المؤلفات » التوحيد عند مذهب أهل البیت (علیهم السلام)

الفصل الرابع عشر

كلام اللّه تعالى

خصائص مسألة كلام الله تعالى
معنى الكلام والمتكلّم وأقسام الكلام
اتّصاف الله بصفة المتكلّم
حقيقة كلام الله تعالى
قدم أو حدوث كلام الله تعالى
صدق كلام الله تعالى


الصفحة 319

الصفحة 320

المبحث الأوّل

خصائص مسألة كلام الله تعالى

1 ـ لا خلاف بين المسلمين في أنّ الله تعالى متكلّم، وإنّما وقع الخلاف في حقيقة كلام الله وكونه قديماً أو حادثاً.

2 ـ طرحت مسألة قدم القرآن الكريم أو حدوثه (أي: قدم كلام الله أو حدوثه) في أوائل القرن الثالث الهجري في أوساط المسلمين، وأدّت هذه المسألة إلى إثارة فتن كبيرة دفعت المسلمين إلى نزاعات أريقت خلالها دماء كثيرة سجّلها التاريخ، وعُرفت فيما بعد بـ "محنة القرآن"(1).

____________

1- انظر: تاريخ الأمم والملوك، الطبري: ج 8 ، سنة 128، ص 631 ـ 645.


الصفحة 321

المبحث الثاني

معنى الكلام والمتكلّم وأقسام الكلام

معنى الكلام :

الكلام هو ما تألّف من حرفين فصاعداً من الحروف التي يمكن تهجّيها، إذا وقعت ممن يصح منه الإفادة(1).

معنى المتكلّم :

المتكلّم هو كلّ من يوجد حروفاً وأصواتاً لتدل على معنى يريد الإخبار بها عنه(2).

أقسام الكلام

1 ـ الكلام اللفظي: واللفظ هو الحرف المشتمل على الصوت.

2 ـ الكلام الكتبي: والكتابة هي النقوش الحاكية عن تلك الحروف اللفظية.

3 ـ الكلام الفعلي: وهو الفعل الذي يفيد نفس المعنى الذي يفيده الكلام اللفظي.

بيان الكلام الفعلي الإلهي :

يمكن وصف جميع أفعال الله بأنّها من جملة كلام الله من باب التوسّع; لأنّها تكشف عن دلالات ومعان تفيد نفس الأثر الذي يفيده الكلام اللفظي.

____________

1- انظر: تقريب المعارف، أبو الصلاح الحلبي: مسائل التوحيد، مسألة: في كونه تعالى متكلّماً، ص106. غنية النزوع، ابن زهرة الحلبي: ج 2، الكلام في صفة التكلّم، ص 59. المنقذ من التقليد، سديدالدين الحمصي: ج 1، القول في كونه تعالى متكلّماً، ص 211. نهج الحق وكشف الصدق، العلاّمة الحلّي: المسألة الثالثة، البحث الرابع، حقيقة الكلام، ص 549.

2- انظر: المسائل العكبرية، الشيخ المفيد: المسألة الحادية عشر، ص 44. إرشاد الطالبين، مقداد السيوري: مباحث التوحيد، تحقيق حول إثبات التكلّم للباري تعالى، ص 208 ـ 209.


الصفحة 322

مثال ذلك:

وصف الله عيسى بن مريم بـ"الكلمة"، حيث قال تعالى: { إنّما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم } [ النساء: 171 ]

وسَمّى الله المسيح بالكلمة; لأنّ المسيح فعله وأثره المعبّر والكاشف عن كمال قدرته تعالى في خلق الإنسان من دون أب.


الصفحة 323

المبحث الثالث

اتّصاف الله بصفة المتكلّم

إنّ السبيل لإثبات كونه تعالى متكلّماً هو الدليل النقلي فحسب، أمّا الدليل العقلي فلا يثبت أكثر من كونه تعالى قادراً على الكلام(1).

الآيات القرآنية المشيرة إلى اتّصافه تعالى بالمتكلّم :

1 ـ { وما كان لبشر أن يكلّمه الله إلاّ وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي باذنه ما يشاء } [ الشورى: 51 ]

2 ـ { منهم من كلّم الله } [ البقرة: 253 ]

3 ـ { وكلّم الله موسى تكليماً } [ النساء: 164 ]

4 ـ { ولما جاء موسى لميقاتنا وكلّمه ربُّه } [ الأعراف: 144 ]

5 ـ { ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة } [ آل عمران: 78 ]

____________

1- انظر: شرح جمل العلم والعمل، الشريف المرتضى: أبواب العدل، كونه تعالى متكلّماً، ص 89 . الاقتصاد فيما يتعلّق بالاعتقاد، الشيخ الطوسي: القسم الأوّل، الفصل الثاني، التكلّم، ص 60. تقريب المعارف، أبو الصلاح الحلبي: مسائل العدل، مسألة: في كونه تعالى متكلّماً، ص 107. المنقذ من التقليد، سديدالدين الحمصي: ج 1، القول في كونه تعالى متكلّماً، ص 212. كشف الفوائد، العلاّمة الحلّي: الباب الثاني، الصفات الثبوتية (7): التكلّم، ص 189. مناهج اليقين، العلاّمة الحلّي: المنهج الرابع، البحث العاشر: ص 179.


الصفحة 324

المبحث الرابع

حقيقة كلام الله تعالى

كلام الله عبارة عن أصوات وحروف يخلقها الله ليوصل عن طريقها مقصوده إلى المخاطب، ويسمّى هذا الكلام بـ"الكلام اللفظي"(1).

مثال ذلك:

قال تعالى: { وكلّم الله موسى تكليماً } [ النساء: 164 ]

أي: خلق الله الكلام في الشجرة في البقعة المباركة ليوصل بذلك مقصوده إلى موسى(عليه السلام).

قال تعالى: { فلما اتاها نودي من شاطىء الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى اني أنا الله رب العالمين } [ القصص: 30 ]

قال الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) حول كلام الله تعالى مع موسى وقومه:

"... إنّ الله عزّ وجلّ أحدثه [ أحدث الكلام ] في الشجرة، ثمّ جعله منبعثاً منها..."(2).

تنبيه :

إضافة الكلام إلى الله تجري مجرى سائر الإضافات التي تقتضي الفعلية(3).

____________

1- انظر: النكت الاعتقادية، الشيخ المفيد: الفصل الأوّل، ص 27.

المسلك في أصول الدين، المحقّق الحلّي: النظر الأوّل، المطلب الثالث، ص 72، الباب الحادي عشر: العلاّمة الحلّي: الفصل الثاني، الصفة السابعة، ص 43. نهج الحق وكشف الصدق، العلاّمة الحلّي: المسألة الثالثة، البحث الرابع، ص 60.

2- التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 8 ، ح 24، ص 117.

3- انظر: تقريب المعارف، أبو الصلاح الحلبي: مسائل العدل، مسألة في كونه تعالى متكلّماً، ص 106. غنية النزوع، ابن زهرة الحلبي: ج 2، باب الكلام في التوحيد، الفصل الخامس، ص 58.


الصفحة 325

ويقال للّه "متكلّم" بعد إيجاده للكلام.

كما يقال له تعالى "رازق" بعد إيجاده للرزق.

وكما يقال له تعالى "منعم" بعد إيجاده للنعمة.

وكما يقال له تعالى "محرّك" بعد إيجاده للحركة.

ما وراء الكلام اللفظي :

وقع الخلاف بين الإمامية والأشاعرة حول الكلام اللفظي: هل هو كلام حقيقة أم يوجد وراءه حقيقة أخرى بحيث يكون الكلام اللفظي تعبيراً عن تلك الحقيقة الكامنة؟

عقيدة الإمامية :

الكلام اللفظي هو الكلام حقيقة، ولا يوجد ما وراء الكلام اللفظي سوى العلم والإرادة.

عقيدة الأشاعرة :

الكلام اللفظي ليس الكلام حقيقة، وإنّما الكلام الحقيقي هو الكلام النفسي، وهو مغاير للعلم والإرادة.

وسنوضّح لاحقاً كلّ واحدة من هاتين العقيدتين.

توضيح عقيدة الإمامية حول ما وراء الكلام اللفظي :

ينقسم الكلام إلى قسمين:

1 ـ إخبار: ويتضمّن هذا الإخبار مجموعة تصوّرات وتصديقات.

الف: التصوّرات: عبارة عن "إحضار" الأمور التالية في الذهن:

أوّلاً: الموضوع

ثانياً: المحمول

ثالثاً: النسبة بين الموضوع والمحمول

ب: التصديقات: عبارة عن "الإذعان" بنفس النسبة بين الموضوع والمحمول.


الصفحة 326

2 ـ إنشاء: وهو يكون على شكل أمر أو نهي أو استفهام أو تمنّي أو ترجّي.

و "الأمر" تعبير عن "إرادة" الشيء.

و "النهي" تعبير عن "كراهة" الشيء.

والاستفهام والتمنّي والترجّي تعبير عمّا يناسبها.

النتيجة :

إذا كان "الكلام" إخباراً (أي: متضمّن لمجموعة تصوّرات أو تصديقات) فهو من مقولة "العلم".

وإذا كان "الكلام" إنشاءً (أي: متضمّن لمجموعة أوامر ونواهي وغيرها) فهو من مقولة "الإرادة والكراهة".

فنستنتج انتفاء وجود شيء وراء الكلام اللفظي سوى "العلم" و "الإرادة والكراهة"(1).

توضيح عقيدة الأشاعرة حول ما وراء الكلام اللفظي :

ذهب الأشاعرة حول ما وراء الكلام اللفظي إلى إثبات أمر آخر مغاير للعلم والإرادة، وقاموا بتسميته بـ "الكلام النفسي"، وقالوا بأنّ "الكلام النفسي" هو الكلام حقيقة، وإنّما "الكلام اللفظي" وسيلة لإبراز "الكلام النفسي" وتسمية "الكلام اللفظي" بالكلام تسمية مجازية(2).

يرد عليه :

لو كان "الكلام النفسي" هو الكلام الحقيقي، لكان الساكت متكلّم، ولكن لا يقول أحد بذلك(3)، فيثبت: أنّ الكلام الحقيقي هو الكلام اللفظي، وما يطلق عليه

____________

1- انظر: تلخيص المحصّل، نصيرالدين الطوسي: الركن الثالث، القسم الثاني، ص 290 المنقذ من التقليد، سديدالدين الحمصي: ج 1، القول بأنّ للكلام معنىً...، ص 227. إرشاد الطالبين، مقداد السيوري: مباحث التوحيد، تحقيق حول إثبات التكلّم للباري تعالى، ص 212. اللوامع الإلهية، مقداد السيوري: اللامع الثامن، المرصد الثاني، الفصل الثاني، ص 203.

2- انظر: المواقف، القاضي الايجي، بشرح: الشريف الجرجاني: ج 3، الموقف الخامس، المرصد الرابع، المقد السابع، ص 135 و 142. شرح المقاصد، سعدالدين التفتازاني: ج 4، المقصد الخامس، الفصل الثالث، المبحث السادس، ص 144.

3- انظر: إرشاد الطالبين، مقداد السيوري: مباحث التوحيد، تحقيق حول إثبات التكلّم للباري تعالى، ص211.


الصفحة 327

الأشاعرة بـ"الكلام النفسي" فهو مجرّد تصوّرات تدخل في دائرة العلم لا غير، ولا يطلق صفة "المتكلّم" حقيقة على أحد إلاّ بعد إيجاده للحروف والأصوات في الواقع الخارجي.

دليل الأشاعرة على مغايرة الكلام النفسي للعلم :

إنّ الإنسان قد يُخبر عمّا لا يعلمه أو عمّا يعلم خلافه.

فنستنتج بأنّ الإخبار عن شيء قد يكون غير العلم به(1).

يرد عليه :

إنّ العلم لا يشمل التصديق فحسب، بل يشمل التصوّرات لوحدها أيضاً، وإخبار الإنسان عمّا لا يعلمه أو عمّا يعلم خلافه هو إخبار عن مجموعة تصوّرات مع وجود نسبة بينها ـ سواء كانت هذه النسبة صحيحة أو خاطئة ـ وهذه التصوّرات والنسبة بينها من مقولة العلم.

دليل الأشاعرة على مغايرة الكلام النفسي للإرادة :

الإنسان قد يأمر غيره بما لا يريد.

مثال ذلك:

يأمر الأب ولده بأداء فعل معيّن، ويكون هدفه من هذا الأمر فقط اختبار ولده هل يطيعه أو لا؟

فهنا يأمر الأب ابنه بما لا يريد، وإنّما المقصود هو "اختبار الولد" لا "القيام بالفعل".

فنستنتج بأنّ الأمر ـ وهو نوع من أنواع الكلام الإنشائي ـ قد يكون مغايراً للإرادة(2).

____________

1- انظر: المواقف، القاضي الايجي: بشرح الجرجاني: ج 3، الموقف الخامس، المرصد الرابع، ص134.

2- انظر: المصدر السابق.


الصفحة 328

يرد عليه :

هذا القسم من الأوامر (الأوامر الاختبارية) ينشأ من الإرادة أيضاً، ولكن "الإرادة" في هذه الأوامر لا تتعلّق بالشيء "المأمور به" وإنّما تتعلّق بـ"الاختبار".

بعبارة أخرى:

الأب الذي يأمر ولده بأداء فعل معيّن، ويكون قصده من ذلك هو اختبار الولد أيطيعه أم لا؟ فإنّ أمره هذا ناشئ من الإرادة أيضاً.

ولكن هذه "الإرادة" لم تتعلّق بأداء ذلك الفعل المعيّن.

وإنّما تعلّقت باختبار المأمور، أي: اختبار الولد.

فنستنتج بأنّ منشأ الأمر في هذه الحالة أيضاً هو "الإرادة".

خصائص الكلام النفسي الإلهي عند الأشاعرة(1) :

1 ـ معنىً قديم قائم بذاته تعالى.

2 ـ إنّه واحد في نفسه ليس بخبر ولا أمر ولا نهي و...

3 ـ لا يدخل فيه ماض ولا حاضر ولا استقبال.

4 ـ إنّه غير العبارات، وحقيقته مغايرة لما له صلة بالأمور المادية.

5 ـ الكلام النفسي في الإنسان حادث تبعاً لحدوث ذاته.

والكلام النفسي في الله قديم تبعاً لقدم ذاته.

يرد عليه :

1 ـ المعنى القائم بالذات لا يقال له كلام حقيقة، وما يسبق الكلام اللفظي عند الإنسان أيضاً فهو عبارة عن العلم بكيفية نظم الكلام أو العزم على الكلام، وجميع هذه الأمور من مقولة العلم والإرادة(2).

____________

1- انظر: المواقف، القاضي الايجي: بشرح: الشريف الجرجاني: ج 3، الموقف الخامس، المرصد الرابع، المقصد السابع، ص 134 و 139. شرح المقاصد، سعدالدين التفتازاني: ج 4، المقصد الخامس، الفصل الثالث، المبحث السادس، ص 144، 147، 148، 163.

2- انظر: المنقذ من التقليد، سديد الدين الحمصي: ج 1، القول في كونه تعالى متكلّماً، ص 215.


الصفحة 329

2 ـ الكلام النفسي عند الإنسان متتابع ومتوال، وهو متكوّن من مجموعة تصوّرات، وأمّا الكلام النفسي الذي ينسبه الأشاعرة إلى الله بالأوصاف التي ذكروها، فهو أمر لا يمكن تعقّله، ولا طريق إلى إثباته، فكيف يصح نسبته إلى الله تعالى(1) ؟!

____________

1- انظر: غنية النزوع، ابن زهرة الحلبي: ج 2، باب الكلام في التوحيد، الفصل الخامس، الكلام في صفة التكلّم، ص 60. كشف المراد، العلاّمة الحلّي: المقصد الثالث، الفصل الثاني، المسألة السادسة، ص 403. نهج الحقّ وكشف الصدق، العلاّمة الحلّي: المسألة الثالثة، البحث الرابع، ص 60.


الصفحة 330

المبحث الخامس

قدم أو حدوث كلام الله تعالى

قال الشيخ المفيد: "إنّ كلام الله مُحدث، وبذلك جاءت الآثار عن آل محمّد(عليهم السلام)، وعليه إجماع الإمامية".(1)(2)

أدلة حدوث كلام الله :

1 ـ كلام الله مركّب من حروف متتالية، متعاقبة في الوجود بحيث يتقدّم بعضها على بعض، ويسبق بعضها على بعض، ويعدم بعضها ببعض، وكلّ ما هو كذلك فهو حادث، فنستنتج بأنّ كلامه تعالى حادث(3).

2 ـ الهدف من الكلام إفادة المخاطب، ولهذا يكون وجود الكلام قبل وجود المخاطب لغواً وعبثاً.

وقد ورد في كتاب الله خطاباً للأنبياء(عليهم السلام) والعباد، منها قوله تعالى:

{ ياأيها الرسول بلّغ ما انزل إليك من ربّك } [ المائدة: 68 ]

{ ياأيّها النبي اتق الله } [ الأحزاب: 2 ]

{ يا أيّها الناس اعبدوا ربكم } [ البقرة: 21 ]

{ يا أيها الذين آمنوا... } [ البقرة: 104 ]

فلو كان كلام الله تعالى قديماً لم يحسن الخطاب.

____________

1- أوائل المقالات، الشيخ المفيد: رقم 19، القول في الصفات، ص 52.

2- ذهب المعتزلة أيضاً إلى أنّ حقيقة كلام الله تعالى هو الكلام اللفظي فقط، وأنّه مُحدث.

انظر: شرح الأصول الخمسة، القاضي عبدالجبار: الأصل الثاني، فصل: في القرآن، ص 528.

3- انظر: النكت الاعتقادية، الشيخ المفيد: الفصل الأوّل، ص 27. المنقذ من التقليد، سديدالدين الحمصي: ج 1، القول في كونه تعالى متكلّماً، ص 216. مناهج اليقين، العلاّمة الحلّي: المنهج الرابع، البحث الحادي عشر، ص 193.


الصفحة 331

فنستنتج حدوث كلامه تعالى(1).

3 ـ ورد في كلام الله تعالى إخبار عن الماضي، من قبيل قوله تعالى:

{ إنا ارسلنا نوحاً إلى قومه } [ نوح: 1 ]

{ إنا أوحينا إلى إبراهيم } [ النساء: 162 ]

{ لقد اهلكنا القرون } [ يونس: 13 ]

{ ضربنا لكم الأمثال } [ إبراهيم: 45 ]

{ قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما... } [ المجادلة: 1 ]

فلو كان الكلام الإلهي قديماً، لاستلزم الكذب عليه تعالى; لأنّ الإخبار عن شيء قبل وقوعه كلام غير مطابق للواقع(2).

النتيجة :

الكلام مفهوم منتزع من العلاقة بين الله والمخاطب.

ولهذا فهو من صفات الله الفعلية.

وبما أنّ أفعال الله كلّها حادثة، فنستنتج بأنّ كلام الله أيضاً حادث.

أضف إلى ذلك :

الفرق بين "صفات الله الذاتية" وبين "صفات الله الفعلية" هو: أنّ الصفات الذاتية

____________

1- انظر: تقريب المعارف، أبو الصلاح الحلبي: مسائل العدل، مسألة: في كونه تعالى متكلّماً، ص 107. تلخيص المحصّل، نصيرالدين الطوسي: الركن الثالث، القسم الثاني، مسألة: كلام الله، ص 308. نهج الحق وكشف الصدق، العلاّمة الحلّي: المسألة الثالثة، المبحث الرابع، حدوث الكلام، ص 62. إرشاد الطالبين، مقداد السيوري: مباحث التوحيد، الدليل على حدوث كلامه تعالى، ص 220.

2- انظر: تلخيص المحصل، نصيرالدين الطوسي: الركن الثالث، القسم الثاني، مسألة كلام الله، ص 308. الرسالة السعدية، العلاّمة الحلّي: الفصل الأوّل، المسألة الرابعة، البحث الثاني،ص 46. إرشاد الطالبين، مقداد السيوري: مباحث التوحيد، الدليل على حدوث كلامه تعالى، ص 220. اللوامع الإلهية، مقداد السيوري: اللامع الثامن، المرصد الثاني، ص 203.


الصفحة 332

لا يمكن اتّصاف الله بنقيضها.

فلا يُقال: الله غير عالم، أو الله غير قادر.

أمّا الصفات الفعلية فهي ممّا يمكن اتّصاف الله بها في حال واتّصافه تعالى بنقيضها في حال آخر.

فيقال: خلق الله كذا ولم يخلق كذا.

ويقال: رزق الله فلان ولم يرزق فلان.

والكلام مثل الخلق والرزق.

فيُقال: كلّم الله تعالى موسى(عليه السلام)، ولم يكلّم فرعون.

الآيات القرآنية الدالة على حدوث كلام الله :

1 ـ { ما يأتيهم من ذكر من ربّهم محدث إلاّ استمعوه وهم يلعبون } [ الأنبياء:2]

2 ـ { وما يأتيهم من ذكر الرحمن محدث إلاّ كانوا عنه معرضين } [ الشعراء: 5 ]

والذكر هو القرآن(1)، والمحدث بمعنى الجديد، أي: إنّ القرآن أتاهم بعد الإنجيل.

وتبيّن هاتين الآيتين بصراحة بأنّ القرآن (كلام الله تعالى) مُحدث(2).

3 ـ { ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلاً } [ الإسراء: 86 ]

فلو كان القرآن ـ وهو كلام الله ـ قديماً، لم يصح وصفه بالإذهاب والزوال.

4 ـ { وإذ قال ربّك للملائكة... } [ البقرة: 30 ]

و "إذ" ظرف زمان، والمختص بزمان معيّن مُحدَث، فنستنتج بأنّ قول الله المذكور في هذه الآية مُحدث.

____________

1- قال تعالى (إنّا نحن نزلنا الذكر وإنّا له لحافظون) [الحجر 9] أي: إنّا نزّلنا القرآن.

2- انظر: النكت الاعتقادية، الشيخ المفيد: الفصل الأوّل، ص 27. شرح جمل العلم والعمل، الشريف المرتضى: باب ما يجب اعتقاده في أبواب العدل، كونه تعالى متكلّماً، ص 91.


الصفحة 333

5 ـ { ومن قبله كتاب موسى } [ هود: 17 ]

وما كان قبله شيء لا يكون قديماً(1)، وهذه الآية تصرّح بأنّ كلام الله في الإنجيل قبل كلام الله في القرآن، والقبلية والبعدية من علامات الحدوث، فنستنتج بأنّ كلام الله حادث(2).

بصورة عامة:

وصف الله كلامه في القرآن الكريم بالنزول(3) والتفريق(4) والجمع(5) والقراءة ( 8) والترتيل(6) والجعل(7) والناسخ والمنسوخ(8) و..(9).

وجميع هذه الأمور من صفات الأشياء الحادثة، فنستنتج بأنّ كلام الله حادث.

أحاديث أهل البيت(عليهم السلام) حول حدوث كلام الله :

1 ـ قال الإمام علي(عليه السلام): "يقول [ تعالى ] لما أراد كونه "كن" فيكون، لا بصوت يَقرَع، ولا بنداء يُسمع، وإنّما كلامه سبحانه فعلٌ منه، أنشأه ومثّله، لم يكن من قبل ذلك كائناً، ولو كان قديماً لكان إلهاً ثانياً"(10).

2 ـ سُئل الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): لم يزل الله متكلّماً؟ فقال(عليه السلام): "إنّ

____________

1- المنقذ من التقليد، سديدالدين الحمصي، ج 1، القول في كونه تعالى متكلّماً، ص 216.

2- المنقذ من التقليد، سديدالدين الحمصي: ج 1، القول في كونه تعالى متكلّماً، ص 216.

3- (نزلنا عليك القرآن تنزيلاً ) [الإنسان: 23]

4- (وقرآنا فرقناه لتقرئه على الناس على مكث ) [الإسراء: 106]

5- ( 8) (إنّ علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه) [القيامة: 16 ـ 18].

6- (ورتلناه ترتيلا ) [الفرقان: 32]

7- (إنا جعلناه قرآناً عربياً ) [الزخرف: 3]

8- (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ) [البقرة: 106]

9- انظر: شرح جمل العلم والعمل، الشريف المرتضى: باب ما يجب اعتقاده في أبواب العدل، ص 91، كتاب الخلاف، الشيخ الطوسي: ج 6، كتاب الإيمان، مسألة 12، ص 122. تلخيص المحصّل، نصيرالدين الطوسي: الركن الثالث، القسم الثاني، مسألة: كلام الله قديم، ص 308. المنقذ من التقليد، سديدالدين الحمصي: ج 1، القول في كونه تعالى متكلّماً، ص 216.

10- نهج البلاغة، الشريف الرضي: خطبة 186، ص 368.


الصفحة 334

الكلام صفة مُحدَثة ليست بأزلية، كان الله عزّ وجلّ ولا متكلّم"(1).

3 ـ سئل الإمام الصادق(عليه السلام) أيضاً: لم يزل [ تعالى ] متكلّماً؟ فقال(عليه السلام): "الكلام مُحدَث، كان الله عزّ وجلّ وليس بمتكلّم، ثمّ أحدث الكلام"(2).

4 ـ قال الإمام موسى بن جعفر الكاظم(عليه السلام) حول تكلّم الله عزّ وجلّ مع النبي موسى(عليه السلام)في طور سيناء حيث سمع قومه كلام الله تعالى:

"إنّ الله عزّ وجلّ أحدثه [ أي: أحدث كلامه تعالى ] في الشجرة، ثمّ جعله منبعثاً منها حتّى سمعوه من جميع الوجوه"(3).

5 ـ قال الإمام الكاظم(عليه السلام): "الكلام غير المتكلّم... وكلّ شيء سواه مخلوق"(4).

6 ـ قال الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام): "التوراة والإنجيل والزبور والفرقان وكلّ كتاب أُنزل، كان كلام الله، أنزله للعالمين نوراً وهدى، وهي كلّها مُحدَثة، وهي غير الله، حيث يقول: { أو يحدث لهم ذكراً } [ طه: 113 ] وقال: { ما يأتيهم من ذكر من ربّهم محدث إلاّ استمعوه وهم يلعبون } [ الأنبياء: 2 ] والله أحدث الكتب كلّها التي أنزلها"(5).

موقف أهل البيت(عليهم السلام) من فتنة القول بقدم القرآن :

مرّ العالم الإسلامي في القرن الثالث بمحنة شديدة حول مسألة كون القرآن قديماً أو حادثاً، وبعبارة أخرى مخلوقاً أو غير مخلوق، ثمّ اتّخذت هذه المسألة طابعاً غير علمي، واستغلّها البعض لتكفير مخالفيهم وسفك دمائهم.

ولهذا نجد أنّ أئمة أهل البيت(عليهم السلام) منعوا أصحابهم في هذه الفترة من الخوض في هذه المسألة، واكتفوا في بياناتهم حول هذه المسألة بأنّ القرآن كلام الله عزّ وجلّ، ومن هذا الأحاديث:

1 ـ سئل الإمام موسى بن جعفر الكاظم(عليه السلام): يابن رسول الله ما تقول في القرآن،

____________

1- التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 11، ح 1، ص 135.

2- الأمالي، الشيخ الطوسي: المجلس السادس، ح 282 / 34، ص 168.

3- التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 8 ، ح 24، ص 118.

4- الكافي، الشيخ الكليني: كتاب التوحيد، باب النهي عن الجسم والصورة، ح 7، ص 106.

5- الاحتجاج، الشيخ الطبرسي: احتجاجات الإمام الرضا(عليه السلام)، رقم: 285، احتجاجه(عليه السلام)على أبي قرّة المحدّث، ص 374.


الصفحة 335

فقد اختلف فيه من قِبَلنا، فقال قوم: إنّه مخلوق، وقال قوم: إنّه غير مخلوق؟

فقال(عليه السلام): "أمّا إنّي لا أقول في ذلك ما يقولون، ولكنّي أقول: إنّه كلام الله"(1).

2 ـ سئل الإمام الرضا(عليه السلام) أيضاً: ما تقول في القرآن؟ فقال(عليه السلام): "كلام الله لا تتجاوزوه..."(2).

وبعد انقضاء فترة الفتنة بيّن أئمة أهل البيت(عليهم السلام) موقفهم، وصرّحوا بحدوث القرآن ـ كما مرّ ذكرها ـ ونجد بوادر التصريح في الحديث الشريف التالي:

كتب الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) إلى بعض شيعته ببغداد:

"... نحن نرى أنّ الجدال في القرآن بدعة... وليس الخالق إلاّ الله عزّ وجلّ وما سواه مخلوق..."(3).

أي: كلام الله غير الله تعالى، وكلّ ما هو غير الله فهو مُحدَث، فكلام الله مُحدَث.

تنبيه :

الأفضل الاجتناب عن وصف القرآن بصفة "المخلوق"; لأنّ "المخلوق" يأتي بعض الأحيان في اللغة العربية بمعنى "المكذوب" و "المضاف إلى غير قائله" ويُقال: هذه قصيدة مخلوقة، أي: مكذوبة على صاحبها أو مضافة إلى غير قائلها.

ومنه قوله تعالى: { إنّ هذا إلاّ اختلاق } [ ص: 7 ] أي: كذب.

ولهذا ينبغي الامتناع من وصف القرآن بوصف "المخلوق" فيما لو كان موهماً للمعنى السلبي، ويلزم ـ في هذه الحالة ـ الاقتصار على وصف القرآن بصفة "الحدوث"(4) .

____________

1- التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 30: باب القرآن ما هو؟ ح 5، ص 219.

2- المصدر السابق: ح 2، ص 218.

3- المصدر السابق: ح 4، ص 218.

4- انظر: التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 30، ذيل ح 6، ص 220. شرح جمل العلم والعمل، الشريف المرتضى: باب ما يجب اعتقاده في أبواب العدل، ص 91. تقريب المعارف، أبو الصلاح الحلبي: مسائل العدل، مسألة: في كونه تعالى متكلّماً، ص 108. كتاب الخلاف، الشيخ الطوسي: ج 6، كتاب الإيمان، مسألة 12، ص120. غنية النزوع، ابن زهرة الحلبي: ج 2، الفصل الخامس، الكلام في صفة التكلّم، ص64.


الصفحة 336

ولهذا نجد بأنّ أئمة أهل البيت(عليهم السلام) امتنعوا بعض الأحيان من وصف القرآن بصفة "المخلوق"، منها:

1 ـ قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): "القرآن كلام الله محدَث، غير مخلوق، وغير أزلي مع الله تعالى ذكره، وتعالى عن ذلك علوّاً كبيراً.

كان الله عزّ وجلّ ولا شيء غير الله معروف ولا مجهول.

كان عزّ وجلّ ولا متكلّم ولا مريد، ولا متحرّك ولا فاعل.

جلّ وعزّ ربّنا، فجميع هذه الصفات مُحدَثة، عند حدوث الفعل منه.

جلّ وعزّ ربّنا، والقرآن كلام الله غير مخلوق..."(1).

2 ـ سُئل الإمام الرضا(عليه السلام): يابن رسول الله، أخبرني عن القرآن أخالق أو مخلوق؟ فقال(عليه السلام): "ليس بخالق ولا مخلوق، ولكنه كلام الله عزّ وجلّ"(2).

عقيدة الأشاعرة حول قدم كلام الله تعالى :

يعتقد الأشاعرة بوجود:

1 ـ كلام لفظي

2 ـ كلام نفسي

والكلام النفسي، هو الكلام الحقيقي.

وأمّا الكلام اللفظي فلا يعدّ كلاماً حقيقة، وإنّما هو وسيلة للإشارة إلى الكلام النفسي.

وكلام الله النفسي كلام قديم وقائم بذات الله(3).

____________

1- التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 30: باب القرآن ما هو؟، ح 7، ص 221.

2- المصدر السابق، ح 1، ص 218.

3- انظر: المواقف، القاضي الايجي، بشرح الشريف الجرجاني: ج 3، الموقف الخامس، المرصد الرابع، المقصد السابع، ص 135، 142. شرح المقاصد، سعدالدين التفتازاني: ج 4، المقصد الخامس، الفصل الثالث، المبحث السادس، ص 144.


الصفحة 337

أدلة الأشاعرة على إثبات قدم كلام الله (الأدلة العقيلة)

الدليل الأوّل :

كلامه تعالى صفة لله.

وكلّ ما هو صفة لله فهو قديم.

فنستنتج بأنّ كلامه تعالى قديم(1).

يرد عليه :

ليس كلّ ما هو صفة لله فهو قديم.

بل صفات الله تنقسم إلى قسمين: ذاتية وفعلية.

والصفات الفعلية ليست قديمة، و "الكلام" من صفات الله الفعلية.

فلهذا نستنتج بأنّ كلام الله غير قديم، بل حادث.

الدليل الثاني :

يجب اتّصاف الحي بصفة الكلام، وإلاّ اتّصف بضدّها.

وضدّ الكلام هو الخرس والسكوت، وهما نقص.

والنقص على الله محال، فيلزم ثبوت أنّه تعالى لم يزل متكلّماً(2).

يرد عليه :

الهدف من الكلام إفادة الآخرين، ولا معنى للكلام من دون وجود مخاطب، والنقص على الله أن نقول بأنّه يتكلّم ولا يوجد مخاطب!

والاتّصاف بالسكوت والخرس من مختصّات من يحتاج في كلامه إلى آلة، ولكنّ الله منزّه في كلامه عن هذه الأدوات، بل كلامه نوع من أنواع أفعاله(3).

____________

1- انظر: كتاب المواقف، القاضي الايجي، بشرح الشريف الجرجاني: ج 3، الموقف الخامس، المرصد الرابع، المقصد السابع، ص 133.

2- الإبانة عن أصول الديانة، أبو الحسن الأشعري: باب: الكلام في أنّ القرآن كلام الله غير مخلوق، ص32.

3- انظر: غنية النزوع، ابن زهرة الحلبي: ج 2، الكلام في كونه تعالى متكلّماً، ص 61.


الصفحة 338

أدلة الأشاعرة على إثبات قدم كلام الله (الأدلة القرآنية) :

الدليل الأوّل :

قال تعالى: { إنّما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } [ النحل: 40 ]

فلو كان القرآن (وهو كلام الله) مُحدثاً، لوجب أن يكون هذا القرآن مخاطباً بلفظة "كن" ولو كان الله قائلاً لكلامه "كن" لكان قبل كلّ كلامه كلام.

وهذا يوجب أحد أمرين:

أوّلاً: أن يقع كلّ كلام بكلام آخر إلى ما لا نهاية.

فيستلزم هذا الأمر التسلسل، وهو باطل.

ثانياً: أن يقع كلّ كلام بكلام آخر إلى أن نصل إلى كلمة قديمة.

فيثبت أن كلام الله تعالى قديم(1).

يرد عليه :

ليس المقصود من "القول" ـ في هذا المقام ـ المخاطبة اللفظية بكلمة "كن"، ليصح التقسيم المذكور في الدليل أعلاه; لأنّه لا معنى لتوجيه القول والخطاب للمعدوم.

وإنّما المقصود من "القول" هنا هو: الأمر التكويني المعبّر عن تعلّق الإرادة القطعية بإيجاد الشيء(2).

وتستهدف هذه الآية بيان:

أوّلاً: إذا أراد الله شيئاً، فسيتحقّق هذا الشيء مباشرة من دون امتناع.

ثانياً: لا يحتاج الله في إيجاده لشيء إلى سبب يوجد له ما أراده أو يساعده في إيجاده أو يدفع عنه مانعاً(3).

____________

1- انظر: الإبانة، أبو الحسن الأشعري: باب الكلام في أنّ القرآن كلام الله غير مخلوق، ص 31 ـ 32. و ص 37 .

2- للمزيد راجع : التبيان في تفسير القرآن، الشيخ الطوسي: تفسير آية 118 من سورة البقرة، ص 432 ـ 433.

3- انظر: غنية النزوع، ابن زهرة الحلبي: ج 2، الكلام في كونه تعالى متكلّماً، ص 63 ، المنقذ من التقليد، سديد الدين الحمصي: ج1 ، القول في كونه تعالى متكلّماً ص218.


الصفحة 339

ولهذا قال الإمام علي(عليه السلام):

"يقول [ تعالى ] لما أراد كونه "كن" فيكون، لا بصوت يقرع، ولا بنداء يسمع، وإنّما كلامه سبحانه فعل منه، أنشأه ومثّله، لم يكن من قبل ذلك كائناً..."(1).

الدليل الثاني للأشاعرة على قدم كلام الله :

قال تعالى: { ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين } [ الأعراف: 54 ]

كلمة "الخلق" في هذه الآية تشمل جميع ما خلق الله، وكلمة "الأمر" في هذه الآية تدل على وجود شيء غير ما خلق الله، فيثبت بذلك وجود شيء ـ وهو أمر الله ـ غير مخلوق وغير حادث. وأمر الله هو كلامه.

فيثبت بأنّ كلام الله غير حادث، أي: قديم(2).

يرد عليه :

أوّلاً:

ليس "الأمر" في هذه الآية بمعنى "كلام الله"

بل "الأمر" في هذه الآية بمعنى التصرّف والتدبير للنظام المهيمن على العالم.

ففي قوله تعالى: { له الخلق والأمر } [ الأعراف: 54 ]: "الخلق" بمعنى إيجاد ذوات أشياء العالم.

و "الأمر" بمعنى التصرّف في هذا الخلق، وتدبير النظام الحاكم على أشياء العالم(3).

قرائن تفسير "الأمر" بمعنى تدبير النظام:

قال تعالى في نفس هذه الآية: { والنجوم مسخّرات بأمره ألا له الخلق

____________

1- نهج البلاغة، الشريف الرضي: خطبة 186، ص 368.

2- انظر: الإبانة عن أصول الديانة، أبو الحسن الأشعري: باب الكلام في أنّ القرآن كلام الله غير مخلوق، ص31.

3- انظر: التبيان في تفسير القرآن، الشيخ الطوسي: ج 4، تفسير آية 54، من سورة الأعراف، ص 423.


الصفحة 340

والأمر } [ الأعراف: 54 ]

أي: والنجوم مسخّرات بتصرّفه تعالى وتدبيره.

ومن القرائن الأخرى الدالة على أنّ كلمة "الأمر" الواردة بعد كلمة "الخلق" تعني "تدبير الأمر" هو أنّ عبارة "تدبير الأمر" وردت بعد كلمة "الخلق" أو معنى "الخلق" في الآيتين التاليتين:

1 ـ قوله تعالى: { إنّ ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثمّ استوى على العرش يدبّر الأمر } [ يونس: 3 ]

2 ـ قوله تعالى: { الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخّر الشمس والقمر كلّ يجرى لأجل مسمّى يدبّر الأمر... } [ الرعد: 2 ]

الهدف من ذكر "الأمر" بعد "الخلق":

يستهدف قوله تعالى: { ألا له الخلق والأمر } [ الأعراف: 54 ] بيان أنّه تعالى بعد خلقه للعالم لم يترك تفويض تدبير نظامه لغيره، بل كما يقوم الله بخلق هذا العالم، فإنّه أيضاً يتولّى أمر تدبير نظامه والتصرّف في شؤونه.

وليس في هذه الآية أدنى إشارة أو قرينة على أنّ المقصود من الأمر هو الكلام الإلهي.

ثانياً:

لو سلّمنا بأنّ "الأمر" يعني "كلام الله"، فإنّ إفراده عن الخلق لا يعني أنّه غير مخلوق، بل يفيد هذا الإفراد تعظيم شأنه فحسب.

مثال ذلك:

قوله تعالى: { قل من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال... } [ البقرة: 98 ]

فإفراد ذكر جبريل وميكال من الملائكة لا يدل أنّهما خارجان عن دائرة


الصفحة 341

الملائكة، بل يفيد إفرادها تعظيم شأنهما فحسب(1).

أضف إلى ذلك:

لو سلّمنا بأنّ "الأمر" يعني كلام الله، فقوله تعالى: { وكان أمر الله مفعولا } [ الأحزاب: 37 ] دالّ على حدوث كلام الله; لأنّ المفعول من صفات المُحدث(2).

الدليل الثالث للأشاعرة على قدم كلام الله :

قال تعالى: { قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربّي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربّي ولو جئنا بمثله مدداً } [ الكهف: 109 ]

فلمّا لم يجز أن تنفد كلمات الله صح أنّه لم يزل متكلّماً(3).

يرد عليه :

بيان نفاد البحر قبل نفاد كلمات الله لا يعني أزلية هذه الكلمات، بل غاية ما تدلّ هذه الآية: أنّ سعة كلمات الله أعظم من سعة البحر لو كان مداداً لكتابة هذه الكلمات.

والآية في الواقع بصدد بيان عظمة مقدورات وحكمة وعجائب الله تعالى(4).

الدليل الرابع للأشاعرة على قدم كلام الله :

قال تعالى: { إن هذا إلاّ قول البشر } [ المدثر: 25 ]

قال أبو الحسن الأشعري: "فمن زعم أنّ القرآن مخلوق فقد جعله قولاً للبشر، وهذا ما أنكره الله على المشركين"(5).

____________

1- انظر: غنية النزوع، ابن زهرة الحلبي: ج 2، الفصل الخامس، الكلام في صفة التكلّم، ص 63 ـ 64.

2- التبيان في تفسير القرآن، الشيخ الطوسي: ج 8 ، تفسير آية 37 من سورة الأحزاب، ص 345.

3- انظر: الإبانة عن أصول الديانة، أبو الحسن الأشعري: باب الكلام في أنّ القرآن كلام الله غير مخلوق، ص 32 .

4- انظر: مجمع البيان، الشيخ الطبرسي: ج 6، تفسير آية 104 من سورة الكهف، ص 770.

5- الإبانة عن أصول الديانة، أبو الحسن الاشعري: باب الكلام في أنّ القرآن كلام الله غير مخلوق، ص 32.


الصفحة 342

يرد عليه :

1 ـ ما أنكره الله على المشركين أنّهم قالوا بأنّ هذا القرآن ليس من عند الله، بل هو مما جاء به النبي محمّد(صلى الله عليه وآله) من نفسه، فجاءت هذه الآية على مقولتهم هذه.

2 ـ ورد في الإشكال بأنّ من يعتقد بأنّ القرآن مخلوق ـ أي: مُحدث ـ فقد جعله قولاً للبشر، ولكن الذي يعتقد بأنّ القرآن مخلوق، فإنّه لا يجعله قولاً مخلوقاً للبشر، بل يجعله قولاً مخلوقاً لله تعالى.

تنبيه :

يصح اعتبار صفة "التكلّم" لله صفة قديمة بمعنيين:

1 ـ قدرته تعالى على إيجاد الأصوات والحروف لمخاطبة الآخرين.

2 ـ علمه تعالى بما سيوجد من الأصوات والحروف لمخاطبة الآخرين.

وأمّا إذا اعتبرنا "التكلّم" بمعنى خلقه تعالى للأصوات والحروف، فستكون هذه الصفة لله حادثة، وتكون من صفات الله الفعلية كالخالقية والرازقية.


الصفحة 343

المبحث السادس

صدق كلام الله تعالى

الكلام المتّصف بالصدق هو الكلام المطابق للواقع.

وضدّه الكلام المتّصف بالكذب وهو الكلام المخالف للواقع(1).

دليل وصفه تعالى بالصدق:

الكذب قبيح، والله تعالى منزّه عن ذلك.

ومن أسباب قبح الكذب أنّه يؤدّي إلى رفع الوثوق بإخبار الله وعدم الصدق بوعده ووعيده، فينتفي بذلك فائدة التكليف، ويترتّب على ذلك الكثير من المفاسد(2).

الآيات القرآنية المشيرة إلى صدق كلام الله :

1 ـ { ومن أصدق من الله حديثاً } [ النساء: 87 ]

2 ـ { ومن أصدق من الله قيلاً } [ النساء: 122 ]

3 ـ { وآتيناك بالحق وانا لصادقون } [ الحجر: 64 ]

____________

1- انظر: المعجم الوسيط، مادة (صدق) و (كذب).

2- انظر: مناهج اليقين، العلاّمة الحلّي: المنهج الرابع، البحث الثاني عشر، ص 194. إرشاد الطالبين، مقداد السيوري: مباحث التوحيد، كون خبره تعالى كلّه صدق، ص 221.


الصفحة 344

الصفحة 345

فهرس المطالب / تحميل الكتاب

فهرس المطالب

zip pdf