاب التوحيد، باب في إبطال الرؤية، ح 6، ص 98. التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 8 ، ح 6، ص 106.

3- التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 2، ح 13، ص 51.

4- المصدر السابق: باب 2، ح 34، ص 76.

5- نهج البلاغة، الشريف الرضي: خطبة 185، ص 360.


الصفحة 128

المعاد؟

فقال(عليه السلام): "سبحان الله وتعالى عن ذلك علواً كبيراً... إنّ الأبصار لا تُدْرِك إلاّ ماله لون وكيفية، والله خالق الألوان والكيفية"(1).

6 ـ سئل الإمام الصادق(عليه السلام): إنّ رجلاً رأى ربّه عزّ وجلّ في منامه، فما يكون ذلك؟ فقال(عليه السلام): "ذلك رجل لا دين له، إنّ الله تبارك وتعالى لا يُرى في اليقظة، ولا في المنام، ولا في الدنيا، ولا في الآخرة"(2).

7 ـ سئل الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام):... إنّا روينا أنّ الله قسّم الرؤية والكلام بين نبيين، فقسّم الكلام لموسى(عليه السلام) ولمحمّد(صلى الله عليه وآله) الرؤية.

قال(عليه السلام): "... كيف يجيىء رجل إلى الخلق جميعاً فيخبرهم أنّه جاء من عند الله، وأنّه يدعوهم إلى الله بأمر الله، فيقول: { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار } { ولا يحيطون به علماً } { وليس كمثله شيء } ثمّ يقول: أنا رأيته بعيني...؟!"(3).

8 ـ سئل الإمام الرضا(عليه السلام): هل رأى رسول الله(صلى الله عليه وآله) ربّه عزّ وجلّ؟

فقال(عليه السلام): "نعم، بقلبه رآه، أما سمعت الله عزّ وجلّ يقول: { ما كذب الفؤاد ما رأى } أي: لم يره بالبصر، ولكن رآه بالفؤاد"(4).

____________

1- الأمالي، الشيخ الصدوق: المجلس (64)، ح 674 / 3، ص 495.

2- المصدر السابق، المجلس (89)، ح 974 / 6، ص 708.

3- الكافي، الشيخ الكليني: ج 1، كتاب التوحيد، باب في إبطال الرؤية، ح 2، ص 96.

4- التوحيد، الشيخ الصدوق: ب 8 ، ح 17، ص 112.


الصفحة 129

المبحث الرابع

مناقشة أدلة القائلين بامكان رؤية الله بالبصر

الدليل العقلي :

ملاك الرؤية هو "الوجود"، وكلّ موجود يصح رؤيته، وبما أنّه تعالى موجود فيمكن رؤيته(1).

يرد عليه :

ملاك الرؤية ليس "الوجود" بما هو وجود، بل هو الوجود المقيّد بقيود، منها كونه جسماً مادّياً واقعاً في إطار ظروف خاصّة، لتصح رؤيته.

ولهذا توجد أُمور من قبيل: العلم، الإرادة، العقل، النفس، اللذة، والألم موجودة، ولكنّها لا ترى بالعين(2).

مناقشة الأدلة القرآنية التي تمسّك بها القائلون بإمكان رؤية الله :

الآية الأولى :

{ وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربّها ناظرة * ووجوه يومئذ باسرة * تظن أن يفعل بها فاقرة } [ القيامة: 22 ـ 25 ]

الاستدلال :

استعمال "النظر" مع حرف "إلى" يعني "الرؤية".

واستعمل "النظر" في هذه الآية مع حرف "إلى"، فيكون معنى الآية بأنّ أصحاب

____________

1- الإبانة عن أصول الديانة، أبو الحسن الأشعري: باب الكلام في إثبات رؤية الله تعالى بالأبصار في الآخرة، ص 26.

2- انظر: المسلك في أصول الدين، المحقّق الحلّي: النظر الأوّل، المطلب الثالث، ص 69. كشف المراد، العلاّمة الحلّي: المقصد الثالث، الفصل الثاني، المسألة العشرون، ص 413.


الصفحة 130

الوجوه المبتهجة تنظر إلى ربّها يوم القيامة، وهذا ما يثبت إمكانية رؤية الله تعالى(1).

يرد عليه :

1 ـ "النظر" لا يفيد "الرؤية" دائماً; لأنّ حقيقة "النظر" في اللغة هو تقليب حدقة العين نحو الشيء طلباً لرؤيته(2)، وقد يقلّب الإنسان نظره طلباً للعثور على شيء، ولكنّه لا يراه، ولذلك يقال: "نظرت إلى الهلال فلم أره"(3).

2 ـ البراهين العقلية والقرآنية، على استحالة رؤية الله بالبصر ـ والتي أشرنا إليها سابقاً ـ تلزمنا اتّباع تفسير يجنّبنا الوقوع في محاذير القول برؤية الله بالبصر.

وقد فسّر لنا أهل البيت(عليهم السلام) هذه الآية بتقدير مضاف محذوف(4).

فيكون الأصل: وجوه يومئذ ناضرة إلى [ ثواب ] ربّها ناظرة.

والنظر إلى الثواب ـ في الواقع ـ كناية عن توقّع مجيئه وانتظار قدومه من الله تعالى(5).

قال الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) حول تفسير قوله تعالى: { وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربّها ناظرة } : "يعني مشرقة تنتظر ثواب ربّها"(6).

____________

1- انظر: الإبانة عن أصول الديانة، أبو الحسن الأشعري: باب الكلام في إثبات رؤية الله تعالى بالأبصار في الآخرة، ص 22.

2- ورد في الصحاح للجوهري: 2 / 830: "النظر: تأمّل الشيء بالعين".

وجاء في مفردات ألفاظ القرآن للراغب: ص 812 (مادة نظر): "النظر: تقليب البصر والبصيرة لإدراك الشيء ورؤيته".

3- انظر: الأمالي، الشريف المرتضى: ج 1، المجلس الثالث، ص 36. الاقتصاد في شرح الاعتقاد، الشيخ الطوسي: القسم الأوّل، الفصل الثاني، ص 76. المسلك في أصول الدين، المحقّق الحلّي: النظر الأوّل، المطلب الثاني، ص 70. المنقذ من التقليد، سديد الدين الحمصي: القول في أنّه تعالى ليس بمرئي، ص 128. كشف المراد، العلاّمة الحلّي: المقصد الثالث، الفصل الثاني، المسألة العشرون، ص 412.

4- من أمثلة حذف المضاف وقيام المضاف إليه مكانه في القرآن الكريم:

(واسأل القرية) [يوسف: 82]

أي: واسأل أهل القرية، لعدم إمكان السؤال من أحجار القرية وبيوتها.

(وجاء ربّك والملك صفاً صفاً) [الفجر: 22]

أي: وجاء أمر ربّك; لأنّ الحركة من لوازم الجسمانية، والله تعالى منزّه عن ذلك.

5- ورد في لسان العرب: 14 / 191 (مادة نظر): "ويقول القائل للمؤمّل يرجوه: إنّما ننظر إلى الله ثمّ إليك، أي: إنّما أتوقّع فضل الله ثمّ فضلك.

6- التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 8 ، ح 19، ص 113.


الصفحة 131

دعم سياق الآية لهذا المعنى :

توجد في هذه الآية أمور متقابلة:

التقابل الأوّل: { وجوه يومئذ ناضرة } ، ويقابلها: { وجوه يومئذ باسرة }

أي: وجوه يومئذ مستبشرة ومبتهجة، ويقابلها وجوه يومئذ كالحة وعابسة.

التقابل الثاني: { إلى ربّها ناظرة } ، ويقابلها: { تظن أن يفعل بها فاقرة }

وهنا يتمّ رفع الإبهام الموجود في الفقرة الأولى عن طريق التأمّل في الفقرة الثانية التي تقابلها.

لأنّ التقابل الموجود بين هاتين الآيتين يرشدنا إلى تفسير الفقرة الأولى بما يقابل الفقرة الثانية.

والمقصود من الفقرة الثانية: { تظن أن يفعل بها فاقرة }

أي: إنّ الطائفة العاصية ذات الوجوه الكالحة والعابسة نتوقّع أن ينزل عليها عذاب يكسر فقارها ويقصم ظهرها.

ومن هنا يتبيّن مقصود الفقرة الأولى: { إلى ربّها ناظرة }

أي: إنّ الطائفة المطيعة ذات الوجوه المستبشرة والمبتهجة تتوقّع عكس ما تتوقّعه الطائفة العاصية، فهي تتوقّع ثواب الله ورحمته وكرمه وفضله تعالى.

فنستنتج بأنّ "النظر" في هذه الآية كناية عن "التوقّع والانتظار".

النتيجة :

محور البحث في هذه الآية هو: "توقّع الرحمة" و "توقّع العذاب".

والعباد المطيعون لله يتوقّعون الرحمة.

والعباد العاصون لله يتوقّعون العذاب.

وليست الآية بصدد الحديث عن رؤية الله البصرية أو القلبية.

ومن هنا نستنتج بأنّ مصطلح "النظر" استخدم في هذه الآية كناية عن التوقّع والانتظار.


الصفحة 132

تنبيه :

قيل: بأنّ الانتظار يوجب الغم والتنغيص والتكدير، ولكن الآية جاءت لبيان النعم، فلهذا لا يصح تفسير النظر بمعنى الانتظار في هذه الآية(1).

يرد عليه :

"الانتظار" الذي يورث الغم والتنغيص والتكدير هو انتظار النعم مع عدم الاطمئنان من الحصول عليها، وهذا ما يؤدّي إلى الإزعاج والتوتّر والقلق.

ولكن هذه الآية تشير إلى انتظار النعم بعد البشارة الإلهية بها واطمئنان الحصول عليها، وهذا لا يوجب الغم، بل يوجب الفرح والسرور ونضارة الوجه(2).

بعبارة أخرى:

"الانتظار يوجب الغم... في وعد من يجوز منه خلف الوعد.

أمّا إذا كان وعد من لا يخلف الوعد ـ مع علم الموعود بذلك ـ فإنّه لا يوجب الغم، بل هو سبب للفرح والسرور ونضارة الوجه"(3).

الآية الثانية :

{ ولما جاء موسى لميقاتنا وكلّمه ربّه قال ربّ أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلمّا تجلّى ربُّه للجبل جعله دكّاً وخرّ موسى صعقاً فلمّا أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أوّل المؤمنين } [ الأعراف:143 ]

أوجه دلالة هذه الآية على إمكانية رؤية الله تعالى :

الوجه الأوّل :

لو كانت رؤية الله مستحيلة لما سألها النبي(عليه السلام) من الله، وبما أنّه سألها فهذا يدل

____________

1- انظر: الإبانة عن أصول الديانة، أبو الحسن الأشعري: باب الكلام في إثبات رؤية الله تعالى بالأبصار في الآخرة، ص 21.

2- انظر: كشف المراد، العلاّمة الحلّي: المقصد الثالث، الفصل الثاني، المسألة العشرون، ص 412 ـ 413.

3- إرشاد الطالبين، مقداد السيوري: مباحث التوحيد، دليل الأشاعرة على الرؤية، ص 248 ـ 249.


الصفحة 133

على أنّها غير مستحيلة(1).

توضيح ذلك:

رؤية الله لا تخلو من أمرين:

1 ـ الإمكان، وهو المطلوب.

2 ـ الاستحالة، فإذا كانت رؤية الله بالبصر مستحيلة، فلا يخلو علم النبي موسى(عليه السلام) باستحالة هذه الرؤية عندما طلبها من الله تعالى من أمرين:

أوّلاً: يعلم استحالة الرؤية، وهذا غير صحيح; لأنّه لو كان كذلك لما سأل الله ذلك; لأنّ العاقل لا يسأل المستحيل.

ثانياً: لا يعلم استحالة الرؤية، وهذا غير صحيح; لأنّ النبي ـ في الواقع ـ أعلم الناس بالله وصفاته.

فنستنتج إمكانية رؤية الله تعالى.

يرد عليه :

لم يطلب النبي موسى(عليه السلام) من الله الرؤية نتيجة علمه بإمكانية هذه الرؤية أو عدم علمه باستحالتها، بل طلب ذلك لدواعي أخرى تتبيّن من خلال ما جرى بينه(عليه السلام)وبين قومه بني إسرائيل، ومجمل ما جرى هو:

1 ـ كلّم الله تعالى النبي موسى(عليه السلام).

2 ـ أخبر النبي موسى(عليه السلام) قومه بني إسرائيل بأنّ الله كلّمه وناجاه.

3 ـ قال قومه له: لن نؤمن لك حتّى نسمع كلام الله كما سمعت!

4 ـ اختار النبي موسى(عليه السلام) من قومه سبعين رجلاً لميقات ربّه.

5 ـ خرج النبي موسى(عليه السلام) مع هؤلاء السبعين إلى طور سيناء، وسأل الله أن يكلّمه.

____________

1- الإبانة عن أصول الديانة، أبو الحسن الأشعري: باب الكلام في إثبات رؤية الله تعالى بالأبصار في الآخرة، ص 23.


الصفحة 134

6 ـ كلّم الله النبي موسى(عليه السلام)، وسمع هؤلاء كلام الله .

7 ـ قال هؤلاء للنبي موسى(عليه السلام): لن نؤمن بأنّ هذا الكلام الذي سمعناه هو كلام الله حتّى نرى الله جهرة!

8 ـ عندما قال هؤلاء هذا القول الدال على استكبارهم بعث الله عليهم صاعقة قضت عليهم جميعاً، فماتوا.

9 ـ طلب النبي موسى(عليه السلام) من الله أن يُحيي هؤلاء السبعين لئلا يشكل عليه بنو إسرائيل بأ نّك أخذت هؤلاء وقتلتهم لئلا يشهدوا عليك بأنّك لم تكلّم الله.

10 ـ استجاب الله دعاء النبي موسى(عليه السلام) وأحياهم.

11 ـ قال النبي موسى(عليه السلام) لهم: ياقوم إنّ الله لا يُرى بالأبصار، ولا كيفية له، وإنّما يعرف بآياته، ويعلم بأعلامه.

12 ـ لجّ قوم موسى وقالوا: إنّك إذا طلبت من الله أن يريك تنظر إليه أجاب الله دعاءك.

13 ـ قال النبي موسى(عليه السلام) للّه: ياربّ إنّك قد سمعت بني إسرائيل، وأنت أعلم بصلاحهم.

14 ـ أوحى الله: يا موسى سلني ما سألوك، فلن أؤاخذك بجهلهم.

15 ـ طلب النبي موسى(عليه السلام) من الله هذه الرؤية ليكون الجواب الإلهي حجّة على قومه، فقال(عليه السلام): { ربّ أرني أنظر إليك } .

16 ـ أجابه الله بصوت سمعه بنو إسرائيل: { لن تراني ولكن أُنظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني }

17 ـ { فلمّا تجلّى ربّه للجبل } بآية من آياته { جعله دكاً وخرّ موسى صعقاً }

18 ـ { فلمّا أفاق } النبي موسى(عليه السلام) { قال سبحانك تبت إليك } أي: رجعت من معرفتي بك عن جهل قومي { وأنا أوّل المؤمنين } بأنّك لا تُرى(1).

____________

1- انظر: التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 8 ، ح 24، ص 117 ـ 118.


الصفحة 135

النتيجة :

لم يطلب النبي موسى(عليه السلام) من الله الرؤية لنفسه نتيجة علمه بإمكان هذه الرؤية أو جهله باستحالتها، بل قام بذلك نتيجة إلحاح وإصرار قومه، فطلب هذه الرؤية منه تعالى ليكون الجواب الإلهي حجّة على هؤلاء(1).

ولهذا لا نجد أيّ عتاب أو مؤاخذة من الله لموسى(عليه السلام) إزاء طلبه للرؤية، بل نجد العتاب والمؤاخذة موجّه لقوم موسى(عليه السلام) إزاء طلبهم للرؤية، حيث وصفهم النبي موسى(عليه السلام) بـ "السفهاء" نتيجة هذا الطلب(2).

الوجه الثاني :

علّق الله الرؤية على استقرار الجبل، وهو أمر ممكن، والمعلّق على الممكن ممكن(3).

بعبارة أخرى:

كما أنّه تعالى قادر ـ بعد تجلّيه للجبل ـ أن يجعل الجبل بدون استقرار.

فإنّه تعالى قادر ـ بعد تجلّيه للجبل ـ أن يجعل الجبل مع استقرار.

فنستنتج:

كما أنّه تعالى قادر على أن لا يُري نفسه لموسى وقومه.

فإنّه تعالى قادر على أن يُري نفسه لموسى وقومه(4).

____________

1- للمزيد راجع: الأمالي، الشريف المرتضى: ج 2، المجلس السبعون، ص 215. مجمع البيان، الشيخ الطبرسي: ج 4، تفسير آية 143 من سورة الأعراف، ص 730. تلخيص المحصّل، نصيرالدين الطوسي: الركن الثالث، القسم الثاني، ص 320. المسلك في أصول الدين، المحقّق الحلّي: النظر الأوّل، المطلب الثالث، ص 68. كشف المراد، العلاّمة الحلّي: المقصد الثالث، الفصل الثاني، المسألة العشرون، ص 412.

2- عندما طلب قوم موسى رؤية الله تعالى أنزل الله تعالى عليهم صاعقة من السماء وأهلكهم، فقال موسى لله تعالى: (أتهلكنا بما فعل السفهاء) [الأعراف: 155] فنلاحظ أنّ موسى(عليه السلام)يصف "طلب رؤية الله تعالى" بالسفاهة، فكيف يطلبها بعد ذلك لنفسه؟!

انظر: تخليص المحصّل، نصيرالدين الطوسي: الركن الثالث، القسم الثاني، ص 320.

3- انظر: الإبانة، أبو الحسن الأشعري: باب الكلام في إثبات رؤية الله تعالى بالأبصار في الآخرة، ص 23.

4- المصدر السابق.


الصفحة 136

يرد عليه :

لم يعلّق الله رؤيته على أمر ممكن، بل علّقها على أمر مستحيل.

بيان ذلك:

إنّ "استقرار" الجبل قبل تحطيم الله له أمر ممكن.

ولكن "استقرار" الجبل حين تحطيم الله له أمر محال.

والرؤية في هذه الآية تعلّقت باستقرار الجبل حين تحطّمه لا قبل ذلك.

توضيح ذلك:

إنّ قوله تعالى حول الجبل: { فإن استقر مكانه فسوف تراني }

يعني: لو صار الجبل مستقراً في الزمان المستقبل فسوف تراني.

وفي الزمان المستقبل جعل الله الجبل متحرّكاً عن طريق تحطيمه.

فالله ـ في الواقع ـ علّق الرؤية باستقرار جبل متحرّك.

ولا يخفى أنّ استقرار الشيء حال كونه متحرّكاً محال.

ومن المستحيل أن يكون الشيء الواحد ساكناً ومتحرّكاً في وقت واحد(1).

النتيجة :

علّق الله رؤيته على أمر مستحيل، والمعلّق على أمر مستحيل أيضاً مستحيل، فنستنتج استحالة رؤية الله بالبصر.

وهذا الأسلوب في بيان امتناع تحقّق بعض الأمور نظير قوله تعالى: { ولا يدخلون الجنّة حتّى يلج الجمل في سمّ الخياط } [ الأعراف: 40 ]

أي: من المستحيل أن يدخل هؤلاء الجنّة كما يستحيل دخول الجمل بحجمه الكبير في ثقب إبرة الخياطة بحجمها الصغير.

____________

1- انطر: التبيان في تفسير القرآن، الشيخ الطوسي: ج 4، تفسير آية 142 من سورة الأعراف، ص 536.

تلخيص المحصّل، نصيرالدين الطوسي: الركن الثالث، القسم الثاني، ص 319.


الصفحة 137

تتمة :

توجد آيات أخرى، ظنّ البعض أنّها تدل على رؤية الله، ولكنّها في الواقع لا تفيد ذلك، منها:

1 ـ قال الله تعالى حول النبي محمّد(صلى الله عليه وآله) عند المعراج: { ولقد رآه نزلة أُخرى } [ النجم: 13 ] .

فظن البعض بأنّ هذه الآية تثبت رؤية الرسول(صلى الله عليه وآله) لله في المعراج بالرؤية البصرية، في حين تصرّح الآية بأنّ رؤية الرسول(صلى الله عليه وآله) لم تكن بالبصر، بل كانت بالقلب .

وقال تعالى في سياق هذه الآية: { ما كذب الفؤاد ما رأى } [ النجم: 11 ].

كما أخبر الله ما رآه الرسول بالبصر بعد ذلك حيث قال تعالى: { لقد رأى من آيات ربّه الكبرى } [ النجم: 18 ] وآيات الله عزّ وجلّ غير الله(1).

2 ـ قوله تعالى: { كلا انّهم عن ربّهم لمحجوبون } [ المطفّفين: 15 ]

فظن البعض أنّ المقصود من الحجاب هو الحجاب عن الرؤية، وأنّ الآية تفيد بأنّ البعض غير محجوبين، وهذا ما يدل على إمكانية روية الله بالبصر(2).

ولكن أجاب الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) عن هذه الشبهة قائلاً: "إنّ الله تبارك وتعالى لا يوصف بمكان يُحلّ فيه فيحجب عنه فيه عباده، ولكنّه يعني أنّهم عن ثواب ربّهم لمحجوبون"(3).

____________

1- انظر: الكافي، الشيخ الكليني،: كتاب التوحيد، باب في إبطال الرؤية، ح 2، ص 96. التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 8 ، ح 9، ص 108.

2- انظر: الإبانة عن أصول الديانة، أبو الحسن الأشعري: باب الكلام في إثبات رؤية الله تعالى بالأبصار، ص 24.

3- التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 18، ح 1، ص 157.


الصفحة 138

الصفحة 139

فهرس المطالب / تحميل الكتاب

فهرس المطالب

zip pdf