المؤلفات » التحوّل المذهبي (بحث تحليلي حول رحلة المستبصرين إلى مذهب أهل البيت عليهم السلام)

الفصل الثالث
موانع الاستبصار





الصفحة 158

الصفحة 159

الطريقة الصحيحة في التقييم المذهبي:

إنّ العقليّة التي يمكنها الوصول إلى معرفة الحق هي العقليّة السليمة التي تستطيع بسهولة أنْ تقوم بعمليّة النظر والتأمّل وفق المنهج الفكري السليم، وتستطيع أن تحكم خلال تقييمها للأمور والقضايا حكماً قوامه الصدق والعدل.

ومن أكبر الموانع التي تردع الإنسان عن الوصول إلى الحقّ هي اضطراب الميزان الذي يَزن به القضايا ويقيّم به الأمور، لأنّ هذا المانع يدفع الإنسان إلى إدراك الحقيقة بصورة ناقصة ومن دون استيعاب كل عناصرها وأجزائها وصفاتها، ومن هنا تلتبس الأمور على الإنسان.

كما أنّ الاضطراب في ميزان تقييم الأمور والقضايا يدفع الباحث إلى الانسياق مع التعميم الفاسد الذي يؤدّي إلى تشويه صورة الحقيقة عند الباحث واختلاط الحقّ بالباطل في قرارة نفسه.

ومن أضرار التعميم الفاسد أن يحكم المرء على الكلّ بسبب الحكم على البعض، ومثال ذلك أّنه يرى بعض ما عليه مذهبه حقّاً، فيقبل المذهب كلّه، ويرى ـ حسب وجهة نظره ـ بعض ما عليه المذهب المخالف باطلاً، فيرفض ذلك المذهب كلّه دون فحص ولا تمييز.

ولكنّ الباحث الواعي والطالب للحقّ ينبغي أن يجزّىء دائماً عناصر المذهب الذي يودّ البحث حوله، وعليه أن يفحص كل جزء فيه فحصاً مستقلاًّ، ليصل بالأدلّة إلى الحكم الصحيح المرتبط بذلك الجزء، ثمّ يقوم بفحص الجزء الآخر حتى يصل


الصفحة 160
إلى الصورة الكاملة في تقييمه لذلك المذهب، وإلاّ فلا يصحّ أن يعطي الباحث حكماً عامّاً بصحّة المذهب الذي هو عليه مجرّد أنّه تحقّق من صحّة بعض مسائل أو قضايا أو مقولات ذلك المذهب، كما لا يصح عكس ذلك أيضاً، لأنّ هذا الأمر يدفع الباحث إلى التعصّب والجهل وعدم البصيرة.

والأمر الجدير بالذكر هنا هو أنّ البحث في معتقدات مذهب معيّن لا يشبه البحث في القوانين الطبيعيّة، فلهذا لا يحقّ للباحث عبر الاستقراء الناقص والملاحظة المتكرّرة أن يعمّم ما توصّل إليه من صفات على نوعه وفصيلته، ليصل إلى نظريّة ظنيّة مقبولة وصالحة للعمل.

لأنّ كل مذهب متشكّل من عقائد مختلفة، وكل واحد من هذه العقائد تستمد وجودها من أدلّة مغايرة للأدلّة التي تستمد المفردة العقائديّة الأخرى وجودها منه.

فلهذا ينبغي للباحث الذي يبتغي تقييم مذهب معيّن، أن يقوم بتجزّئة عقائد ذلك المذهب، وأنْ يقوم بعدها بالبحث في كل مفردة عقائديّة من مفردات ذلك المذهب، ليصل بعد ذلك إلى الحكم الذي يستمد وجوده من الأدلّة والبراهين، كما عليه أن يبادر إلى فحص باقي عقائد ذلك المذهب ليقوم بتقييمها والتثبّت من صحّتها أو سقمها حتى يستوفي كل عقائد ذلك المذهب.

والجدير بالانتباه أنّ الباحث ينبغي أنْ لا يغترّ بكثرة عناصر الصواب الموجودة في مذهبه، لأنّ مذهبه قد يحتوي على عقيدة أساسيّة باطلة وفاسدة تكون بمثابة السمّ القاتل في الطعام. ولا يخفى على أحد أن السمّ القاتل على رغم قلّته يكفي لافساد كميّة كبيرة من الغذاء الطيّب والنافع.

وهذا ما يحّتم على كلّ باحث يستهدف معرفة الحقّ أن يقوم بغربلة معتقداته المذهبيّة، ليصل إلى القناعات التي لا تتضمّن الأفكار السامّة والرؤى الفاسدة.


الصفحة 161

أسباب الحرمان من ادراك الحقيقة:

إنّ الحرمان من الإحاطة بالحقيقة:

1 ـ إمّا أن يكون نتيجة أسباب داخليّة مرتبطة بذات الإنسان من قبيل ضعف أداة الإدراك أو التلبّس بالوهم الناشىء من عدم الاتّزان الفكري أو التأثّر بسوابق الأفكار أو الانقياد للمؤثّرات النفسيّة الوراثيّة التي تتّبعها ردود أفعال فكريّة غير مدروسة أو الابتلاء بالرذائل النفسيّة التي تحجب بصيرة الإنسان عن إدراك الحقيقة، وهي أسباب ينبغي للمرء أن يقوم بإزالتها عن نفسه.

2 ـ وإمّا أن يكون نتيجة أسباب خارجيّة يقوم بها الآخرون، فتكون النتيجة حرمان غيرهم من إدراك الحقيقة من قبيل التحريف والتعتيم والشبهات التي يلقيها البعض ليصرفوا وجوه الناس عن التوجّه إلى الحق.

وهذا هو الجانب الذي نودّ الإشارة إليه في البحوث القادمة.

السبب الأوّل:

التحريف

إنّ الطامّة الكبرى التي شهدها الإسلام بعد أن التحق رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالرفيق الأعلى وإلى يومنا هذا أنّه ابتلي بأيد قامت من أجل الوصول إلى مآربها الشخصيّة بطمس بعض معالمه و تغيير جملة من شرائعه والتلاعب ببعض مفاهيمه.

وقد حاولت هذه الأيادي الأثيمة بشتى الطرق أن تكتم الحقَّ أو تخفيه أو تلبسه


الصفحة 162
بالباطل بحيث لا يتميّز أحدهما عن الآخر.

كما أنّها حاولت أن تُحرّف الكَلِم عن مواضعه وأن تتلاعب بالنصوص عن طريق التحريف في بنية الكلمة أو الزيادة في النصّ أو النقص منه أو بتره أو التلفيق أو التصرّف فيه بالتقديم والتأخير لاعلى سياق قائِلِه لتصل عبر اخراج النصّ عن معناه الحقيقي إلى المقصود المنسجم مع مآربها الشخصيّة.

وفي هذا الخضم كم من حقائق أخفيت، وكم من سير نقيّة شوّهت، وكم من سير مدنسة ألبست لباساً يضفى عليها هالة من العظمة والقداسة.

ولهذا ذهب الكثير ضحيّة الإعلام المغرض الذي حاول أنْ يصوّر الإسلام بالصورة الملائمة مع أغراضه وميوله ومصالحه الشخصيّة.

وهذا ما يبيّن مدى الصعوبة التي واجهها المستبصر في محاولة تصدّيه للبحث عن الحقيقة الموضوعيّة ضمن هذا الكم الهائل من التحريف والتزوير الذي أحدث خلال مسيرة التاريخ الإسلامي.

ويشير ياسين البدراني إلى هذه الحقيقة في كتابه (ياليت قومي يعلمون)، قائلاً:

" إنّ الكثير من الأحاديث وُضعت لكي ترفع مكانة شخصيّات خسيسة منحطّة، ولكي تطمس معالم شخصيّات أخرى خصّها الله بالفضل والهدى والعلم والحلم والفصاحة والتقى فكانوا للعباد مناراً وهدى.

لكنّ الحكّام المتسلّطين من بني أميّة وبني العبّاس جاؤوا بما لايرضى الله وافتعلوا الأكاذيب والأباطيل.

ونحن لا نريد من الأخ القارىء إلاّ أن لايُخدع بباطلهم، وأن لا يبقى معصوب العينين ضيّق النظر، منقاداً لمنطق العاطفة، بل نريد له أن يكون حرّ الإرادة في مطالعاته وفهمه وأن يحكم بالانصاف على ما يقرأ "(1).

____________

1- ياسين المعيوف البدراني/ ياليت قومي يعلمون: 64.


الصفحة 163
إذن فالمطلوب من الباحث الذي يودّ قراءة كتب السّلف أن يعي ما فعلته هذه السلطات الحاكمة، لئلاّ يكون ضحيّة الروايات المحرّفة التي دسّتها هذه الأيدي الأثيمة بغية الوصول إلى مآربها الدنيويّة.

وهذا ما قام به المستبصرون، فإنّهم حين بحثهم عن الحقّ حاولوا أن يزيلوا الغشاوة التي وضعتها يدُ التحريف ورجال الكذب والدجل على بصائرهم، واجتهدوا أن يبدّدوا الضباب أو الغبار الذي أثاره البعض لتشويه صورة الحقيقة، وحاولوا أن يتجنّبوا التأثّر بالخرافات التي تسبح في المتاهات والظنون، والتي تأخذ بيد العقل ليسبح معها في عالم الأوهام.

وكانت النتيجة أن وصل هؤلاء إلى ما يبتغوه، لأنّ المغرضين على رغم محاولاتهم الحثيثة لتزييف الحقائق وتغيير وجه الحقيقة عن طريق شعاراتهم الفارغة والفاظهم المُنمّقة وسلوكهم الطرق الملتوية، فإنّ دين الله تعالى يعلو ولا يُعلى عليه.

فلهذا باءت محاولاتهم بالفشل، ويشهد الجميع في عالمنا المعاصر ازدهار شأن أهل البيت (عليهم السلام) يوماً بعد آخر وانتشاره في جميع ربوع العالم.

التحريف في عالمنا المعاصر:

إنّ التحريف الذي قام به بعض القدماء قد وجد ـ للأسف ـ في عالمنا المعاصر بعض الأجواء المناسبة التي تمدّه بما يكفل له البقاء.

ومن أهمّ أسباب بقاء التحريف هو أنّ جملة من أبناء مجتمعاتنا الإسلاميّة المعاصرة ألفوا التزييف الذي سنّته الحكومات الجائرة السابقة عن طريق وعّاظ السلاطين والأقلام المرتزقة، ولم يحاولوا التثبّت من صحّة ما ذهب إليه من قبلهم، بل تلقّوا آراء السابقين كثوابت لا يصح غربلتها أو التشكيك في صحّتها.

ومن هذا المنطلق بقي التحريف مترسّخاً في أوساط المجتمع لايستطيع أحد أن يزيله سوى العلماء، ولكنّ الكثير من العلماء أيضا ـ للاسف ـ كما يذكر عنهم ياسين


الصفحة 164
المعيوف البدراني في كتابه (ياليت قومي يعلمون)، قائلاً:

" تعوّدت بعض الأقلام المأجورة واستمرّت أن تعيش في النفاق وعلى النفاق مقدّمة نتاجها الفكري للمجتمع الذي تعيش فيه مزيفاً ومغلوطاً، وذلك بدافع من مصلحة دنيويّة تافهة "(1).

ويقول التيجاني السماوي أيضاً في هذا المجال: " واكتشفت أيضاً أن العديد من العلماء، عندما تواجههم الحقيقة المرّة المؤلمة، يبحثون عن بعض التأويلات والمخارج التي هي في الحقيقة، مبكية ومضحكة في الوقت نفسه "(2).

ويقول إدريس الحسيني:

"...أليس هذا هو التجهيل؟ اءنّهم يكتبون للامّيين والمغّفلين! لذلك تراهم لا يتورّعون عن التلفيق! "(3).

ويشير صالح الورداني إلى هذه الحقيقة أيضاً قائلاً:

" إنّ منهج التأويل والتبرير هو الأساس الذي بني عليه منهاج القوم وعقائدهم ولم يكن مجرّد طرح عابر في مذهبهم وإنّما كان سلاحهم الذي يشهرونه في وجه خصومهم وفي وجه المسلمين الذين ينتابهم الريب في رواياتهم ومواقفهم وأحداث التاريخ بوجه عام.. وعقيدة تقوم على التبرير والتأويل عقيدة واهية مهزوزة لابدّ للعقل من أن يلفظها يوماً "(4).

ومن جهة أخرى أيضاً فإنّ الكثير من الأعلام والمشايخ لم يتحلّوا بالأمانة العلميّة في نقلهم المعارف الدينيّة إلى الآخرين، ولم يلتزموا بالورع خلال نظرهم في الاستدلال والمعاني، لأن أمثال هؤلاء ـ في الواقع ـ لم يطلبوا العلم من أجل التحلّي

____________

1- المصدر السابق: 69.

2- محمد التيجاني السماوي/ اعرف الحق: 14.

3- إدريس الحسيني/ لقد شيّعني الحسين: 26.

4- صالح الورداني/ الخدعة: 69.


الصفحة 165
بالفضيلة، أو من أجل إفادة الناس بما عرفوا من الحكمة، بل طلبوه ليكون لهم جسراً يصلوا من خلاله إلى مطامعهم الدنيويّة.

ولهذا انعدمت الأمانة في نفوس هؤلاء، وغدوا لايتحرّجون من رواية مالم يسمعوا أو ذكر ما لم يعلموا.

وهذا ما دعى العلماء إلى تشييد علم الرجال وإجراء الجرح والتعديل، ليكون الباحث على بصيرة من أمره، ولئلاّ تخفى عليه منزلة من يروي له الحقائق.

وأضف إلى مسألة عدم تحلّي بعض العلماء بالأمانة العلميّة، أنّ الكثير من الباحثين يواجهون في زماننا استنكاف بعض العلماء من الاعتراف بعدم العلم إذا سُئِلوا عن شيء لا يعلموه.

وذلك لأنّ هؤلاء يرون أن الإذعان بعدم المعرفة يذهب بشي من احترام المقابل لهم، فيدفعهم هذا الأمر إلى الإجابة وفق ما تملي عليهم أهواؤهم واستنباط الإجابة من عالم الأوهام، ليفهموا السائل بأنّه ممن لا يخفى عليهم شيء!

في حين أنّ الواقع يحتّم على العالم الورع والمتّقي إذا سُئل عما لا يعلم أنْ لايجد في صدره حرجاً أن يقول (لا أعلم)، وعليه أن لا يستنكف ولا يبالي بما يكون لموقفه الصحيح من أثر في نفوس سائليه.

بل لو يتأمّل الإنسان الواعي في هذا الموقف يرى أنّ العالم إذا سُئل عما لا يعلم، فاعترف بعدم علمه، فإنّه وان لم يمنح السائل جواب ما سأل، لكنّه يعطيه درساً أخلاقيّاً مفاده أنّ المرء ينبغي أن لا يتحدّث إلاّ عن بصيرة.

من جهة أخرى يشير صباح علي البياتي في هذا المجال إلى إحدى الوسائل التي يجعلها من في قلوبهم مرض وسيلة لتشويه سمعة التشيّع، قائلاً:

" أودّ أنّ أنوّه إلى أمر مهم جدّاً ألا وهو: أن الشيعة لا يعتقدون بوجود كتاب صحيح تماماً غير كتاب الله العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وماعداه من كتب، فإنّها تحوي الصحيح وغيره مهما كانت منزلة هذه الكتب أو مصنّفيها.


الصفحة 166
وعلى هذا الأساس فإنّ وجود رواية في أيّ من كتبهم لا تعني بالضرورة أنّهم يقولون بصحّتها، وأمثال هذه الروايات موجودة فعلاً في كثير من كتب الشيعة رغم عدم اعتقادهم بصحّتها، وذلك على العكس من الإخوة من أهل السنّة الذين يضفون على بعض كتبهم ـ وبخاصّة التي يسمونها (الصحاح) وعلى رأسها كتابَي البخاري ومسلم ـ رداء القدسيّة، حتى قالوا عن صحيحي البخاري ومسلم:... أنّه لوحلف رجل بطلاق امرأته على أن كل ما في الصحيحين هو من أقوال وأفعال وتقرير النبي (صلى الله عليه وآله) لم يحنث، وأن من روى له البخاري فقد جاز القنطرة (1)"(2).

السبب الثاني:

التعتيم

من الأسباب الأخرى التي توجب حرمان الباحث من معرفته للحقّ هي التعتيم الذي يحاول البعض عن طريقه أنْ يُرخي سحابه من الدخان حول بصيرة الباحثين، ليمنعوهم من الوصول إلى علوم ومعارف أهل البيت (عليهم السلام).

ويقول محمد الكثيري في هذا المجال:

" إنّ الكتاب الشيعي مُحارَب في كلّ مكان وممنوع دخوله في أغلب الدول، وقد أحاط السلفيّون والغرب الاستعماري دولة التشيّع بأسلاك شائكة من الدعايات المغرضة وتزييف الحقائق الدينيّة والسياسيّة "(3).

ويقول هذا المستبصر في مكان آخر من كتابه (السلفية):

" إنّ السلفيّة يحاربون الكتاب الشيعي في كل مكان، ويمنعون دخوله إلى بلدهم ويُحرّمون قراءته.

____________

1- مقدّمة فتح الباري: 381.

2- صباح علي البياتي/ لا تخونوا الله والرسول: 69.

3- محمّد الكثيري/ السلفيّة: 712.


الصفحة 167
وفي الجزائر يتعرّض أيّ شاب ملتزم للإهانة بل ربّما للضرب والمحاكمة إذا ما وُجد بحوزته كتاباً أو مجلّة شيعيّة؟

لماذا هذا الخوف من الكتاب الشيعي يا دعاة السلفيّة؟! "(1).

ويضيف هذا المستبصر:

" ونحن نقول لدعاة السلفيّة: إذا كان ما تكتبونه عن الشيعة صحيح ويمثّل الحقيقة، فلماذا لاتفسحون المجال للكتاب الشيعي أن ينتشر؟! لأنّ ذلك سيؤكّد ما تدّعون عليهم من آراء ومعتقدات، وسيجعل أبناء الصحوة الإسلاميّة يتّخذون الموقف السليم من التشيّع...

لكنّني على يقين من أنّهم لن يفعلوا، لأنّهم يخافون من التشيّع، ومن حقائق التشيّع، لأنّ الشمس عندما تطلع وتحتل مكانها في كبد السماء، تنطفىء كل الشموع، وينعدم ضوؤها، وهذا هو حال التشيّع مع العقيدة السلفيّة.

إنّهم يتستّرون ويختفون وراء جدران صنعوها من الكذب والتلفيق، لذلك ما إن يعرف أحد أبناء الصحوة الإسلاميّة بعض الحقائق حتى ينقلب عدوّاً لدوداً للسلفيّة ولدعاة مذهب السلف، لأنّه سيكتشف إنّ غذاءه السلفي كان محشواً بالكذب وتحريف الحقائق "(2).

وقال التيجاني السماوي مشيراً إلى معاناته في البحث:

" ولماذا يحاول بعض العلماء حتى اليوم في عصر العلم والنور جهده تغطية الحقائق بما يختلقونه من تأويلات متكلّفة لا تسمن ولا تغني من جوع؟ "(3).

وأشار التيجاني السماوي أيضاً إلى هذه الحقيقة قائلاً:

" إذا استثنينا بعض العلماء المعاصرين الذين أنصفوا في كتاباتهم عن الشيعة بما تفرضه عليهم الأخلاق الإسلاميّة، فإنّ الأغلبيّة الساحقة منهم قديماً وحديثاً لازالوا

____________

1- المصدر السابق: 679.

2- المصدر السابق: 681.

3- محمد التيجاني السماوي/ فسألوا أهل الذكر: 317.


الصفحة 168
يكتبون عن الشيعة بعقليّة الأمويين الحاقدين، فتراهم في كل واد يهيمون ويقولون مالا يفقهون، ويسبّون ويشتمون ويتقوّلون افتراء وبهتاناً على شيعة آل البيت ماهم منه براء، ويكفّرونهم وينبذونهم بالألقاب اقتداءً بسلفهم الصالح معاوية وأضرابه، الذين استولوا على الخلافة الإسلاميّة بالقوّة والقهر والمكر والدهاء والخيانة والنفاق.

فمرّة يكتبون بأنّ الشيعة هي فرقة من تأسيس عبد الله بن سبأ اليهودي، ومرّة يكتبون بأنّهم من أصل المجوس، وانّهم روافض قبّحهم الله، وأنّهم أخطر على الإسلام من اليهود والنصارى.

ومرة يكتبون بأنّهم منافقون لأنّهم يعملون بالتّقيّة، وأنّهم اباحيّون يبيحون نكاح المحارم ويحلّلون المتعة وهي زنا، والبعض يكتب بأنّ لهم قرآناً غير قرآننا، وأنّهم يعبدون عليّاً والأئمّة من بنيه ويبغضون محمّداً وجبريل وأنّهم وأنّهم...

ولا يمرّ عاماً إلاّ ويطلع علينا كتاب أو مجموعة كتب من أولئك العلماء الّذين يتزعّمون (أهل السنة والجماعة) بزعمهم وكلّه تكفير واستهانة بالشيعة.

وليس لهم في ذلك مبرّر ولا دافع إلاّ ارضاء أسيادهم الّذين لهم مصلحة في تمزيق الأمّة وتفريقها والعمل على ابادتنا.

كما ليس لهم فيما يكتبون من حجّة ولا دليل سوى التعصّب الأعمى والحقد الدفين والجهل المقيت، وتقليد السلف بدون تمحيص ولا بحث ولابيّنة، فهم كالببّغاء يعيدون ما يسمعون ويستنسخون ما كتبه النواصب من أذناب الأمويين، والذين لايزالون يعيشون على مدح وتمجيد يزيد بن معاوية.

... وبما أنّهم أتباع السنّة الأمويّة والقريشيّة فهم يتكلّمون ويكتبون بالعقليّة الجاهليّة والأفكار القبليّة والنعرات العنصريّة، فالشيء من مأتاه لا يستغرب، وكلّ إناء بالذي فيه ينضحُ "(1).

____________

1- محمد التيجاني السماوي/ الشيعة هم أهلُ السنّة: 63ـ64.


الصفحة 169
وقال حسين على آل رجاء:

" إنّ الشعب العامي المسلم مظلوم حيث يحال بينه وبين العلوم الحقيقيّة المتمثّلة بعلوم آل البيت عليهم الصّلاة والسلام "(1).

وأشار الهاشمي بن علي إلى هذه الحقيقة قائلاً:

" طبعاً مازلت أقول أنّ هناك الملايين من المسلمين وغيرهم ممّن لهم طينة صالحة ولكن لم يصل إليهم هذا المذهب. (فإنّ النّاس لو عرفوا محاسِن كلامنا لاتّبعونا) كما ورد عن الإمام المعصوم (عليه السلام) "(2).

وقال أسعد وحيد القاسم حول معاناته في هذا المجال:

" وكلّما كنت أقرأ كتباً إضافيّة حول هذا الموضوع، فإنّ الحقيقة كانت تبدو لي أكثر وضوحاً حتى ظهرت لي في النهاية بأجلى صورها وبما لا يقبل أيّ شك.

إلاّ ان السؤال الذي أخذ يراودني دائماً يدور حول سبب إخفاء كثير من الحوادث التّاريخيّة وأحاديث الرسول (صلى الله عليه وآله)عنّا بالرغم من توثيقها في المصادر المعتبرة عند أهل السنّة، والتي من شأنها توضيح الكثير من الغموض الذي رافق مسألة الخلاف بين السنّة والشيعة على مرّ القرون الماضية.

فهل إخفاء الحقائق أو التعتيم والتشويش عليها يُقبل مبرّراً لمنع الفتنة كما يزعمون؟

أليست الفتنة كلّها بإخفاء الحقائق وتزييفها؟ "(3).

وذكر محمد كوزل الحسن الآمدي في هذا المجال:

" وقفت على نصوص كثيرة واردة في الكتاب والسنّة معلنة بخلافة أمير المؤمنين والأئمة المعصومين من ذريّته (عليهم السلام)آمرة بالاقتداء بهم والسير على نهجهم، وناهية عن مخالفتهم ومعاداتهم، وتواترت بذلك الأخبار من كتب السنّة والشيعة. وإنْ كانت

____________

1- مجلّة المنبر/ العدد: صفر (التجريبي).

2- جريدة المبلّغ الرسالي: 27 صفر 1419هـ.

3- أسعد وحيد القاسم/ حقيقة الشيعة الاثنى عشريّة: 15.


الصفحة 170
سلطات الجور سعت وصرفت قصارى جهدها لاخفاء تلك النصوص وكتمانها، وعذّبت وسجنت مَن أفشاها ونشرها، وبذلت أموالاً كثيرة وجوائز نفيسة لمن وضع مخالفها ومناقضها على لسان النبي (صلى الله عليه وآله).

ورغم كلّ ذلك فقد أنعم الله على هذه الأمّة أن حفظ لهم مقداراً كثيراً من تلك النصوص كي يكون كافياً ( لِمَن كانَ لَهُ قَلبٌ أو أَلقى السَّمعَ وهوَ شهيدٌ)، ويكون حجّة على من ألقى العذر وهو عنيد "(1).

السبب الثالث:

الشبهات

الشكوك البنّاءة:

يشعر الإنسان بعد بلوغه مرحلة النضج أنّه بحاجة إلى البحث والتحقيق من أجل الحصول على المعرفة النقيّة التي يمكن أن يطمئنّ بها.

ومن هنا تتبلور في ذهن الإنسان شكوك وشبهات حول صحّة المعتقدات التي ينتمي إليها.

وهذه الشكوك والشبهات والتسائلات العقائديّة التي تمور في دواخل الفرد تعتبر شكوكاً بنّاءة، وهي أمر طبيعي، لأنّها تنتج من عدم المعرفة، وتثير في نفس الإنسان جملة من المشاعر التي تبعث فيه النشاط والحيويّة من أجل طلب العلم والتثبّت في أموره العقائديّة.

وعلى الباحث في هذه الحالة أن يتريّث عن لايسارع إلى تكذيب القضايا التي تثار حولها الشكوك في ذهنه، وعليه أن يقوم بالبحث والتحقيق بكامل الحيطة والحذر لينتهي إلى النتيجة اليقينيّة.

____________

1- محمد كوزل الحسن الآمدي/ الهجرة إلى الثقلين: 204.


الصفحة 171

الشكوك الهدّامة:

الشكوك والشبهات الهدّامة والمخرّبة تختلف عن الشبهات التي تثار في ذهن الباحث بشكل طبيعي، بل هي أفكار يتعمّد المغرضون انشاءها وإثارتها عن طريق تزيين الباطل وتزييف الحق أو خلط الحق بالباطل أو غير ذلك من الأساليب الملتوية من أجل حرمان الآخرين من معرفة الحق.

وأكثر من يثير هذه الشبهات هم الّذين يضرّهم اتّجاه الآخرين نحو الحق، فيتوسّلون بكلّ ما في أيديهم من تمويه وخداع ليبقوا الناس في الدوائر التي تخدم مصالحهم ومطامعهم الشخصيّة.

ويحاول هؤلاء أن تعيش الأمّة في تيه وحيرة وظَلام وعدم يقين واضح في أمر العقيدة، لتتاح لهم في وسط هذا العماء الطاغي وهذا التيه المضل فرصة الاستغلال والوصول إلى مآربهم الشخصيّة والاصطياد بالماء العكر.

ويشير سعيد أيّوب إلى هذه الحقيقة قائلاً:

" وعلى امتداد المسيرة البشريّة لم تكف أجهزة الصدّ عن سبيل الله عن وضع العوائق أمام طائفة الحقّ "(1).

ويقول هشام آل قطيط:

" كثير من الحقائق والمسلّمات تستحيل إلى خرافة و وَهم حين يستفرغ المرء وسعه، ويسلخ بعض الوقت في التنقيب عن جذور تلك الحقائق ومصدرها.

فكثيراً ما تكون العواطف والأهواء والنزعات، هي العامل الأقوى وراء شيوع قضيّة ما واستحكامها وفرض نفسها، لتشغل لها مكاناً بين الثوابت والمسلّمات.

كلّ ذلك بسبب وجود من يحرص على أنْ تأخذ قضيّة معيّنة حجماً أكبر من ذاتها ومكانة أعظم مما تستحق.

____________

1- سعيد أيّوب/ الرّساليّون: 48.


الصفحة 172
أضف إلى ذلك فقدان المقياس الحقيقي المستند إلى العقل، وتقييم الواقع في تحديد حجم المسائل وأعطائها الموقع المناسب "(1).

ويستخدم هؤلاء المغرضون في سبيل بلورة شبهاتهم الكثير من السبل الملتوية، منها: استعمال الألفاظ في غير مواضعها من أجل إضاعة المعنى الحقيقي الذي يعنيه اللفظ، أو الإغارة على النصوص الدينيّة من أجل نحر معانيها الأصليّة وجعل معاني أخرى مكانها و...

ولايكون ضحيّة هذه الشكوك والشبهات إلاّ أصحاب العقول التي لم يقم أصحابها بتنويرها وارتقاء مستوياتها.

ويشير التيجاني السماوي إلى هذه الحقيقة قائلاً:

" فقد يَلبس الباطلُ لباسَ الحقّ للتمويه والتضليل، وقد ينجح في أغلب الأحيان لبساطة عقول الناس أو لحسن ظنّهم به، وقد ينتصر الباطلُ أحياناً لوجود أنصار مؤيّدين له، فما على الحقّ إلاّ الصبر وانتظار وعد الله بأنّ يزهق الباطل، إنّ الباطل كان زهوقاً "(2).

ويشير ياسين المعيوف البدراني إلى هذا الأمر قائلاً:

" سيقع في الكثير من الشبهات - التي تغيّر المفاهيم الحقيقيّة لتحل محلّها مفاهيم مغلوطة تنمو في عقول البسطاء - الذين ينعقون عن جهل خلفَ كلّ ناعق ويميلون مع كلّ ريح "(3).

ولهذا ينبغي لكلّ انسان يودّ صيانة نفسه من التأثّر بالشكوك الهدّامة أن يوسّع دائرة معارفه بالأمور العقائديّة، ليتمكّن من الدفاع عن معتقداته، وليسعه التحصّن إزاء الوسائل التي يستخدمها المغرضون في زرع الشبهات في نفوس الآخرين، وليتمكّن

____________

1- هشام آل قطيط/ وقفة مع الدكتور البوطي في مسائلة: 28.

2- محمد التيجاني السماوي/ الشيعة هم أهل السنّة: 12.

3- ياسين المعيوف البدراني/ ياليت قومي يعلمون: 42.


الصفحة 173
من إزالة الالتباس الذي قد يقع فيه على حين غفلة.

كما على الباحث فيما لو أراد ان يرتقي في مجال درء الشبهات وبيان بطلانها أن يقف على المصادر التي يستقي منها أصحاب الشبهات باطلهم وصناعتهم الجدليّة، ليتمكّن من دحض حجّتها وبيان تهافتها بأفضل صورة ممكنة.

مظلوميّة مذهب أهل البيت (عليهم السلام):

لايخفى على أحد انّ الشيعة شهدت من جميع النواحي التاريخيّة والفكريّة والاعتقاديّة الحملات المسعورة والهجمات القاسية من قبل السلطات الحاكمة ومَن تبعهم من وعّاظ السلاطين ومن لفّ حولهم.

وقد واجه التشيّع منذ نشأته المؤامرات الواسعة من أجل القضاء عليه، وقد سعت بعض السلطات الحاكمة ـ وعلى رأسها السلطات الأمويّة والعبّاسيّة ـ بكلّ ما أوتيت من قوّة إلى تحريف وتخريب أهم حصونه المنيعة وبنائه العقائدي.

ويشير التيجاني السماوي إلى هذا الأمر قائلاً:

" ومن العقائد التي يشنّع بها أهل السنّة على الشيعة ما هو من محض التّعب المقيت الذي أولده الأمويّون والعبّاسيّون في صدر الإسلام، بما كانوا يحقدون على الإمام علي ويبغضونه حتى لعنوه على المنابر أربعين عاماً "(1).

ويشير عبد المنعم حسن أيضاً إلى هذه الحقيقة قائلاً:

" إنّ الشيعة ومنذ وفاة الرّسول (صلى الله عليه وآله) عاشوا في اضطهاد وتشريد وتقتيل من قبل السلطات الجائرة التي تعاقبت، وبعد واقعة كربلاء أصبح الشيعة وحدهم المناوئين للحكّام والمتصدّين لهموم الأمّة باعتبار أنّ أئمّتهم هم الحافظون للشريعة، لذلك

____________

1- محمد التيجاني السماوي/ لأكون مع الصادقين: 59.


الصفحة 174
كرّست الحكومات كل جهودها لضربهم "(1).

ويذكر إدريس الحسيني هذا الأمر أيضاً بقوله:

" لقد نشأ التشيّع وترعرع في بيت النبوّة، وفي أهل بيت هم أهل بيتِ نبيّ الإسلام. وعاشوا معاً - الشيعة وأهل البيت - أعنف حالة، ظلّوا محاصرين ومصادَرين لا لشيء إلاّ لتصدّيهم المبكّر لكلّ تحريفيّة تسلّلت إلى الإسلام، وإلى كلّ سلطة حاربت دين الله في الأرض "(2).

و يضيف هذا المستبصر:

" الشيعة قوم عاشوا المظلوميّة في مختلف أطوار التاريخ. لم يفرض عليهم العنف إلاّ العنف الذي مارسه في حقّهم أعداء الأديان وأعداء الإنسانيّة "(3).

ويشير صباح علي البياتي إلى مظلوميّة أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم قائلاً:

" قال الإمام الباقر (عليه السلام) لبعض أصحابه: (يا فلان، ما لقينا من ظلم قريش إيّانا وتظاهرهم علينا، ومالقي شيعتُنا ومحبّونا من النّاس!

إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله)قبض وقد أخبر انّا أولى الناس بالناس; فتمالأت علينا قريش حتى أخرجت الأمر عن معدنه، واحتجّت على الأنصار بحقّنا وحجّتنا، ثمّ تداولتها قريش، واحداً بعد واحد، حتى رجعت إلينا، فنكثت بيعتَنا ونصبت الحربَ لنا.

ولم يزل صاحب الأمر في صعود كؤود حتى قُتل، فبويع الحسنُ ابنه وعوهد ثمّ غُدر به وأسلم وثب عليه أهل العراق حتى طعن بخنجر في جنبه ونهبت عسكره.وعولجت خلاخيل أمّهات أولاده، فوادع معاوية وحقن دمه ودماء أهل بيته وهم قليل حقّ قليل.

ثمّ بايع الحسين (عليه السلام) من أهل العراق عشرون ألفاً، ثمّ غدروا به وخرجوا عليه

____________

1- عبد المنعم حسن/ بنور فاطمة اهتديت: 216.

2- إدريس الحسيني/ هكذا عرفت الشيعة: 13.

3- المصدر السابق.


الصفحة 175
وبيعته في أعناقهم وقتلوه، ثم لم نزل ـ أهل البيت ـ نُستذل ونستضام ونقصى ونمتهن ونحرم ونقتل ونُخاف ولا نأمن على دمائنا ودماء أوليائنا.

ووجد الكاذبون الجاحدون لكذبهم وجحودهم موضعاً يتقرّبون به إلى أوليائهم وقضاة السوء وعمّال السوء في كل بلدة، فحدّثوهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة، و رَوَوا عنّا مالم نَقله ومالم نَفعَله ليبغّضونا إلى النّاس، وكان عظم ذلك وكبره زمن معاوية بعد موت الحسن (عليه السلام)، فقُتِلَت شيعتُنا بكلّ بلدة وقُطِعت الأيدي والأرجل على الظنّة، وكان من يذكر بحبّنا والانقطاع إلينا سُجن أو نُهب مالُه أو هُدمت دارُه.

ثمّ لم يزل البلاء يشتدّ ويزداد إلى زمان عبيد الله بن زياد قاتل الحسين (عليه السلام)، ثمّ جاء الحجّاج فقتلهم كل قتلة، وأخذهم بكل ظنّة وتهمة، حتى أنّ الرجل ليقال له: زنديق أو كافر أحَبُّ إليه من أن يُقال شيعة عليّ، وحتى صار الرجل الذي يُذكر بالخير ـ ولعلّه يكون ورعاً صدوقاً ـ يحدّث بأحاديث عظيمة عجيبة من تفضيل بعض من قد سلف من الولاة، ولم يخلق الله تعالى شيئاً منها ولا وقعت وهو يحسب أنّها حقّ لكثرة من قد رواها ممن لم يعرف بكذب ولا بقلّة ورع)(1).

هكذا كان حال الشيعة في زمن بني أميّة ـ كما وصفه الإمام الباقر (عليه السلام) ـ ثمّ جاء دور العبّاسيين الّذين كانوا أشدّ وطأة على أهل البيت وشيعتهم من أسلافهم الأمويّين، وكتب التاريخ ممتلئة بتلك الحوادث المفجعة، ومن أراد التفصيل فعليه بكتاب مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الإصفهاني.

ثمّ جاء العثمانيّون ليكمّلوا المسيرة الظالمة، إذ كان السلطان سليم ـ كما يحدّثنا السيّد أسد حيدر ـ شديد التعصّب على أهل الشيعة، ولا سيّما أنّه كان في تلك الأيّام قد انتشرت بين رعاياه تعاليم شيعيّة تنافي مذهب أهل السنّة، وكان قد تمسّك بها

____________

1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 11/ 43ـ44.


الصفحة 176
جماعة من الأهالي، فأمر السلطان سليم بقتل كل من يدخل في هذه الشيعة، فقتلوا نحو أربعينَ ألف رجل، وأخرج فتوى شيخ الإسلام بأنّه يؤجَر على قتل الشيعة وإشهار الحرب ضدّهم(1).

كما ذكر الشيخ المظفّر رحمه الله بعض فضائع العثمانيّين تجاه الشيعة، ومنها ما حدث في مدينة حلب، حيث أفتى الشيخ نوح الحنفي في كفر الشيعة واستباحة دمائهم وأموالهم، تابوا أو لم يتوبوا!! فزحفوا على شيعة حلب وأبادو منهم أربعين ألفاً أو يزيدون، وانتهبت أموالُهم وأخرج الباقون منهم من ديارهم...(2).

أمّا المذابح التي ارتكبت بحقّ الشيعة، وما أريق من دمائهم وما انتهب من أموالهم، وما تعرّض له مشاهدهم المقدّسة من تخريب على أيدي الوهّابيّين بفتوى شيخهم محمّد بن عبد الوهّاب، فحدّث ولا حرج، استكمالاً للمخطّط الذي بدأه معاوية في تصفية آثار النبوّة والقضاء على سنّة النبي (صلى الله عليه وآله) من خلال تصفية أتباعه المتمسّكين بسنّته ".(3) ويضيف هذا المستبصر:

" الشيعة قوم عاشوا المظلوميّة في مختلف أطوار التاريخ، لم يفرض عليهم العنف إلاّ العنف الذي مارسه في حقّهم وأعداء الأديان وأعداء الإنسانيّة "(4).

وهذه السلطات رغم استخدامها كافّة وسائل إعلامها وممارستها الإرهاب ومبادرتها إلى قتل وتشريد أتباع مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، ورغم ما بذلته من ثروة لشراء بعض الضمائر واستئجار الأقلام من أجل إخفاء معالم هذا المذهب، وإن استطاعت أن تبعد الكثير من أبناء الأمّة عن قادتهم الحقيقيّين من أهل البيت (عليهم السلام)بحيث ذهب الكثير ضحيّة الأقلام التي حاولت أن توسّع الفجوة بين أبناء الأمّة وبين معرفة أئمّتهم

____________

1- الإمام الصادق والمذاهب الأربعة: 1/244، عن مصباح الساري ونزهة القاري: 123ـ124.

2- تاريخ الشيعة: 147، التقيّة في فقه أهل البيت: 1/51.

3- صباح علي البياتي / لاتخونو الله والرسول: 154.

4- المصدر السابق.


الصفحة 177
من أهل البيت (عليهم السلام)، ولكنّها لم تستطع أن تغيّر مسار كلّ الأمّة عن دربها الأصيل الذي ابتدأه رسول الله (صلى الله عليه وآله)وأكمله الأئمّة من اهل البيت (عليهم السلام).

ولهذا يقول التيجاني السماوي:

" وبالرغم من كلّ ذلك سيبقى صوت الحقّ مدوياً وسط الضوضاء المزعجة، ويبقى بصيص النور مضيئاً وسط الظلام الدّامس، لأن وعد الله حق ولابد لوعده من نفاذ، قال تعالى: ( يُريدُونَ ليُطفِئُوا نُورَ اللهِ بأفواهِهِم واللهُ مُتِمُّ نورِهِ ولَو كَرهَ الكَافِرونَ )(1)"(2).

ويشير محمد علي المتوكّل إلى صمود التشيّع بوجه الحملات التي شُنّت عليه:

" إنّ التشيّع ـ بما هو جوهر الدّين ـ قد صمد عبر التاريخ في وجه أعنف حملات الطمس والتشويه، واستعصى على كل المؤامرات التي استهدفته منذ وفاة النبي وإلى الآن.

وهو المذهب الوحيد الذي ظلّ أمره في ازدياد، لما يستبطن من حق، ولتمسّك أهله، ولقدرته على مواكبة العصر والوفاء بمتطلّبات الزمن، بينما اندثر غيره من المذاهب أو كاد، حتى المذاهب الأربعة لم يعد التمسّك بها إلاّ تقليديّاً وشكليّاً ولم تعد قادرة على الوقوف أمام دعاوي التجديد الفقهي وفتح أبواب الاجتهاد التي تنطلق من هنا وهناك "(3).

ويذكر ياسين المعيوف البدراني:

" إنّنا ننظر إلى حالة الشيعة فنعجب ونذهل لما لاقوه من الاضطهاد في العهدين الأسودين ولقرون عدّة.

وتصيبنا الحيرة في أنّهم - أيّ الشيعة - كيف تمكّنوا برغم كل ذلك الاضطهاد أن يحافظوا على علمهم ومناهجهم وسيرتهم ورسالتهم واستمروا يحملون لواء الجهاد

____________

1- الصفّ: 8.

2- محمد التيجاني السماوي/ فاسألوا أهل الذّكر: 6.

3- محمّد علي المتوكّل/ ودخلنا التشيّع سجّداً: 60.


الصفحة 178
ضدّ كل الحكّام المنحرفين والظالمين لشعوبهم متبعين العقيدة الصحيحة التي استقوها من منهلها الأول منهل الرسول (صلى الله عليه وآله) وأهل البيت (عليهم السلام) متمسّكين بها بكلّ القوّة والإيمان والثبات.

ذلك لأنّها امتزجت عندهم مع الدم واللحم امتزاج الإيمان مع النفس المؤمنة.

كما وأنّهم (أهل البيت) لم يقفوا عند حدود التقليد والقول باللسان على عواهنه، بل كان دأبهم في الليل والنهار أن ينشروا علومهم وأن يبثوا الروح الثوريّة روح رسالة الإسلام في نفوس المستضعفين، وما تزال آثار هذه الدعوة تستعر بلهيب الحق حتى يومنا هذا "(1).

إثارة الشبهات ضدّ مذهب أهل البيت (عليهم السلام):

في ظلّ هكذا أجواء إرهابيّة ضد مذهب التشيّع من قبل السلطات الحاكمة، نشأت فئات متلبسة بالعلم لا تريد للتشيّع إلاّ الوقيعة والشرّ، ولاتريد للشيعة إلاّ الوهن والضعف، فغمست أقلامها في دواة الأوهام والآثام، ثمّ بادرت في كتاباتها إلى حملة تشويهيّة ضد مذهب التشيّع من أجل النيل من عقائده والتشكيك بصحّته وعرضه بصورة مزيّفة والصاق التهم والافتراءات به وطمس محاسنه والتشهير به وتصويره كأنّه المعول الهادم لكيان الإسلام!

ولم يستحي هؤلاء من باطلهم، فكذّبوا باسم البحث المحايد، واختلقوا ولفّقوا من أجل أغراضهم الدنيئة، وحاولوا عبر تخطيطهم المدروس والمُبَرمج أن يخرجوا التشيّع من حظيرة الإسلام وأن يعطوه صفة لا تلتقي مع الإسلام.

ويقول مروان خليفات حول إحدى الطرق التي استخدمها هؤلاء للإطاحة بالكيان الشيعي:

____________

1- ياسين المعيوف البدراني/ ياليت قومي يعلمون: 168.


الصفحة 179
" من العوامل التي ساعدت على تكوين هذه الصورة المشوّهة عن الشيعة، هو خلط كثير من المؤرّخين والكتّاب بين الجعفريّة وغيرها من الفرق...

[و] يقول علي عبد الواحد وافي ـ من علماء أهل السنّة ـ [في كتابه بين الشيعة وأهل السنّة: 11]: (انّ كثيراً من مؤلّفينا، بل من كبارهم، أنفسهم قد خلط بين الشيعة الجعفريّة وغيرها من فِرق الشيعة، فنسب إلى الجعفريّة عقائد وآراء ليست من عقائدهم ولا من آرائهم في شيء، وإنّما ذهبت اليها فرق أخرى من فرق الشيعة)"(1).

ويقول أسعد وحيد القاسم في هذا الخصوص:

" ما اندرج تحت اسم الشيعة من طوائف تقول بألوهيّة عليّ أو نبوّته أو غير ذلك من الطوائف. فإنّ الشيعة منها براء.

فلماذا يصرّ البعض على اعتبار هذه الطوائف من الشيعة؟

ولماذا يقومون بإشاعة هذه الترهات وغيرها مضلّلين بها عوام المسلمين وجهّالهم؟

ولماذا هذا التزوير الشائن في تاريخ المسلمين ودينهم الحنيف؟ "(2).

وكان أثر هذا التحريف القديم على الأجيال التي جاءت بعدها أنّها ورثت هذه الأفكار الخاطئة والمشوّهة حول عقائد وحقيقة الشيعة والتشيّع من أسلافها مع حسن الظن بهم، وقبلتها من غير تحقيق ولا تمحيص ولاتبصّر.

وساعدت الأجواء السياسيّة والتعصّبات الدينيّة على بقاء هذه المفاهيم، فتغلغلت هذه المفاهيم المغلوطة التي تكوّنت في عصور التخلّف الفكري والصراع الطائفي في نفوس الكثير من أبناء المجتمع.

ولهذا يقول عبد المحسن السراوي:

" إنّ كثيراً من كتّاب عصرنا لا يزالون يعيشون بعقليّة عصور الظلمة، تلك التي

____________

1- مروان خليفات/ وركبت السفينّة: 615.

2- أسعد وحيد القاسم/ حقيقة الشيعة الاثني عشريّة: 17.


الصفحة 180
استغلّ ظروفها المُندَسّون في صفوف المسلمين لنشر المفتريات وخلق الأكاذيب "(1).

ويقول هذا المستبصر حول بعض الكتّاب المعاصرين الذين كتبوا حول الشيعة والتشيّع:

" اولئك الكتّاب قد جمدوا على عبارات سلف عاشوا في عصور الظلمة عصور التطاحن والتشاجر، فقلّدوهم بدون تفكير أو تمييز حتى أصبحت القضيّة خارجة عن نطاق الأبحاث العلميّة، وهي إلى المهاترات أقرب من المناقشات المنطقيّة "(2).

ثمّ وقعت هذه الشبهات والافتراءات والهجمات الفكريّة ضدّ مذهب أهل البيت (عليهم السلام) بيد فئات تُحرّكهم العواطف الآنيّة وتستفزّهم الانفعالات النفسيّة وتهيّجهم الشعارات المزيّفة وتتحكّم بهم الغوغائيّة، فاعترتهم حالة ردود أفعال عشوائيّة، فنفخوا في هذه الشبهات والافتراءات، و زادوا فيها ما شاء لهم هواهم أن يزيدوا، وحمّلوها أكثر ممّا تحمل، وأضافوا عليها من الأكاذيب ما يندى لها الجبين، بحيث يقول أسعد وحيد القاسم في هذا المجال:

" استنكرتُ هذه الحملة نظراً للطريقة البعيدة عن الأدب والموضوعيّة التي يصفون بها حقيقة الشيعة، والتي كنت ألاحظ أنّها تتّسم بالمبالغة والتهويل في أغلب الأحيان "(3).

ويصف عبد المنعم حسن مشاعره وموقفه قبل الاستبصار بعد استماعه إلى مجموعة من هذه الشبهات حول الشيعة من قبل أحد المشايخ الذين التقى بهم:

" أحسستُ بغثيان بسبب كذب هؤلاء القوم.

لقد قرأت بعض كتب الشيعة التي ألّفها كبار علمائهم ورأيت بعض الأخوة الشيعة، لم أقرأ أو أسمع ما قاله هذا الوهابي، ولا أدري كيف يدّعون نصرة الحقّ وهم يكذبون

____________

1- عبد المحسن السراوي/ القطوف الدانية في المسائل الثمانية: 16.

2- المصدر السابق.

3- أسعد وحيد القاسم/ حقيقة الشيعة الاثني عشريّة: 8.


الصفحة 181
بل يبالغون فيه إلى حدّ يؤسف له.

صرخت في وجهه بلا وعي منّي: ألا يمكنك أن تنصر الحق الذي تدّعيه بدون أن تكذب وتفتري على القوم.

فارتبك متلعثماً: كيف تقول لي مثل هذا الكلام؟!

قلت: أنت الذي أجبرتني على ذلك، أنا قرأت للشيعة وجلست معهم، وأعرف جيّداً ما يقولون وما ذكرته لي بعيد عنهم كلّ البعد "(1).

ثم قال عبد المنعم حسن له:

" إنّ مثل هذه التهم صارت قديمة لا يصدّقها أحد، والنّاس أكبر وعياً من أن تنطلي عليهم هذه الأكاذيب.

قال: يبدو أنّك منهم!

قلت: لست شيعيّاً ولو كنت فلا شيء يمنعني من التّصريح بذلك، لكنّني الآن فقط عرفتكم، أنتم لا تستطيعون الدفاع عن باطلكم إلاّ عن طريق الكذب "(2).

ويذكر هشام آل قطيط حول بعض هذه التهم الرخيصة قائلاً:

" إنّ أحد علمائنا في المنطقة كان يقول لي دائماً إيّاك ومجالسة الشيعي، وإيّاك ومحاورة الشيعي (لا تحاور الشيعي ولو كان الجدال عن حقّ).

هؤلاء الشيعة قتلوا إمامنا الحسين(رضي الله عنه)، ولحدّ الآن يبكون ويلطمون ويندبون هم ونساؤهم وأطفالهم نَدَماً وخوفاً عسى الله أن يغفر لهم.

هؤلاء الشيعة يعتقدون بأنّ الرّسالة نزلت على علي (كرّم الله وجهه) وتاه الوحي جبرائيل ونزل على محمّد (صلى الله عليه وآله)وغير ذلك.

يسجدون للحجر، ويسبّون الصحابة، ويعملون بالتقيّة بينهم سرّاً لايظهرونها لأحد

____________

1- عبد المنعم حسن/ بنور فاطمة اهتديت: 190ـ191.

2- المصدر السابق: 191.


الصفحة 182
وذبيحتهم محرّمة لا يجوز لنا أن نأكل منها "(1).

ويقول هذا المستبصر أيضاً حول هذه الإشاعات:

" من الإشاعات التي كانت تؤثّر في نفسي وتقع حاجزاً بيني وبين قراءة كتب الشيعة هو أنّ الشيعة يقولون في آخر الصلاة تاه الوحي جبرائيل ثلاث مرّات، وحتى سألت أكثر من عالم عندنا، فقال لي: إحذر هؤلاء الشيعة، فإنّهم يقولون في آخر الصلاة هذه العبارة المذكورة وأنّ الرسالة نزلت على عليّ (عليه السلام)وتاه الوحي ونزل بها على محمّد (صلى الله عليه وآله).

فعند البحث والتحقيق وجدت أنّ الشيعة بريئون من هذه الإشاعات والدعايات بحقّهم فوجدت أنّ الشيعة يقولون في آخر الصلاة ثلاث مرّات: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر "(2).

ويقول معتصم سيّد أحمد حول نشاط بعض المؤلّفين والكتّاب أنّهم:

" بذلوا قصارى جهدهم لتزييف الحقائق وتشويه مذهب أهل البيت، بشتى أساليب الدعاية ونشر الأكاذيب.

وقد نجح هؤلاء الكتّاب نجاحاً كبيراً في تعميق الجهل في نفوس أهل مذهبهم وتوسيع الفجوة بينهم وبين معرفة الحقيقة.

فصوّروا التشيّع بأبشع وأقبح ما يكون من الصور، من جراء ما نسجوه من خرافات وأوهام.

ولا أقول هذا مجرد افتراض، إنّما عايشت هذا الجهل مدّة من الزمن، وأحسست به أكثر عندما تفتّحت بصيرتي وأنار الله قلبي بنور أهل البيت، فوجدت مجتمعي يركد في ركام من الجهل والافتراءات على الشيعة، فكلّما أسأل عن الشيعة سواء كان المسؤول عالماً او مثقّفاً كان يجيبني بسلسلة من الأكاذيب على الشيعة فيقول مثلا:إنّ الشيعة تدّعي أنّ الإمام علي (عليه السلام) هو الرّسول ولكن جبرائيل أخطأ وأنزل الرسالة على محمّد، أو أنّهم

____________

1- هشام آل قطيط/ ومن الحوار اكتشفت الحقيقة: 22ـ23.

2- المصدر السابق: 255.


الصفحة 183
يعبدون الإمام عليّاً... وغيرها من الأكاذيب التي لا تمت إلى الواقع بصلة "(1).

ويضيف معتصم سيّد أحمد:

" إنّ هذا الجهل بالتشيّع، الذي تعيشه مجموعة كبيرة من الأمّة الإسلاميّة، كان نتاجاً طبيعيّاً لمجهود هؤلاء الكتّاب، لفرض الجهل المطبق على أبناء هذه الأمة لكي لا يتعرّفوا على مذهب التشيّع.

وهذا هو المخطّط الذي بدأ قديماً ليتمّ مسيرته إلى اليوم، فتجد مئات من الكتب المسمومة ضدّ الشيعة في متناول يد الجميع، هذا إذا لم تكن توّزع مجّاناً من قبل الوهّابيّة، ويفترض في هذا الجو المشحون ضدّ الشيعة أن يسمح للكتاب الشيعي بالانتشار، حتى تكون المعادلة متكافئة، وهذا ما لم يحصل، فهذه هي المكتبات الإسلاميّة يكاد يندر فيها الكتاب الشيعي بخلاف المكتبات الشيعيّة سواء كانت تجاريّة أو في المعاهد العلميّة فهي لاتخلوا من كتب ومصادر السنّة بجميع خطوطها و اتّجاهاتها.

... وقد لاحظت اختلاف المنهجيّة بين النوعين من الكتب، فتجد كتب الشيعة تهدف إلى تأصيل وإثبات صحّة مذهبها بالأدلّة والبراهين اعتماداً على مصادر ومراجع اهل السنّة، من غير أن تتهجّم على المذاهب الأخرى.

أمّا الكتب التي تحاول الردّ على الشيعة فإنّها تهدف من الأساس ضرب المذهب الشيعي بأي طريقة كانت حتى ولو كانت بالتهم والافتراءات "(2).

ويقول إدريس الحسيني حول تجربته في هذا المجال:

" وكنّا دائماً نعتقد أنّ المسلمين، مهما اختلفت طرائقهم، لا يكذبون، وربّما حملنا جهالاتهم على الاشتباه، وربّما حملناها على سبعين محمل وإن كانوا يحملون أفكاراً

____________

1- معتصم سيّد أحمد/ الحقيقة الضائعة: 199.

2- المصدر السابق: 200ـ201.


الصفحة 184
إلاّ على محمل واحد.. فإنّنا بذلك سنحافظ على آدابنا الإسلاميّة وموضوعيّة النقد. وليكن ما يكون عليه هذا الطرف أو ذاك فكلّ إناء ينضح بما فيه.

غير أنّ الواقع الذي انتيهت إليه، يعاكسني ذلك الاعتقاد، فكثير منهم كان تحامله فيه تساهل مع الأكاذيب التي تحاك ضد الإماميّة، حتى وإنّهم ليعلمون أنّها محض أراجيف، منسوبة إلى تلك الطائفة ظلماً وعدواناً.

لقد كتب كثير منهم في الاتّجاه نفسه، والمعطيات نفسها، وتكاثرت كتبهم التي هي إحياء مكرور لتراث النصب والتحامل على طائفة طالما استضعفوها ولفّقوا حولها أجود الأكاذيب.

ويستنتج من حركتهم هذه، أنّهم على جانب كبير من الجهل بالتاريخ الإسلامي وبمذهب الإماميّة، ذلك الجهل الناتج عن سرعتهم في إصدار الأحكام، وفي نواياهم القبيحة في قراءة التراث الإمامي، قراءة تهدف إلى تجميع عناصر لخلق صورةً ملفقة من أجل التعريض بهم لااستيعاب أفكارهم.

وهذا المنهج يختلف اختلافاً جذريّاً، عمّن تواضع للحقيقة، واتّقى الله في البحث عنها.

ومن دون أن نزكّي أنفسنا على أحد يجدر بنا القول:

أنّنا نحن الذين اطّلعنا على هذه المدرسة، اطلاعاً كبيراً، وتربّعنا أمام علمائها لنستمع اليهم، جنباً إلى جنب مع أبناء الطائفة ونهلنا من علومهم، لم نشعر بتلك الخلفيّات التي ذكرها رواد اتّجاه التفريق.

لقد اطّلعنا على تراث الجماعة والتزمنا مبادئه فترة ليست بالقصيرة، واستنشقنا الكيمياء السنّي، استنشاقاً حسناً، وبتنا نعلم خفايا المذهبين "(1).

ويقول إدريس الحسيني حول إحدى الافتراءات التي الصقت بالشيعة:

" خلال فترة طويلة، ارتبط التشيّع بالعنف والإرهاب، وما شابه ذلك من النعوت

____________

1- إدريس الحسيني/ هكذا عرفت الشيعة: 8.


الصفحة 185
التي تحجب الوجه الآخر المشرق له وهو وجه السلام والحوار والتعايش.

لقد ارتبط عنوان التشيّع بالعنف في الحقب التاريخيّة السابقة، وفي إطار زمني معيّن، فلقد سلك الكثير من الخلفاء في حقّ هذه الطائفة نهجاً ظالماً، مع أنّ الوجه الحضاري المشرق للإسلام، لايكاد يذكر دون ان يرتبط بوجوه شيعيّة على شتى المستويات، في الفكر والأدب والعلوم "(1).

ويضيف هذا المستبصر:

" ولو تأمّلنا التاريخ على نحو أعمق من المألوف، لرأينا حقّاً أنّ الشيعة أكثر الفرق الإسلاميّة حبّاً للحوار والسلام والتعايش، إذ من المفترض من المظلوم إذا تمكّن من أسباب القوّة أن يعيث فساداً في الأرض، وأن يقيم مجازر ضد العدوّ والصديق لايفرّق في ذلك بين ناقة وجمل، فشأن المظلوم إذا تمكّن من أسباب الانتقام أن لايرحم.

وهذا مالم يفعله الشيعة في مختلف الأطوار التاريخيّة، حيث تمكّنوا من إقامة دول و وجدوا فرصاً وإغراءات جمّة، لكنّهم ثبتوا على المبدأ "(2).

ثمّ يقول إدريس الحسيني:

" وقد أصبح شعاراً مقروءاً ومحفوظاً لدى كلّ الشيعة، بأنّ الإنسان إمّا أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق، وهو من كلام الإمام علي (عليه السلام) لليهودي الذي صاحبه في طريقه إلى الكوفة.

إنّ سيرة الأئمّة وتعاليمهم لشيعتهم، تعتبر تراثاً أخلاقيّاً نادراً في تاريخ البشر، و وسيلة للتعايش والحوار مع كلّ الملل والأديان "(3).

ثم يؤكّد هذا المستبصر قائلاً:

" لم يكن التشيّع يوماً نهجاً في الإرهاب، ولا مأوى للتآمر، ولا فكراً مغذّياً

____________

1- المصدر السابق: 209.

2- المصدر السابق: 211.

3- المصدر السابق: 216.


الصفحة 186
للمراهقة السياسيّة وعنف المجرمين وعبث العابثين "(1).

ويقول ياسين المعيوف البدراني حول هذا الأمر:

" نحن في مواجهة مشكلة كبرى يقف التاريخ أمامها ملجماً وتختفي فيها الحقيقة خلف ركام من الأتربة والأحجار وسيل من الادّعاءات الكاذبة والأقوال الفارغة فتلتوي الطرق الموصولة اليها ولا تعالج قضيّتها بدراسة علميّة ليبدو جوهر المسألة واضحاً ولتظهر الحقيقة كما هي للعيان.

واحدةٌ من كبريّات المشاكل التي عملت على هدم وحدة المسلمين، وهي أنّ الكثير من المؤرّخين أولعوا بذمّ الشيعة ونسبوا اليهم الكثير من الأشياء الباطلة دون تثبّت وتمحيص ودون أيّ وازع ديني أو رادع وجداني "(2).

ويقول التيجاني السماوي حول الأثر الذي يتركه الأسلوب غير الموضوعي في مواجهة التشيّع:

" ولكنّ الباحث المنصف عندما يقف على شيء من هذا التحريف والتزييف يزداد عنهم بعداً ويعرف بلا شك أنّهم لا حجّة لديهم غير التضليل والدسّ وتقليب الحقائق بأي ثمن.

ولقد استأجروا كتّاباً كثيرين وأغدقوا عليهم الأموال كما أغدقوا عليهم الألقاب والشهادات الجامعيّة المزيّفة ليكتبوا لهم ما يريدون من الكتب والمقالات التي تشتم الشيعة وتكفّرهم... "(3).

وعموماً فمن هنا تبلورت حول معتقدات الإماميّة صور كالحة ليس لها أساس من الصحّة حتى فقد الكثير وضوحَ الرؤية إلى مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، والتبست عليهم السبل، واضطربت عندهم الموازين، وأصبح أمر تمييز الحقّ عن الباطل يتطلّب الكثير

____________

1- المصدر السابق: 217.

2- ياسين المعيوف البدراني/ ياليت قومي يعلمونَ: 76.

3- محمد التيجاني السماوي/ ثمّ اهتديت: 149.


الصفحة 187
من الجهد والعناء.

وفي هكذا أجواء، وفي ظلّ هكذا افتراءات أصبح التشيّع نبزاً و وصمة عار لمن ينتمي إليه في معتقده ومسلكه، وأصبح ديدن عامّة الناس أنّها لا تمرّ على ذكر التشيّع إلاّ وتلصق به أوصاف الذم والألقاب المستكرهة.

وبلغ الأمر إلى درجة بحيث غدى الكثير من أهل السنّة لا يرغبون في سماع كلام الشيعة نتيجة تأثّرهم بدعاة السوء.

ولهذا يقول التيجاني السماوي حول حواره مع الأستاذ منعم ـ أحد الأساتذة العراقيّين ـ عندما التقى به قبل استبصاره في الباخرة المصريّة التي كانت تذهب من الإسكندريّة إلى بيروت:

" وإذا بالأستاذ العراقي يبتسم ويقول لي: أنّه هو الآخر شيعي. فاضطربت لهذا النبأ وقلت غير مبال: لو كنت أعلم أنّك شيعي لما تكلّمت معك.

قال: ولماذا؟

قلت: لأنّكم غير مسلمين، فأنتم تعبدون علي بن أبي طالب والمعتدلون منكم يعبدون الله، ولكنّهم لا يؤمنون برسالة النبي محمّد (صلى الله عليه وآله)، ويشتمون جبرائيل ويقولون بأنّه خان الأمانة، فبدلاً من أداء الرسالة إلى علي أدّاها إلى محمّد.

واسترسلت في مثل هذه الأحاديث بينما كان مرافقي يبتسم حيناً ويُحوقل أحياناً.

ولمّا أنهيت كلامي سألني من جديد:

أنت أستاذ تدرّس الطلاّب؟

قلت: نعم.

قال: إذا كان تفكير الأستاذ بهذا الشكل فلا لوم على عامّة الناس الذين لاثقافة لهم "(1).

وأشار إدريس الحسيني إلى هذه الحقيقة قائلاً:

____________

1- محمد التيجاني السماوي/ ثمّ اهتديت: 29.


الصفحة 188

" إنّ الرّافضة ظلّت ولا زالت هي عنوان كل معتصم بولاية الأئمّة الطاهرين من أهل البيت، وكان التشيّع ولا يزال تهمة مسقطة للسمعة.

ففي الماضي المتخلّف كانت تهمة التشيّع تعني الجريمة التي لاحدّ فيها غير الإعدام في دولة خلفاء بني أميّة والعبّاس "(1).

ويقول هذا المستبصر أيضاً:

" فأنا السنّي المنشأ، لم أكن أجد في بيئتنا ما يعرف بالشيعة، تعريفاً حقيقا، وكل مذهب من مذاهب الدنيا، نستطيع الإحاطة به في بيئتنا سوى (الشيعة) فإنّ حصار الوهّابيّة عليهم أقوى من (جدار برلين).

نعم، قد كنّا نعلم أنّ الشيعة أصحاب طريقة غريبة عن كلّ البشر، وأنّ إشكالهم ربما لها ـ أيضاً ـ بعض الخصوصيّات، وأن يكون تصوّر الناس للشيعة على أنّهم أصحاب أذناب البقر - كما أشار آل كاشف الغطاء - ليس مبالغة منه، وحال الأمّة كذلك، لقد تعجب الشامي، وهو يسمع أنّ عليّاً (عليه السلام) قُتل بالمحراب، فقال: (أَوَ عليٌ يُصلّي)؟!

وقد ذكر صاحب العقد الفريد في باب كتاب الياقوتة في العلم والأدب: قال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ:

أخبرني رجل من رؤساء التجّار قال: كان معنا في السفينة شيخ شرس الأخلاق، طويل الإطراق، وكان إذا ذكر له الشيعة غضب وأربد وجهه وروى من حاجبيه.

فقلت له يوماً: يرحمك الله، ماالذي تكرهه من الشيعة، فإنّي رأيتك إذا ذكروا غضبت وقبضت؟

قال: ما أكره منهم إلاّ هذه الشين في أوّل اسمهم، فإنّي لم اجدها قط إلاّ في كلّ شرّ وشؤم وشيطان وشغب وشقاء وشنار وشرر وشَين وشوك وشكوى وشهوة وشتم وشحّ.

قال أبو عثمان: فما ثبت لشيعي بعدها قائمة.

____________

1- إدريس الحسيني/ الخلافة المغتصبة: 12.


الصفحة 189
هكذا كان يفهم اعداء الشيعةِ الشيعةَ. وذلك لأنّهم يجهلون حقيقتهم. وقديماً قال الإمام علي (عليه السلام) (الإنسان عدو ماجهل)!

وإذا كرّسنا واقع التجهيل والتغييب، فلربّما ـ لاسامح الله ـ ورد من يرى في (السين) السنّية: سوء وسم وسؤر وسحاق وسقم وسخط وسبّ وسقط وسخب وسرقة و... و...

وهذا التجهيل امتدّ اليوم ليأخذ أشكالاً مختلفة، كلّها تنظر إلى المسألة الشيعيّة بمنظار أسود! "(1).

ويصف أحمد حسين يعقوب مشاعر صديقه صاحب العقليّة المنفتحة بالنسبة إلى التشيّع:

" قال صديقي: إنّك تعلم إنّني رجل من أهل السنّة، وقد ورثت هذا التصنيف وراثة.

وتعلم أيضاً أنّني رجل منفتح الذهن والعقل، وقد اطّلعت على الخطوط العريضة للفكرين: الرأسمالي التحريري والاشتراكي الشيوعي، وأحطت بنظرية الحكم في الإسلام حسب رأي أهل السنّة.

وتعلم كذلك انّني متسامح وديمقراطي أؤمن بالرأي والرأي المعارض، ويتّسع صدري لتعدّد الآراء، وتعدّد الرّسالات، فيمكنني التعايش مع المسلمين واليهود والنّصارى والمجوس وأتباع الأحزاب الدينيّة والقوميّة وحتى الشيوعيّة، ولا أشعر بالغرابة لهذا التعدّد الهائل في المجتمع نفسه، ولا ينتابني أيّ إحساس بالتعصّب.

وبالرّغم من سعة صدري وديمقراطيّتي وتسامحي إلاّ أنّ مجرّد ذكر كلمة (شيعة) كاف لإثارة استغرابي وحنقي ونفوري، حتى لكأنّني مسكون في (لا شعوري) بكراهيّة الشيعة والتشيّع! "(2).

ويقول إدريس الحسيني حول مشاعره بالنسبة للشيعة عندما كان سنّيّاً:

____________

1- إدريس الحسيني/ لقد شيّعني الحسين: 23ـ24.

2- أحمد حسين يعقوب/ مساحة للحوار من أجل الوفاق ومعرفة الحقيقة: 7.


الصفحة 190
" ما كنت أتصوّر انّ الشيعة مسلمون! فكانت تختلط عندي المسألة الشيعيّة بالمسألة البوذيّة أوالسيخيّة.

والوضع (السنّي) لا يجد حرجاً في أن يملي علينا ذلك، ولا يستحي من الله ولا من التاريخ ليغذّي نزعة التجهيل والتمويه.

انّه كان يكرّس هذه النظرة لدى الأفراد ولا يصحح مغالطاتهم "(1).

ويقول التيجاني السماوي حول هذا الأمر:

" فلا غرابة أن يشتموا كل من تشيّع له ويرموه بكل عار وشنار حتى وصل الأمر بهم أن يقال لأحد يهودي أحبّ إليه من أن يقال له شيعي.

ودأب أتباعهم على ذلك في كل عصر ومصر وأصبح الشيعي مسبّة عند أهل السنّة والجماعة لأنّه يخالفهم في معتقداتهم وخارج عن الجماعة، فهم يقذفونه بما شاؤوا ويرمونه بكلّ التهم وينبزونه بشتى الألقاب، ويخالفونه في كلّ أقواله وأفعاله "(2).

ويقول التيجاني السماوي حول الأسباب الأساسيّة لإنكار أهل السنّة للشيعة:

" فإذا أنكر هؤلاء السنّة على معتقدات الشيعة وأقوالهم فهو لسببين:

أوّلاً: العداء الذي أجّج ناره حكّام بني أميّة بالأكاذيب والدعايات واختلاق الروايات المزوّرة.

وثانياً: لأنّ معتقدات الشيعة تتنافى وما ذهبوا إليه من تأييد الخلفاءوتصحيح أخطائهم واجتهاداتهم مقابل النصوص خصوصاً حكّام بني اميّة وعلى رأسهم معاوية بن أبي سفيان.

ومن هنا يجد الباحث المتتبّع أنّ الخلاف بين الشيعة وأهل السنّة نشأ يوم السّقيفة، وتفاقم، وكل خلاف جاء بعده فهو عيالٌ عليه، وأكبر دليل على ذلك أنّ العقائد التي يشنّع أهل السنّة على إخوانهم من الشيعة، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بموضوع الخلافة

____________

1- إدريس الحسيني/ لقد شيّعني الحسين: 58.

2- محمّد التيجاني السماوي/ مع الصادقين: 159.


الصفحة 191
وتتفرّع منه، كعدد الأئمّة والنّص على الإمام، والعصمة، وعلم الأئمة، والبداء والتقيّة والمهدي المنتظر وغير ذلك.

ونحن إذا بحثنا في أقوال الطرفين مجرّدين عن العاطفة، فسوف لانجد بُعداً شاسعاً بين معتقداتهم، ولا نجد مبرّراً لهذا التهويل وهذا التشنيع، لأنّك عندما تقرأ كتب السنّة الذين يشتمون الشيعة يخيّل اليك بأنّ الشيعة ناقضوا الإسلام وخالفوه في مبادئه وتشريعه، وابتدعوا ديناً آخر.

بينما يجد الباحث المنصف في كلّ عقائد الشيعة أصلاً ثابتاً في القرآن والسنّة وحتى في كتب من يخالفهم في تلك العقائد ويشنّع بها عليهم "(1).

ولهذا يقول ياسين المعيوف البدراني:

" انّ مهمّة من يكتب عن الشيعة وحقيقتها الشرعيّة هي أشد صعوبةً من مهمة الذي يكتب عن أيّ طائفة أخرى من طوائف المسلمين، وذلك لوجود عوامل وعقبات تحتاج إلى دقّة في المعرفة ثمّ إلى إحاطة بالظروف التي أفرزتها تلك العوامل..

إنّ موقف الشيعة وأتباع أهل البيت موقفاً دينيّاً صحيحاً صلباً أمام السلطان ومؤازريه منذ صدر الإسلام إلى يومنا هذا، وهو الدافع الوحيد إلى إلصاق التهم المختلفة بهم، فقالوا فيهم عيوباً أو شبهات هم منها براء "(2).

ويضيف هذا المستبصر قائلاً:

" وقد سمعنا من العلماء الكبار عند إخواننا السنّة أنّ الشيعة أهل خرافات وخلافات وبدع وتعصّب; وهذا ما غرسوه باطلاً في عقول الأجيال المسلمة متّخذين من الشيعة موقفاً معادياً بغير الحقّ، وانّ إيضاح هذه القضيّة يحتاج إلى نظرة شاملة مرنة تتحرّك مع الضمير الوجداني وتتحرى الحقيقة "(3).

____________

1- المصدر السابق: 162ـ163.

2- ياسين المعيوف البدراني/ ياليت قومي يعلمون: 95.

3- المصدر السابق.


الصفحة 192

موقف علماء الشيعة إزاء هذه الشبهات:

إنّ علماء ومفكّري الشيعة أدركوا على مرّ العصور عظمة المسؤوليّة الملقاة على عاتقهم وضخامة الجهد الذي ينبغي بذله من أجل إعادة الصورة الحقيقيّة للتشيّع في أذهان النّاس.

فلهذا بذل الكثير منهم قصارى جهدهم في هذا المجال، وكان لجملة منهم مواقف جبّارة إزاء الحملات المسعورة التي شنّها المخالفون على التشيّع، بحيث أنّهم جعلوا أنفسهم درعاً حصيناً لحماية تعاليم عترة الرّسول (صلى الله عليه وآله) من أجل صيانتها من كلّ ما يشينها.

وقد قام هؤلاء العلماء خلال بحوثهم العلميّة الرّصينة وكتاباتهم المنطقيّة الشاملة بدرء الشبهات ودحض الافتراءات وتفنيد الادّعاءات وتصحيح الأوهام وإماطة اللثام عن المفاهيم الخاطئة التي كوّنتها الظروف السياسيّة وعمّقتها الأقلام والألسن المأجورة والاتّجاهات المتعصّبة.

وقد حاول علماء الشيعة أن يبيّنوا عقائدهم للجميع والإذاعة بها، فألّفوا الكتب وحاولوا نشرها إلى جميع ربوع العالم كي لا ينسب اليهم ما لايقولون ولا يعتقدون به.

واجتهد هؤلاء العلماء والمفكّرين أن يشبعوا ذلك استدلالاً وبرهاناً من الكتاب والسنّة بنصوص لاتقبل الشك والتأويل، ليستند اليها طلاّب الحقيقة الذين يرغبون في التعرّف على معتقدات الشيعة.

وإلاّ فليس من الإنصاف أن يحكم الإنسان على مذهب بما يتلقّاه من أفواه خصومه أو ما يقرأه في كتب مخالفيه، ولا سيّما إذا كان ذلك المحكوم مذهباً حاضراً في الساحة ومجاهراً بمبادئه وأفكاره ومعتقداته ومبينّاً لها في بطون كتبه المنتشرة في أكثر أنحاء العالم، ولهذا يقول مروان خليفات:

" من أراد أن يقوّم جماعة من خلال أقوال خصومهم، فإنّه حتماً سيخفق في


الصفحة 193
نتائجه، وهذا هو الحال لأكثر مَن درسوا التشيّع "(1).

ومن هنا تكون النتيجة التي يصل اليها الباحث حول التشيّع إذا تلقّى معلوماته من خصومهم مختلفةً عمّا إذا تعرّف على التشيّع من الشيعة أنفسهم.

وهذا ما حدث مع التيجاني السماوي حيث أنّه كان يكره الشيعة نتيجة تعرّفه عليهم من قبل مخالفيهم، ولكنّه بمجرّد الالتقاء بهم في العراق ونبذه للتعصّب، عرف أنّ الواقع على خلاف ما صوّره له البعض.

ويقول التيجاني السماوي حول ما خطر بباله في تلك الفترة حول الإشاعات التي كان متأثّراً بها:

" ولكن كيف أصدّق هذه الإشاعات وقد رأيت بعيني ما رأيت وسمعت بأذني ما سمعت وها قد مضى على وجودي بينهم أكثر من أسبوع ولم أرَ منهم ولم أسمع إلاّ الكلام المنطقي الذي يدخل العقول بدون استئذان، بل قد استهوتني عباداتهم وصلاتهم ودعاؤهم وأخلاقهم واحترامهم لعلمائهم حتى تمنّيت أن أكون مثلهم "(2).

ومن هذا المنطلق ينبغي لكافّة الباحثين الذين يودّون التعرّف على مذهب أهل البيت (عليهم السلام) أن يقوموا بمعرفة التشيّع من كتبهم لا من كتب خصومهم.

ولا عذر لأحد في عالمنا المعاصر بأن يقول بأنّه غير قادر على معرفة التشيّع، لأنّ القدماء الذين عاشوا في ظلّ السلطات التي سلّت سيفها على الشيعة لهم أن يعتذروا بجهلهم في هذا المجال، ولكنّ أبناء اليوم لا يحقّ لهم هذا الاعتذار، لأنّ العصر الذي نحن فيه هو عصر قد أزيلت فيه الكثير من الحجب عن أوجه الحقائق بفضل ارتقاء التقنيّة في إيصال المعلومات.

____________

1- مروان خليفات/ وركبت السفينة: 614.

2- محمّد التيجاني السماوي/ ثمّ اهتديت: 41.


الصفحة 194

موانع الاستبصار:

إنّ العقيدة التي تتبلور في نفس الإنسان في مرحلة المراهقة تبقى عقيدة غير ناضجة ومحتاجة للوعي الذي يستمد وجوده من البحث والتحليل والاستقراء.

وتبقى هكذا عقيدة متزلزلة وغير محكمة تتلاعب بها الانفعالات النفسيّة وتؤثّر عليها الأجواء المحيطة بكلّ سهولة حتى يترعرع الفرد، ويصل إلى مرحلة النضج العقلي، فينمو وعيه وتتبلور في ذهنه أسئلة تبحث عن إجابات شافية وتعتريه شكوك في المعتقد الذي قد ورثه من البيئة التي عاش في كنفها، ومن هنا يتوجّه الفرد إلى البحث عن الحقيقة.

وهذا ما قام به المستبصرون حيث أنّهم توجّهوا من منطلق الوصول إلى العقيدة الواعية إلى البحث، وحاولوا من خلال التحليل الشمولي أن يتعرّفوا على معتقدات باقي المذاهب، ليتمكّنوا من إثراء رصيدهم المعرفي عن هذا الطريق.

ولكنّ المشكلة تكمن في أنّ الكثير من أهل السنّة ـ كما يشير المستبصرون إلى ذلك ـ يصلون خلال بحوثهم إلى أحقّية أتباع مذهب أهل البيت (عليهم السلام)و و جوب التمسّك بالثقلين كتاب الله تعالى وعترة الرّسول (صلى الله عليه وآله)، لكنّهم لا يجدون في ذلك الكفاية في تغيير انتمائهم المذهبي، لأنّهم يواجهون في هذه الحالة الكثير من العقبات التي تمنعهم من التحوّل المذهبي، ويشعرون أنّهم لايستطيعون اجتياز مرحلة اعتناق الحقيقة من دون تخطّي هذه العقبات، والتي منها:


الصفحة 195

المانع الأوّل:

التقليد الأعمى

يستصعب الكثير من الناس مخالفة المفاهيم التي ورثوها من آبائهم وأسلافهم ولو تبيّن لهم الحق واضحاً كالشمس في رابعة النّهار.

وليس ذلك إلاّ نتيجة الوقوع في أسر التقليد الأعمى في الانتماء المذهبي، لأنّ التقليد في العقائد يدفع الإنسان إلى تقديس الموروث، ويخلق العديد من الحواجز النفسيّة التي تمنع الباحث من النظر في أدلة انتمائه.

ولكنّ الواقع يفرض أن يتحدّى الباحث لجج الموروث، وأن يكسّر أغلاله، وأن يتمرّد على سننه في ضوء البراهين الساطعة والحجج القاطعة.

وعلى الباحث أن يعي بأنّ الآباء لو جانبوا الصواب أو اجتهدوا فأخطؤوا، وتبيّن لنا خطؤهم بالدليل والبرهان، فلا داعي لاتّباع نهجهم والسير على خطاهم، بل علينا أن نتّبع الحق ولو كان ذلك مخالفاً لأفكارنا ومعتقداتنا الموروثة.

لأن الإنسان المقيّد بالعادات البالية والمتمسّك ـ من دون بصيرة ـ بما جاء به الآباء يكون صاحب فكر خامل ومستعبد لا يتمكّن من إعادة مجراه الطبيعي إلاّ إذا أطلق نفسه من سلاسل الاستعباد وتحرّر من المحاكاة العمياء وتوجّه بنفسه إلى البحث والاستطلاع والدراسة وطلب العلم والمعرفة متّبعاً أفضل أساليب المنهج العلمي في تلقّي المعرفة.

كما أنّ الذين يعيشون في أسر التقليد الأعمى في أمر العقيدة، والذين يتلقّون العقيدة من موروث الآباء والأجداد بلا تدقيق ولا تمحيص، فإنّهم يحرمون عقولهم من الفهم، لأنّهم يفقدون بالتدريج القدرة على البحث والتساؤل والتمحيص، ويتعوّدون على الاقتباس من الغير دون عناء وفحص أو تدقيق، فلهذا تتضاءل قدرتهم في هذا المجال حتى تغدوا أنفسهم مهيّئة ومستعدّة للميل مع كلّ ريح واتّباع كل ناعق في بيداء الضلالة.


الصفحة 196
ولهذا شنّ القرآن الكريم هجوماً عنيفاً على الذين يتشبّثون بالقيم والآراء والعقائد الموروثة رغم مخالفتها للعقل ومناقضتها للفطرة.

فقال تعالى:

( وإذا قيلَ لهُم اتّبعوُا ما أنزلَ اللهُ قالوُا بل نتَّبعُ ما ألفَينَاعليه آباءَنَا أَوَ لَو كان آباؤُهُم لا يَعقِلوُنَ شيئاً ولا يهتدونَ)(1).

( وإذا قيلَ لهُم تعَالوا إلى ما أَنزَلَ اللهُ وإلى الرَّسول قالوا حسبُنَا ما وَجَدنَا عليه آباءَنَا أَوَ لَو كان آباءُهُم لا يَعلَمونَ شيئاً ولا يَهتَدونَ)(2).

( بَل قالُوا إنّا وجَدنَا آباءَنَا على أمّة وإنّا على آثارِهِم مُهتَدوُنَ * وكذلك ما أَرسَلنَا من قَبلِك في قَريَة من نَذير إلاّ قالَ مُترَفوهَا إنّا وجَدنَا آباءَنَا على أمّة وإنا على آثارِهِم مُقتَدونَ)(3).

وبيّن القرآن في مواضع عديدة بأنّ التقليد الأعمى للآباء كان من أهمّ أسباب إعراض الأمم السابقة عن اتّباع الحق، وأنّه كان من أكبر العوائق التي منعت الأمم من الاستجابة لوحي الله تعالى، وقد ذكر الباري عزّوجل أنّ أغلبيّة الذين لم يذعنوا للأنبياء كانت ذريعتهم في ذلك التمسّك بموروث الآباء.

وقد ورد في القرآن عن لسان هؤلاء أنّهم قالوا للانبياء:

( قالوا حسبُنَا ما وَجَدنَا عليه آباءَنَا)(4).

( قالوا أجِئتَنَا لتَلفِتَنَا عمَّا وجَدنَا عليه آباءَنا)(5).

____________

1- البقرة: 170.

2- المائدة: 104.

3- الزحرف: 22ـ23.

4- المائدة: 104.

5- يونس: 78.


الصفحة 197
( مَا هذا إلاّ رجلٌ يريدُ أن يصدّكُم عمّا كان يعبُدُ آباؤُكُم)(1).

( أتنهانَا أنْ نعبُدَ ما يعبُدُ آباؤُنَا)(2).

( إنّا وجدنَا آباءَنَا على أمّة وإنّا على آثارهِم مُقتَدُون)(3).

وغير ذلك من الآيات المشيرة إلى هذا المعنى.

ولهذا كان الأنبياء (عليهم السلام) يعاتبون الذين يحملون هذا النمط من التفكير، وقد ورد في قول أحد الأنبياء لقومه انّه قال لهم:

( أوَ لَو جِئتُكُم بأَهدى مِمّا وَجَدتم عليه آباءَكُم)(4).

وقال تعالى:

( أوَ لَو كان آباؤُهُم لا يَعقِلونَ شيئاً ولا يَهتَدوُنَ)(5).

فلهذا ينبغي أن يعي الباحث عن الحقيقة بأنّ أسلافه وإن كانوا شخصيّات معروفة ومرموقة، فانّ شهرتهم لا تصلح أن تكون دليلاً على سلامة رأيهم ما لم تتظافر الأدلّة الشافية على صحّته.

ويشير معتصم سيّد أحمد إلى هذه الحقيقة قائلاً:

" إنّ النظرة القدسيّة للعلماء السابقين والعظماء تدعو الإنسان إلى تقليدهم مطلقاً والاتّكال على أفكارهم، فالاستسلام لهذا التقليد مدعاة للانحراف عن الحق، فلم يجعل الله عقولهم حجّة علينا، وإنّما عقل كل انسان حجّة عليه، فلا يمنعنا احترامنا لهم من مناقشة أفكارهم والتدقيق فيها حتى لاندخل في قوله تعالى: ( وقالُوا ربّنا إنّا أطَعنَا

____________

1- سبأ: 43.

2- هود: 62.

3- الزخرف: 22.

4- الزخرف: 24.

5- البقرة: 170.


الصفحة 198
ساداتَنا وكبراءَنا فأضلّونَا السّبيلا)(1)"(2).

إذن، من حقّ الأبناء أن يطلبوا من آبائهم الدليل فيما يذهبون إليه، لأنّ التقليد لمجرّد حسن الظنّ بالآخرين بلا بيّنة ولا دليل ولا حجّة، يدفع الإنسان إلى الورود في موارد الهلكة، و الوقوع في مهاوي الردى، ويقود صاحبه إلى مسالك الغواية والضلال، ويصدّه عن اتّباع النور والهدى، فتكون نتيجته التخبّط في الدنيا والخسران والهلاك في الآخرة.

والجدير بالذكر أنّ الدعوة إلى تمحيص الموروث لا يعني ضرب خط البطلان على عقائد الآباء بصورة مطلقة، بل المراد هو أن يبادر الإنسان إلى حركة تصحيحيّة من أجل الوصول إلى قناعة عقليّة تجاه أصول دينه ومعتقداته المذهبيّة، وليكون الإنسان على بصيرة من أمر دينه، ولئلا يقع في الأخطاء التي وقع فيها من سبقه.

لأنّ التابع الذي يقلّد في العقائد من دون بصيرة سيقع تلقائيّاً في كل الأخطاء التي وقع فيها من قبله، ولا معذرة له عند الله عزّوجل، لأنّ العقائد هي من الشؤون التي لا يصح التقليد فيها.

ويشير ياسين المعيوف البدراني إلى هذه الحقيقة قائلاً:

" الإسلام لا يرى التقليد والتعبّد كافياً في ممارسة الأصول العقائديّة... بل إنّه يوجب على كل فرد البحث على صحّة هذه العقائد وبصورة مستقلّة بعيدة عن العاطفة والتقليد الأعمى "(3).

ولهذا أخبر الباري عزّوجل عن حسرة المقلّدين في الأمور العقائديّة يوم القيامة قائلاً:

( يوم تُقلّبُ وجوهُهُم في النّار يقوُلوُنَ يَا لَيتَنا أطَعنَا اللهَ وأطَعنا الرّسُولا * وقالوُا

____________

1- معتصم سيّد أحمد/ الحقيقة الضائعة: 32.

2- الأحزاب: 7 (صلى الله عليه وآله).

3- ياسين المعيوف البدراني/ ياليت قومي يعلمون: 48.


الصفحة 199
ربّنا إنّا أطَعنَا ساداتَنَا وكُبراءَنَا فأضلّونا السّبيلا * ربّنا آتِهِم ضِعفَينِ من العَذَابِ والعنهُم لعناً كبيراً)(1).

وقال تعالى أيضاً واصفاً حال هؤلاء يوم القيامة:

( ويومَ يعضُّ الظالمُ على يَدَيه ويقولُ يالَيتَني اتّخذْتُ مع الرَّسُولَ سبيلاً * يا وَيلَتي لَيتَني لم أتّخِذ فُلاناً خَليلاً * لَقَد أضلّني عَن الذّكرِ بعد إذ جَاءَني وكان الشيطانُ للإنسَانِ خذولاً)(2).

وقال تعالى:

( إذ تبرّأ الّذين اتُّبِعوا من الذين اتَّبعوا وَوَأَوا العذابَ وتقطَّعت بِهِم الأسباب )(3) وقال تعالى:

( وقالَ الّذين اتّبَعوا لو أنّ لنَا كرّةً فنَتَبرّأ منهم كما تبرّأُوا منّا كذلك يُريهُم اللهُ أعمالَهُم حسرات عَلَيهم وما هم بخارجينَ من النّار)(4).

ويقول طارق زين العابدين حول عاقبة من سكنت نفوسهم للموروث من العقائد:

" وما يجدر الإشارة إليه أنّ الذين يُفجعون بالمصير السّيء والنهاية المشؤومة في تلك الحياة الأخرى هم الذين سكنت نفوسهم للموروث من العقائد، ظنّاً منهم أنّه الحقّ، وتلذّذت أنفسهم بنشوة الغفلة وهدأت النفس لها، ولِما أصابوه من هذه الحياة.

وهؤلاء إمّا أنّهم قد اطلقوا للنفس زمامها وحبلها على غاربها بالتهاون والتساهل في أمر الدين ونسيان الحياة الآخرة وعدم مراعاة أمرها بتصحيح اعتقاد أو أداء تكليف، أو أنّهم ركنوا إلى الأوهام في اعتقادهم وغاصوا في بحار التوهّم بحثاً عن

____________

1- الأحزاب: 66ـ68.

2- الفرقان: 27ـ29.

3- البقرة: 166.

4- البقرة: 167.


الصفحة 200
اللؤلؤ، دون ان يتفطّنوا إلى أنّ اعتقاداً كهذا لا وجود له حتى يأتي باللؤلؤ النفيس، فليس الوهم إلاّ عدمٌ محض لا يوجد إلاّ في الخيال.

أو أنّ هؤلاء قد استلقَوا في أحضان الظن في أمر العقيدة، وذاقوا بهذا يسيراً من مذاق الحقيقة بعد اختلاطها بقدر جمّ من الباطل، وهم في غمرة هذا المذاق الحلو الذي يتلمّظونه بين كمّ من المرارة ركنوا المذاق الباطل الذي خلطوه به ظنّاً منهم انّ للحق مذاقاً كهذا، إذ أنّهم خلطوا عملاً صالحاً بآخر سيّئاً ( إن يتّبعون إلاّ الظنَّ وإنّ الظنَّ لا يُغني من الحقّ شيئاً)(1).

والذين يمحصّون اعتقادهم الدّيني ليبلغ حدّ اليقين أو قدراً من اليقين تضعُف نسبة الشك والظنّ فيه بصورة تجعل مقدار الشك لا يؤدّي وجوده إلى زوال الطمأنينة في الاعتقاد، فهؤلاء أقرب من غيرهم إلى النهج الذي رسمه النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) لكي يسير عليه الناس بل هؤلاء لا يعجزون عن التماس الأدلّة والحجج القويّة على اعتقادهم هذا من حيث موافقته لآيات القرآن وأحاديث النبي (صلى الله عليه وآله) ومسلّمات العقل وفطريّاته، فهم في حقيقة الأمر يأنسون في اعتقادهم الممحّص هذا إلى التفسير السليم لنقاط الخلاف بينهم وبين الفرق الأخرى، تفسيراً يخلو من التكلّف الذي لا يُرتضى أبداً في مثل هذه المواقف، بل يقفون على أعتاب التفسير الحكيم لهذه النقاط الخلافيّة دون أن تتلجج النفوس الحرّة في قبوله ودون أن يخالفه القرآن أو الحديث أو مقتضيات العقل المتوازنة.

فهكذا يجب أن يكون الاعتقاد في المسائل الدينيّة الأصليّة، ولا يتأتّى ذلك ببذل الهِمَم في البحث والتحقيق... والتنائي عن العصبيّة والجاهليّة والتقليد الأعمى "(2).

وخلاصة المطلب هو أن الباحث الذي يودّ أن تأخذ الأدلّة العلميّة بيده فتنتشله من

____________

1- النجم: 28.

2- طارق زين العابدين/ دعوة إلى سبيل المؤمنين: 17ـ18.


الصفحة 201
فهمه الخاطىء ومبادئه الغير صحيحة، عليه أن يحرّر عقله من التقليد ليكون واقعيّاً في البحث عن الحقّ.

كما ينبغي لهكذا باحث أن يدرس الأمور بعقليّة نيّرة وبعيدة عن أيّة سلطة تمنعه من الاستقلال في النظر، ليصل إلى حقائق ناصعة ومعارف فاضلة وقناعات ناتجة من بحوث ودراسات واعية.

ولهذا يقول إدريس الحسيني:

" كان لديّ أخ أصغر منّي، يسألني باستمرار عن التشيّع، وكنت أقول له: أنت تعرف تقرأ، فعليك بالبحث الشخصي، وإذا أوقفك شيءٌ، ساعدتك.. فأنا أضجر من أن أورّث للآخرين أفكاراً جاهزة. ولعلّه اليوم وصل! "(1).

ويقول هشام آل قطيط في هذا المجال:

" والذي يريد أن يصل إلى الحق لابدّ من الوصول وإن طال الطريق.. لكن المشكلة.. أين تكمن؟.. تكمن في فرار الشخص الباحث عن الحقيقة من عبادة السادة والكبراء وتقديس الشخصيّات على حساب الدين.. وعن تقليد الأجداد والآباء.. ويتجرّد من كل موروث فكري، فإن تجرّد من كل ماذكرت وتمسك بأدلّة القرآن والسنّة النبويّة والآثار الصحيحة المرويّة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لابدّ أن يدرك الحق وينال مبتغاه الذي هو فيه منى كل طالب ورغبة كل راغب "(2).

____________

1- إدريس الحسيني/ لقد شيّعني الحسين: 3 (صلى الله عليه وآله).

2- هشام آل قطيط/ ومن الحوار اكتشفت الحقيقة: 322.


الصفحة 202

المانع الثاني:

معرفة الحق بالرجال

من الموانع الأخرى التي تشكّل بالنسبة إلى الباحث السنّي عائقاً مهمّاً في تخطّي الانتماء المذهبي السابق بعد الوصول إلى القناعة التامّة بأحقّية مذهب أهل البيت (عليهم السلام)هو عدم الجرأة في ردّ أقوال الشخصيّات التي أضفى عليها المجتمع هالة من العظمة والقداسة بحيث غدت أصناماً لا يجرأ أحد النيل من مكانتها.

ويقول صالح الورداني حول الوقوع في أسر قداسة الرجال ومعرفة الحق بالرجال لا معرفة الحق بالحق:

" وهذه هي متاهة الأحبار والرهبان التي أضاعت اليهود والنّصارى من قبل، وقد وقع فيها المسلمون اليوم بتبنّيهم أقوال الرجال بدلاً من تبنّيهم النصوص "(1).

ويقول صالح الورداني حول هذا الأمر أيضاً:

" والبحث عن الحق يوجب تتبّع النص، لا تتبّع أقوال الرجال..

تتبّع النص سوف يقود إلى الحقّ..

وتتبّع الرجال سوف يجعل هناك وسائط بين الباحث والنصّ. وسوف يجعل الباحث رهين الرجال لا رهين النصّ..

إنّ النصّ هو المعيار وهو مناط التكليف.. والمسؤوليّة إنّما تقع على كاهل المسلم بالنصّ.. وحسابه يقوم على النصّ.. ونجاته من النار كذلك..

والنص هنا يقصد به النصّ القرآني أو النبوي الصحيح الموافق للقرآن والعقل فيما يتعلّق بمجال الغيبيّات والاتباع والسياسة والأخلاق وأصول الدين والولاء والبراءة، وخلاف ذلك غير النصوص المتعلّقة بالأحكام فهذه محل اجتهاد وتتباين أمامها

____________

1- صالح الورداني/ الخدعة: 44.


الصفحة 203
الأفهام ولها أهلها ممن تتوافر فيهم القدرات العلميّة وشروط الاجتهاد.. "(1).

ويضيف صالح الورداني في هذا المجال قائلاً:

" ولو تبنّى المسلمون قضيّة الفصل بين النصوص وأقوال الرجال معتبرين أنّ النصوص هي الأصل وأنّ الاجتهاد حادث عليها مع جميع أطروحات التراث لأمكن جلاء الحقيقة وإظهار الدين في صورته النقيّة الصافية، إلاّ أن هذه القاعدة لايمكن تطبيقها والرجال فقهاء وساسة متربصون بالنصوص وبكل محاولة لتحريرها من قيودهم "(2).

ويؤكّد صالح الورداني على هذا الأمر في كتاب آخر له، قائلاً:

" وعلى المسلمين أن يتحرّروا من عبادة الرجال.

وعليهم أن يتحرّروا من وهم قداسة الماضي.

عليهم أن يجعلوا النصوص فوق الرجال، وأن يتخذوها مقياساً ونبراساً لهم على طريق تصحيح الفكر الإسلامي وقراءة أحداث التاريخ "(3).

ويبيّن هذا المستبصر هذه الحقيقة بصورة مفصّلة قائلاً:

" وأعترف أنّ البحث... يتطلب شرطاً أساسيّاً... وهو التجرّد من قدسية الأشخاص، أي وجود الشخصيّة الفكريّة المستقلّة المتحرّرة من عبادة الرجال.

فقد كنت أغوص في التراث وأنا أحمل بين جنبي رهبة وقدسيّة لرموز السلف بداية من الصحابة ونهاية بالفقهاء.

لكنّني عندما تحرّرت من وهم القداسة - بفضل الله وعونه ـ وجدت الطريق مفتوحاً أمامي للوصول إلى حقيقة الإسلام.

وأكتشفت أن هذا الدّين قد تحققت فيه سنّة الأوّلين التي تتمثل في طغيان الرجال

____________

1- صالح الورداني/ الخدعة: 45.

2- صالح الورداني/ الخدعة: 44.

3- صالح الورداني/ السيف والسياسة: 203.


الصفحة 204
على النصوص من بعد الرّسول بحيث تصح الأمّة تتلقى دينها من الرجال لامن النصوص التي ورثها الرسول، ممّا يؤدّي في النهاية إلى ضياع حقيقة الإسلام كما ضاعت من قبل حقيقة دين موسى وعيسى (عليهما السلام) على يد أحبار ورهبان بني اسرائيل الذين قال الله تعالى فيهم: ( اتّخذوُا أحبَارَهُم ورُهبَانَهم أربَاباً من دونِ اللهِ)(1).

عندما بدأت أتتبّع النصوص وأحداث التاريخ بمعزل عن الرجال، أو بمعنى أدق عندما وضعت النصوص فوق الرجال عرفت الحقّ "(2).

ويضيف صالح الورداني:

" وإن كان الفقهاء قد اجمعوا أنّ الرجال يُعرفون بالحق، إلاّ أنّ هذه القاعدة في الحقيقة لا وجود لها من واقعهم وتراثهم.

فهم قد رفعوها شعاراً لهم في الظاهر وفي الحقيقة طبّقوا عكسها.

ولقد كان أمر التفريق بين النصّ والرجال ومحاولة فهم النصّ بمعزل عنهم هو الذي أوصلني لحقيقة الإسلام. وما كان لي أنْ أصل لهذه الحقيقة لو التزمت باعتماد أقوالهم وتفسيراتهم للنصوص. هذه الأقوال والتفسيرات التي تفوح منها رائحة السياسة في الغالب.

لقد اكتشفت الحقيقة وخرجت من دائرة الوهم إلى دائرة الحقيقة عندما تتبّعت مسيرة الإسلام من بعد الرسول (صلى الله عليه وآله)وأعدت قراءته من جديد.

واستراحت نفسي من بعد سنوات طويلة من التيه والحيرة عندما وقع بصري على الطرف المغيب من تأريخ الإسلام و واقع المسلمين وأستقرّت قدماي على الطريق.

وتبدّدت الغشاوة فور أن سطع أمامي نور آل البيت وظهرت لي معالم الصراط المستقيم وتيقنت أنّني على طريق الإسلام الصحيح "(3).

____________

1- التوبة: 31.

2- صالح الورداني/ الخدعة: 4ـ5.

3- المصدر السابق.


الصفحة 205
ويقول إدريس الحسيني في هذا المجال:

" أنّني أدركت منذ البداية ـ أيضاً ـ أن الحقيقة أغلى وأنفس من الرجال دون استثناء، وأنّه لابدّ لي أن أوطّن نفسي وأهيّئها للطوارىء في معترك التنقيب عن الحقائق الضائعة والفضائح الغابرة.

كنت واضعاً نصب عيني احتمال الفراق، مع مجموعة شخصيّات كانوا يجرون منّي مجرى الدم، وكنت واعياً منذ البداية، ومُدركاً لأهداف الرسالة الإسلاميّة التي جاءت لتعلّم الناس قيَم السماء، لا قيَم الأرض..

فماذا تكون قيمة أبي هريرة ـ مثلاً ـ في ميزان الدّين، حتى نعطّل البحث ـ بسبب التقديس ـ عن الحقيقة التاريخيّة، وفي سبيل التغطية على فضائحها نلجأ لتزوير الحقائق كلّها، وهل (أبو هريرة) أصل من أصول العقيدة حتى يحرم عليّ محاسبته تأريخيّاً والاعتراف بأفعاله القباح! أو ليس من الإفك أن نسكت عن فضائحه، فتختلط بحقائق الدين، ليكون الإسلام ضحيّة كل تلك المفاسد.. "(1).

ويقول هشام آل قطيط في هذا الصدد:

" أدعوا جميع المسلمين إلى أن يتحرّروا من القيود المذهبيّة والخروج على سلطان الماضي الذي كبّل العقليّة الإسلاميّة و وضعها على رفوف الإهمال وكأن حياتنا خلقت لتقليد كل ما هو مقدّس عند الأقدمين وإن كان خارجاً على الإسلام "(2).

ويقول سعيد السامرائي في هذا المجال:

" إنّ هناك ـ عزيزي القارىء الكريم ـ طريقان لمعرفة الحق، أوّلهما يوصل إليه والآخر قد يوهم بذلك.

أما الأول فهو معرفته بعد إعمال الفكر وتدقيق النظر.

____________

1- إدريس الحسيني/ لقد شيّعني الحسين: 19ـ20.

2- هشام آل قطيط/ حوار ومناقشة كتاب عائشة أمّ المؤمنين للدكتور البوطي: 339.


الصفحة 206

وأما الثاني فهو بتقليد من تعتقد بعدالتهم.

وهذا الثاني قد يوصلك إلى الحق إن كان من تتبّع آراءهم وأحوالهم وأفعالهم على الحق، وقد يضلّك إن كانوا غير ذلك، إنّك ستظل على اعتقادك بأنّك على الحق وهو التوهم، ويكون وصفك إذ ذاك على ما جاء به التنزيل: ( يَحسَبوُن أنّهُم يُحسِبُونَ صُنعَاً)(1)( إلاّ أنّهم هُم المُفسِدوُنَ ولكنْ لايَشعرُونَ)(2).

أمّا الأول فهو الذي وصفه عليٌ أمير المؤمنين عندما أجاب السائل عن الطائفة المحقّة يوم الجمل، فلم يقل الإمام (أنا على الحق)، ولو قالها لكان صادقاً، بل قال:

(إعرف الحقَّ تعرِفُ أهلَه)"(3).

سبل التحرّر من التقليد وتقديس الرجال:

من أهم العوامل التي يتمكّن بها الفرد أن يتحرّر من التبعيّة العمياء لهذا وذاك هي إعمال العقل.

ويقول محمد علي المتوكّل حول العقل أنّه:

" ذلك النور الإلهي الذي يدل صاحبه على الحقّ مالم تحجبه الأهواء والشهوات، وهو حجّة الله على الإنسان، به عرف الله وبه يصدّق الأنبياء، وبه يميز الحق عن الباطل، ولا دين لمن لاعقل له.

لقد سعت المناهج السلفيّة إلى سلب الإنسان جوهرته التي بها يبصر، ونوره الذي به يرى، لتجعله بعد ذلك أسير التقليد والتقديس لرجال السلف، لاكلّهم ولكن أولئك الذين ثبتت عداوتهم لأهل البيت، وخلص ولاؤهم لكل من ناصب العترة الطاهرة العداء "(4).

____________

1- الكهف:104.

2- البقرة: 11.

3- سعيد السامرّائي/ حجج النهج: 6.

4- محمد علي المتوكّل/ ودخلنا التشيّع سجّداً: 9.


الصفحة 207
ويقول معتصم سيّد احمد في هذا المجال:

" فقد أعطى الله سبحانه الإنسان نور العقل والعلم، وجعل أمر الاستفادة منه بيد الإنسان، فمن أهمل ذلك النور ولم يشعله لكشف الواقع، سيظل يعيش في ركام من الجهل والخرافات والضلال، بخلاف الذي يستثمر عقله وينمّيه.

والفرق بين الإثنين يرجع إلى سبب واحد، وهو الثقة وعدمها، فالذي يشعر بالضعف والانهزام لا يستفيد من عقله، أما الذي يثق بالله تعالى وبما اعطاه من نور وعقل يصل إلى قمّة المعرفة والتحضر.

فلذلك إنّ كثيراً ممن اعترض طريقي في البحث كان يستخدم هذا الأسلوب لضعضعة ثقتي، فيقول:

من أين لك القدرة في بحث هذه الأمور؟! وإنّ كبار علمائنا لم يتوصّلوا إلى ما توصّلت إليه فما هي قيمتك أمام جهابذة العلماء؟!.. وغير ذلك من أساليب تحطيم القدرات.

ولم يكونوا يريدون منّي أكثر من أنْ أخوض فيما يخوضون، وأنعق كما ينعقون، قال تعالى: ( قَالوُا حَسبُنَا مَا وَجَدنَا عليه آباءَنَا)(1)"(2).

ويقول صالح الورداني حول تجربته التي أوصلته إلى معرفة الحق:

" كنت أعطي للعقل مكانه وأتيح له القيام بدوره، فمن ثمّ كنت أتميّز بالمرونة والتجاوب مع المتغيرات والارتباط بالواقع.. "(3).

ويقول إدريس الحسيني حول أهمية العقل:

" وعندما نفهم الإسلام بعيداً عن التوجّه الإيديولوجي السلفي نفهم أنّ الهدف منه هو إثارة عقل الإنسان لكي يمارس حياته بوعي، وليقوم بدوره الديني على يقين "(4).

____________

1- المائدة: 104.

2- معتصم سيّد احمد/ الحقيقة الضائعة: 30.

3- صالح الورداني/ الخدعة: 14.

4- إدريس الحسيني/ لقد شيّعني الحسين: 349.


الصفحة 208
ويقول صالح الورداني حول تجربة بحثه بعد أن أعمل عقله في البحوث الدينيّة المرتبطة بقضايا الدين:

" النصوص المتعلقة بقضايا الدعوة ومستقبل الدين وأصوله والولاء والبراء وتحديد مصدر التلقي والقدوة والسلوك الإنساني والنجاة من النار لا يجوز التقليد فيها، ومن حقّ المسلمين أن يعملوا فيها عقولهم من أجل الوصول إلى الحقّ..

وما ضلت الأمة إلاّ بتعطيل العقل وتسليم زمامها لفقهاء الماضي وفقهاء الحكومات من المعاصرين لتتلقى منهم دينها دون أن تميّز بين ما يجب فيه التقليد وما لا يجب فيه التقليد..

ولو أتيحت الفرصة للمسلمين ليفهموا النصوص المتعلّقة بالجهاد والسياسة والحكام ومستقبل الدعوة والقدوة الحقّة بمعزل عن الفقهاء لكان من الممكن أن تتكوّن في أذهانهم صورة الإسلام الحقّة التي سوف يجعلونها مقياس الحكم على هؤلاء الفقهاء وأمثالهم.

لكنّهم جعلوا هؤلاء الفقهاء وسيلتهم لفهم هذه النصوص، وبالتالي جعلوا أنفسهم رهينة لخط محدّد هو الخط الذي رسمه الحكّام بمعونة هؤلاء الفقهاء.

من هنا فإن التحرّر من هذا الخط هو الخطوة الأولى للوصول إلى الحقّ، ولن يتحقّق هذا التحرّر إلاّ عن طريق النصوص.

فهذه النصوص هي التي سوف تحدّد لنا القدوة الحسنة - التي يجب أن نتّبعها ونتلقّى منها ديننا - من القدوة السيّئة التي من الممكن أن نسقط في حبائلها فيما لو نحّينا النصوص جانباً وعطّلنا العقل..

وعندما تحدّد النصوص من هم القدوة ومصدر التلقي تحسم القضيّة وينتهي الخلاف ويتوجّب الالتزام. فهذه القدوة سوف تكون مناط الحقّ والمعبرة عنه والناطقة بلسانه..

ومن خلال بحثي وتأمّلاتي تبيّن لي أنّ هناك قدوة سيّئة سادت الأمّة من بعد


الصفحة 209
الرسول (صلى الله عليه وآله) ومنها برزت جميع الاطروحات التي موّهت على حقيقة الإسلام وزيّفت النصوص وحجبت بأقوالها وتفسيراتها حقيقتها عن الأمّة، وبالتالي أسهمت في تمكين الباطل وإضعاف الحقّ واختراع سبل متفرّقة أضلّت الأمة عن سبيل الله...

وعندما يتمّ الكشف عن القدوة الحقّة سوف تتضح أمامنا القدوة الباطلة والحكم في ذلك إنّما يكون للنصوص وليس للرجال..

وتبرز لنا أهميّة القدوة وكونها قضيّة مصيريّة حين يتبيّن لنا أن الرسول (صلى الله عليه وآله)هو خاتم الرسل وأن هذا الختم يفرض وجود قدوة حسنة تحفظ الدين من بعده وتسدّ الفراغ الذي أحدثه غيابُه في واقع الأمّة.

وهذه القدوة يجب أن تتوافر بها مؤهّلات خاصّة لتأدية هذه المهمّة تميزها عن الآخرين حتى لا يقع النزاع وتستقطب الأمة قدوات أخرى تقودها نحو الباطل..

وقد شغلتني هذه المسألة كثيراً أو شكّلت حيرة كبيرة بالنسبة لي.

في وسط هذه الحيرة كانت هناك تساؤلات كثيرة لا أجد لها إجابة في الأطروحة أو في التراث الذي بين أيدينا، أوّل هذه التساؤلات كان في تحديد ماهيّة الحق بعد الرسول (صلى الله عليه وآله).

هل هو ينحصر في القرآن؟

وإذا كان ينحصر بالقرآن فأين التفسير الحق لهذا القرآن؟

ولقد تتبّعت تأريخ القرآن فلم أجد جواباً بل زدت شكّاً وحيرة بسبب الطريقة التي تمّ بها جمع القرآن، والخلافات التي وقعت بين الصحابة حول جمعه وتفسيره..

وزاد الطين بلّة تلك الروايات الكثيرة التي تتعلّق بآيات من القرآن لم تدوّن فيه أو تمّ رفعها وبقى حكمها أو بقى نصّها ورفع حكمها..

إنّ مثل هذا الخلاف حول القرآن قد ولّد لديّ قناعة بأنّه لابدّ وأن تكون هناك جهة ماتحسم هذا الخلاف، وأنّ هذه الجهة لابدّ وأن تكون هي القدوة الحسنة.. ولكن من هي هذه القدوة؟


الصفحة 210
ولماذا لم تبرز لتؤدّي دورها في حفظ الدين؟

إنّ أمّة العرب كأي أمّة سابقة لها لابد وأن ينطبق عليها حال هذه الأمم.

ومن المعروف أن الأمم السابقة كانت تمرّ بحالة تراجع عن الدين (ردّة) بعد رحيل الرسول الذي كُلّف بالدعوة فيها ممّا كان يقتضيء ارسال رسول جديد.

فما الذي سوف يقوّم هذا الانحراف؟..

لابدّ وأن هناك قدوة حسنة تحل محل الرسول من بعده ترجع إليها الأمّة.

وإذا كان موسى (عليه السلام) عندما غاب عن قومه ليأتي بالألواح وضع أخاه هارون مكانه ليخلفه في قومه حتى يعود إليهم، أليس من الأولى بمحمّد (صلى الله عليه وآله) أن يفعل نفس الشيء في قومه خاصّة وأنّه يعلم أنّه لانبيّ بعده؟

قد يطرأ على الذهن أنّ الرسول قد ترك القرآن الذي تكفّل الله بحفظه إلى قيام الساعة، وهذا وحده كاف لسدّ الفراغ الذي أحدثه غيابُه والقرآن هو أفضل قدوة..

وأمام هذا الاستنتاج تطرح تساؤلات أخرى:

أنّ الرسل قد تركوا كتباً بين أقوامهم قبل رحيلهم، ومع ذلك انحرفت هذه الأقوام.

وبنو اسرائيل على وجه المثال حرّفوا الكَلِم عن مواضعه، أيّ أنّ انحرافهم تجاوز حدود السلوك الشخصي إلى تحريف الكتاب الذي ورثوه عن الرسول.

وهذا يدلّ على أنّ الكتاب وحده لا يكفي لضبط حركة الأمّة من بعد الرسول، فلابد أن تكون إلى جواره قوّة تنفيذيّة مميّزة ترجع اليها الأمّة حال الخلاف والانحراف...

هذه القوة هي الفئة المصطفاة من الأمّة التي ترث الكتاب من بعد الرسول كما هو حال الأمم السابقة... وهي ما يتّضح من خلال قوله تعالى:

(ثمّ أورَثنَا الكتَابَ الّذينَ اصطَفَينَا من عِبَادِنا)(1).

____________

1- فاطر: 32.


الصفحة 211
فلو كان الكتاب وحده يكفي ما أورثه سبحانه للفئة المصطفاة التي هي القدوة من بعد الرسول.

والقرآن لم يحسم الخلاف والردّة التي وقعت بعد وفاة الرسل مباشرة، إنّما حسم هذا الأمر بواسطة السيف.

فالقرآن حاله كحال الكتب السابقة له لابدّ وان تنحرف عنه الأمّة. وهو لم يحكم في الخلافات التي وقعت حول مسألة الخلافة، كما لم يحكم في مواجهة القبائل التي اعتبرت مرتدّة وقوتلت على هذا الأساس، ولم يحكم في قضايا أخرى كثيرة..

وبالإضافة إلى الخلاف الذي وقع حول جمعه بين الصحابه، يمكن طرح السؤال التالي: إنّ القرآن الذي تركه الرسول لم يحل دون وقوع الردّة والخلاف، فهل هذه الردّة وقعت بسبب الانحراف عن القرآن أم الانحراف عن القدوة؟..

إنّ التاريخ يجيب مؤكّداً أنّ السبب المباشر لهذه الردّة كان بسبب الانحراف عن القدوة وليس بسبب القرآن..

فالذين منعوا الزكاة كانوا مسلمين..

والرافضون بيعة أبي بكر كانوا مسلمين..

فهم كانوا مسلمين ملتزمين بالقرآن ومؤمنين به إلاّ أنّ هذا الإيمان وهذا الإلتزام لم يحل دون انحرافهم...

من هنا بدأت رحلة البحث عن هذه القدوة المتميّزة.

وهذه الرحلة كان اعتمادي وزادي فيها هو النصوص، فهي الحكم الوحيد بين أيدينا للخلاص من متاهات الرجال والوصول إلى الحق... إنّ الحق إنّما يعرف بالنص لا بالرجال، والرجال إنّما يعرفون بالحقّ لا العكس. وما دمت معتقداً انّ النصّ فوق الرجال فقد تكشفت أمامي معالم الطريق "(1).

____________

1- صالح الورداني/ الخدعة: 45ـ49.


الصفحة 212

المانع الثالث:

التعصّب

إنّ التعصّب يعدّ من الموانع الأخرى التي تحول بين المرء و وبين إذعانه واتّباعه للحقّ، لأنّ التعصّب يدفع صاحبه إلى الجمود على فكرة معيّنة وعدم السماح لنفسه بتغيير معتقداته مهما بلغت الأدلّة والبراهين المثبتة لبطلان ماهو عليه.

والتعصّب يدفع صاحبه إلى التشبث بآراء طائفة معيّنة مصرّاً على أنّها دون غيرها هي الحق الذي يجب اتباعه.

ومن آثار هذا الداء العضال أنّه يصدّ صاحبه عن الإصغاء إلى دليل المخالف أو الاهتمام بما يذكر من أدلّه، لأنّه يكون دائماً مسيىء الظن بكلّ من يخالفه في الرأي، فيؤدّي به ذلك إلى أن يعيش حالة الحرمان من الرؤية المترويّة والمتّزنة لأفكار من يخالفه في الرأي، ومن ثمّ يندفع هكذا شخص إلى عدم قبول الحق حين ثبوته موافقاً لما يذهب إليه الآخر.

ولهذا يكون المتعصّب محروماً من معرفة الحق و إن جُعلت الحقيقة أمام بصيرته كالشمس في رابعة النهار.

و يشير محمد مرعي الانطاكي إلى هذه الحقيقة في كتابه (لماذا اخترت مذهب الشيعة) قائلاً:

" انظر بدقّة وإمعان، إلى ما أوردناه لك من الحجج والبراهين في هذا الكتاب، كيف تجلّى الحقّ، واّتضح السبيل لسالكيه الذين أخلصوا النيّة، وتجرّدوا عن العصبيّة المذهبيّة والنعرات الطائفيّة العمياء المهلكة، امّا من بقي مصرّاً على عناده، فلا تفيد الروايات وإن كثرت وكثرت، ولو قدّمناه له ألف دليل ودليل "(1).

ولهذا ينبغي للباحث الذي يودّ أن يمتلك جرأة التخلّي عن معتقداته عند ثبوت

____________

1- محمد مرعي الانطاكي/ لماذا اخترت مذهب الشيعة: 490.


الصفحة 213
خطئها أن يروّض نفسه للأخذ بالحق، وأن يتجرّد عن الرؤية الطائفيّة، وأن لا يدع للتعصّب مجالاً للتوغّل في سريرته، وإن كان مبتلياً به، فعليه أن يخلع رداء التعصّب عن ذاته وأن يميت كلّ عصبيّة مستقرّة في سويداء قلبه، ليتعامل مع آراء المذاهب الأخرى بمرونة وليمتلك قدرة النظر إلى من يخالفه في الرأي بعين الحياد.

ولكن من المؤسف ـ كما يذكر المستبصرون ـ أنّ الكثير من الجهات المتوليّة لإدارة شؤون الناس الدينيّة تحاول نتيجة عدم امتلاكها الأدلّة الكافية لإثبات أحقّيتها أن تحمي عقيدة الناس بغرس التعصّب في نفوسهم.

لأنّ المتعصّب يدفعه التعصّب إلى عدم الإصغاء لأقوال المخالفين، لأنّ من المقرّر سلفاً أنّ ماعندهم باطل، فلا داعي لتضييع الوقت في الإصغاء إلى الباطل.

ويشير التيجاني السماوي إلى معاناته من الذين قيّدوا عقله ردحاً من الزمن، قائلاً:

" قومي الذين جمّدوا فكري ردحاً من الزمن وحجّروا عليّ أن أفقه الحديث أو أحلل الأحداث التاريخيّة بميزان العقل والمقاييس الشرعيّة التي علّمنا إيّاها القرآن الكريم والسنّة النبويّة الشريفة.

ولذلك سوف أتمرّد على نفسي وأنفض عنّي غبار التعصّب الذي غلّفوني به وأتحرّر من القيود والأغلال التي كبّلوني بها أكثر من عشرين عاماً ولسان حالي يقول لهم:

ياليت قومي يعلمون بما غفر لي ربّي وجعلني من المكرمين.

ياليت قومي اكتشفوا العالم الذي يجهلونه ويعادونه دون أن يعرفونه "(1).

ويرى ياسين المعيوف البدراني أن محاولة غرس التعصّب أعم من أن تكون حالة عفويّة من قبل بعض الجهات، بل هي تسير وفق خطط مدروسة تدعمها جهات تعي ما تفعل.

ولهذا يقول في هذا المجال:

____________

1- محمد التيجاني السماوي/ ثمّ اهتديت: 122.


الصفحة 214
" يبدوا أن هناك إشكالاً عميقاً يكمن في منهاج الدراسة في الجامعات والمعاهد الدينيّة حيث تقتصر كل مؤسّسة على تدريس اتّجاه معيّن ونمط واحد من العقائد والفقه والعلوم الدينيّة متجاهلةً سائر الاتّجاهات والمذاهب الأخرى.

وإنّ الأنكى والأخطر من ذلك هو تعبئة الطلاب فكريّاً ونفسيّاً ضدّ كل ما يخالف تلك المؤسّسة ومنهجها، فيتخرّج طلاب هذه العلوم بفكر منغلق وعقليّة ضيّقة محدودة جاهلين الرأي الآخر ومنحازين بتعصّب أعمى ضد كل مالا يوافق فكرهم "(1).

وقد أشار الكثير من المستبصرين إلى هذا المانع الذي يقف بوجه كل باحث سنّي يقصد تغيير انتمائه المذهبي بعد وصوله إلى القناعة التامّة بأحقّية مذهب أهل البيت (عليهم السلام).

ويقول التيجاني السماوي حول هذا المانع الذي اعترى طريقه ليصدّه عن ترك موروثاته العقائديّة، أنّه بعد ما جرى بينه وبين صديقه الشيعي الأستاذ منعم في بغداد حواراً أدي إلى توسيع آفاق رؤاه، طرأت على باله خواطر، منها أنّه قال في قرارة نفسه:

" ياإلهي، لماذا أُكابر وأُعاند وقد أعطاني حجّة ملموسة من أصحّ الكتب عندنا؟... أأسلّم لهم بهذه الحقيقة؟...، ولكن أخاف من هذه الحقيقة فلعلّها تتبعها حقائق أخرى لا أحبّ الاعتراف بها، وقد انهزمتُ أمام صديقي مرّتين... ولكنّي لا أريد هزيمة أخرى، وأنا الذي كنت منذ أيّام قلائل عالماً في مصر أفخر بنفسي ويمجّدني علماء الأزهر الشريف، أجد نفسي اليوم مهزوماً مغلوباٌ ومع من؟ مع الذين كنت ولا أزال أعتقد أنّهم على خطأ، فقد تعوّدت على أنّ كلمة (الشيعة) هي مُسبّة.

إنّه الكبرياء وحبّ الذات، إنّها الأنانيّة واللجاج والعصبيّة، إلهي ألهمني رشدي، وأعنّي على تقبّل الحقيقة ولو كانت مُرّة.

اللهمّ افتح بصري وبصيرتي واهدني إلى صراطك المستقيم، واجعلني من الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه.

____________

1- ياسين المعيوف البدراني/ ياليت قومي يعلمون: 50.


الصفحة 215
اللهمّ أرنا الحقَّ حقّاً وارزقنا اتّباعه وأرنا الباطلَ باطلاً وارزقنا اجتنابه.

رجع بي صديقي إلى البيت وأنا أردّد هذه الدعوات فقال مبتسماً:

هدانا الله وإيّاكم وجميع المسلمين، وقد قال في محكم كتابه: ( والّذينَ جاهَدُوا فينَا لنَهديَنَّهُم سُبُلَنا وإنّ اللهَ لَمَعَ المُحسنينَ) والجهاد في هذه الآية يحمل معنى البحث العلمي للوصول إلى الحقيقة، والله سبحانه يهدي إلى الحق كلّ من بحث عن الحق "(1).

ويشير التيجاني السماوي في كتابه (ثمّ اهتديت) إلى دور التعصّب في إبعاد الإنسان عن اتّباع الحق بعد ذكره جملة من معتقدات أهل البيت (عليهم السلام):

" ولَعمري إنّه الحق الذي لا مفرّ منه لو يتحرّر الإنسان عن تعصّبه الأعمى وكبريائه وينصاع للدليل الواضح "(2).

ولهذا يؤكّد التيجاني السماوي في العديد من كتبه على وجوب نبذ التعصّب لكلّ باحث يبتغي التعرّف على الفرقة الناجية من بين الفرق الإسلاميّة، وقد قال في كتابه (الشيعة هم أهل السنّة):

" هذا وقد ولّى عصر التعصّب والعداوة الورثيّة، وأقبل عهد النور والحريّة الفكريّة، فعلى الشاب المثقّف أن يفتح عينيه، وعليه أن يقرأ كتب الشيعة ويتّصل بهم ويتكلّم مع علمائهم كي يعرف الحقّ من بابه، فكم خُدعنَا بالكلام المعسول وبالأراجيف التي لا تثبتُ أمام الحجّة والدليل.

والعالم اليوم في متناول الجميع، والشيعة موجودون في كل بقاع الدنيا من هذه الأرض، وليس من الحقّ أن يسأل الباحث عن الشيعة أعداء الشيعة وخصومهم الذين يخالفونهم في العقيدة، وماذا ينتظر السائل من هؤلاء أن يقولوا في خصومهم منذ

____________

1- محمد التيجاني السماوي/ ثمّ اهتديت: 44.

2- المصدر السابق: 97.


الصفحة 216
بداية التاريخ؟

فليست الشيعة فرقة سرّيّة لا تُطلع على عقائدها إلاّ من ينتمي إليها، بل كتبها وعقائدها منشورة في العالم، ومدارسها وحوزاتها الإسلاميّة مفتوحة لكلّ طلاّب العلم، وعلماؤهم يقيمون الندوات والمحاضرات والمناظرات والمؤتمرات، وينادون إلى كلمة سواء وإلى توحيد الأمّة الإسلاميّة.

وأنا على يقين بأنّ المنصفين من الأمّة الإسلاميّة إذا ما بحثوا في الموضوع بجدّ سوف يستبصرون إلى الحقّ الذي ليس بعده إلاّ الضّلال، لأنّ مانعهم من الوصول هو فقط وسائل الدعاية المغرضة والإشاعة الكاذبة من أعداء الشيعة أو تصرّف خاطىء من بعض عوام الشيعة.

ويكفي في أغلب الأحيان أن تزاح شبهة واحدة أو تنمحي خرافة باطلة حتى ترى من كان عدوّاً للشيعة يصبح منهم "(1).

ويقول التيجاني السماوي أيضاً في هذا المجال في كتاب آخر له:

" وها نحن اليوم، في عهد الحرّيات، في عهد النور كما يسمّونه في عهد العلم وتسابق الدول لغزو الفضاء والسيطرة على الأرض، إذا ما قام عالمٌ وتحرّر من قيود التعصّب والتقليد، وكتب أيّ شيء يُشمّ منه رائحة التشيّع لأهل البيت، فتثور ثائرتُهم وتُعبَّأُ طاقاتهم لسبّه وتكفيره والتشنيع عليه لا لشيء سوى أنّه خالف المألوف عندهم "(2).

ويشير صائب عبد الحميد إلى تجربته ومعاناته من الكبرياء الذي حاول أن يمنعه من الاستبصار قائلاً:

" وإنّي أعترف على نفسي أن لو لم تتداركني رحمة ربّي وتوفيقاته لصرعتني تلك النفس (المعاندة) ولقد كادت ونجحت مرّةً، ولكنّ الله أعانني عليها...

____________

1- محمد التيجاني السماوي/ الشيعة هم أهل السنّة: 19.

2- محمد التيجاني السماوي/ فاسألوا أهل الذّكر: 341.


الصفحة 217
فبعد أن أمضيت الشهور في الدرس والتنقيب والمناظرة والبحث، وبلغت كامل اليقين واستجمعت قواي في ليلة ختمتُ فيها مجلساً في بحث متشعّب عميق في هذه المواضيع، فخرجتُ منه وأنا أشدّ يقيناً وأثبتُ حجّةً عازماً أن أبدأ الفجر الجديد بالصلاة وفق مذهب أهل البيت (عليهم السلام)...

وبينما كنت أعيش نشوة الإنتصار وحلاوة اليقين، إذ صادف أن اجتمعت مع ثلّة من أبناء الشيعة، فتناولنا أطراف الحديث، فلمّا رأيتهم يتحدّثون وملؤهم الفخر بمذهبهم ثارت فيّ تلك النفس ـ المعاندة ـ من جديد، وأبت أن توافقهم!

فخضت الحديث معهم أُغالط نفسي على علم وإصرار، ومضيت هكذا حتى سئمت نفسي واضطربت في داخلي، ولكنّي لست مستعدّاً للانقياد لهم!

فعدت متحيّراً من نفسي وما فيها، ونمتُ مصروعاً ثقيلاً.. وعدت أقضي شهوراً أخرى مضطرباً بين يقين عرفته وأعتقده وبين عناد وكبرياء لهما جذور قديمة!

وبقيت هكذا أصطنع العلل والأعذار وأجعلها شرعيّةً طبعاً، ولكنّها كانت كبيوتات الصغار، يشيدونها على الرمال فتنقشع وتزول آثارها بعد ساعة حتى أجليتُ ما في صدري بدموع الليل وزفرات الخلوة، أبكي حبّاً وشوقاً إلى سادة الخلق وأنوار الهدى، وأبكي على نفسي وغَلَبتها.

حتى أحسست و أنا في هدأة الليل كأنّ قطرة من تلك الدموع قد أتت على آخر عِرق من عروق تلك الكبرياء، فاقتلعتها من محلّها، وسقت مكانها بذرة، بذرة الطّاعة الولاء، فانتفضتُ مُكبّلاً أُطلق لتَوّه، خفيف الحمل كطائر صغير، مستبشراً كضائع أشرفَ فجأةً على أحبّته وذويه.. وأفقتُ مطمئنّاً في أوسط سفينة النجاة، أنهل من منهلها العذب الصافي "(1).

ولهذا يقول صائب عبد الحميد لإخوانه من أهل السنّة مشيراً إلى خطورة التعصّب

____________

1- صائب عبد الحميد/ منهج في الانتماء المذهبي: 311ـ312.


الصفحة 218
و دوره في صدّ الإنسان عن الإذعان للحقّ:

" إنّي ـ يا صديقي ـ قد ورثت مثلكم تلك القناعات، ولم أكن آلِف سواها، بل إنّي ممّا يخالفها لحذر نَفور.

ولست أنسى كم نحاول الغوص في أعماقها، حتى إذا تغلغلنا يسيراً، اصطدمنا بذلك الحاجز الموهوم، لنرتدّ عل أدبارنا القهقري!

فكم مرّةً بلغنا ـ والحرقة تقوي قلوبنا، والدمعة لها بريق في أعيننا ـ أن نقول: إنّ الإمام عليّاً كان مظلوماً.

لقد قلناها كلّنا غير مرّة، ولكنّنا لم نتمكّن ـ لما في أنفسنا من حواجز ـ أن نستغرق النظر، لنعرف مسؤوليّتنا تجاه ذلك الظلم وتلك الظُلامة!

لقد أنستنا تلك الحواجز أنّنا مؤمنون، علينا أن نتحرّى الحق فنتّبعه، ونلتزم الموقف السليم الذي ينجو بنا يوم الموقف العسير!

ورجائي أن لا أكون مؤاخذاً عندك إن قلتها، فهي حقيقة حاكمة مهما حاولنا التنكّر لها، إنّها العصبيّة والكبرياء، هي التي تحجبنا عن تبنّي الموقف الشرعيّ أينما وجدناه.

ولسنا أوّل منهزمين أمامها، فلقد قهرت من هم أشدّ منّا قوّةً، وأكثر جمعاً! ولعلّ من بينهم أبو حامد الغزإلى، الذي قال مرّة ـ معتقداً بصحّة ما يقول -: ولكن أسفرت الحجّة وجهها، وأجمع الجماهير على متن الحديث من خطبته (صلى الله عليه وآله)في يوم غدير خمّ، باتفاق الجميع، وهو يقول: (مَن كُنتُ مولاهُ فعليٌّ مولاه).

فقال عمر: بَخ بَخ لك يا أبا الحسن، لقد أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة.

فهذا تسليم ورضى وتحكيم ثمّ بعد هذا غلب الهوى بحبّ الرئاسة وحمل عمود الخلافة، وعقود البنود، وخفقان الهواء في قعقعة الرايات، واشتباك ازدحام الخيل، وفتح الأمصار سقاهم كأس الهواء، فعادوا إلى الخلاف الأوّل، فنبذوا الحقّ وراء


الصفحة 219
ظهورهم، واشتروا به ثمناً قليلاً، فبئس ما يشترون(1).

ولعلّ منهم في عصرنا هذا: شيخ الأزهر الأسبق الشيخ سليم البشري، وقد صرّح هو بذلك في جوابه للسيّد شرف الدين الموسوي، بعد مناقشات ومراسلات طويلة بينهما عرض عليه السيد الموسوي من خلالها أدلّةً وبراهين قاطعة بأحقّية مذهب أهل البيت، وأنّهم ـ (عليهم السلام) ـ أولى بالاتّباع من سواهم، فأجابه الشيخ قائلاً:

وحين اغرقت في البحث في حجّتك، وأمعنت في التنقيب عن أدلّتك، رأيتني في أمر مَريج:

أنظر في حججك فأراها مُلزمة، وفي بيّناتك فأراها مسلّمة، وأنظر في أئمّة العترة الطاهرة فإذا هم بمكانة من الله ورسوله يُخفض لها جناح الذلّ هيبةً وإجلالاً..

ثمّ أنظر إلى جمهور أهل القبلة، والسواد الأعظم من ممثّلي هذه الملّة فأراهم مع أهل البيت على خلاف لما توجبه ظواهر الأدلّة!

فأنا أؤامر منّي نفسين:

نفس تنزع إلى متابعة الأدلّة..

وأخرى تفزع إلى الأكثريّة من أهل القبلة! قد بذلت لك الأولى قيادها، فلا تنبو في يديك، ونَبت عنك الأخرى بعنادها، فاستعصت عليك..!!(2)"(3).

ويشير صائب عبد الحميد أيضاً في كتابه (منهج في الانتماء المذهبي) إلى مبحث مفصّل حول أسباب نشوء التعصّب والموقف الانحيازي وأثره في الوجود الاجتماعي لهذه الأمة وكيف ينبغي أن نواجهه؟ ويبدأ حديثه حول هذا المبحث بطرح هذا السؤال قائلاً:

____________

1- كتاب سرّ العاملين ـ للغزالي ـ المقالة الرابعة/ 20ـ24; ورواه سبط عنه ابن الجوزي في تذكرة الخواص: 62.

2- المراجعات/ المراجعة: 11.

3- صائب عبد الحميد/ منهج في الانتماء المذهبي: 309.


الصفحة 220
" لماذا هذا التجافي بين أبناء المذاهب الإسلاميّة؟

هل انتخب كلّ منّا مذهبه عن وعي وإدراك وبعد الدرس والتحقيق؟ أم كيف حصل هذا الانتماء؟

بين هذين السؤالين تدور أشياء كثيرة، منها ما هو بديهي، ومنها مايتطلّب بعض العمليّات العقليّة، وما لم نمتلك الروح الموضوعيّة في مواجهة القضايا، فسوف تغيب عنّا حتى تلك الأمور البديهيّة.

ولابدّ أن نعترف مقدّماً بأنّ هذه الموضوعيّة ستكون أمراً صعباً للغاية عندما نواجه قضايا تتعلّق بالعقائد والتقاليد والموروثات التي تشبّعت بها العروق، وألفتها النفوس.

وسوف تكون أشدّ وأصعب عندما يدور الحديث بين تلك العقائد والموروثات من جهة، وبين ما يقابلها لدى الآخرين من جهة أخرى، فالانحياز الفوري نحو المألوف هو النتيجة المتوقّعة دائماً، بينما يبقى الموقف الموضوعي أمراً نادر الحصول.

كيف نشأ هذا الموقف الانحيازيّ؟

وما هو نصيبه من الصحّة؟

وما هو أثره في الوجود الاجتماعي لهذه الأمّة؟

وكيف ينبغي أن نواجهه؟

... ينبغي أن يثيرنا سؤال واحد يجب أن نضعه أمام أنفسنا لأجل البحث عن سرّ اختلافنا، وهذا التجافي الحاصل بيننا. ولعلّنا سوف نمسك بطرف من أطراف الاتّفاق، ونقترب خطوةً نحو الموضوعيّة لو ابتدأنا من هذه الملاحظة البسيطة:

فلو أنّك سألت شابّاً ولد في مدينة (النجف) فقلت له: هل ستكون شيعيّاً لو حصل أنّك ولدتَ في (حَلَب) من أبوين سنّيين؟

وهكذا لو سألت الحلبي، هل ترى أنّك ستكون سنّياً بهذه الطريقة، لو أنّك ولدت في (النجف) في أسرة شيعيّة؟

هنا سوف لا يختلف منّا اثنان حول الجواب الذي سنسمعه، بل يمكننا أن نضع


الصفحة 221
الجواب مقدّماً، متّفقين على أنّه من المسلّمات التي لا خلاف فيها.

وهذه الملاحظة وحدها تكفي لأن تضعنا أمام الحقيقة كلّها، وتكفي لأن تبعث فينا الاستغراب لهذا التجافي والتنافر الحاصل بيننا، كما تسمح لنا هذه الملاحظة أيضاً أن نطرح مزيداً من الأسئلة اللازمة، لنقترب أكثر نحو الموضوعيّة كلّما استطعنا أن نزيح شيئاً من دواعي الانحياز الوهميّة المتراكمة فينا.

ولنبدأ بالسؤال حول الانحياز نفسه، والعصبيّة ذاتها:

فهل سيرضى أحدُنا لو وجد آخر يتعصّب ضدّه من غير دواع حقيقيّة، وبدون أن يتعرّف على حقيقة مواقفه وآرائه؟

فاذا كان الجواب بالنفي بديهيّاً لدى هذا الشخص، فلماذا نتوقّع أن يكون موقف أشخاص محايدين، نفترض أنّهم يراقبون هذا المشهد؟ قطعاً انّهم سيؤاخذون المتعصّب على تعصّبه.

إذن، فعند الجميع كان التعصّب لذاته شيئاً ممقوتاً.

أفلا يكون من التناقض إذن أن نحمل بين جوانحنا أشيائاً نمقتُها لدى الآخرين، ونمقتُها بالأصل؟!

فلماذا لا نكون إذن على مستوى تقبّل الطرح العلميّ والموضوعي الذي يتناول شيئاً من مواقفنا تجاه الأشياء والقضايا المبدئيّة، وتجاه بعضنا؟

وماذا في الأمر؟ فما دام الطرح موضوعيّاً وعلميّاً، فإنّه سيثبّتنا على ما نحن عليه، إن وافقنا الأصل والصواب، أو أنّه سيرشدنا إلى ما هو أحقّ وأهدى، إن لم نكن قد وافقناه.

ألسنا جميعاً من دعاة الحقّ، وطلابه؟

ولكنّ السرّ كلّه يكمن ها هنا، فثمّة حقيقة نستطيع أن نطلق عليها:

(الخوف من الهزيمة) أمام الطرف المقابل، تراودنا جميعاً، وهذه حقيقة لايمكن لنا أن نوافق الصواب إن تنكّرنا لها، وقد تتجلّى هذه الظاهرة في الملاحظات التالية:

ـ أفلا ترون أنّنا لو صدمتنا الحقيقة بشيء يخالف ما ألفناه واعتقدناه، لظهرت ردود


الصفحة 222
الفعل فينا ـ فوراً ـ على هيئة غضب وثورة، ثمّ أحكام تُلقى جزافاً، وربما أعقبتها سخريّة، ثمّ يستدل الستار على الموضوع، حتى لو عاد يواجهنا ثانيةً لما أحدث فينا أثراً يُذكر، ولأصبح كأيّة مسألة لا تستحق العناية، أو الالتفات!

وبهذه الطريقة يدفعنا اللاشعور للتسلّح بالمناعة الكافية ضدّ أيّ مفهوم يخالف المألوف، ولو كان اكثر منه ثباتاً، وأقوى حجّةً.

وهذه ظاهرة عامّة في بني الإنسان، إلاّ من تحرّر منها بالوعي والمعرفة، وتلك شجاعة ما أعزّها!

ـ وترانا أيضاً حين نواجه الأمر معكوساً نقف منه الموقف المناسب! فلو عرض علينا مذهبنا مفهوماً أو اعتقاداً لا يستقيم مع الفطرة السليمة والعقل المستقيم والبيان الشرعيّ، فإنّ ردّ الفعل هذه المرّة سيأتي على هيئة تنازل تلقائي عمّا نرتضيه حقيقةً، لنخضع ـ بأي مستوى من مستويات الخضوع ـ لمعان تأباها عقولنا، وتنفر منها فطرتنا ولكنّنا ورثناها!

ولو خشينا من أنّ هذه المعاني الجديدة قد تستولي علينا، فإنّنا نلجأ ـ من حيث ندري، أو لا ندري ـ إلى غضّ النظر عنها، مؤثرين السكوت، والوقوف عند أيّ مستوى يمكننا أن نخضع له، مستبعدين إمكان المناقشة والحوار!

فما الذي يدفعنا إلى كلّ هذا؟ إنّه (الخوف من الهزيمة)!

ذلك الشبح الذي يراود كل من يواجه مثل هذا الموضوع، حيث يرغب، بل يندفع من الداخل لأن يكون متفوّقاً، ويهرب من أيّ نوع من أنواع التراجع، حتى لو كان تراجعاً أمام الحقّ وأمام الحكم الشرعي!

وهو لإجل إرضاء هذه الرغبة يطرح في المقابل آراء وحججاً ليقتنع بها ويجعلها في النهاية سدّاً منيعاً دون الدخول في أيّة محاولة للمناقشة الجادّة، والحوار والمتابعة.

وعندما تكون تلك الهواجس متفوقة لديه جدّاً، فإنّه سيكتسب قناعات شديدة بكلّ ما من شأنه قطع السبيل إلى ميادين التفكير الحرّ، ويجعل أيّ شيء من هذا القبيل بمثابة الأمر المحرّم الذي يجب إنكاره كلّياً.


الصفحة 223
ثمّ كيف نفسّر وجود هذه العُقد النفسيّة المتراكمة فينا تراكماً جعل أحدنا يرى أن مجرّد اقترابه من الآخر يُعدّ مستوى من مستويات الهزيمة، أو الضعف العقائدي، أو أنّه مجاملة على حساب المبادىء!

ومن منّا ينكر ظاهرة الانكماش النفسي المفاجىء، والنفور غير الإراديّ التي فرضت نفسها حتى على الكثير ممّن جاء ليعالج هذا الداء العُضال، ويرسم حدود هذه المشكلة المُستعصية في الأمّة؟

فحتى الكثير من هؤلاء ينزلق من حيث لا يشعر، فيمارس مرّة أخرى تجسيد تلك الروحيّة، وتعميق تلك الحواجز النفسيّة التي سيكون لها هنا آثار أكثر سلبيّة حتى من تلك البحوث التي تُكرّس أصلاً لتعميق الخلاف وإحياء الروح الطائفيّة، وذلك لأنّها ستوحي للقارىء بأنّ هذه الظاهرة هي بمستوى الحقيقة التي تأصّلت في النفوس، واصبحت جزءاً لا يتجزّأ من عقائدنا وعواطفنا، وعند هذا يصبح مجرّد مناقشاتها أمراً مخالفاً للطبع، وليس له موضع بيننا على الإطلاق.

ومن أبرز الأمثلة على هذا النمط، ما نجده عند بعض من كتب في الدفاع عن الوحدة الإسلاميّة، متحمّساً ضدّ الطائفيّة ومروّجيها، ثمّ إذا أراد أن يستشهد بمثال، أو يأتي بمصاديق على دعواه، مال على الجانب الآخر، مسجّلاً نماذج من حملات بعض رجالهم ضدّ المذهب الذي ينتمي إليه هو، فكأنّه يريد أن يقول: إنّ أولئك هم أساس هذه النزاعات، وهم الذين يؤجّجون نار الفتنة بين المسلمين، ولم يكن أصحابه هو إلاّ مدافعين عن مذهبهم المُستهدَف!

وهكذا يمارس دوره من جديد في إثارة النزاع بما يثيره من ردود فعل سلبيّة لدى الأطراف الأخرى، فيضيف حلقةً أخرى إلى مسلسل النزاعات!

بينما كان الأجدر به ـ حين يلجأ إلى مثل هذا الاستشهاد ـ أن ينتخب نموذجاً من حملات أصحابه هو ضدّ المذاهب الأخرى، فيردّها، ويبعدها عن ساحة القبول، وبهذا يكون قد أعطى نموذجاً صادقاً ورائعاً في هذا المضمار، وقدّم مثالاً لروحيّة عالية


الصفحة 224
تترفّع على الأهواء والعصبيّات، وتميل بصدق لتحقيق التآلف بين أبناء هذه الأمّة الواحدة.

ذلك بحقّ إنسان في القمّة، وما أحوجنا إليه في كلّ مكان وزمان.

إنّ تلك الروحيّة العالية وحدها هي التي تحقّق أثراً إيجابيّاً يرجى أن يؤتي ثماره على طريق التقارب والتفاهم والحوار العقلاني الواعي الذي سيزيدنا قوّةً ويوفّر بيننا مستوى من الانسجام والاتّحاد لا يقلّ عن درجة الإحساس الصادق بالارتباط المصيريّ والاتّحاد العقيدي.

وسيعيننا هذا الفهم، بل سيدفعنا إلى التعرّف على بعضنا من جديد، بروح أخويّة نزيهة، ويزوّدنا برغبة صادقة في البحث عن الحقائق الناصعة المبرّأة من كلّ ما تراكم من غبار زمن طويل، مليء بالنزاعات والتخاصم، وتبادل التهم والشتائم و...

وبمثل هذه الصيغة يمكننا أن نتوصّل إلى جذور تلك الحواجز النفسيّة وخلفيّات هذا التشنّج وتلك العصبيّات المقيتة.

فلقد بلغت بنا تلك العصبيّات حدّاً بالغ الخطورة، حتى صار تعصّبنا لأيّ شيء ألفناه هو أشدّ ألف مرّة من استعدادنا للتمسّك بالحكم الشرعي الثابت.

وهذا يقابله تعصّب مماثل ضدّ ما نراه لدى الأطراف الأخرى.

ومن المهم أن أؤكّد هنا أنّي لا أعني مفهوماً بالذات، أو طائفة من المسلمين دون غيرها، ولا فرداً دون آخر، بل أريد تلك الظاهرة التي أضحت (مرضاً) نفسيّاً أرسى جذوره في أعماقنا - أفراداً وجماعات - حتى أصبحت معظم التقاليد التي نُسبت إلى المذهب وألصقت به وهي ليست منه، حاكمةً حتى على النصّ الشرعي الثابت لدينا.

فرحنا نلجأ إلى تحوير كل نصّ لا ينسجم مع هذا التقليد، أو ذلك الرأي وصياغته بحسب قوالب صنعناها نحن بأيدينا، وإن كانت لا تمّت إلى الدين بصلة، ولكنّها ارتقت في أذهاننا إلى مستوى الشعائر المقدّسة، فأصبح مجرّد الإشارة إليها أمراً يثير المشاعر ويؤجّج فينا نار الغضب.

ولهذا نجد أنّ علماء المذهب نفسه لا يجرأون على استنكارها، أو وعظ أصحابهم


الصفحة 225
بتخفيف شدّة تمسّكهم بها، ولو تجرّأ أحدهم على شيء من ذلك لنبذه أتباعه في الحال، ولأصبح بينهم عرضةً لألوان الشتائم والمطاعن، وربما بلغ الأمر إلى رميه بالزندقة والنفاق، ولو كان أتقى الأتقياء!

ولنتذكّر مرّةً أخرى أنّ من الخطورة بدرجة أن يميل كلّ منّا للاستفادة من هذه الإشارات في توجيه التهم إلى الآخرن، على أنّها من مزاياهم وحدهم، فإنّ هذا الأسلوب هو تجسيد كامل للعصبيّة، كما أنّه سوف يُبقي على كل معايبنا وأخطائنا، ثمّ يعود بنا إلى عمق مصيبتنا.

إنّما المطلوب منّا أن نفتّش عن تلك الظواهر في أنفسنا نحن لننتزعها، من قلوبنا وعواطفنا، ونتخلّص من آثارها.

فلوا امتلكنا مثل هذه الروحيّة، لاقتلعنا كلَّ جذور الخلاف، واكتسحنا كلَّ الآثار السلبيّة المترتّبة عليه.

والآن، لعلّي أصبحت قادراً على أن أطرح على نفسي السؤال الآتي:

ما الذي يحملني على الاعتقاد ـ إلى حدّ التسليم ـ بأنّ مذهبي الذي ورثته عن آبائي ومجتمعي الصغير هو الحقّ الأوحد والأمثل، وأنّه الصورة الأكثر كمالاً للدين الإسلامي الحنيف، بحيث لا يشاركه مذهب آخر في حظّه هذا من الكمال؟

ما الذي حملني على هذا الاعتقاد، أهو القرآن الكريم أم السنّة المطهّرة أم العقل السليم؟

أم هي العصبيّة التي لا تستند إلى شيء؟!

ولماذا لا يمكنني أن أعتقد بأن المذاهب الأخرى هي مثل مذهبي على الأقلّ؟ ومن يدري! فلعلّها تكون جميعاً أكثر سلامةً وكمالاً ممّا تعلّمته أنا!

وما العجب من هذا الافتراض، أليس هكذا يعتقد أبناء المذاهب الأخرى؟

إذن ما الذي يمنعني من أن أكون أبعد نظراً، لأتقبّل فكرة، أنّ المذاهب الأخرى هي أيضاً تحتمل الصحّة، على الأقل؟ ثمّ ألستُ مسؤولاً غداً عن سبب اعتقادي وتبعيّتي الدينيّة؟


الصفحة 226
وهذا هو السؤال الخطير الذي يجب أن أقف عنده موقف الجدّ.. سيبرز هنا سؤال آخر، وهو: ألا تقودني هذه الفكرة إلى الطائفيّة مرّة أخرى؟

أعني أنّني عندما أدخل طريق الدرس والمتابعة، فإنّ دراستي ستقودني حتماً إلى قناعة ما، وعلى أساس هذه القناعة سوف أنتخب المذهب عن وعي وإدراك هذه المرّة، كما تقتضي المسؤوليّة الشرعيّة، وأصول الدراسة العلميّة، أفلا يُفهم من هذا أنّني سوف أطعن بالمذاهب الأخرى، وسوف أصرّح بالفعل إن لم أصرّح بالقول، بأنّ المذهب الذي انتخبته هو الأكثر كمالاً ودقّة وعمقاً؟

نعم، قد تكون هذه الطريقة مصدراً للإثارة، ولكن إلى أيّ شيء تعود تلك الإثارة، وعلى أيّة أرضيّة تقوم؟

هل انبثقت من موقف علمي ورؤية موضوعيّة، أم أنّها نشأت عن غير ذلك؟

وبتعبير آخر، هل هي رؤية تصمد أمام قوله تعالى: ( قُل هاتُوا بُرهانَكُم إنْ كُنتُم صَادقينَ)(1). أم هي واقعة تحت ظلال قوله تعالى: ( إنْ يَتّبِعُونَ إلاّ الظَنَّ ومَا تَهوى الأنفُسُ)(2).

فهذا هو ميزان السماء لكلّ دعوى.

إنّ شيئاً من ردود الفعل هذه، ما هو إلاّ جزء من إفرازات تلك العُقَد النفسيّة المتجذّرة فينا، وإلاّ فمن أين جاء زعمنا: أنّ الفرد المسلم الذي انطلق من وعيه بمسؤوليّته الشرعيّة، ملتزماً قواعد البحث العلمي والدراسة الموضوعيّة المجرّدة، متسلّحاً بالشجاعة الكافية في اتّباع الحقّ الذي يستقرّ عليه، ثمّ انتهى إلى اختيار آخر، خالف فيه أصحابه، أنّه سيكون بالضرورة قد ناصبهم العداء، أو حكم عليهم بالضلال والجحيم؟

أليس العكس هو الصحيح، ما دمنا نقرّ جميعاً بأنّ هذا المنهج هو مسؤوليّة شرعيّة

____________

1- النمل: 64.

2- النجم: 23.


الصفحة 227
في أعناق الجميع دون استثناء؟

نعم، لنا أن نقول: إنّ مثل هذا الفرد لكي يكون متوازناً في مواقفه، ملتزماً علميّته، عليه:

أوّلاً: ألاّ يكون منفعلاً بتأثير نشوة الاكتشاف الجديد، فيندفع متحمّساً تجاه المذاهب الأخرى، ليشنّ عليها حملاته، بمناسبة أو بلا مناسبة، وكأنّه يتحدّث مع فرقة ضالّة قد مرقت من الدين.

وثانياً: ألاّ يذوب كلّياً في المجتمع الجديد بكلّ مافيه، حتى التقاليد الموروثة التي لم يكن مصدرها الإسلام، وحتى العُقد النفسيّة المتراكمة فيهم تجاه كلّ من يخالفهم بشيء.

إنّ منهجاً كهذا لو التزمه الواعون منّا، لوصلنا إلى أفضل ممّا نحن عليه الآن بكثير.

وحتى لو لم نصل جميعاً إلى نتيجة واحدة، وحتى لو عاد كلّ واحد منّا فانتخب مذهبه الذي نشأ عليه من جديد، فلن يؤدّي ذلك إلى خلاف جديد بيننا بالمرّة، بل بالعكس تماماً سيؤدّي إلى احترام كلّ منّا للآخر; لأنّه سيعرف عنه الكثير مما كان مخفياً عليه، أو كان مشوّهاً في ذهنه، نتيجة ماورثه في ذلك الواقع الممزّق المخيف "(1).

الفرق بين العصبيّة والوفاء للذكريات:

يذهب صائب عبد الحميد إلى وجود فرق بين العصبيّة والوفاء للذكريات فيقول:

" لست من الذين يرون أنّ هزيمة اليقين أمام العاطفة هو من أثر العصبيّة وحدها، فربّما يكون ذلك، ولكن ربّما تكون هذه العاطفة وفاءً للذكريات الجميلة التي لا يشك صاحبها في صفائها، وربّما يجتمع الأمران معاً.

والوفاء لذاته ممدوح، بعكس العصبيّة..

فكثيراً ما يقف المرءُ على حقيقة كان يعتقد بخلافها، ولكن لعقيدته هذه في قلبه قدسيّة أحياناً، فينبعث عن هذه القدسيّة سؤال يقول: أحقّاً أنّ هذا المفهوم الذي عشت

____________

1- صائب عبد الحميد/ منهج في الانتماء المذهبي: 15ـ24.


الصفحة 228
أُقدّسه لا أصل له، وأنّ الصواب في المفهوم الآخر الذي يأباه قلبي وتنفر منه نفسي؟!

هذه هي العصبيّة، وكم صدّت فحولاً عن مواصلة الطريق نحو الحقيقة الثابتة..

إنّ العصبيّة تمنح كثيراً من المفاهيم هالة قدسيّة، لكنّها سراب لا حقيقة لها.. وأصعب شيء على من يقدّس أمراً أن يقال له: إنّ الذي تُقدّسه سراب!!

وثمّة نوع آخر من العاطفة يشدّ المرء الى الوراء..إنّه الوفاء للذكريات.. فَلِم لا وقد أمضى أيّام شبابه وهو في ذروة الحماس الديني، مع ثلّة من إخوانه المؤمنين، تزدان مجالسهم بالذكر والبحث الصادق النقيّ الذي لا تشوبه شائبة من رياء أو مكابرة؟

إنّه ليعشق تلك الذكريات عشقاً لا تتخلّله سهام الطعن، فإذا ماواجهته الحقيقة بغير ما كان يرى ثار شوقه إلى تلك الذكريات وتأجّج عشقه لها، فينبعث من بين الشوق والعشق سؤال يُمِضُّ الفؤاد: أحقّاً كانت مجالسنا تلك قد تخلّلها شيء من الأوهام؟!

إنّه لايريد أن يشك في ذلك الماضي الجميل!!

وهذا هو الوفاء للذكريات...

ولقد كنت للعصبيّة عدوّاً حيثما واجهتني، غلبتها أو غلبتني، أمّا الذكريات فقد آخيتها وأحسنتُ صحبتها حتى النهاية، وقد جعلتها في فقرات من هذا الكتاب بمثابة صديق لي أحاوره فيستجيب لي ولو همساً.

وقد أعانني على ذلك كونها ذكريات واضحة لم تختلط في ذهني.. وكونها زاخرة بعلامات استفهام كانت تثيرها العقول في ساعات انطلاقاتها، فتخترق بحرّيتها أسوار القداسة، ثمّ تترك السؤال حائراً، وقلّما وجدت له جواباً مقنعاً وشافياً..

ورأيت أثناء رحلتي أن الوفاء للذكريات لا ينبغي ان يكون عاطفيّاً، فربّما ينعكس أثره فلا يكون عندئذ وفاءً.. وإنما المطلوب من الوفاء أن يكون وفاءً علميّاً إنْ صحّ التعبير "(1).

____________

1- المصدر السابق: 12.


الصفحة 229

المانع الرابع

الهوى

من الموانع الأخرى التي تردع الباحث عن الإذعان للحقّ، وتعيقه عن تغيير انتمائه المذهبي بعد القناعة ببطلان ماكان عليه من أفكار ومعتقدات هو الهوى، لأنّ الهوى يأخذ بزمام النفس لتنساق مع مغريات وشهوات وملاذ الحياة. ولهذا يمنع الهوى صاحبه عن قبول أيّة فكرة فيها منع لمشتهياته الدنيويّة، ولا يسمح لصاحبه أن يبادر إلى ما يخالف ميوله ورغباته.

ويتمرّد الهوى عن الحقيقة ويحاربها كلّما يجدها مناقضة لمصالحه الشخصيّة، ويحاول ـ تلبيةً للنزعات الأنانيّة الكامنة في النفس ـ أن يوظّف قدرات صاحبه من أجل خلق الأعذار لعدم التخلّي عمّا يخالف هواه.

وبعبارة أخرى فإن من له مصلحة أو منفعة أو هوى في فكرة معيّنة، فإنّه لو ترك زمام أموره بيد هواه لقاده الهوى إلى رفض كل فكرة لا تخدم مصالحه ومنافعه ولا تتماشى مع رغباته النفسية، وسيدير ظهره لتلك الفكرة ويكفّ بصرَه عن رؤيتها. ويكون الإنسان بعد وقوعه في أسر الهوى، على الرغم من اكتشاف فساد ما هو عليه، معرضاً عن قبول الفكرة الجديدة المخالفة لهواه.

ولهذا لا يستطيع هكذا انسان من اتباع الحق ما لم يكن لديه إرادة قويّة وعزيمة صادقة في طلب الحقّ، بحيث يدفعه ذلك نحو اعتناق الحقيقة ولو أدّى به ذلك إلى التضحية بممتلكاته وسحق شهواته ومخالفة أهوائه.

وأضف إلى ذلك أنّ الهوى يفرز في وجود الإنسان فهماً بشرياً خاصاً تنشأ منه اجتهادات خاطئة تزيّف الحقّ وتحرّف الواقع وتبعث بالحقيقة، بحيث يؤدّي ذلك إلى إرباك فهم الإنسان وفقدانه حالة الاتّزان.

ومن هذا المنطلق نجد الكثير من أهل الأهواء الذين يتّضح لهم الحقّ بالأدلّة والبراهين، يصعب عليهم التخلّي عن أفكارهم ومعتقداتهم السابقة وتغيير انتمائهم


الصفحة 230
المذهبي وقبول الحقّ، لأنّهم تبعاً لما تملي عليهم أهواؤُهم لا يودّونَ ترك ما ألِفوه، ولا يرضون إتّهام آبائهم بالضلال.

بل البعض من هؤلاء يصعب عليهم أنّ يروا الحقّ في غير ما يخدم مصالحهم، فيكبر عليهم الأمر حينما يجدون الحقّ في خلاف ما تهواه أنفسهم، فتأخذهم العزّة بالإثم ويصرّون على البقاء على ماهم عليه ولو ظهر لهم الحقُّ كالشمس في رابعة النهار.

ويشير التيجاني السماوي إلى هذا الأمر قائلاً:

" كم من إنسان يُعادي الحقّ ويُعانده ردحاً من عمره، حتى يكتشف في يوم من الأيّام أنّه على خطأ فيُسارع بالتوبة والاستغفار وهذا هو واجب كل إنسان، فقد قيل: (الرجوع إلى الحقّ فضيلة).

وإنّما المصيبة في الذين يرون الحقَّ عياناً ويلمسونه بأيديهم ثمّ يقفون ضدّه ويحاربونه من أجل أغراض خسيسة ودنيا دنيئة وأحقاد دفينة "(1).

ولهذا ينبغي للباحث الذي يودّ أن يخضع دائماً للحقّ أن لا يبيح لنفسه اتّباع الهوى، وأن يرفض السير وفق ما تملي عليه أهواؤه النفسيّة، لتكون نفسه مستعدّة للتضحية حين بحثها عن الحقّ.

وسبيل ذلك هو الاتّباع الصادق والاستسلام والخضوع لأوامر الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله) والإذعان بالحقّ ولو كان ذلك مخالفاً للميول والأهواء. وقد قال تعالى:

( إنّما كان قولَ المؤمنينَ إذا دُعوُا إلى الله ورَسُولِه ليَحكُمَ بينَهُم أنْ يقُولُوا سَمِعنا وأطَعنَا وأولئك همُ المُفلحونَ)(2).

( فَلا وربّك لا يؤمنونَ حتّى يُحكّموكَ فِيما شَجَر بينَهُم ثُمّ لا يَجِدُوا في أنفُسِهِم حَرَجاً ممّا قَضَيتَ وَيُسَلِّموا تَسلِيماً)(3).

____________

1- محمد التيجاني السماوي/ الشيعة هم أهل السنّة: 21.

2- النور: 51.

3- النساء: 65.


الصفحة 231
( فإن لَم يَستَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَم أنّما يتّبعون أهواءَهُم ومَن أضَلُّ مِمّن اتّبع هواهُ بِغَيرِ هُدىً مِن الله إنّ الله لا يَهدي القومَ الظالمينَ)(1).

وينبغي أيضاً للباحث عن الحقيقة أن يعي بأنّه إن لم يتمكّن من التغلّب على هواه، فإنّ جميع جهوده في البحث عن الحقّ تذهب سُدى، لأن متّبع الهوى إذا عرف الحق سيكون غير قادر على اتّباعه، لأنّ الهوى سيدفعه إلى الإعراض عمّا توصّل إليه.

ولهذا ينبغي للباحث قبل البحث أن يوطّن نفسه لاعتناق الحقيقة مهما كلّف الأمر، وأن لا تكون نواياه حين البحث بأن يبحث عن الحقيقة التي تحقّق مصالحه الشخصيّة، لأن هذا يدفع الباحث في كثير من الأحيان إلى رفض الحقيقة فيما لو رآها لا تتماشى مع ميوله ومصالحه، فيدفعه ذلك على الرغم من اليقين بأحقّيتها إلى رفضها وعدم تقبّلها.

ولهذا يدعو التيجاني السماوي إلى الحذر من هذا المانع الذي يصدّ الإنسان عن اتّباع الحقّ قائلاً:

" لا تدع وساوس الشيطان، ولا الغرور بالنفس، ولا التعصّب المقيت يستولي عليك، ويصدّك عن الوصول إلى الهدف المنشود والحقّ المفقود وجنّة الخلود "(2).

وله أيضاً في كتابه (ثمّ اهتديت):

" ولماذا نهرب من الحقيقة ونحاول طمسها عندما لا تتماشى مع أهوائنا "(3).

____________

1- القصص: 50.

2- محمد التيجاني السماوي/ الشيعة هم أهل السنّة: 45.

3- محمد التيجاني السماوي/ ثمّ اهتديت: 86.


الصفحة 232

المانع الخامس

التهيُّب

من العقبات الأخرى التي يواجهها الباحث الذي يتوجّه إلى تغيير انتمائه المذهبي بعد اقتناعه بأحقّية الانتماء الآخر هو التهيّب والشعور بالخوف من التخلّي عن معتقداته السابقة.

ويشير معتصم سيّد أحمد إلى هذه العقبة التي واجهها حين دنى خلال بحثه من الاستبصار، فيقول:

" بعد فراغي من بحثي الأول الذي كلّفني مجهوداً فكريّاً ونفسيّاً، وجعلني أعيش صراعات مع ضميري وأخرى مع زملائي وأساتذتي في الجامعة، وصلت فيه إلى قناعة كافية أشك في الشمس ولا أشك فيها، وكانت النتيجة من ذلك كما وضّحت وجوب اتّباع مذهب أهل البيت (عليهم السلام) وأخذ الدين عنهم.

وكانت هذه قناعاتي الأولى لفترة من الزمن، لم أتمكّن بعد من تحديد الموقف واختيار مذهبي رغم وجداني الذي كان يلُحّ عليّ باتّباع مذهب التشيّع، ورغم أنّ أصدقائي وأهلي وزملائي كانوا يصنفونني شيعيّاً، وكثير منهم يناديني بالشيعي وبعضهم بالخميني!، وأنا بعد لم أحدّد موقفي، لا أشك فيما توصّلت إليه، ولكن نفسي الأمّارة بالسوء هي التي تنهاني وتوسوس لي:

كيف تترك ديناً وجدتَ عليه آباءك؟!

وماذا تصنع مع هذا المجتمع الذي هو بعيدٌ عن اعتقادك؟!

وانت مَن حتى تصل إلى هذا؟! أغفل عنه أعاظم العلماء!! بل جلّ المسلمين؟!.. والآلاف من الأسئلة والتشكيكات التي غالباً ما كانت تتغلّب على وتسكّتني!

وأحياناً ينتفضُ عقلي وضميري.. هكذا.. دفع وجذب ومدّ وجزر وتوتّر عصبي وانفصام في نفسي، لا مفرّ ولا أنيس ولا صديق ولا حبيب..

فطفقتُ أسأل وأبحث عن الكتب التي ردّت على الشيعة، لعلّها تُنقذني مما أنا فيه


الصفحة 233
وتوضّح لي حقائق لعلّها غائبة عنّي، ولقد كفاني الوهّابيّة عن جمعها فقد كان إمام الجماعة في مسجد قريتنا يحضر لي كل ما أطلبه..

وبعد البحث فيها تعقّدت مشكلتي وازداد توتّري ولم أجد فيها بغيتي، لأنّها خالية من الموضوعيّة والنقاش المنطقي، وكل ما فيها سبٌّ ولعنٌ وشتم وافتراءات وكذب، شكّلت لي حجاباً في أوّل الأمر، ولكن بعد تجريدها من هذه التأثيرات الإعلاميّة تبيّنت أمامي أوهن من بيت العنكبوت.

فعزمت بعد ذلك على مواصلة البحث، رغم اقتناعي بما توصّلت إليه في البحث الأول مقاوماً تسويلات نفسي ومتطلّعاً لرؤية الحقيقة أكثر ظهوراً وضياءً، فوقع اختياري على بحث أدلّة ولاية الإمام علي (عليه السلام) والناصّة على إمامته وكان في ذهني مجموعة من الأدلّة التي تؤدّي هذا الغرض رغم أنّها كافية لمن كان له عقل صاف وقلب سليم، ولكن أردت أن يكون هو البحث الفاصل بين أن أكون سُنيّاً أعتقدُ بخلافة أبي بكر وعمر وعثمان وبين أن أكون شيعيّاً، أقول بإمامة على (عليه السلام).

وبعد البحث كانت المفاجأة! حيث لم أستطع وإلى الآن أن أجمع وأحصي وأتتبّع كل الأدلّة سواء أكانت نقليّة أو عقليّة، التي تصرّح وبكل وضوح بإمامة أمير المؤمنين (عليه السلام)، بعضها ظاهر في الدلالة وبعضها يحتاج إلى مقدّمات مطوّلة "(1).

ويشير محمّد علي المتوكّل إلى هذه العقبة التي كان يعاني منها صديقه، قائلاً:

" وبينما كنت أشحذ إرادتي متحرّراً من آخر أغلال الخوف والتبعيّة للإعلان عن عقيدتي الجديدة واختياري الواعي، كان صديقي يتشرنقُ بأوهامه وينسلخ عمّا أوتيَ من آيات ودلائل ويقول:

لو كان هذا حقّاً لاتّبعه من هو أعلم منّا من الأوّلين والآخرين، فكان بذلك كمن استوقد ناراً فلمّا أضاءت ماحوله أبى أن يمشي فيها فجعل علمه جهلاً ويقينه شكّاً.

____________

1- معتصم سيّد احمد/ الحقيقة الضائعة: 109.


الصفحة 234
كان كلّما اجتمعنا يجادلنا بلجاجة ومكابرة، مقلِّلاً من شأنه وشأننا، وكأنّما الحقّ لاينكشف إلاّ لكبار السنّ وذوي الألقاب العلميّة الجوفاء.

كان يقول:

مَن نحن حتى نكون أوّل من يتشيّع في السودان، هذا البلد الحافل بالعلماء والعرفاء في مختلف العصور؟

من نحن حتى نخالف مالكاً وأبا حنيفة وأحمد بن حنبل والشافعي وابن تيمية وغيرهم من علماء السلف؟

من نحن حتى ندّعي معرفة مالا يعرفه علماء السودان ومشايخه؟ "(1).

ويشير التيجاني السماوي إلى هذا التهيّب في جواب مَن اعترض على عنوان كتابه (ثمّ اهتديت) بأنّه ينطوي على غموض قد يبعث على التأمّل والتساؤل حول ما إذا كان الآخرون على ضلاله، فيقول:

" وعلى فرض أنّ العنوان يتضمّن معنى الضلالة التي تقابل الهداية فيما نقصده على المستوى الفكري من إصابة المنهج الإسلامي الصحيح الذي يضعنا على الصراط المستقيم، كما عقّب بعض القرّاء بذلك، فليكن كذلك: وهو الواقع الذي يتهيّب مواجهته البعض بروح رياضيّة بنّاءة، ونَفَس موضوعي خلاّق..ينسجم في الفهم مع قول الرّسول (صلى الله عليه وآله):

(تركت فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً).

فالحديث واضح وصريح في الإشارة إلى ضلال من لم يتمسَّك بهما معاً (الكتاب والعترة).

وعلى كل حال فأنا مقتنعٌ بانّني اهتديت بفضل الله سبحانه وتعالى إلى التمسّك

____________

1- محمد علي المتوكّل/ ودخلنا التشيّع سجّداً: 56.


الصفحة 235
بكتاب الله وعترة الرسول (صلى الله عليه وآله)فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لو لا أن هدانا الله، لقد جاءت رسُلُ ربّنا بالحقّ "(1).

فعبارة التيجاني (فليكن كذلك) تدلّ على جرأته وشجاعته في تخطّي هذه العقبة التي يصفها بعد ذلك قائلاً:

" وهو الواقع الذي يتهيّب مواجهته البعض بروح رياضيّة بنّاءة، ونَفَس موضوعي خلاّق.. ".

ويقول التيجاني السماوي أيضاً حول تجربته في تخطّي مانع التهيّب بعد غربلته لموضوع الصحابة و وصوله إلى النتائج التي هزّت كيانه:

" وعلى هذا خشيت على نفسي، واستغفرت ربّي مرّات عديدة أردت فيها الانقطاع عن البحث في مثل هذه الأمور التي تشكّكني في صحابة رسول الله وبالتالي تشكّكني في ديني، ولكنّي وجدت من خلال الحديث مع بعض العلماء طيلة تلك المدّة تناقضات لا يقبلها العقل، وبدؤوا يحذّرونَني انّني إن واصلت البحث في أحوال الصحابة فسوف يسلب الله نعمته عليّ ويهلكني، ومن كثرة معاندتهم وتكذيبهم كل ما أقول دفعني فضولي العلمي وحرصي على بلوغ الحقيقة إلى أن أقحم نفسي من جديد في البحث و وجدت قوّة داخليّة تدفعني دفعاً ".(2).

التوهّم بأنّ الكثرة تعني الحقَّ:

من أهم الأمور التي تبعث التهيّب في نفوس المستبصرين حين قصدهم ترك مذهبهم السابق والتوجّه إلى مذهب أهل البيت (عليهم السلام) رغم وجود الأدلّة الهائلة التي تأخذ بأيديهم إلى اعتناق التشيّع هي عدم القدرة على تقبّل خطأ ما عليه هذا الكمّ

____________

1- محمد التيجاني السماوي/ لأكون مع الصّادقين: 7.

2- محمّد التيجاني السماوي/ ثمّ اهتديت: 124.


الصفحة 236
الهائل من أتباع مذهب أهل السنّة والجماعة.

ويقول التيجاني السماوي حول تجربته في هذا المجال:

" وفي بعض الأوقات أتساءل كما يتساءل كثير من الباحثين، كيف لم يكتشف هذا الطريق إلاّ التيجاني.... علماء الإسلام الذين يُعدّون بالآلاف، بل بالملايين، وعلى مَرّ القرون واكتشفتها أنت اليوم.

وهذا في حدّ ذاته اعتراض وجيه، وأنا شخصيّاً تساءلت حول ذلك في عديد من المرّات، ولكنّي بتجربتي الشخصيّة التي بلغت من العمر ربع قرن، وبمجادلاتي مع بعض علمائنا، اكتشفت ـ ويا للأسف الشديد ـ أنّنا نردّد كالببغاء ماقيل قبلنا بدون بحث ولا تمحيص. أنا لا أردّد ما قاله الآباء فقط، وكأنّه قرآن كريم.

ونحن في بعض الأوقات نمجّد ونشكر ونفتخر بأشياء وهمية، علماً أنّها لاتقوم على الدليل والبحث العلميّ، بل قد تعاكس الخبرة البشريّة، وقد نشكر بعض الأحاديث التي تشتم ـ صراحة ـ رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ونحن نقبلها بكلّ فخر واعتزاز على أنّها من السنّة النبويّة "(1).

ويشير إدريس الحسيني إلى مواجهته لهذه العقبة، قائلاً:

" كنت كلّما طرحت سؤالاً على نفسي، رأيت شيطاناً يعتريني ويقول لي: (دع عنك هذا السؤال، فهل أنت اعظم من ملايين المسلمين الذين وُجدوا قبلك، وهل أنت أعلم من هؤلاء الموجودين حتى تحسم في هذه المسألة).

كنت أعلم أنّ هؤلاء الملايين لم يطرحوا هذا السؤال على أنفسهم بهذه القوّة والإلحاح، وكنت أعتقد رغم ذلك أنّ المسألة لا تحتاج إلى شهادة أزهريّة حتى نحسم فيها.

وعلى كل حال، فلم تكن هذه الاعتراضات الوسواسيّة بالتي تردني عن اندفاعي إلى كشف الحجاب عن الحقيقة المخبوءة.

____________

1- محمد التيجاني السماوي/ اعرف الحقّ: 13ـ14.


الصفحة 237
لكنّ شيئاً حزّ نفسي وهو هذه الكثرة الغالبة، لقد كبرت في عيني، وصعب عليّ مخالفتها، لولا أن هداني الله، بيد أنّ شيئاً واحداً جعلني انتصر عليها ولا أبالي، وهي عندما وجدتها جاهلة. واستحضرت (جدّيتي) التي ورثتها من فكر (الهجرة والتكفير) فهذا الأخير على علاّته، علّمني كيف أخالف المجتمع الجاهلي، فهذا احتياطٌ جليل مكّنني من الصمود أمام الأمواج البشريّة المتدفّقة، والتي ليس لها منطق في عالم الحقائق سوى كثرتها "(1).

ولهذا واجه القرآن هذه الحالة التي تجعل الكثير من الناس منهزمين نفسيّاً أمام كثرة الباطل، أو يخيّل لهم أنّ الحقّ في جانب الكثرة.

فقال تعالى: ( قُل لا يَستَوي الخَبيث والطيّب ولَو أعجَبك كَثرةُ الخبيث فاتّقوا اللهَ يا أوُلي الألبَاب لعلّكُم تُفلحونَ)(2).

وقد ذكر الباري عزّوجل آيات كثيرة من أجل تصحيح فهم الذين يظنّون بأنّ الكثرة تعني الحقّ، وأنّ أحقيّة أيّ عقيدة واصالتها ترتبط بكثرة عدد أتباعها وانتشارها أو ذيوع صيتها أو ما تحقّقه من انتصارات سياسيّة.

وقد جاءت في القرآن آيات كثيرة تصف الأكثريّةَ بأنّهم لا يعلمون(3)، ولايؤمنون(4)، ولايشكرون(5).

وبهذا أراد الباري عزّوجل أن ينتزع من نفوس المؤمنين الشعور بالضعف والانهزام والرهبة فيما هم عليه إزاء كثرة الباطل وقوّته، ليعرفوا أنّ التمييز بين الحقّ والباطل يتطلّب عدم لحاظ الكثرة والقلّة، لأنّ قضية الحقّ والباطل لا تخضع لحساب

____________

1- إدريس الحسيني/ لقد شيّعني الحسين: 61.

2- المائدة: 100.

3- الأعراف: 187.

4- هود: 17.

5- البقرة: 243.


الصفحة 238
الأرقام، وانّ الكثرة العدديّة لا تُعطي للمذهب صِفتي الأصالة والواقعيّة، وأن قلّة عدد مذهب معيّن لا يعني أنّ ذلك المذهب فرقة منشقّة وشاذّة ولا تمت إلى الحقيقة بصلة.

ويشير هشام آل قطيط إلى هذه الحقيقة في كتابه (ومن الحوار اكتشفت الحقيقة) تحت عنوان: فعل الأكثرين لايكون دليلاً على الصواب:

" فمن ذلك قوله تعالى:

( وَ إنْ تُطِع أكثَر مَنْ في الأرضِ يضلّوكَ عَن سبيلِ الله)(1).

وقال تعالى: ( وَمَا وجَدنا لأكثَرِهِم من عَهد وإنْ وَجَدنا أكثَرَهم لَفاسِقين)(2).

وقال تعالى: ( فأبى أكثَرُ النّاسِ إلاّ كفُوراً)(3).

وقال تعالى: ( إنّ الله لَذو فَضل على النّاس ولكنّ أكثَر النّاسِ لا يَشكرُونَ)(4).

وقال تعالى: ( يَعرِفُونَ نِعمَة الله ثمّ يُنكِرونَها وأكثَرُهُم الكافِرونَ)(5).

وقال تعالى: ( بَل أكثَرُهم لا يَعلَمونَ الحقَّ فهُم مُعرِضون)(6).

وكل هذه الآيات تدلّ على أن الحقّ لا يكون دائماً بجانب الكثرة، وإنّما يكون غالباً بجانب القلّة.

ولو أنّك تدبّرت يا أخي لوجدت على مَرّ التاريخ أن الأغلبيّة عصاة، والمخلص المطيع منهم قليل والأكثر منهم جهّال، والعلماء منهم قليلون وأهل المروءة والشجاعة فيهم أقلّ وأهل الفضائل والمناقب أفراد وأن المدار في معرفة الحقّ والوقوف عليه

____________

1- الانعام: 116 2- الأعراف: 102.

3- الفرقان: 50.

4- يونس: 62.

5- النحل: 83.

6- الأنبياء: 24.


الصفحة 239
يعتمد على الدليل والبرهان "(1).

وقد جرى بين عبد المنعم حسن قبل استبصاره وابن عمّه المستبصر حواراً يبيّن بصورة مُجملة العقبات التي تخلق التهيّب في نفسيّة الباحث عند تغيير انتمائه المذهبي.

وينقل لنا عبد المنعم حسن هذا الحوار في كتابه (بنور فاطمة اهتديت)، قائلاً:

" كنت قلقاً جدّاً وأنا أحاول تجنّب أيّ حوار مع ابن عمّي حول هذا المذهب الجديد الذي تجسّد في سلوكه أدباً وأخلاقاً ومنطقاً ممّا جعلني أفكّر في أنّه لا غضاضة في النقاش معه حول أصل الفكرة رغم قناعتي بأنّ ما يؤمن به لا يتجاوز أُطُر الخرافة، أو ربما نزوة عابرة جعلته يتبني هذه الأفكار الغريبة.

قلقي كان نابعاً من تخوّفي لأن أتأثّر بفكرته أو ربّما أجد أنّها تجبرني على الاعتراف بها، وبالتالي أخالف ما عليه الناس وما وجدت عليه آبائي، وسأكون شاذّاً في المجتمع وربّما اتهمت بأني مارق من الدين كما أتّهم.

ولكنّي تجاوزت كل ذلك وقرّرت أن أخوض معه حواراً لعلّني أجدُ مَنفذاً أزعزع من خلاله ثقة هذا الرجل بما يعتنقه، خصوصاً وأنّني قرأت كتباً لابأس بها ضدّ الشيعة والتشيّع ومنها كان المخزون الذي من خلاله أنطلق لجداله فبدأت معه الحوار.

قلتُ له: الآن أنت تركت ما كان عليه الناس وأصبحت شيعيّاً، فما هي الضمانات التي تمنعك من أن تغيّر مذهبك غداً؟

قال: الآية الكريمة تقول: ( قُل هاتُوا بُرهانَكُم إنْ كُنتُم صَادقِينَ) وأنا من أنصار الدليل أينما مالَ أميل وقد أفرغت وُسعي وتوصلت إلى أنّ الطريق المستقيم هو مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، والدليل على صحّته أن الأدلّة التي يسوقها أصحابه ممّا اتّفق عليه جميع المسلمين.

قلت: لكن لماذا لم يكتشف غيرك هذه الحقيقة؟

____________

1- هشام آل قطيط: ومن الحوار اكتشفت الحقيقة: 72ـ73.


الصفحة 240
قال: أوّلاً: من قال لك أنّه لا يوجد غيري! وثانياً: وصول غيرك للحقيقة أو عدمه ليس دليلاً على صحّة أو خطأ ما توصلت إليه، إنّ المسألة تكمن في نفس وجدان الحقيقة والحقّ ومن ثمّ اتباعه، ولا شأن لي بغيري، لأن الله يقول: ( يَا أيّها الّذينَ آمَنُوا عَلَيكُم أَنفُسَكُم لا يضرُّكُم مَنْ ضلَّ إذا اهتَدَيتُم)(1).

قلت له: لو افترضنا صحّة مذهب الشيعة، ذلك يعني أن 90% من المسلمين على خطأ، لأنّ كل المسلمين يؤمنون بمذهب أهل السنّة والجماعة، فأين هذا التشيّع من عامّة الناس؟

قال: الشيعة ليست بهذه القلّة التي تتصوّرها، فهم يمثّلون غالبية في كثير من الدول، ثمّ أنّ الكثرة والقلّة ليست معياراً للحقّ بل القرآن كثيراً ما يذمّ الكثرة، يقول تعالى:

(ولكنّ أكثَركُم للحقِّ كارِهُونَ)(2)، ويقول: (ولا تجدُ أكثَرَهم شاكرينَ)(3)، و (قليلٌ من عباديَ الشّكوُر)(4)، وبذلك لا تكون الكثرة دليلاً على أنّهم على حقّ.

أمّا التشيّع كمنهج سماوي فهو بدليل أنّني شيعي، وإذا وُجّه الإشكال إلى عدم انتشار التشيّع، فهذا يتوجّه أيضاً لرسول الله (صلى الله عليه وآله) في أوّل دعوته وحتى وفاته إذ أنّ الإسلام لم يكن منتشراً ومع ذلك فهو الحق المنزل من قِبَل الله تعالى.

فقلت متعجّباً: وهل تريدني أن أسلّم بأنّ آباءَنا وأجدادنا الذين عرفناهم متديّنين طريقهم غير الذي أمر به الله.

ابتسم قائلاً: أنا لستُ في مقام بيان وتقييم أحوال الماضين، فالله أعلمُ بهم، ولكن أذكّرك بأنّ القرآن يرفض أن يكون الأساس في الاعتقاد تقليد الآباء والأجداد، يقول تعالى: ( وإذا قيلَ لَهُمُ اتّبِعوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالوا بَل نتّبِعُ ما أَلفَينَا عليه آباءَنَا أوَ لَو كان

____________

1- المائدة: 105 2- الزخرف: 78.

3- الأعراف: 17.

4- سبأ: 13.


الصفحة 241
آباؤُهُم لا يَعقِلونَ شَيئاً ولا يَهتَدُون)(1)"(2).

ويقول عبد المنعم حسن حول هذا الحوار الذي استمرّ فيه الحديث إلى جوانب أخرى:

" انتهينا من جلسة الحوار هذه وأنا متعجّب من هذه الثقة التي يملكها، وفكّرت في البحث ولكن ليس لكي أقتنع وإنّما لأملك أدلّة أقوى أدحض بها حججه، وبعد فترة قرّرت ألاّ أدخل معه في نقاش حتى أكون بعيداً عن المشاكل وحتى لا أتأثّر بهذه الأفكار الغريبة والتي أرى شخصاً عن قرب يتبنّاها "(3).

وعموماً على الرغم من كلّ الموانع التي يواجهها المستبصر في طريقه إلى اعتناق مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، والتي فرضت عليه بهدف الإعاقة أو غير ذلك، فإنّ المستبصر يوطّن نفسه لإزالة كافّة العقبات التي تمنعه من اعتناق المذهب الذي أسفر بحثه الحرّ والموضوعي والمبتني على الأسس العلميّة عن أحقّيته.

ومن هذا المنطلق يهجر المستبصر عقيدته الموروثة بعد التثبّت من ابتعادها عن الصواب، ويتوجّه إلى المعتقدات التي أملتها عليه البراهين والأدلّة الساطعة.

____________

1- البقرة: 170.

2- عبد المنعم حسن/ بنور فاطمة اهتديتُ: 55ـ56.

3- المصدر السابق.


الصفحة 242

فهرس المطالب / تحميل الكتاب

فهرس المطالب

zip pdf doc