المؤلفات » التحوّل المذهبي (بحث تحليلي حول رحلة المستبصرين إلى مذهب أهل البيت عليهم السلام)

الفصل الثاني
دوافع الاستبصار





الصفحة 74
إنّ الاستبصار لا ينشأ من العواطف والأحاسيس الطارئة، أو الاندفاع نتيجة الانفعال أو المجازفة او اللامبالات بالعقيدة أو التذبذب في المبدأ والاتّجاه، بل هو موقف يتّخذه صاحبه بعد دراسة واعية ومستفيضة وتفكير دائب ومعمّق تكون ثمرته القناعة الكاملة.

ويواجه المستبصر في هذه المرحلة الكثير من المصاعب ـ التي سوف نشير إليها في البحوث القادمة ـ ويواجه الكثير من العقبات التي يتطلب اجتيازها الكثير من الترويض والوعي والتحلّي بالصبر، ولكن المستبصر يصمد بقوّة ليسير وفق ما تملي عليه الأدلّة والبراهين.

ولا يتم هذا التحوّل المذهبي إلاّ عبر مجموعة عوامل تقود صاحبها وتدفعه إلى اعتناق مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، وهذا هو الموضوع الذي سوف نسلّط عليه الضوء في هذا الفصل.

وأودّ قبل التطرّق إلى هذه العوامل أن أشير إلى هذه الحقيقة بأنّ الأسباب والعوامل التي تدفع المستبصرين إلى اعتناق مذهب أهل البيت (عليهم السلام)كثيرة ومتنوّعة ومتداخلة، وبعضها تعمل بصورة مباشرة وأخرى تعمل بصورة غير مباشرة، وبعضها واضحة و ماثلة للعين وبعضها خفيّة وكامنة.

وكل هذه العوامل تعمل بأقدار متفاوتة، وتترك آثاراً مختلفة، وقد يقوى أثرها في شخص ويضعف في آخر، ولكنّها جميعا لها في النهاية أثرها الذي لاينكر.


الصفحة 75

الدافع الأول:

التعرّف على عظمة أهل البيت (عليهم السلام)

إنّ الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) هم موضع الرسالة ومختلف الملائكة، مهبط الوحي، معدن الرحمة، خزّان العلم، مُنتهى الحلم، أئمّة الهدى، أعلام التّقى، مصابيح الدّجى، ذوي النُهى وأولي الحِجى، معادن حكمة الله، حفظة سرّ الله، حملة كتاب الله وأوصياء نبيّ الله تعالى.

وهم الدّعاة والقادة الهداة والسّادة الولاة والذّادة الحُماة وأهل الذّكر وأولي الأمر وبقيّة الله وخيرته وحزبه وعَيبة علمه وحجّته وصراطه ونوره وبُرهانه.

وهم الأئمّة الرّاشدون المهديّون، المعصومون، المكرّمون، المقرّبون، المتّقون، الصّادقون، المطيعون لله، القوّامون بأمره، العاملون بإرادته، الفائزون بكرامته...

اصطفاهم الله بعلمه وارتضاهم لغيبه واختارهم لسرّه واجتباهم بقدرته وأعزّهم بهداه وخصّهم ببرهانه وانتجبهم لنوره وأيّدهم بروحه ورضيهم خلفاء في أرضه وحُججاً على بريّته وأنصاراً لدينه وحفظة لسرّه وخزنة لعلمه ومستودعاً لحكمته وتراجمة لوحيه وأركانا لتوحيده وشهداء على خلقه وأعلاماً لعباده ومناراً في بلاده وأدلاّءَ على صراطه...

عصمهم الله من الزّلل وآمنهم من الفتن وطهّرهم من الدَّنس وأذهب عنهم الرّجس وطهَّرهم تطهيراً...

فالرّاغب عنهم مارق واللاّزم لهم لاحق والمقصّر في حقّهم زاهق، والحقُّ معهم


الصفحة 76
وفيهم ومنهم وإليهم، وهم أهله ومعدنه، وميراث النبوّة عندهم و آيات الله لديهم وعزائمه فيهم ونوره وبرهانه عندهم وأمره إليهم.

مَن والاهم فقد والى الله، ومن عاداهم فقد عاد الله، ومن أحبّهم فقد أحبّ الله، ومن أبغضهم فقد أبغض الله ومن اعتصم بهم فقد اعتصم بالله.

هم الصّراط الأقوم وشهداء دار الفناء وشفعاء دار البقاء والرّحمة الموصولة والباب المبتلى به النّاس... هم نور الأخيار وهداة الأبرار وحُجج الجبّار... بهم يسلك إلى الرّضوان وعلى من جحد ولايتهم غضب الرّحمن.

كلامهم نور وأمرهم رشد ووصيّتهم التّقوى وفعلهم الخير وعادتهم الإحسان و سجيّتهم الكرم وشأنهم الحقّ والصّدق والرّفق وقولهم حكم وحتم ورأيهم علم وحلم وحَزم، إنْ ذُكر الخير كانوا أوّله وأصله وفرعه ومعدنه ومأواه ومنتهاه(1).

وبصورة عامّة، فإنّ أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) هم ممّن لم تنجّسهم الجاهليّة بأنجاسها، ولم تُلبسهم من مدلهمّات ثيابها، وهم التّامون في محبّة الله والمخلصون في توحيد الله، وكلامهم نور تهتدي الأجيال بهديه، وتسير على ضوئه وتعشوا إليه إذا أظلمت عليها الجهالات وتاهت في مسالك الباطل.

وهم حياةٌ للأنام ومصابيح للظّلام ودعائم للإسلام، وهم الّذين يأخذون بأيدي الأمّة ليرشدوها إلى سواء السّبيل ويعضدون مسيرتها لئلاّ تقع في المزالق.

وهم الّذين يصفهم الإمام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة قائلاً:

(هم عيش العلم وموت الجهل، يخبركم حلمهم عن علمهم، وظاهرُهم عن باطنهم، وصمتُهم عن حُكم منطقهم، لايُخالفون الحقَّ ولايختلفون فيه، وهم دعائم الإسلام وولائج الاعتصام، بهم عاد الحقُّ إلى نصابه وانزاح الباطل عن مقامه، وانقطع لسانُه عن منبته، عقلوا الّدينَ عقل رعاية ووعاية لاعقل سماع ورواية فإنّ

____________

1- هذه الأوصاف لأهل البيت عليهم السلام مُقتبسة من الزّيارة الجامعة.


الصفحة 77
رواة العلم كثير ورعاته قليلٌ)(1).

وقال (عليه السلام) أيضاً في حقّهم: (لايُقاس بآل محمّد (صلى الله عليه وآله) من هذه الأمّة أحد، ولا يسوّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً... هم أساسُ الّدين وعماد اليقين، إليهم يفيء الغالي، وبهم يلحق التّالي، ولهم خصائص حقّ الولاية...)(2).

فلهذا يكون الأئمّة من أهل البيت (عليهم السلام) خير مُعين يستطيع طالب الحقيقة أن ينهل منه المنهج والعقيدة، لأنّ الله سبحانه وتعالى قد اصطفاهم ليكونوا بعد الرسول (صلى الله عليه وآله)بقيّته في أمّته وحُججاً على بريّته وأنصاراٌ لدينه وأعلاماً لعباده ومناراً في بلاده وأدلاّء على صراطه وحَفَظةً لشريعته وملجأ لحلّ الاختلاف وأماناً للأمّة من الغرق في بحار الظّلمات المتلاطمة الزاخرة بكلّ أنواع المخاطر.

ولهذا قرنهم الرّسول (صلى الله عليه وآله) بمحكم الكتاب في حديث الثّقلين، وجعلهم قدوةً لأولي الألباب وسُفناً للنّجاة والعروة الوثقى التي لاانفصام لها، وبابُ حِطّة التي من دخلها كان آمناً.

ولكن للأسف الشديد أنّ السلطات الجائرة على مرّ العصور حاولت نتيجة عدائها وخصومتها لأهل البيت (عليهم السلام) أن تقلب موازين الحقائق.

وكان لكلٍّ من هذه السلطات في عدائها لعترة الرسول (صلى الله عليه وآله) أسباب لاتخفى على أحد.

ولهذا تعرّض أهل البيت (عليهم السلام) وأتباعهم وأشياعهم للعُدوان وكان نصيبهم من ذلك القتل والسّجون والتشريد في الآفاق.

ويشير أحمد حسن العنثري إلى هذه الحقيقة بقوله:

" كانت المحنة التي تعرّض لها آلُ الرّسول (صلى الله عليه وآله) وأتباعهم عظيمة، فقد جهد

____________

1- نهج البلاغة/ الخطبة: 239.

2- نهج البلاغة/ الخطبة: 239.


الصفحة 78
أعداؤهم منذ اليوم الأوّل على محاربتهم بشتى فنون المحاربة قاصدين إبادتهم وإخماد صوتهم، فقاتلوهم قتالاً ضروساً لم يشهد له تاريخ الفتن في عالم الإسلام نظيراً، فسَفكوا دماءً لم يُسفك مثلها في كلّ الفتوحات، حتى امتدّت أيدي الحقد والغدر والخيانة إلى أوصياء الرسول (صلى الله عليه وآله) ابتداء من على (عليه السلام) و مروراً بالحسن والحسين (عليهما السلام) وحتى الإمام العسكري (عليه السلام) فمنهم مذبوحٌ ومنهم مسمومٌ وكادوا يقضون عليهم في واقعة كربلاء، وهكذا تفشّى القتل والتشريد بذريّة النبي (صلى الله عليه وآله)وبشيعتهم عبر القرون "(1).

ومن جهة أخرى فتبعاً لأهواء السلطان جهدت أقلام المستأجرين على تجاهل الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام)، ومن المؤسف أن هذه الحالة مستمرّة إلى يومنا هذا، بحيث يقول محمد علي المتوكّل:

" خلت مناهجُنا الدراسيّة من ذكرهم [أهل البيت]، مع أنّها حوت الغثّ والسمين من السيَر والأخبار، عن رجال ونساء من الشرق ومن الغرب، وهذا في حدّ ذاته كان مثار تساؤل كبير، إذ ماذا كنّا نعرف ونحن جامعيّون ننتمي إلى حركة اسلاميّة عن الإمام علي، عن السيّدة الزهراء، عن الحسن والحسين وأبنائهما، عن زينب بنت علي؟ لاشيء يُذكر، مقارنة بغيرهم وقياساً إلى عظيم شأنهم وموقعهم من رسول الله (صلى الله عليه وآله)ومكانتهم عنده.

لقد تجاهلت المناهج الدراسيّة سيرة أهل البيت (عليهم السلام) لأنّها ارتبطت بسلبيات الآخرين وجرائمهم، فلم يشأ التربويّون لفت أنظار التلاميذ إلى الدوائر السوداء في تاريخ المسلمين! بينما تجاهلتها الحركة الإسلاميّة لأنها في الأساس تقوم على شق من التاريخ ورجاله، ينكشف زيفهم إذا ما قرأ المسلمون سيرة أهل البيت (عليهم السلام) وعرفوا

____________

1- أحمد العنثري/ الامامة في الميزان (مخطوط): 3.


الصفحة 79
مكانتهم "(1).

ويشير عبد المنعم حسن إلى هذه الحقيقة أيضاً، قائلاً:

" ولأهل البيت (عليهم السلام) تراثٌ عظيم كان من الممكن أن تستفيد منه الأمّة ولكنّها أبت إلاّ نفوراً.

وإحدى معاجزهم التي بهرتني، ذلك المنهج في الّدعاء وكيفيّة التقرّب إلى الله تعالى والأدب الرّفيع في مخاطبة الربّ سُبحانه.

والقارىء للصحيفة السجّاديّة وهي صحيفة كلّها أدعية للإمام الرابع على بن الحسين السجّاد (عليه السلام) يتعجّب لماذا لم يهتم علماء السنّة بهذه الصحيفة، هل لأنها واردة عن أحد أئمة أهل البيت (عليهم السلام)؟ أم ماذا؟!! "(2).

ولكن رغم كل هذا الاضطهاد والتعتيم الذي لاقته مدرسةُ أهل البيت (عليهم السلام)من السّلطات الحاكمة، فإنّ ذلك لم يزددها إلاّ تجذّراً في الأمّة، لأنّها مدرسة تحتوي على أنوار ساطعة من الحقائق بحيث لا تقف أمامها ظلمات أهل الدنيا.

فلهذا اضمحلّت جهود الطغاة والظالمين وانهارت دولهم دولة بعد أخرى، ولكن بقيت مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)شامخة تّتسع يوماً بعد يوم وتمتدّ في جميع أرجاء المعمورة، بحيث لاتجد اليوم مصراً إلاّ وللشيعة أو للمستبصرين فيه نشاطات مكثّفة لنشر فكر ومبادىء مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) ورفد المسلمين بعلوم و معارف آل الرسول (صلى الله عليه وآله).

و بدأ الكثير في عالمنا المعاصر يَعوا مكانةَ أهل البيت (عليهم السلام) ويدركوا سموّ شأنهم وعلوّ مقامهم وجلالة قدرهم، وقد عرف الكثير أنّ شريعة الرسول (صلى الله عليه وآله)المرويّة عن طريق أهل البيت (عليهم السلام) أفضل طريق لمعرفة ماجاء به رسولُ الله (صلى الله عليه وآله)، لأنّها:

____________

1- محمد علي المتوكل/ ودخلنا التشيّع سجّداً: 40.

2- عبد المنعم حسن/ بنور فاطمة اهتديت: 210.


الصفحة 80
ولانّها أوّلاً: تنبع من عين صافية.

وثانياً: لأنّها حافظت على استقلالها، ولم تخضع للسُلطات الحاكمة التي حاولت تشويه الّدين وصياغته على ضوء مآربها ومبتغياتها.

ولهذا نجد الكثير من أهل السنّة التحقوا بركب أهل البيت (عليهم السلام) ليستزيدوا من أنوار معارفهم، ولينهلوا من معينهم العذب العلوم النقية التي لم تمسها أيدي التحريف والتلاعب.

كما أنّ الكثير من أهل السنّة عرفوا أنّ تراث مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)منهل عذب للخير وينبوع فياض بالحكمة ورصيد ضخم في الكمال والمعرفة، وبإمكان أيّ شخص أن يستلهم منه المعارف الحقّة والمبادىء الرفيعة والمثل العليا.

وقد تبيّن للكثير من هؤلاء أنّ هذه المدرسة إضافة إلى نقاء تراثها فهي مدرسة غنيّة، وفيها كنوز من المعارف لا تحصى،بحيث يستطيع الإنسان أن يكتشف في كل أفق من آفاقها معارف جديدة يهتدي بها إلى الله سبحانه وتعالى.

فلهذا لم يتباطأ هؤلاء في الالتحاق بركب هذه المدرسة والسير على هداها واقتفاء أثرها.

التأثّر بفاطمة الزهراء (عليها السلام):

يعتبر التأثر بشخصيّة الزهراء (عليها السلام) من جملة أهم الأسباب التي دفعت بعض أهل السنّة إلى اعتناق مذهب أهل البيت (عليهم السلام).

ويُمكننا عدّ عبد المنعم حسن من جملة الّذين اعتنقوا مذهب أهل البيت (عليهم السلام)عن طريق تأثّره بفاطمة الزهراء (عليها السلام).

ويقول هذا المستبصر في كتابه (بنور فاطمة اهتديت) حول بداية استبصاره أنّه استمع عبر إحدى الأشرطة الصوتيّة إلى محاضرة أحد الخطباء الحسينيّين، والتي بدأ الخطيب فيها بقراءة خطبة الزهراء (عليها السلام) التي ألقتها في المسجد النبويّ بعد أن


الصفحة 81
غُصب حقُّها.

فشعر عبد النمعم حسن أنّ هذه الخطبة اخترقت بتعابيرها الرائعة وجوده ثمّ وجدت لنفسها مأوى في سويداء قلبه وكيانه بأسره.

ويذكر هذا المستبصر أن المقطع الذي تأثر به من خطبة الزهراء (عليها السلام) أمام المهاجرين والأنصار هو قولها (عليها السلام):

"(وأنتم الآن تزعمون أنّ لاإرث لنا، أفحكم الجاهليّة تبغون؟!! ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون؟! أفلا تعلمون؟ بلى قد تجلّى لكم كالشّمس الضاحية أنّي ابنتُه.

أيّها المسلمون!! أأُغلب على إرثي؟ ياابن أبي قُحافة! أفي كتاب الله أن تَرث أباك ولاأرثَ أبي؟ لقد جئتَ شيئاً فريّاً، أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم؟!

إذ يقول: ( و وَرِثَ سُليمانُ داوُدَ) وقال فيما اقتصّ من خبر زكريّا ـ إذ قال:

(فَهَب لي من لَدُنكَ وَليّاً يَرثُني و يَرثُ من آلِ يَعقوُب) وقال: ( وأوُلوا الأرحَامِ بَعضُهُم أَولى ببَعض في كتَابِ الله) وقال: ( إنْ تَرَكَ خيراً الوصيَّةَ للوَالِدينِ والأقْرَبين بالمَعروُفِ حقّاً على المُتّقينَ).

وزعمتُم أنّ لاحَظوة لي ولا إرث من أبي أفخصّكم الله بآية أخرج أبي منها؟ أم تقولون إنّا أهل ملّتين لا يتوارثان؟ أولست أنا وأبي من أهل ملّة واحدة؟ أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمّي؟ فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك. نعم الحَكَم الله والزّعيم محمّد والموعد القيامة وعند السّاعة يخسر المُبطِلون ولاينفعكم إذ تندمون)"(1).

يقول عبد المنعم حسن حول تأثّره بهذا المقطع من الخطبة:

____________

1- عبد المنعم حسن/ بنور فاطمة اهتديت: 59.


الصفحة 82

" نفذت هذه الكلمات كالّسهم إلى أعماقي، ثمّ فتحت جرحاً لا أظنّه يندمل بسهولة ويسر، غالبت دموعي وحاولت منعها من الإنحدار ما استطعت!

ولكنّها انهمرت وكأنّها تُصرّ أنْ تغسل عارَ التاريخ في قلبي، فكان التصميم للرحيل عبر محطات التاريخ للتعرّف على مأساة الأمّة وتلك كانت هي البداية لتحديد هويّة السير والانتقال عبر فضاء المعتقدات والتاريخ والميل مع الدليل.

كان ذلك في الدّار التي يقيم فيها ابن عمّي الشيعي! جئت لتحيّته والتحدّث معه عن أمور عامّة.. لحظة ثمّ لفت انتباهي صوتُ خطيب ينبعث من جهاز التسجيل قائلاً:

(وهذه الخطبة وردت في مصادر السنّة والشيعة وقد ألقتها فاطمةُ الزهراء (عليها السلام) لتثبيت حقّها في فدك)، ثم بدأ الخطيب في إلقاء الخطبة "(1).

ويضيف هذا المستبصر:

" إلى حين استماعي لهذا الشريط لم أكن على استعداد للخوض في قضايا خلافيّة مذهبيّة. قد عرفنا أنّ الأخ ـ ابن عمّي ـ شيعي وسألنا الله أنْ يهديه، وكنّا نتحاشى الدخول معه في نقاش بقدر استطاعتنا... ولكن أبى الله سبحانه وتعالى إلاّ أن يقيم علينا حجّته "(2).

ويذكر عبد المنعم حسن حول الآثار التي تركتها هذه الخطبة بعد أن استمع إليها من الشريط:

" تدفّق شعاعُ كلماتها إلى أعماق وجداني، و اتّضح لي أنّ مثل هذه الكلمات لاتخرج من شخص عادي، حتى ولو كان عالماً مفوهاً درس آلاف السنين، بل هي في حدّ ذاتها معجزة، كلمات بليغة... عبارات رصينة، حجج دامغة وتعبير قوي...

تركتُ نفسي لها، واستمعت إليها بكلّ كياني، وعندما بلغت خطبتها الكلمات التي

____________

1- المصدر السابق: 60.

2- المصدر السابق.


الصفحة 83
بدأت بها هذا الفصل لم أتمالك نفسي وزاد انهمار دموعي.

وتعجبت من هذه الكلمات القويّة الموجهة إلى خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله)،ومما زاد في حيرتي أنّها من ابنة رسول الله، فماذا حدث؟ ولماذا.. وكيف؟!! ومع من كان الحق، وقبل كل هذا هل هذا الاختلاف حدث حقيقة؟

وفي الواقع لم أكن أعلم صدق هذه الخطبة ولكن اهتزّت مشاعري حينها وقرّرت الخوض في غمار البحث بجدّية مع أول دمعة نزلت من آماقي.. ومن هذا المنحى لا أريد أن أسمع من أحد، فقط أريد خيط البداية أو بداية الخيط لانطلق، ولم تكن الخطبة مقصورة على ما ذكرته من فقرات، بل هي طويلة جدّاً، وفيها الكثير من الأمور التي تشحذ الهمّة لمعرفة تفاصيل ما جرى و ظروفه الموضوعيّة المحيطة به "(1).

التأثّر بالإمام الحسين (عليه السلام):

من الّذين تأثّروا في استبصارهم بالإمام الحسين (عليه السلام) وتشيّعوا عن طريقه، يمكننا ذكر إدريس الحسيني، بحيث أنّه ألّف بعد استبصاره كتاباً سمّاه (لقد شيّعني الحسين)، وقد جاء فيه:

" ما إن خلصت من قراءة (مذبحة) كربلاء، بتفاصيلها المأساويّة، حتى قامت كربلاء في نفسي وفكري، من هنا بدأت نقطة الثورة، الثورة على كل مفاهيمي ومسلّماتي الموروثة، ثورة الحسين داخل روحي وعقلي "(2).

وله في مكان آخر حول (فاجعة الطف):

" هذه وحدها الحدث الذي أعاد رسم الخريطة الفكريّة والنقّية في ذهني "(3).

ويقول إدريس الحسيني حول الأبعاد التي أخذت مأساة كربلاء في حياته:

____________

1- المصدر السابق: 61.

2- إدريس الحسيني/ لقد شيّعني الحسين: 313.

3- المصدر السابق: 60.


الصفحة 84
" كنت أطرح دائماً على أصدقائي قضيّة الحسين المظلوم وآل البيت (عليهم السلام)، لم أكن أطرح شيئاً آخر. فأنا ضمآن إلى تفسير شاف لهذه المآسي، لأنّني وبالفطرة التي اكسبنيها كلام الله ـ جلّوعلا ـ لم أكن أتصوّر، وأنا مسلم القرن العشرين، كيف يستطيع هؤلاء السّلف (الصالح) أن يقتلوا آلَ البيت تقتيلاً؟!

لكن أصحابي، ضاقوا منّي وعزّ عليهم أن يروا فكري يسير حيث لا تشتهي سفينة الجماعة، وعزّ عليهم أن يتّهموني في نواياي، وهم قد أدركوني منذ سنين البراءة وفي تدرّجي في سبيل الدعوة إلى الله.

قالوا بعد ذلك كلاماً جاهليّاً، لشدّ ما هي قاسية قلوبهم تجاه آل البيت (عليهم السلام).

ومن هنا بدأت القصّة!

وجدتُ نفسي أمام موجة عارمة من التساؤلات التي جعلتني حتماً أقف على قاعدة اعتقاديّة صلبة.

إنّني لستُ من أولئك الّذين يحبّون أن يخدعوا أو ينومّوا، لا، أبداً، لا أرتاح حتى أُجدّد منطلقاتي، وأعالج مسلّماتي! فلتقف حركتي في المواقف، مادامت حركتي في الفكر صائبة. هنا لا أتكلّم عن الأوضاع الأخرى التي ضيقت علّي السبيل.

وإعلان البعض ـ غفر الله لهم ـ عن مواقفهم الشاذة تجاه قضيّة كهذه لا تحتاج إلى أكثر من الحوار!

إنّ هذه الفكرة التي انقدحت في ذهني باللطف الإلهي جعلتني أدفع أكبر ثمن في حياتي، وكلّفتني الفقر والهجرة والأذى... وما زادني في ذلك إلاّ إيماناً وإصرارا...

إنّ هذا الطريق، طريقٌ وعِر، فيه تتجلّى أقوى معاني التضحية، وفيه يكون الاستقرار والهناء بدعاً. فأئمّة هذا الطريق ما ارتاح لهم بالٌ ولا قرّ لهم جنان، لقد يُتِّموا وذُبّحوا، وحوربوا عبر الأجيال! "(1).

____________

1- المصدر السابق: 62.


الصفحة 85
ويقول إدريس الحسيني حول ما لاقاه من معاناة في مجال بحثه حول واقعة الطف:

" كنت أظنّ أنّ الإسلام قد أعطانا روحاً قويّة لطلب العدالة، ولم أكن أظن أنّ بعضنا سوف لا تدفعه مذبحة كربلاء، إلى معرفة القضية من أساسها، ومحاكمة أشخاصها على مستوى الفكر الذي لا يزال يؤسّس وعيَنا بالماضي والحاضر.

غير إنّني رأيتهم مكّبلين بألف قيد، مثلما كنت مقيّداً، وإن كنت قد استطعت كسرَ الأغلال عنّي، فإنّ غيري ضعف عن ذلك وبقي أسير الظلام.

ثمّ أدركت أنّ الإسلام أعظم من أن يكبّل أُناساً لطلب العدالة في التاريخ وفي كلّ المستويات. أدركت أنّ شيئاً جديداً على روح الإسلام لوّث صفاءه الروحي.

أدركت أنّه (المذهّب).

وفي ذلك الوقت عرفت أنّني لا يمكنني أن أتعامل بتحرر و موضوعيّة مباشرة مع القرآن والنبي (صلى الله عليه وآله)، فكان ضروريّاً أن أرفع القيود عنّي وأبدأ مسيرة جديدة في البحث عن الحقيقة. جئت مرّات ومرّات عند أهل الخبرة من أهل السنّة والجماعة، وكلّما حدّثتهم عن ذلك، امتعضوا وارتَسم في وجوههم غضب: يسمّونه الغضب لله! "(1).

ويقول هذا المستبصر حول ما توصّل إليه من الحقائق بعد أنْ كسر الأغلال من نفسه:

" ما إن أقرأ عن تفاصيل كربلاء حتى تأخذني الجذبة بعيداً، ثم تعود أنفاسي إلى أنفاسي، والحسين ألفاه لديها، قد تربع بدمائه الطاهرة.

فياليتني كنت معه، فأفوز فوزاً عظيماً، وفي تلك الجذبة هناك من يفهمني، وقد لا يفهمني من لايرى للجريمة التأريخيّة وقعاً في نفسه وفي مجريات الأحداث التي تلحقها.

فكربلاء مدخلي إلى التاريخ، إلى الحقيقة، إلى الإسلام، فكيف لا أجذب إليها،

____________

1- المصدر السابق: 319 ـ 320.


الصفحة 86
جذبة صوفي رقيقُ القلب، أو جذبة أديب مُرهف الشعور، وتلك هي المحطّة التي أردتُ أن أنهي بها كلامي عن مجمل معاناة آل البيت (عليهم السلام)وظروف الجريمة التأريخيّة ضدّ نسل النبي (صلى الله عليه وآله).

والسؤال الذي يفرض نفسه هنا، هو من قَتَل الحسين؟ أو بتعبير أدقّ، من قتل من؟

نحن لا نشكّ في أنّ مَقتل الحسين (عليه السلام) هو نتيجة وضع يمتدّ بجذوره إلى السقيفة، إلى أخطر قرار صَدر بعد وفاة الرّسول (صلى الله عليه وآله) وكان ضحيّته الأولى آل البيت (عليهم السلام).

ونلاحظ من خلال حركة التاريخ الإسلامي، أنّ محاولة تهميش آل البيت، وقمع رموزهم بدأ منذ السقيفة.

ورأيي لو جازف الإمام علي (عليه السلام) وفاطمة الزهراء (عليها السلام) لكان فعلاً أحرقوا عليهم الدار ولكان شيء أشبه بعاشوراء وكربلاء الحسين.

وإنّ بداية النشوء ـ أو بالأحرى إعادة النشوء ـ لحزب بني أميّة، كان منذ الخلافة الأولى، ذلك أنّ معاوية و... يزيد كانا عاملين على الشام، وتقوّى نفوذُهما منذ ذلك العهد.

وكلّ المسلمين في ذلك العصر كانوا يدركون مدى القوّة التي يمكن أن تمنحها الإمارة لرجال مثل معاوية ويزيد.

المعادلة المقلوبة، وميزانُ القوى اللامتكافىء بين الحزب الأموي وبني هاشم بدأ منذ وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وما ضُرب ولاقُمع واستُضعف بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)رجلٌ أو عشيرة مثلَ ما ظُلم آلُ البيت (عليهم السلام).

لقد دخل بنو أميّة الإسلام، وهم صاغرون، وكان الرسول (صلى الله عليه وآله) قد أراد قتلهم ولو تعلقوا بأستار الكعبة، غير أنّه عفا عنهم، وقال: (إذهبوا فأنتم الطلقاء) وطلقاء لاتعني الإسلام، ثمّ ما برح (صلى الله عليه وآله) يحذّر من خطرهم الذي كان يدركه من خلال طبيعة الصّراع


الصفحة 87
الذي دار بين الإسلام وبني أميّة "(1).

ويُعاتب إدريس الحسيني علماء أهل السنّة في هذا الخصوص قائلاً:

" لماذا هؤلاء لا يكشفون الحقائق للناس، كما هي في الواقع؟

لماذا يتعمدون إبقاءنا على وعينا السخيف، تجاه أكبر وأخطر مسألة وجدت في تاريخ المسلمين؟

ثمّ لماذا لايتأثّرون بفاجعة الطف العظمى؟ تلك التي ماجت في دمي الحار بالإنصاف والتوق إلى العدالة، فتدفقت بالحسرة والرفض والمُطالبة بالحقّ الضائع في منعطفات التاريخ الإسلامي.

وطبعي الذي لا أنكره، ولن أنكره، إنّني لا أحبّ الخادعين والجاهلين، ثمّ وإنّي لناقم على هؤلاء وأرافعهم إلى الله والتاريخ!

كنت في تلك الفترة صاحب بساطة عقائديّة كباقي الناس، وببساطتي هذه كنت أبدوا أوعاهم عقيدة، وكنت ذا ثقافة أحاديّة، هي ثقافة أهل السنّة والجماعة.

فالجوّ الذي أحاط بي، هو جو الصحوة البتراء النائمة، التي انحرفت بوعيي إلى مواقع تافهة "(2).

ومن جملة الّذين كانت بداية استبصارهم أيضاً نتيجة التأثّر بالإمام الحسين (عليه السلام)، هو صائب عبد الحميد، حيث أنّه يقول في كتابه (منهج في الانتماء المذهبي) تحت عنوان (هكذا كانت البداية):

" مع الحسين ـ مصباح الهدى ـ كانت البداية.

ومع الحسين ـ سفينة النجاة ـ كان الشروع.

بداية لم أقصدها أنا، وإنّما هي التي قصدتني، فوفّقني الله لحسن استقبالها، وأخذ

____________

1- المصدر السابق: 315 ـ 316.

2- المصدر الساق: 59.


الصفحة 88
بيدي إلى عتباتها...

ذلك كان يوم مَلكَ على مسامعي صوت شجيّ، ربّما قد طرقها من قبل كثيرا فأغضت عنه، ومالت بطرفها، وأسدلت دونه ستائرها، وأعصت عليه.

حتى دعاني هذه المرّة، وانا في خلوة، أو شبهها، فاهتزّت له مشاعري ومنحته كلّ إحساسي وعواطفي، من حيث أدري ولا أدري..

فجذبني إليه.. تتبادلني أمواجه الهادرة.. وألسنة لهيبه المتطايرة..

حتى ذابت كبريائي بين يديه، وانصاع له عتوّي عليه..

فرُحتُ معه، أعيش الأحداث، وأذوب فيها.. أسير مع الراحلين، وأحطّ إذا حطّوا، وأتابع الخطى حتى النهاية..

تلك كانت قصّة مقتل الإمام الحسين (عليه السلام)، بصوت الشيخ عبد الزهراء الكعبي يرحمه الله، في العاشر من محرّم الحرام من سنة 1402 للهجرة، فأصغيت عنده ايّما إصغاء لنداءات الإمام لحسين (عليه السلام)..

وترتعد جوارحي، مع الدمعة والعبرة، وشيء في دمي كأنه الثّورة.. وهتاف في جوارحي.. لبّيك، يا سيّدي يابن رسول الله..

وتنطلق في ذهني اسئلة لا تكاد تنتهي، وكأنّه نور كان محجوباً، فانبعث يشقّ الفضاء الرحيب دفعةً واحدة..

انطلاقة يؤمّها الحسين، بقيّة المصطفى، ورأس الأمّة، وعَلمُ الدين انطلاقة الإسلام كلّه تنبعث من جديد، ورسول الله يقودها من جديد، بشخص ريحانته، وسبطه الحسين (عليه السلام).

وهذه نداءات الإسلام يبثها أينما حلّ، والجميع يعرفها! ولا يعرف للإسلام معنى في سواها.

ومصارع أبناء الرسول!!

وتيّار الانحراف يجرف الحدود، ويقتحم السدود!


الصفحة 89
وأشياء أخرى لا تنتهي...

وتعود بي الأفكار إلى سنين خلت، وأنا أدرج على سلّم الدرس، لم أشذّ فيها عن معلّمي، فقلت: ليتني سمعت إذ ذاك ما يروي ضمئي...

ولكن ما هو ذنب معلّمي! إنّه مثلي، كان يسمع ما كنت أسمعه، وليس إلاّ بل لَيتها مَناهجنا قد نالت شرف الوفاء لهذا العطاء الفريد..

ليتها مرّت على فصول تلك الملاحم، ولو مرور العابرين! من غير تعظيم أو تمجيد، أو ثناء...

فليس ثمّة حاجة إلى شيء من هذا القبيل، فقد تألّق أولئك الأبطال فوق ذروة المديح والثناء، فكأنني أنظر إلى منابر التبجيل والاطراء مهطعة تحدّق نحوهم، وهم يحلّقون في قبّة السماء!!

ثمّ أنت يا حَلَق الوعظ، ويا خُطب الجُمع ويا بيوتات الدّين، أين أنت من هذا البحر اللامتناهي؟!

لقد صحبتُك طويلاً، فليتني وجدتك اتّخذت من أولئك الأبطال، وتلك المشاهد أمثلة تُحتذى في معاني اليقين والجهاد، أو الإقدام والثبات، أو التضحية والفداء، أو النصر والإباء، أو الحبّ والعطاء، أو غيرها مما يفيض به ميدان العطاء غير المتناهي ذاك، كما عهدتك مع نظائرها، وما هو أدنى منها بكثير!

وأين أنت أيّتها الدنيا؟!

وعلى أيّ فلك تجري أيّها التاريخ؟!

ألا تخشى أن يحاكمك الأحرار يوماً؟

عتاب لاذع، وأسئلة لاتنتهي، والناس منها على طرق شتى..

فهي تمرّ على أقوام فلا يكاد يوقظهم صداها، ولايفزعهم صَخَبها!!

ورأيتها تمرّ على آخرين فتكاد تنتزع أفئدتهم، من شدّة ما لهم معها من هياج ونحيب، وأدمع تجري فلا تريد أن تكفّ..


الصفحة 90
ويلتهبون على الجناة غيظاً ونقمة وحنقاً..

فتمتلىء صدروهم من هذا وذاك بكلّ معاني الموالاة والبراءة.. موالاة لله وأوليائه، وبراءة من أعدائه..

ولِمَ لا تنفطر الأكباد لفاجعة كهذه!

وبدلاً من أن تهربي من ذكراها ـ أيّتها الدنيا ـ في العام مرّة، أولى بك أن تقفي عندها كلّ يوم ألف مرّة، ولا تستكثري.

أكثير أن يحيا الحسين السّبط بيننا على الدّوام، وليس كثيراً أن يُقتل بين يديك كلّ يوم ألف مرّة؟!

وعندما رحتُ أتعجب من هذا الانقسام، عدت مع هذه الواقعة إلى الوراء، فإذا النّاس من حينها كحالهم الآن، فهم بين من حمل الحسين (عليه السلام) مبدأً، وتمسّك به إماماً وأسوةً ودليلاً إلى طريق الفلاح، فوضع نفسه وبنيه دون أن يُمَسّ الحسين، وبين من حمل رأس الحسين هديّة إلى يزيد!!

وبين هذا وذاك منازلٌ شتى في القُرب والبُعد من معالم الحسين (عليه السلام)..

وأشياء أخرى تطول، فقد استضاءت الدنيا كلّها من حولي، وبدت لي شاخصة معالم الطريق.. فرأيت الحكمة في أن أسلك الطريق من أوّله، وأبتدىء المسيرة بالخطوة الأولى لتتلوها خطى ثابتة على يقين وبصيرة..

وابتدأت، وإن كانت الأيّام تشغلني بين الحين والحين بما يصدّ المرء عن نفسه وبنيه، إلاّ أنّي أعود إذا تنفّست،فأُتابع الخطى "(1).

ويقول عبد المنعم حسن حول تأثّره بالإمام الحسين (عليه السلام):

" قضيّة الحسين (عليه السلام) من أولي القضايا التي أخذت مساحة من دواخلي وعمّقت جرحاً أحسستُ به منذ اللحظة الأولى التي بدأت فيها الحقائق تتكشف مزيحة جهلاً

____________

1- صائب عبد الحميد/ منهج في الانتماء المذهبي: 31 ـ 34.


الصفحة 91
ووَهماً كنّا نعيشه بإيعاز وتخطيط ذكي من أولئك اّلذين حرّفوا الحقائق وفقاً لأهوائهم ورغباتهم.

وبتنا نحن نعيش في قصور من زجاج نحلم بأن يعيد التأريخ نفسه لنعيش تلك الحياة المعصومة التي كان يعيشها الصحابة والرعيل الأول من التابعين الذين عاشوا في صدر الإسلام.

ولاننسى دور علمائنا الذين ظلّوا يردّدون ما وجدوه في التاريخ دون نظر وتحليل لما جرى فيه.

وقضيّة الحسين (عليه السلام) من القضايا التي أراد أعداء الإسلام أن لا تبرز للناس لأنّها تمثّل حلقة من حلقات الصراع بين الحقّ والباطل وتعتبر من أنصع صفحات التاريخ في قضية الجهاد والتضحية في سبيل رسالة السماء.

... استوقفتني قضيّة الحسين (عليه السلام) كثيراً كما استوقفتني قضيّة أمّه الزهراء (عليها السلام)وأنا أبحث عن جهة الحقّ، قرأت وسمعت عن قصّة الحسين (عليه السلام)وعشت معه، تارة أبكي وأخرى ألعن فيها مَن ظلمه، وتارة أتأمّل في واقع أمّة كهذه، لم أسمع بمثل هذه البشاعة من قبل، أو سمعت ولكن كالعادة مخدراً بمقولة أنّ ماجرى في صدر الإسلام مروراً بالأمويين والعبّاسيين لا يجب علينا أن نبحث فيه، ولا أن نتساءل ما هو جذر المشكلة، لأنّ ذلك سيقودنا إلى نتائج ربّما تخدش في اولئك المقدّسين مما يجعل غضب الرّحمن يصب علينا صبّاً.

وقضية الحسين (عليه السلام) ستضعنا أمام أسئلة كثيرة وعلامات استفهام، الإجابة عليها ستفضي بنا إلى أن الحسين (عليه السلام) كقضيّة لم يُقتل في كربلاء، بل أنّ أصل القضيّة يرجع إلى ما بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله) "(1).

ويقول محمد علي المتوكل حول تأثره بالإمام الحسين (عليه السلام): " وقد تأثّرت وأنا أقرأ

____________

1- عبد المنعم حسن/ بنور فاطمة اهتديت: 192 ـ 193.


الصفحة 92
كتيّباً عن الإمام الحسين "، ثمّ توصل هذا المستبصر إلى هذه النتيجة قائلاً:

" عليَّ أن أدافع عن قضيّة الحسين في مقابل الذين قتلوه والذين لازالوا يتحاملون عليه إلى اليوم، وهكذا لم يعد بمقدوري أن أتراجع عن مشوار البحث، وبات لزاماً على أن أميط اللثام عمّا خفي علّي من حقائق، فكانت بداية المشوار مع فتية امتلكوا الشجاعة الكافية لخوض غمار البحث والتسليم لنتائجه مهما كانت قاسية ومهما اصطدمت بالموروث وتعارضت معه "(1).

ويقول أحمد حسين يعقوب حول الدور الكبير الذي كان للإمام الحسين (عليه السلام)في استبصاره:

" وأثناء وجودي في بيروت قرأت بالصدفة كتاب (أبناء الرسول في كربلاء) لخالد محمد خالد، ومع أنّ المؤلّف يتعاطف مع القتلة ويلتمس لهم الأعذار، إلاّ أنّني فجعت إلى أقصى الحدود بما أصاب الإمام الحسين (عليه السلام) وأهل بيت النبوّة وأصحابهم، وكان جرحي النازف بمقتل الحسين هو نقطة التحوّل في حياتي كلّها "(2).

ويقول التيجاني السماوي حول تأثّره بالإمام الحسين (عليه السلام):

" جاء صديقي منعم وسافرنا إلى كربلاء، وهناك عشنا محنة سيّدنا الحسين كما يعيشها شيعتُه، وعلمت وقتئذ بأنّ سيّدنا الحسين لم يمت، فالنّاس يتزاحمون ويتراصّون حول ضريحه كالفراشات ويبكون بحرقة ولهفة لم أشهد مثيلاً، فكأنّ الحسين استشهد الآن.

وسمعت الخطباء هناك يثيرون شعورَ النّاس بسردهم لحادثة كربلاء في نواح ونحيب، ولا يكاد السّامعُ لهم أن يمسك نفسه ويتماسك حتى ينهار.

فقد بكيت وبكيت وأطلقت لنفسي عنانها، وكأنّها كانت مكبوتة، وأحسست براحة

____________

1- محمد علي المتوكّل/ ودخلنا التشيّع سجّداً: 34.

2- مجلّة المنبر/ العدد: 10.


الصفحة 93
نفسيّة كبيرة ما كنت أعرفها قبل ذلك اليوم، وكأنّي كنت في صفوف أعداء الحسين، وانقلبت فجأة إلى أصحابه وأتباعه الّذين يفدونه بأرواحهم.

وكان الخطيب يستعرض قصة الحرّ وهو أحد القادة المكلّفين بقتال الحسين، ولكنّه وقف في المعركة يرتعشُ كالسّعفة ولمّا سأله بعض أصحابه:

أخائف أنت من الموت؟

أجابه الحرّ:

لا والله، ولكنّني أخيّر نفسي بين الجنّة والنار.

ثمّ همز جواده وانطلق إلى الحسين قائلاً:

هل من توبة يابن رسول الله؟

ولم أتمالك عند سماع هذا أن سقطت على الأرض باكياً، وكأنّي أُمثّل دور الحرّ، وأطلب من الحسين: هل من توبة يابن رسول الله؟ سامحني يابن رسول الله.

وكان صوت الخطيب مؤثّراً، وارتفعت أصوات النّاس بالبكاء والنّحيب.

عند ذلك سمع صديقي صياحي، وانكبّ علّي معانقاً، باكياً، وضمّني إلى صدره كما تضمّ الأم ولدها وهو يردّد يا حسين ياحسين.

كانت دقائق ولحظات عرفت فيها البكاء الحقيقي، وأحسست وكأنّ دموعي غسلت قلبي وكلّ جسدي من الداخل "(1).

كلمات بعض المستبصرين حول أهل البيت (عليهم السلام):

إنّ الروايات التي تأمر الأمة باتّباع أهل البيت (عليهم السلام) وتؤكّد على مودّتهم ومحبّتهم والاقتداء بهم واتّباع آثارهم كثيرة جدّاً، بحيث لا يمكن أن ينكرها إلاّ مكابر مجانف للحقّ.

ونحن في يومنا هذا نعيش في ظل أجواء تنادي بتحطيم جدران الانغلاق، وتدعو

____________

1- محمد التيجاني السماوي/ ثمّ اهتديت: 62 ـ 63.


الصفحة 94
إلى توسيع آفاق الذهنيّة بمعرفة آراء وأفكار الآخرين.

فلهذا آن الأوان ليعرف العالم كلّه مَن هم أهل البيت (عليهم السلام) وما هي مدرستهم؟ ليستفيدوا من عطاءاتهم الثريّة، ولينهلوا من معينهم ما يساعدهم على تحقق ما يصبّوا إليه من خير وسعادة.

ونجد في كتب المستبصرين الكثير من التحريض على هذا الأمر، منها:

يقول التيجاني السماوي:

" فإذا أراد المسلم معرفة الحق وضمان العصمة من الضلالة والنجاة يوم القيامة والفوز بالجنّة ورضا الله، فما عليه إلاّ بالركوب في سفينة النجاة والرّجوع إلى أهل البيت (عليهم السلام) فإنّهم أمان الأمة لا يقبل الله عبداً إلاّ من طريقهم ولا يدخل داخل إلاّ من بابهم، وهو ما قرّرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمر به الأمّة مُبلّغاً ذلك عن ربّه عزّوجل "(1).

ويقول عبد المنعم حسن:

" ونظرة عامّة إلى منهجهم [أهل البيت] وكلماتهم وأحوالهم كافية للتدليل على أنّهم هم أمناء الله على وحيه المنزّل على نبيّه (صلى الله عليه وآله) هذه الأمانة العظمى التي لايمكن أن يتحمّلها من يعتريه الشيطان بين الفينة والأخرى، ولا يؤدّي حقّها من كان كلّ الناس أفقه منه، ولا يستطيع حفظها من آثر هواه وهوى عشيرته على التمسّك بأبسط مفردات الحقّ "(2).

ويضيف هذا المستبصر:

" أهل البيت (عليهم السلام) كلماتُهم نورٌ لم أسمع بها عند الآخرين، منهجهم في تربية الأمّة وتوجيهها يجعلك تحسّ بمعنى خلافة الله في الأرض، لم يشهد التاريخ بأنّهم تعلّموا على أيدي أحد، بل الكلّ يدّعي الرجوع إليهم "(3).

____________

1- محمد التيجاني السماوي/ كل الحلول عند آل الرسول: 136.

2- المصدر السابق.

3- عبد المنعم حسن/ بنور فاطمة اهتديت: 209.


الصفحة 95
ويقول ياسين المعيوف البدراني حول إحدى السُبل لمعرفة مكانة أهل البيت (عليهم السلام)الرّفيعة:

" إنّنا إذ نحب القرآن ونجلّه الإجلال كلّه، لأنّه منقذ البشريّة ومخرج لها من الظلمات إلى النور، فيجب أن نقرأه لا كالّذين قالوا سمعنا وهم لايسمعون، بل نقرأه بعقول مفتوحة وقلوب مؤمنة حتى نفهم الآيات التي تبيّن المكانة الرّفيعة لأهل البيت (عليهم السلام)...

فعليك يا أخي المؤمن أن تبحث عن كتبهم لتعرفهم ولتعرف ما خصّهم الله من خصوصيّات، ما أعطاها لغيرهم، وليكن مسارُ دربك نجاة لك ولغيرك من الزيف والانحراف "(1).

ويقول حسن شحاتة حول عظمة أهل البيت (عليهم السلام):

" إنّ موقعيّتهم موقعيّة الإمامة العظمى، فهم أصل الأصول في وجود هذا الكون، وهم نجوم الاهتداء من اتّبعهم اهتدى لصراط الله المستقيم، ومن حاد عن طريقهم كان من المغضوب عليهم الضآلّين.

فأهل البيت (عليهم السلام) هم مصابيح الهدى وسفن النّجاة، وهم أئمّتنا وأولوا الأمر المفروض طاعتهم بعد طاعة الله كما ورد بنصّ القرآن.

وهم خزّان القرآن، وهم كواكب الصراط، وهم الصالحون، وهم أولياء الله، وهم أهل الذكر المطلوب منّا سؤالهم عن كلّ شيء في الدين، وهم أهل الدّين الصحيح، فوجب على كلّ موحّد عاقل ان يتبعهم في العبادة والمعاملة والعادة، إذ هم أهل القدس والطّهارة وأهل العصمة والنزاهة "(2).

وقد أنشد معروف عبد المجيد في مدح أهل البيت (عليهم السلام) مجموعة قصائد منها قصيدة (وشايعت عليّاً) والتي جاء فيها:

____________

1- ياسين المعيوف البدراني/ يا ليت قومي يعلمون: 34.

2- مجلّة المنبر/ العدد: 11.


الصفحة 96

مـهـما مـدحتُك يا عـليّ فألكن ومـقصر فـي الحقّ، مهما أدّعي
مـن جاوز الجوزاء، يعجز دونه مثلي وأهل الشعر لو جُمعوا معي
أنـت الذي شـرع الإمامة فاتحا طـوبـى لكـم من خاتم أو شارع
يا والد الحسن الزكي وسيّد الشـ ـــهداء أوفى الأوفـيـاء التابع
وعـلـي السـجّاد زين العابديـ ـن الـزاهد المـتهجّد المـتورّع
والـباقر العـِلم الشـبـيه محمد الحـاضر الراضي الشكور الجامع
والصادق المنْجي المحقق جـعفر كــنـز الحـقائق والفقيه الضالع
والـكاظـم الغـيظ الوفيّ بعهده موسى الصبور على البلاء الخاشع
وغـريب أهـل البيت قرّة عيننا كـفـؤ المـلوك وعـزّ كلّ مدفّع
ومحمّد ذي النـور يـسطع حوله هـذا الـملقّب بالجـواد، الـقـانع
وعـلي الهـادي النقي المرتضى النـاصح المفتاح، دونك أو..فعِ..!
والخالص الحـسن الكتوم لسرّه الـعـسـكري الشـافع المستَودع
والقـائم المـهديّ كـاشف غمّنا بـُقيا النـبـوّة والـدليل القـاطع
يا غـائباً، طـال الغياب، وعيننا تـشـتاق طلـعتك البـهيّة، فاطلع
يا راجعاً بـعـد الذهاب، قلوبنا مُدّت اليـك، كـما الأيادي، فارجع
يا كـاشف الغم الجسيم، شفاهنا نـادتك مـن وسط المظالم، فاسمع
ياصاحب الأمر الحكيم، إلى متى تـبـقى الأمورُ بلا لـواء جامع؟!
والـدار يـغزوها الفساد مُدَمدماً كـالسـيل يأتي من مـحيط مترَع
يا صـاحب الدّار التي ممّا بـها قـد آذنـت بـتـشـقّق وتـصدّع
عجّل بـسـيفك، فالدواء بـحدّه للـجـور والـكـفر الذئوم الناقع
يا حـجّة الله، الـذي بـظهوره يـتـفرّق الطـاغوت بـعد تـجمّع
إظـهرْ، فـليس الماء في قيعاننا للظامئين سـوى سـراب خادع..!
مـهما تـبعتك يا على، فـعاجزٌ مـن للكـسيح وراء سهم مسرع..؟!


الصفحة 97

أنت الشهاب، أبو الشهاب، وكلّكم شـهبٌ تـحلّق فـي الفضاء المهيَع
أنت الأمـير أبـو الأمير، وكلّكم أمراءُ عـزّ فـي زمـان خـانـع
أنت الإمام أبـو الأئمّة مـن لكم خُلقَ الوجـود، وما أنا بالصـاقع.!
أنـت الشـهيد أبو الشهيد، وكلكّم شـهداء حـق في العصور مضيّع
بـيـد الأولى سلبوا الولاية عنوةً وتـوارثوها ذات يـوم مـُفجع..!
ويـد الأولى فـي مكّة قد أطلقوا والأدعـياء ذوي الدّعي ابن الدّعي
والطـامـعين الطـالبين مناصباً والسـاقـطين مـن اللـئام الوُضّع
القـلب ضـاق بـقيحه وجراحه والـعـين كـمهاء بـفيض الأدمع
فـإذا شـكوت، فللذي يُشكى له وإذا فـزعـت، فحيدرٌ هو مفزعي
وهـو المـلاذ إذا المقابر بُعثرت وسُئلتُ: هل من ناصر أو شافع..؟!
شايعتُ من ردّت له الشمسُ التي ردّت ـ إذا حلّ الغروبُ ـ ليوشع
فـإذا مَـدَحتُ، فمدحتي مبتورةٌ إن لـم تكن مقرونة بتشيّعي..!!(1)

الدّافعُ الثّاني:

التعرّف على واقع أهل السنّة

إنّ من أهمّ العوامل التي تمهّد للسنّي الطريق للتخلّي عن مذهبه بعد التأثّر بشخصية أهل البيت (عليهم السلام) والانبهار بمدرستهم الفكريّة والعقائديّة، هي مسألة التعرّف على واقع مذهب أهل السنّة.

وإليك فيما يلي تصريحات بعض المستبصرين حول مذهب أهل السنّة، والتي جعلتهم بعد الحصول على البديل المناسب أن يتخلّوا عن مذهبهم السابق.

يقول صالح الورداني:

____________

1- معروف عبد المجيد/ بلون الغار بلون الغدير: 20ـ23.


الصفحة 98

" أبسط ما يُقال في عقيدة أهل السنّة أنّها عقيدة حكوميّة. عاشت في أحضان الحكّام منذ نشأتها وحتى اليوم، وأخذت من هؤلاء الحكّام الدعم والشرعيّة التي أتاحت لها الاستمرار والانتشار والبقاء..

وهذا هو العامل الوحيد الذي جعل هذه العقيدة في مركز الصّدارة وجعل منها عقيدة الأغلبيّة، إذ هي في حقيقتها لا تملك أيّة مقوّمات تكفل لها البقاء والانتشار..

إنّ عقيدة أهل السنّة في حقيقتها عقيدة هشّة خلقت لمجاراة الواقع وإضفاء المشروعيّة عليه، وكان يمكن لها أن تنتهي بانتهاء هذا الواقع لولااحتضان الحكام لها..

ولقد قدّر لعقائد كثيرة أن تصبح في ذمّة التاريخ على الرغم من كونها تحمل الكثير من المقوّمات التي تكفل لها الاستمرار والبقاء، وسبب ذلك يعود إلى معاداة الحكام لها وسعيهم الدائم لاستئصالها..

ونتيجة لحالة الأمن والدعم التي واكبت عقيدة أهل السنّة منذ نشأتها في العصر العبّاسي وحتى الآن..

ونتيجة لالتفات الجماهير حولها وتحوّلها إلى عقيدة الأغلبيّة..

ونتيجة للدعاية الواسعة التي واكبتها..

ونتيجة لحالة الكبت والبطش والتنكيل التي لاحقت وطوّقت العقائد والاتّجاهات الأخرى المنافسة لها والتي أدّت في النهاية إلى القضاء عليها وانحسار بعضها في ركن مظلم ومحاصر بشتى الفتاوى الإرهابيّة..

نتيجة لهذا كلّه وضعت عقيدة أهل السنّة في مقام عال بعيد عن الشبهات واعتبرت الامتداد لعقيدة الرسول (صلى الله عليه وآله)والسلف الصالح، مما نتج عنه بالتالي اعتقاد كونها عقيدة الفرقة الناجية من النار، من التزم بها وسار على دربها نجا من عذاب النار، ومن تخلّف عنها وخالف نهجها كان من أصحاب دار البوار..

وعاش المسلمون في هذا الوهم الذي باركه الحكام وفقهاء السلاطين تحت حراسة كمّ هائل من الرّوايات المُختلقة والفتاوى.


الصفحة 99
من هنا لم يجرؤ أحد على الخوض في هذه العقيدة أو المساس بها، حيث أنّها اعتبرت كجزء من الدين والمساس بها يعتبر مساساً بالدّين..

وظلت العقائد والاتّجاهات الأخرى محل نقد وطعن وتشويه على مرّ الزمان،بينما بقيت عقيدة أهل السنّة في برج عال تحيط بها هالة من القداسة والعصمة لا تتيح لأحد أن يقترب منها "(1).

ويشير صالح الورداني إلى هذه الحقيقة أيضاً في كتاب آخر له، قائلاً:

" إنّ أهل السنّة بفقهائهم ومؤسّساتهم يواجهون الآخرين في كلّ عصر بآراء واجتهادات تمّ دعمها من قبل الحكّام وأوهموا العامّة أنّها نصوصاً..

ولقد منحت الحكومات المتعاقبة أهل السنّة فرصة التمكّن والسيادة على الآخرين، مما يسّر لهم التغلغل والانتشار بين الجماهير على حساب التيّارات الأخرى من معتزلة وشيعة وغيرهم، وقد أدّى هذا الوضع إلى حصول أهل السنّة على صلاحيّة محاكمة الآخرين والبطش بهم..

إنّ أحداث التاريخ تؤكّد أنّ أهل السنّة عاشوا واستمرّوا بفضل دعم الحكّام، ولو كان الحكّام قد تخلّوا عنهم لكانوا اندثروا بأفكارهم وآرائهم كما اندثرت فرق أخرى كثيرة لم تجد عوناً ولا دعماً من القوى الحاكمة..

وهذا الدعم لأهل السنّة من قبل الحكّام إنّما هو مستمر حتى اليوم ليس لشيء إلاّ لكون نهج أهل السنّة يمثّل أكبر دعامة يمكن ان ترتكز عليها الحكومات في مواجهة التيّارات الأخرى التي تهدد وجودها ومستقبلها.. "(2).

ويقول صالح الورداني أيضاً حول هذا الموضوع في كتابه (عقائد السنّة وعقائد الشيعة، التقارب والتباعد):

____________

1- صالح الورداني/ أهل السنّة شعب الله المختار: 5ـ6.

2- صالح الورداني/ الكلمة والسيف: 15.


الصفحة 100
والسنّة حاضرة والشيعة غائبة..

هذه الجملة تلخّص لنا حركة التاريخ الخاص بالسنّة والشيعّة..

السنّة كانت دائمة الحضور وقد منحت الفرصة كاملة للبروز والانتشار..

والشيعة كانت دائمة الغياب بفعل الحصار والبطش والإرهاب..

لأن السنّة كانت على وئام مع الحكّام وتدين لهم بالسمع والطاعة برّهم وفاجرهم فقد منحت حريّة الدعوة وشرعيّة التواجد..

ولأن الشيعة تحمل راية آل البيت (عليهم السلام) الّذين يخشاهم الحكّام وتدين بالطاعة والولاء لأئمتهم الأطهار لم تنل رضا الحكّام وأخرجت من دائرة الإسلام فغابت عن الأنام..

ولأن السنّة كانت ظاهرة فقد أصبحت معروفة..

ولأن الشيعة كانت غائبة فقد أصبحت مجهولة..

ولكون الشيعة خصم للسنة غائب عن الأنظار فقد كثرت من حوله الشائعات ولفّقت له شتى الاتهامات التي تحوّلت بمرور الزمن إلى حقائق بنيت على أساسها مواقف ودانت بها مذاهب وصاحب الحق غائب..

هكذا يجسّم لنا التاريخ قضيّة السنّة والشيعة وكيف تحوّلت إلى لعبة سياسيّة في أيدي حكام بني أميّة وبني العبّاس وسائر الحكام..

وسوف تستمر السنة أداة الحكام على مر الزمان في مواجهة الشيعة، وبدونها لن يجدوا الشرعيّة التي تبرّر استمرارهم في الحكم..

والسنّة بدورها سوف تظل تتحصن بالحكام وتستمد منهم القدرة والدعم على مواجهة الشيعة والاستمرار في الصدارة..

السنّة تحتاج إلى الحكام، والحكام يحتاجون إلى السنّة، تحالف مصيري دائم، والضحيّة هي الشيعة..


الصفحة 101
من هنا يبدأ تأريخ السنّة والشيعة، وهنا ينتهي "(1).

ويلخص صالح الورداني الكلام حول تقييمه لمذهب أهل السنّة بهذه الوضعية:

" لقد عشت في دائرة الفكر السنّي لفترة طويلة أحسست فيها بالخلل والوضيعة غير السويّة.

أحست بأن المذهب السنّي هو مذهب حكومي تفوح منه رائحة السياسة وتشعر فيه بالخلل الذي لا يريح عقلك ولا يجيب على التساؤلات الكثيرة التي تدور في نفسك "(2).

ويشير محمد الكثيري أيضاً إلى هذه الحقيقة قائلاً:

" المهم هو أنّ السلطات الحاكمة للمجتمع الإسلامي، خصوصاً مع بداية القرن الرابع قد أضفت الشرعيّة المطلوبة على بعض المدارس الأصوليّة والفقهيّة.

وتلقّاها عامّة الجمهور بالقبول، وأضفوا عليها مع مرور الزمن القداسة والاحترام، حتى أضحت تمثّل الإسلام في شكله ومضمونه، وعُدّ الخارج عنها مارقاً عن الإسلام، كافراً ضالاً وفي أحسن الظروف مبتدعاً، لذلك أحلّوا دمه وماله.

في المقابل عاشت فرق ومذاهب أخرى في الظل، ليس فقط لشذوذها الفكري والعقائدي، وركوبها الغلوّ الذي تنفر منه فطرة أغلبيّة الناس. ولكن لمعاداتها السلطات السياسيّة القائمة.

وأفضل مثال على ذلك الفرقة الشيعيّة بعامة والإماميّة الاثنا عشريّة بخاصّة، فإذا كانت هذه الفرق لم تعترف بشرعيّة أغلب السلطات السياسيّة التي قامت على طول التاريخ الإسلامي، فإنّ ردّ فعل تلك السلطات كان مماثلاً وزيادة بعض الشيء.

فشوهّت أفكار الفرق المعارضة وحُرّفت عقائدها وقُتل دُعاتها ورجالات دعوتها وأرباب مدارسها، ولم يُسمح لها بنشر مذاهبها إلاّ بطرق سريّة وخفيّة.

____________

1- صالح الورداني/ عقائد السنّة وعقائد الشيعة، التقارب والتباعد: 26.

2- مجلة المنبر/ العدد: 22.


الصفحة 102
لذلك لم تُعرف حقيقة الكثير من المدارس الكلاميّة إلاّ بعد فترة طويلة من انتهاء هذا الصراع.

ولكن هذا النموّ والظل والخفاء لبعض الفرق، قد جعل قطاعات واسعة لاتعرف عنها شيئاً، ولما كانت تظهر على السّاحة بعض عقائدها وأفكارها بين الحين والآخر، كانت تلقى استهجاناً ونفوراً من الأغلبيّة، عامّة وعلماء "(1).

ويضيف محمد الكثيري:

" ومهما يكن فقد استطاعت المذاهب الأربعة أن تخطو خطوات في ساحة الرقيّ وتكتسب قيمتها المعنويّة، لأنّها كانت موضع عناية الخلفاء والولاة المتعاقبين. بالرّغم ممّا رافقها من خلافات ومنافرات، فعناية السلطة تكسب الشيء لوناً من الاعتبار والعظمة حسب نظام السياسة لا النظام الطبيعي.

فعوامل الترغيب ووسيلة القوّة جعلتها تأخذ بالتوسّع شيئاً فشيئا، ولولا ذلك لما استطاعت البقاء حتى تصبح قادرة على مزاحمة غيرها.

إنّ السلطات الحاكمة على طول التاريخ الإسلامي لم تكتف بصناعة المذاهب ودعمها وتقويتها وفرض إتّباعها على الجماهير المسلمة، ولكن حدّدت هذه المذاهب وحصرتها في أربعة ومنعت العامّة من تقليد غيرها، وحذّرت الخاصّة من تجاوزها أو إنشاء مذاهب أخرى جديدة.

أيّ منعت الاجتهاد وأغلقت بابَه وجعلته حكراً على من مضى من (السلف) وفرضت على (الخلف) التقليد والامتثال، وحفظ مسائل وأجوبة هؤلاء الأئمة من السلف "(2).

ويقول محمد الكثيري في مكان آخر حول ملخّص ما يمكن أن يقال حول مذهب أهل السنّة:

____________

1- محمّد الكثيري/ السلفيّة: 90ـ91.

2- المصدر السابق: 109.


الصفحة 103
" لذلك لا نعدو الحقيقة إذا قلنا بأن الحكومات الإسلاميّة قد اصطنعت لها مذاهب فقهيّة وأصوليّة، كما أن المعارضة انتجت لها مذاهب فقهيّة وأصوليّة كذلك. فللحكومة مذهبها الإسلامي الذي يدعمها ويؤمّن لها الشرعيّة في الماضي والحاضر، وللمعارضة كذلك عقائدها التي تنطلق منها وتبرر تصرّفها "(1).

ويبيّن ياسين المعيوف البدراني هذه الحقيقة فيقول حول مذاهب أهل السنّة:

"...لكن النّاس غرقوا مرغمين في متاهات واسعة ولدتها السيطرات السلطويّة والمصالح الدنيويّة الخاصّة أيّام الأمويّين والعبّاسيين فطمسوا الطريق الحقّة ونكلوا بأهلها وجعلوا من أنفسهم خلفاء لله في الأرض وقادةً للدّين، فكانوا والحال هذه لا يدعمون إلاّ المذهب الذي يؤيّد نظامهم ويبرّر أخطاءهم فيرفعون من شأنه ويحيطونه بهالة من التقديس والعظمة ويطلبون من الناس ولاءً مطلقاً واتباعاً أعمى لأيّ إمام صاحب مذهب يقوم بالباطل بين أيديهم، ويصفونه بأنّه من الأولياء الّذين أشار إليهم الله ورسوله الكريم (صلى الله عليه وآله) "(2).

ويضيف ياسين المعيوف البدراني:

" وقد ذكرنا هذا ليتوضّح عند المثقفين الواعين ذلك الأمر، وليعرفوا أن هذه المذاهب هي من صنع السياسات الحاكمة، وأنّ كثيرا من الناس عامّة ومن العلماء خاصّة يعرفون هذه حق المعرفة، ولكنّهم يميلون إلى دنيا الباطل ويخافون من إظهار الحقيقة "(3).

ويقول التيجاني السماوي في هذا المجال:

" إذا استثنينا بعض المتعصّبين من عوام الشيعة الذين ينظرون إلى (أهل السنّة والجماعة) بأنّهم كلّهم من النواصب، فإن الأغلبيّة الساحقة من علمائهم قديماً

____________

1- المصدر السابق: 105.

2- ياسين المعيوف لبدراني/ ياليت قومي يعلمون: 87.

3- المصدر السابق.


الصفحة 104
وحديثاً، لازالوا يعتقدون بأنّ إخوانهم من (أهل السنّة والجماعة) هم ضحايا الدسّ والمكر الأموي، لأنّهم أحسنوا الظن (بالسّلف الصالح) واقتدوا بهم بدون بحث ولا تمحيص، فأضلّوهم عن الصراط المستقيم وأبعدوهم عن الثّقلين ـ كتاب الله والعترة الطاهرة ـ اللذين يعصمان المتمسك بهما من الضلالة ويضمنان له الهداية.

فتراهم كثيرا ما يكتبون للدفاع عن أنفسهم وللتعريف بمعتقداتهم داعين للإنصاف ولتوحيد الكلمة مع إخوانهم من (أهل السنّة والجماعة).

وقد جاب بعض علماء الشيعة في الأقطار والأمصار باحثين عن الأساليب الكفيلة لتأسيس دور وجمعيّات إسلاميّة للتقريب بين المذاهب ومحاولة جمع الشمل.

ويمّم آخرون منهم وجهتهم صوب الأزهر الشريف منارة العلم والمعرفة عند (أهل السنّة)، وتقابلوا مع علمائه وجادلوهم بالتي هي أحسن، وعملوا على إزالة الأحقاد، كما فعل الإمام شرف الدين الموسوي عند لقائه بالإمام سليم الدين البشري، وكان من نتيجة ذلك اللقاء والمراسلات ولادة الكتاب القيّم المسمّى بـ(المراجعات)، والذي كان له الدور الكبير في تقريب وجهات النظر عند المسلمين.

كما أن جهود أولئك العلماء من الشّيعة كُلّلت بالنّجاح في مصر، فأصدر الإمام محمود شلتوت مفتي الديار المصريّة في ذلك الوقت فتواه الجريئة في جواز التعبّد بالمذهب الشيعي الجعفريّ، وأصبح الفقهُ الشيعي الجعفريّ من المواد التي تُدرّس بالأزهر الشريف.

... وأنت إذا دخلت في أيّ بيت من بيوت الشيعة العاديّين، فضلاً عن بيوت العلماء المثقّفين، فسوف تجد فيه مكتبة تضم إلى جانب مؤلّفات الشيعة جانباً كبيراً من مؤلّفات (أهل السنّة والجماعة) على عكس (أهل السنّة والجماعة) فقد لا تجد عند علمائهم كتاباً شيعيّاً واحداً إلاّ نادراً.

ولذلك هم يجهلون حقائق الشيعة ولا يعرفون إلاّ الأكاذيب التي يكتبها أعداؤهم.

ولهذا فإن الشيعة ينظرون إلى إخوانهم من (أهل السنّة والجماعة) بنظر العطف


الصفحة 105
والحنان، وكأنّهم يريدون لهم الهداية والنّجاة، لأنّ ثمن الهداية عندهم حسب ما جاءت به الروايات الصحيحة خير من الدنيا وما فيها، فقد قال (صلى الله عليه وآله)للإمام على (عليه السلام)عندما بعثه لفتح خيبر:...لئن يهدي الله بك رجلا واحداً خيرٌ لك مما طلعت عليه الشمس أو خير لك من أن يكون لك حمر النعم "(1).

ولكن في المقابل تختلف نظرة أهل السنّة إلى باقي المذاهب ومنها الشيعة الإماميّة، ويذكر صالح الورداني سبب ذلك، قائلاً:

" إنّ الحفاظ على مذهب أهل السنّة يقتضي محاربة الدين الآخر وتدميره.

فهذه المسألة بالنسبة لأهل السنّة مسألة مصيريّة تحتم استحالة التعايش بينهم وبين الآخرين.

فمن ثم سوف يستمر البطش والإرهاب الفكري من قبلهم تجاه كل تيّار وصاحب فكر يحاول المساس بهم أو يشكك في مفاهيمهم وعقائدهم ذلك لاعتبارات كثيرة ذكرناها ونوجزها فيما يلي:

  • اعتقادهم أنّهم يمثلون الفرقة الناجية من النار في الآخرة المنصورة على عدوّها في الدنيا.

  • اعتقادهم أنّهم يمثّلون الأغلبيّة..

  • الشعور الدائم بالأمن والاستقرار في كنف القوى الحاكمة..

  • اندثار معظم الفرق والاتجاهات المناوئة لهم..

  • الشعور بالاستعلاء على الآخرين...

  • البطش الدائم بالمخالفين على مرّ الزمان [و] طبع أفكارهم وعقائدهم بالطابع السلطوي.. "(2)

____________

1- محمد التيجاني السماوي/ الشيعة هم أهل السنّة: 67 ـ 69.

2- صالح الورداني/ الكلمة والسيف: 20ـ21.


الصفحة 106

نشأة التسمية بأهل السنّة والجماعة:

من جملة الأمور التي تزيل هيبة مذهب أهل السنّة من أعين المنتمين إليه وتخفّف علاقتهم به، إضافة إلى كونه عقيدة حكوميّة عاشت في أحضان الحكّام منذ نشاتها، هي مسألة تسمية هذا المذهب بأهل السنة والجماعة، لأن الكثير قد يتصوّر أنّ هذا المذهب سمّي بهذا الإسم لتبعيّته عن سنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولكن الواقع ليس كذلك.

ويذكر التيجاني السماوي حول نتائج بحثه في هذا المجال:

" من الذي أطلق مصطلح أهل السنّة والجماعة؟!

لقد بحثتُ في التاريخ، فلم أجد إلاّ أنّهم اتّفقوا على تسمية العام الذي استولى فيه معاوية على الحكم بعام الجماعة.

وذلك أنّ الأمّة انقسمت بعد مقتل عثمان إلى قسمين:

شيعةُ على (عليه السلام) وأتباع معاوية.

ولما استشهد الإمام علي (عليه السلام) واستولى معاوية على الحكم بعد الصّلح الذي أبرمه مع الإمام الحسن (عليه السلام) وأصبح معاوية هو أمير المؤمنين، سُمّيَ ذلك العام بعام الجماعة.

إذاً فالتّسمية بأهل السنّة والجماعة دالّة على اتّباع سنّة معاوية والاجتماع عليه، وليست تعني اتّباع سنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فالأئمّة من ذريّته وأهل بيته أدرى وأعلم بسنّة جدّهم من الطلقاء، وأهل البيت أدرى بما فيه، وأهل مكّة أدرى بشعابها، ولكنّنا خالفنا الأئمّة الاثنى عشر الذين نصّ عليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله)واتّبعنا أعداءَهم.

ورغم اعترافنا الذي ذكر فيه رسول الله اثنى عشر خليفة كلّهم من قريش إلاّ أنّنا نتوقّف دائماً عند الخلفاء الأربعة.

ولعلّ معاوية الذي سمّانا بأهل السنّة والجماعة كان يقصد الاجتماع على السنّة التي سنّها في سبّ على (عليه السلام) وأهل البيت (عليهم السلام) والتي استمرّت ستّين عاماً ولم يقدر على إزالتها إلاّ عمر بن عبد العزيز، وقد يحدّثنا بعض المؤرّخين أنّ الأمويين تآمروا على قتل


الصفحة 107
عمر بن عبد العزيز وهو منهم لأنّه أمات السنّةَ وهي لعن علي بن أبي طالب (عليه السلام) "(1).

ويقول صائب عبد الحميد حول التسمية بأهل السنّة والجماعة:

" تكاملت هذه التسمية على مرحلتين; عُرف في المرحلة الأولى لقب (الجماعة)، أطلقه الأمويّون على العام الذي تمّ فيه تسليم الملك لمعاوية وانفراده به، فقالوا: (عام الجماعة).. لكنّها الجماعة التي تأسّست على الغَلَبة ولصالح الفئة الباغية، بلا نزاع في ذلك!

ورغم ذلك فقد بقي الانتماء للجماعة رهناً بطاعة الحاكم والانصياع لأمره حتى بالباطل، ومن تمرّد على الحاكم في إحياء سنّة أماتها أو إطفاء بدعة أحياها فهو خارج على الطاعة مفارق لـ(الجماعة) مستحقّ للعقاب النازل على المفسدين في الأرض!

... هكذا، فالصلاح والفساد إنّما يحدّده معاوية، وليس لله حكم ولا شريعة! شان أيّ حكم استبدادي ليس له أدنى صلة بالدين...

وما زالت اهواء الأمراء تُعدّ خروجاً على (الجماعة) ودخولاً في الفتنة، حتى لو كان المخالف لهم سبط رسول الله (صلى الله عليه وآله) وريحانته سيّد شباب أهل الجنّة!!

هكذا قلب الدين رأساً على عقب حين جرّدت كلمة (الأمير) من كلّ مقوّماتها وضوابطها الشرعيّة، لتصبح لقباً من نظير (الفرعون) و (النمرود) و (القيصر) و (كسرى) التي كانت الأمم الأخرى تلقّب بها الحاكمين! ويصبح ( الّذينَ يَأمرُونَ بالقِسْطِ منَ النّاسِ)(2) مفسدين في الأرض، خارجين على (الجماعة) ساعين في الفتنة!

وبقيت الجماعة رهناً بطاعة (الخليفة) من دون النظر إلى طريقة استخلافه، وإلى دينه أو أخلاقه أو عقله...

أمّا ما يدّعيه بعضهم من أنّ (الجماعة) مأخوذة من متابعة إجماع الصحابة وإجماع السّلف، فإنّما هي دعوى لا يسندها الواقع بشيء، فأيّ أمر هذا الذي أجمع عليه

____________

1- محمد التيجاني السماوي/ ثمّ اهتديت: 170ـ171.

2- آل عمران: 21.


الصفحة 108
السّلف ثمّ تميّزت به هذه الطائفة من غيرها من الطوائف؟!

لكن المشكلة تكمن في أنّهم اختزلوا مساحة (السّلف)، لتشمل فقط القائلين بإمامة كلّ متغلّب وحرمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حين يراه (الأمير) فساداً...

أمّا لفظ (السنّة) فلم يظهر مقروناً بلفظ (الجماعة) في بادىء الأمر، بل ظهر بمفرده اوّلاً في العهد الأموي أيضاً للتمييز بين المنتظمين في سلك (الجماعة) و بين الآخرين الذين ما زالوا يؤمنون بقداسة الدّين التي تأبى أن يكون رجال بني أميّة هؤلاء زعماء له ناطقين باسمه، فاذا قيل: (أهل السنّة) فانّما يراد بهم أهل الطاعة و(الجماعة) أنفسهم، وأمّا الآخرون فهم أهل البدَع "(1).

ويشير إدريس الحسيني إلى هذه الحقيقة قائلاً:

" انّ التسمية التي أطلقت على الفريقين: ليست وفيّة للحقيقة، وهي أسماء سمّوها من عند أنفسهم، نزّاعة للتشويه والتضليل، أكثر من حرصها على الموضوعيّة.

واستخدام الاسمين على الأبعاد التضليليّة، كان من دأب التيّار الأموي.

فالنقطة الحسّاسة التي توحي بها المفارقة بين الاسمين، هو ان (سنّة) الرسول (صلى الله عليه وآله)لها شمّتها في عنوان (السنّة والجماعة) في الوقت الذي لا رائحة لها في عنوان (مذهب الشيعة). هذا أنّ مذهب الشيعة يقف مقابلاً لمذهب (السنّة والجماعة) بما هي الممثل الوحيد لسنّة الرسول (صلى الله عليه وآله)!

وهذا التشويه والتضليل، قد أوتي أُكُله على امتداد الأيام التي أردفت عصور المحنة. فلقد أصبح (الشيعة) يفتقدون للمسوغات النفسيّة والإعلاميّة في ذهن الجمهور "(2).

ثم أضاف إدريس الحسيني قائلاً:

" والشيعة حسب تعريف علمائهم، هم الذين يسلكون سنّة الرسول (صلى الله عليه وآله)مأخوذة

____________

1- مجلّة المنهاج/ العدد6: 121ـ124.

2- إدريس الحسيني/ لقد شيّعني الحسين: 29.


الصفحة 109
من عترته الطاهرة.

بيد أنّ الملابسات السياسيّة والايديولوجيّة التي رافقت حركة الفرقتين أضفت على القضيّة، مجموعة من الشبهات لا تحصى ولا تعد.

وبالتالي يكون من الضروري التعرّض إلى المصطلحين بشكل أعمق، يستمد مرتكزاته من عمق التاريخ الإسلامي ذاته.

ذلك لأن أعداء الشيعة طالما تحاملوا على الشيعة، ملتمسين كل سلبيّة غريبة وإلصاقها بهم "(1).

ثمّ قال إدريس الحسيني حول مسألة التسمية المذهبيّة:

" ليست التسمية ـ إذاً ـ هي موضع الإشكال، وإنّما الواقع الفعلي للمذهبين هو موضوع النّقاش، إذ أنّنا ونحن ننظر في سنّة الرسول (صلى الله عليه وآله) القوليّة والفعليّة والتقريريّة، سوف نتبيّن أيّ الفريقين أقرب إليها.

إنّ الشيعة لم يكونوا يوماً مبتدعة، بل أنّ مذهبهم قائم في الأساس على (النص). وإذا أتيت أنّ الإسلام الحقيقي بعد الرّسول (صلى الله عليه وآله) تمثّل في على (عليه السلام)فإنّ التشيّع لعلي (عليه السلام)هو التعبير المرحلي عن التشيّع لمحمد (صلى الله عليه وآله) بالثبات على تعاليمه وتوصياته في حقّ على (عليه السلام) والذي هو الإسلام!

فاسم (السنّة) أتى، كأستراق للفرصة، لمحاصرة (الشيعة) اصطلاحيّاً، لأن التيّار السائد يومها لم يكن له من الحجّة سوى اللعب على وتر المفاهيم القشريّة. وكان اليوم الذي تحوّلت فيه الخلافة إلى ملك عضوض، هو عام الجماعة، ومنها جاء (السنّة والجماعة)! "(2).

ويقول صالح الورداني حول التسميات المذهبيّة:

____________

1- المصدر السابق: 31.

2- المصدر السابق: 35.


الصفحة 110
" ليس في الإسلام مذهبيّة..

ليس هناك ما يسمّى بشيعة أو سنّة او شافعيّة أو مالكيّة أو أحناف أو حنابلة..

فكل هذه تسميات تاريخيّة من اختراع السياسة..(1).

والحقّ انّ هناك اسلام حق واسلام باطل..

اسلام ربّاني واسلام حكومي..

والذي ساد على مرّ التاريخ هو الإسلام الحكومي..

والذي ضرب واختفى هو الإسلام الربّاني..

إنّ الأسماء والمسمّيات لا مجال لها هنا، فالمهم هو الحقّ، وأمام الحقّ تتلاشى الأسماء والمسمّيات ويبدأ التركيز على الجوهر.. "(2).

وجود الكثير من الثّغرات في المذهب السنّي:

من الأمور التي تسلب من الشخص السنّي نظرته المقدّسة إلى مذهب أهل السنّة بعد تعرّفه على مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، هي مسألة وجود الكثير من الثغرات في المذهب والتراث السنّي والأفضليّة التي يمتاز بها المذهب والتراث الشيعي عليه.

ويوضّح صالح الورداني هذا الأمر بصورة مفصّلة قائلاً:

" هناك عدّة قضايا مشتركة بين التراث السنّي والشيعي..

وهناك أيضاً عدّة قضايا تفرض التباعد وعدم التلاقي..

وأثناء رحلتي الطويلة مع التراث كانت تستوقفني الكثير من الروايات والاجتهادات والأقوال التي تبعث الشك في نفسي على مستوى تراث السنّة وتراث الشيعة..

كان التراث السنّي يحمل كمّاً كبيراً من الروايات المختلقة والموضوعة.. والتراث

____________

1- يقف الحكّام على الدوام وراء جميع النزعات المذهبيّة بهدف تشتيت الأمة سيراً مع مبدأ فرّق تسدّ (صالح الورداني).

2- صالح الورداني/ الخدعة: 44ـ45.


الصفحة 111
الشيعي كذلك..

وكان التراث السنّي يحمل داخله عدّة أطروحات مختلفة ومتناحرة والتراث الشيعي كذلك..

إذاً ما الذي يميز تراثاً عن الآخر؟..

والإجابة على هذا السؤال تقتضي أن نحدّد ملامح الخلاف بين التراثين..

انّ التراث السنّي يعتمد على الصحابة..

بينما التراث الشيعي يعتمد على آل البيت..

والتراث السنّي يتبنّى التعايش مع الحكّام..

بينما التراث الشيعي يرفض هذا التعايش..

التراث السنّي تغلب عليه أقوال الرجال..

بينما التراث الشيعي يغلب عليه النصّ..

التراث السنّي نتج من حالة سلام مع الواقع..

بينما التراث الشيعي في حالة صِدام معه..

التراث السنّي يضيّق على العقل..

والتراث الشيعي يحترم العقل..

وبهذه المقارنة يتّضح لنا مدى الهوة التي تباعد بين التراثين، إلاّ أنّ التراث الشيعي كحال أيّ تراث لابد وأن تطرأ عليه متغيّرات نتيجة لتراكم الأقوال والاجتهادات النابعة منه بحيث يصبح متشابهاً إلى حدّ كبير مع التراث السنّي..

من هنا برزت الروايات الموضوعة عند الطرفين..

وبرزت المذاهب في إطار الفكر الواحد..

أبرز التراث السنّي الكثير من الرّوايات التي ترفع من قدر الصحابة وتضخّم بعضهم، وأبرز التراث الشيعي الكثير من الروايات التي ترفع من قدر آل البيت (عليهم السلام)وتضخّمهم وعند كلا الطرفين ظهر الوضع والاختلاق..


الصفحة 112
ولقد تبيّن انّ القاعدة التي وضعت من قبل الشيعة لضبط حركة الرواية ووقف عملية الوضع والاختلاق هي أدق وأكثر ارتباطاً بالنص من قاعدة السنّة..

قاعدة الشيعة تنص على انّ الحديث الذي يخالف القرآن والعقل يضرب به عرض الحائط. بينما قاعدة السنّة تعتمد على علم الرجال والبحث في سند الرواية..

قاعدة الشيعة ترتكز على متن الرواية..

بينما قاعدة السنّة ترتكز على سندها..

وعلى ضوء قاعدة الشيعة تم نبذ الكثير من الروايات في التراث الشيعي ومحاكمة الروايات الأخرى ووضعها تحت دائرة الضبط والتنقيح..

وعلى ضوء قاعدة السنّة تم اعتماد الكثير من الروايات رغم مخالفتها لنصوص القرآن ومُصادَمتها للعقل بسبب أنّ سند هذه الروايات سليم ورجاله رجال الصحيح. أيّ أنّه مادامت قد ثبتت عدالة الرواة، فقد ثبتت صحّة الرواية، ولو كانت تخالف القرآن..

إنّ قاعدة الشيعة سوف ينتج عنها غربلة التراث وتنقيحه، بينما قاعدة السنّة سوف ينتج عنها إبقاء التراث على حاله وزيادة حدّة التباعد بينه وبين القرآن والعقل..

ولقد كان تبني الشيعة لقضيّة الإمامة قد ميّز التراث الشيعي عن التراث السنّي وأوجد الكثير من الاجتهادات والمواقف التي انعكست على الفقه والعقيدة والتصوّر الشيعي بشكل عام.

ومن أبرز نتائجها حصر مصدر التلقي في دائرة آل البيت (عليهم السلام) المقصودين بالإمامة، ورفض الخطوط الأخرى التي خالفت نهجهم وعلى رأسها خط الصحابة الذي أرسى دعائمه أبوبكر وعمر..

وأهمّ ما سوف ينبني على قاعدة تحكيم القرآن والعقل هو تحجيم دور الرجال وعزل أقوالهم عن النصوص والحيلولة دون طغيان هذه الأقوال عليها.

وهي من أهم مميّزات التراث الشيعي على التراث السنّي الذي بفقده هذه القاعدة تغلب الرجال على النصوص.


الصفحة 113
إنّ عزل القرآن والعقل عن التراث والحيلولة دون أن يقوما بدورهما كحَكمين عليه إنّما هي مؤامرة على الإسلام من اختراع السياسة، الهدف منها إمرار الروايات المختلفة والموضوعة التي سوف تسهم في صياغة الإسلام وطمس هويّته الحقّة وإبدالها بهويّة زائفة تخدم مصالح الحكّام وتضفي المشروعيّة عليهم..

تحكيم القرآن والعقل يعني الانتماء للنص لا التراث..

والنص هو الحكم على التراث وليس العكس..

من هنا فان الرجال عند الشيعة إنّما هم تحت النصوص وليسوا فوقها.

و هذا ما استراح إليه عقلي واطمأنّت به نفسي انّني عندما تبنيت الأطروحة الشيعيّة لم أستبدل تراثاً بتراث،ولم أنتقل من عبادة رجال إلى عبادة رجال..

عندما التزمت بخط آل البيت (عليهم السلام) إنّما التزمت بخط النص لا بخط الرجال.. "(1).

وفي مقارنة أخرى بين عقيدة التسنن وعقيدة التشيّع، يقول صالح الورداني:

" الفرق الشاسع بين عقيدة التشيّع وعقيدة التسنن...

عقيدة التشيّع تلتزم بالعقل والنص...

وعقيدة التسنن تلتزم بالأثر والرجال...

عقيدة التشيّع توالي أهل البيت (عليهم السلام)...

وعقيدة التسنّن تخاصم أهل البيت (عليهم السلام)...

عقيدة التشيّع تحترم الرأي وتفتح باب الاجتهاد...

وعقيدة التسنن تنبذ الرأي وتغلق باب الاجتهاد...

عقيدة التشيّع تملك الرصيد العلمي الموروث عن أهل البيت (عليهم السلام)...

وعقيدة التسنن لا تملك إلاّ رصيد الفقهاء المتناحرين فيما بينهم، الموروث من واقع منحرف غلبت عليه السياسة...

____________

1- المصدر السابق: 49ـ51.


الصفحة 114
عقيدة التشيّع لا تتعاطف مع الحكّام...

وعقيدة التسنن تتحالف مع الحكّام...

هذا ما اكتشفناه في عقيدة التشيّع، ولاشك أن عقيدة بهذه المواصفات لابد وأن تنجح تراثا وثقافة مغايرة...

إنّ التراث السني تراث مهلهل مليء بالتناقضات والخلل الفكري والعقلي وقد نتجت عنه ثقافة مجانبة للعقل لا تحترم الآخر، شديدة الإيغال في الماضي، وما هذا إلاّ لكونها فشلت في الارتباط بالحاضر وإيجاد بدائل لرموز الماضي..

من الواجب هنا أن نفرّق بين التشيّع كعقيدة وبينه كتراث وثقافة ومجتمع، بالنسبة للتشيّع كعقيدة نعتقد أنّ خط آل البيت هو التعبير الأصدق والأكثر التزاماً بروح الإسلام، هو مخرجٌ لكثير من المتاهات السائدة في التراث السنّي والعلاج لكثير من حالات الاكتئاب العقلي أو الخلل السائد في أوساط المسلمين.

إنّ التشيّع كعقيدة هو الخلاص للمسلمين في الدنيا والآخرة.

أمّا التشيّع كتراث الذي ينتج عن اجتهاد الأشخاص فانّ هذه الاجتهادات قد يحدث فيها بعض التجاوز وقد يطغى رأي الرجال على النصوص، لذلك لا يجب أن يكون التراث حكماً على الدين.

وهذا يرد على الذين يحاولون استغلال التّراث الشيعي للطعن في التشيّع لآل البيت (عليهم السلام).

لقد لاحظت أنّ مُعظم الذين يتربّصون بالشيعة والتشيّع من الوهّابيّين وغيرهم، وخاصّة في فترة الثمانينات في مصر، كانوا يتصيدون من كتاب (بحار الأنوار) بعضا من الروايات ويستخدمونها في تأليب المسلمين على الشيعة.

هذا الكتاب هو مجموع لعلوم آل البيت (عليهم السلام) ويمثّل التراث الشيعي، لكنّه في النهاية لا يعبّر عن العقيدة الشيعيّة.

نحن في عقيدة آل البيت نؤمن أنّ الحديث يُعرَض على القرآن والعقل كما نصّ


الصفحة 115
على ذلك الإمام الصادق (عليه السلام).

في التراث السني لا توجد هذه القاعدة، وهذا هو الفرق، لأنّ التراث السنّي لايحكمه العقل، بينما التراث الشيعي يحكمه العقل.

الثقافة الشيعيّة هي ثقافة تتميّز على الثقافة السنّية بالرقي العقلي والتحرّر الذهني والتفوّق السلوكي، لذلك حين نقارن بين عوام المذهبيّين نلحظ هذه الفوارق "(1).

وهذه هي الرؤية التي ساعدت صالح الورداني على البحث عن الحقيقة لأنّه يقول:

" كنت على الدّوام أطرح على نفسي السؤال التالي: ما بين أيدينا تراث أم دين..؟

كان العرف السائد أن ما بيننا هو الدين. وهكذا كنت أتصوّر لفترة من الزمن- هي فترة نشأتي الفكريّة - إلاّ أنّه مع مرور الزمن وحصولي على قدر من الوعي والخبرة، أمكن لي أن أتبيّن الفروق بين التراث والدين..

وتجلّت أمام عيني حقيقة ساطعة وهي أن الصراع الفكري المحتدم بين المسلمين إنّما هو صراع يقوم على أساس التراث وليس على أساس الدين..

وتبيّن لي أن الجماعات والتيّارات الإسلاميّة إنّما بنت تصوّراتها وأصولها الفكريّة على أساس أطروحات تراثيّة وليس على أساس نصوص دينيّة...

كما يبدو في كم الفتاوي والخطب والمؤلّفات السائدة في الوسط الإسلامي والتي تعكس نتاجات واجتهادات ومواقف لفقهاء السلف أكثر من كونها تعكس نصوصاً..

من هنا فإنّ احساسي بالخديعة وحكمي بالزيف على الأطروحة الإسلاميّة المعاصرة سرعان ما تنامى وقوي بحيث دفعني إلى طرح التراث جانباً والبحث عن الدين من جديد.. "(2).

ومن هذه الرؤية لمذهب أهل السنّة اندفع إدريس الحسيني إلى ترك المذهب

____________

1- مجلّة المنبر/ العدد: 22.

2- صالح الورداني/ الخدعة: 39ـ40.


الصفحة 116
السنّي وتوجّه إلى مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، ويشير هذا المستبصر إلى هذا الأمر قائلاً:

" فاقتنعت و وصلت إلى نتيجة نهائيّة، ان هذا الطرح عاجز عن بناء أمّة أو تأسيس فكر أو إقامة شخصيّة للمسلم وتحقيق العدل والأمن والسلام للمسلمين أو إراحة العقل وتحقيق التوحّد والاستقرار ودفع الأمّة إلى الأمام، فأصدرتُ قراري بالتحوّل إلى مذهب آل البيت (عليهم السلام) "(1).

ومن أهم الأمور المحفّزة لتغيير الانتماء المذهبي بعد أن يعرف الباحث السنّي عدم صلاحيّة مذهبه، هو أن يجد مذهب أهل البيت (عليهم السلام) هو البديل المناسب للاعتناق، فيدفعه ذلك إلى الاستبصار وترك انتمائه المذهبي السابق واعتناق مذهب أهل البيت (عليهم السلام).

ويشير التيجاني السماوي حول تجربته الخاصّة في معرفة البديل المذهبي:

" قرأت الكثير [من الكتب] حتى اقتنعت بأن الشيعة الاماميّة على حقّ فتشيّعت وركبت على بركة الله سفينةَ أهل البيت وتمسّكت بحبل ولائهم، لأنّي وجدت بحمد الله البديل على بعض الصحابة الذين ثبت عندي أنّهم ارتدّوا على أعقابهم القهقرى ولم ينج منهم إلاّ القليل وأبدلتهم بأئمة الهدى أهل البيت النبويّ الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا وافترض مودّتهم على الناس أجمعين "(2).

ويضيف التيجاني السماوي:

" نعم، وجدت البديل والحمد لله الذي هداني لهذا وما كنت لأهتدي لولا أن هداني الله.

الحمد لله والشكر له على أن دلّني على الفرقة الناجية التي كنت أبحث عنها بلهف، ولم يبق عندي أيّ شك في أن المتمسّك بعلي وأهل البيت قد تمسّك بالعروة الوثقى

____________

1- مجلّة المنبر/ العدد: 3.

2- محمد التيجاني السماوي/ ثم اهتديت: 131.


الصفحة 117
لا انفصام لها.

والنّصوص النبويّة على ذلك كثيرة أجمع عليها المسلمون، والعقل وحده خير دليل لمن ألقى السّمع وهو شهيد...

نعم وجدت البديل بحمد الله، وصرت أقتدي ـ بعد رسول الله ـ بأمير المؤمنين وسيّد الوصيّين وقائد الغرّ المحجّلين أسد الله الغالب الإمام علي بن أبي طالب وبسيّدي شباب أهل الجنّة وريحانتي النبيّ من هذه الأمّة الإمام أبي محمد الحسن الزكيّ والإمام أبي عبد الله الحسين وببضعة المصطفى سلالة النبوّة وأم الأئمّة معدن الرّسالة ومن يغضب لغضبها ربُّ العزّة والجلالة سيّدة النّساء فاطمة الزهراء.

وأبدلت الإمامَ مالك بأستاذ الأئمّة ومعلّم الأمّة الإمام جعفر الصادق (عليه السلام).

وتمسّكت بالأئمّة التسعة المعصومين من ذريّة الحسين أئمة المسلمين وأولياء الله الصالحين.

وأبدلت الصحابةَ المُنقلبين على أعقابهم أمثال معاوية وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة وأبي هريرة وعكرمة وكعب الأحبار وغيرهم بالصّحابة الشّاكرين الّذين لَم ينقضوا عهدَ النبيّ أمثال عمّار بن ياسر و سلمان المحمّدي وأبي ذر الغفاري والمقداد بن الأسود وخزيمة بن ثابت ذو شهادتين وأُبيّ بن كعب وغيرهم والحمد لله على هذا الاستبصار.

وأبدلت علماء قومي الذين جمّدوا عقولَنا واتّبع كثير منهم السلاطين والحكّام في كلّ زمان، بعلماء الشيعة الأبرار الذي ما أغلقوا يوماً باب الاجتهاد ولا وهنوا ولا استكانوا للامراء والسلاطين الظالمين.

نعم أبدلت أفكاراً متحجّرة متعصّبة تؤمن بالتناقضات، بأفكار نيّرة متحرّرة ومتفتّحة تؤمن بالدليل والحجّة والبرهان.

وكما يُقال في عصرنا الحاضر غسلت دماغي من أوساخ رانت عليه ـ طوال ثلاثين عاماً ـ أضاليل بني أميّة وطهّرته بعقيدة المعصومين الذين أذهب اللهُ عنهم الرّجس


الصفحة 118
وطهّرهم تطهيراً لما تبقى من حياتي.

اللهمّ أحينا على ملّتهم وأمتنا على سنّتهم وأحشرنا معهم فقد قال نبيّك (صلى الله عليه وآله):

(يُحشر المرء مع من أحب)"(1).

الدافع الثالث:

الالتقاء بأتباع مذهب أهل البيت (عليهم السلام)

إنّ لقاء المرء وحواره مع من يخالفه في الرأي والمعتقد، من شأنه أن يساعده على تفتّح آفاق ذهنه عبر التعرّف على أفكار ورؤى الطرف المقابل، لأنّ هذا اللقاء يؤدّي إلى تلاقح فكري يوسّع آفاق رؤية الطرفين ويغنيهما بالكثير من المعلومات التي كانت غائبة عن أذهانهما فيما سبق.

ويمكن الحصول على هذه الثّمرة أيضاً حينما يلتقي شخص سنّي مُتَفهّم مع شخص شيعي واع، لأنّ هذا اللقاء لا شكّ سيؤدّي إلى نوع تقارب عقلي بينهما، ومن ثمّ تكون ثمرته تعرّف كلّ منهما على حقائق لم يكن ملتفت إليها فيما سبق.

وكان هذا الأمر لكثير من أهل السنّة حين التقائهم بشخصيّة شيعيّة واعية بمثابة الشعلة المقدّسة التي أضاءت أذهانهم وقلوبهم ودفعتهم إلى البحث عن الحقيقة.

ويذكر الكثير من أهل السنّة الذين استبصروا، أنّ هذه اللقاءات كان لها دوراً فعّالاً في إعادة نظرتهم لمعتقداتهم السابقة، وكان ذلك تمهيداً لترك مذهبهم السني واعتناقهم لمذهب أهل البيت (عليهم السلام).

وفي الكثير من هذه اللقاءات التي يجتمع فيها الطرفان السنّي والشيعي، تثير هذه الجلسات في نفسيّة الطرف السنّي محفّزاً يدفعه إلى النظر من جديد إلى مرتكزاته الفكريّة التي ورثها من البيئة التي عاش في كنفها.

____________

1- المصدر السابق: 132ـ134.


الصفحة 119
وقد جاء في كتب وكلام المستبصرين الاشارة إلى هذا العامل والدافع للاستبصار، ويمكننا الإشارة في هذا المجال إلى بعض تصريحات المستبصرين منهم:

يقول صالح الورداني:

" كانت لي علاقات كثيرة بالطلبة العرب المقيمين في مصر لغرض الدراسة وكان من بينهم عدد من الشّيعة العراقيّين "(1).

ويضيف هذا المستبصر:

" استفدت كثيراً من تلك العلاقات في التعرّف على فكر الشيعة عن قرب وأمكن لي أن أقوم برحلة إلى العراق بدعوة من صديق لي تعرّفت عليه في مصر وكان على درجة كبيرة من الثقافة ويقوم بتحضير دراسات عليا في القاهرة وذلك عام 1977 م...

ومن خلال تواجدي بالعراق قمت بزيارة مراقد آل البيت ببغداد والطواف على مساجد الشيعة وسماع الدروس والمحاضرات والحوار مع الشباب الشيعي من أصدقاء صديقي..

ونتيجة لهذا كلّه تبددت من ذهني الكثير من الأوهام والتصوّرات غير الصّحيحة التي كنت أحملها عن الشيعة، وكانت لي بالإضافة إلى ذلك بعض الملاحظات السلبيّة إلاّ أنّني نحّيتها جانباً لاعتقادي أنّ الرؤية التي يجب أنْ تُبنى تجاه أيّ تصوّر أو أطروحة سائدة إنّما تقوم على أساس ما تتبنّاه هذه الأطروحة من معتقدات لا على أساس سلوك الأفراد وممارساتهم "(2).

ويقول عبد المنعم حسن حول كيفيّة تأثّره بأحد معتنقي مذهب أهل البيت (عليهم السلام)عندما كان في السودان:

" استقرّ بي المقام في العاصمة (الخرطوم) لأبدأ الدراسة الجامعيّة..

____________

1- صالح الورداني/ الخدعة: 17.

2- المصدر السابق.


الصفحة 120
وفي أحد أحيائها حيث اخترت أن أسكن مع أقربائي كان يسكن أحد أبناء عمومتي وحيداً يكافح في الحياة بين الدراسة والعمل..كان متديّناً يعيش حياة سعيدة رغم أنّه لا يملك شيئاً من الوسائل المادّية للسعادة وربّما يختصر طعامه في اليوم بوجبة واحدة.

كنّا نزوره باستمرار ـ لاعجابنا الكثير به وبخُلُقه وزهده ـ ونجلس معه ونحاوره في كثير من قضايا الدين والموت والآخرة، كان ينبوعاً من العلم، وحديثه معنا كان يخلق فينا روحاً إيمانيّة ودفعة معنويّة مضاعفة وذلك لمواجهة الحياة والزهد في الدنيا...

وكنّا نعجب من تديّنه الذي ينبع من إخلاص قلّما تجده عند أحد خصوصاً في هذا الزمن الذي غلبت عليه المادّية وأصبح الدين لعقاً على ألسنة الناس يحوطونه ما درّت معايشهم فإذا مُحصّوا بالبلاء قلّ الديّانون..

إحساسنا ونحن نتحدّث إليه أنّنا نقف مع أحد أولئك الذين جاهدوا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) في بدر وأحد وحنين... تخرج الكلمة من قلبه فنشعر بها في أعماق وجداننا، كان كثير الصوم.. دائم العبادة لله تعالى.. أحياناً نبيت معه ليالي كاملة فنراه بالليل قائماً قانتاً يدعوا الله ويتلو كتابه وفي الصباح يدعو الله بكلمات لم نسمع بها من قبل، كلمات يناجي بها ربّنا عزّوجل هي بلا شك ليست لبشر عادي، لابدّ أنّها من قول الرسول (صلى الله عليه وآله) ولكن عجباً لم نسمع بها من قبل، ولم نقرأها ضمن مناهجنا الدراسيّة ولا في كتبنا الإسلاميّة... فنضطرّ إلى سؤاله ما هذا الذي تقرؤه؟! فيجيبنا بأنّه دعاء الصّباح لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)فنوجم مبهوتين.

كثيراً ما كان يثير الحديث عن أهمّية التديّن والدين والبحث عن سُبل النّجاة قبل أنْ يأتي الأجل المحتوم، وهذا الحديث كان يثير فينا إحساساً بالمسؤوليّة يؤرّقنا فكنّا نتحاشى فتح الحوار معه من الأساس.

إلى ان جاء يومٌ ابتدأنا معه حواراً صريحاً ـ بعد أن لاحت لنا في الأفق أشياء استغربناها ـ حول هذا الدين الذي يتعّبد به إلى الله تعالى، و أوّل معلومة ثبتت لدينا أنّه


الصفحة 121
جعفري إمامي إثنا عشري (شيعي)!

وانطلقنا معه في حوارات قويّة باعتبارنا متمسّكين بمذهب أهل السنّة والجماعة أولا أقل (ذلك ما عليه آباؤنا ونحن على آثارهم سائرون).

وكان النقاش يمتد لساعات طويلة وكانت حجّته قويّة بيّنة مدعّمة بالأدلّة والبراهين العقليّة والنقليّة، ولم يعتمد في طول حواره معناً على كتاب أو مصدر شيعي مما يعملون به، بل كان يرشدنا إلى مصادر أهل السنّة والجماعة لنجد صدق ادّعائه.

ورغم أنّ حديثه وادلّته وبعض الكتب التي قرأناها كانت تحدث فينا هزّة داخليّة إلاّ أننا كنّا نكابر ولا نظهر له من ذلك شيئاً...

وعندما نجتمع بعيدا عنه كنّا نأسف لحاله ونصفه بأنّه مسكين ـ رغم تديّنه المخلص ـ بدأ اوّل خطواته نحو هاوية الجنون لكونه شيعي... إلاّ أنّه أثبت لنا بعد حوار دام سنتين تقريبا بأنّنا كنا من المجانين الغافلين، وأقام علينا الدليل والحجّة بصحّة ما هو عليه، فما كان منا في النهاية إلاّ التسليم بعد البحث والتنقيب وانكشاف الحقائق "(1).

ومن جملة الّذين كان للقائهم باتباع مذهب أهل البيت (عليهم السلام) دور في اعتناقهم للتشيّع هو محمد علي المتوكّل، حيث أنّه التقى في السودان بشخص شيعي، وتعرّف عن طريقه على حقائق أدّت به و بأصدقائه في نهاية المطاف إلى اعتناق مذهب أهل البيت (عليهم السلام).

ويذكر محمد علي المتوكّل حول كيفيّة اتّصاله بهذا الشخص الشيعي أنّه تعرّف عليه في إحدى الفنادق في السودان وهو لا يعلم بأنّه شيعي، ثم دار بينهما حديثٌ حول تطلعات الاسلاميين والتحدّيات التي تواجههم.

ويذكر هذا المستبصر أنّه انبهر بسعة أفق ذلك الرجل ودقّة معلوماته، ولكنّه شك

____________

1- عبد المنعم حسن/ بنور فاطمة اهتديت: 12ـ14.


الصفحة 122
خلال حديثه معه بأنّه شيعي فيقول:

" بعد شيء من التردد سألته: هل أنت شيعي؟

وتوقّعت أن يخرجه سؤالي عن هدوئه واتّزانه، وكأنّي عندما سألته كنت أقول له: (هل أنت زنديق)!!

ولكنّه أجاب ودون أن يطرف له جفن: نعم أنا شيعي؟!

قلت في نفسي: سبحان الله، يقولها غير متحرّج ولا متأثّم، أيحسب أنّه بذلك يحسن صنعاً؟

وللحظة، حاولت أن أربط ما بين أفكاره العميقة وحججه المتينة التي أدلى بها أثناء الحوار وبين اعترافه الجريء هذا بالتشيّع...

أخرجني من ذهولي سائلاً: وماذا تعرف أنت عن الشيعة؟

قلت: وما عساني أعرف عنهم غير مفارقتهم للسنّة والجماعة وجرأتهم على الصحابة وغلوّهم في تقديس الإمام علي.

ثمّ أردفت: لقد اطّلعت مؤخّراً على آراء الشيعة ومعتقداتهم ومواقفهم من الصحابة وكنت آمل أن التقي بشيعي حتى أسأله عن صحّة ما ينسب اليهم.

قلت ذلك وأنا أحاول جاهداً أن أخفي عنه خليطاً من الأحاسيس التي اجتاحتني في تلك اللحظة وأنا ألتقي وجها لوجه بشيعي، وأي شيعي! مثقّف، سياسي حركي وقوي الشخصيّة. الآن ربّما أحسم معه الكثير من القضايا العالقة، وربّما ينكشف من الحقائق ما أتمنّى نقيضه.

قد يثبت هذا الشيعي المتمكن - بالدليل - أن الخلافة كانت لعلي، فيثبّت تبعا لذلك أن الخلفاء غصبوه حقّه.

وقد يثبت أنّ عائشة لم تكن محقّة في خروجها على الإمام علي، ومن ثم تتحمّل المسؤوليّة كاملة عن دماء المسلمين التي أهدرت وعن مصالح الأمّة التي تضررت.

وقد يثبت أنّ الصّحابة عرفوا الحقّ لأهل البيت ثمّ أنكَروه، وهكذا تنهار الدعائم


الصفحة 123
التي لم نعرف الدين إلاّ قائماً بها.

الآن وقد تحقّق ما كنت أرجوه بلقائي بهذا الشيعي; أتمنّى لو أنّه لم يتحقّق ولم ألتق به.

كم هو مرير ذلك الاحساس الذي ينتاب الإنسان وهو يتوقّع أن تتحوّل كل الحقائق التي لديه إلى أباطيل، والمعتقدات إلى أوهام والرموز إلى أصنام.

أنا لا أريد شيّاً من ذلك، لا أريد أن أكتشف شائبة في العلاقة بين علي وغيره من الخلفاء، أريد أن تكون واقعة الجمل شيئاً أشبه بالمسرحيّة، حيث يقتتل الممثّلون على المسرح، ثمّ يهنّىء بعضهم بعضاً خلف الكواليس على ما حقّقوه من نجاح في أداء الأدوار.

حرصت ان أبدو أمامه متماسكاً ومعتداً بانتمائي المذهبي كاعتدادي بتميّزي الحركي!

فالمرء مهما كان هو ابن مذهبه، وإن جاز له الاعتراف بينه وبين قومه، باهتزاز الثّقة فيه، فليس له أن يكشف ذلك لأهل المذاهب المناوئة!

إنطلاقاً من روح العصبيّة هذه، سمحتُ لنفسي أنْ أحادثه بلهجة فيها شيء من النّصح والكثير من الاستهجان، فنحن ننتمي إلى الأصل، إلى (السنّة والجماعة)، وغيرنا مهماكانت مزاعمه، مفارق لهذا الأصل منشق عنه، وربما كان ذلك هو اعتقاد كل من يتبنى ديناً أو مذهباً، فهو الحق وهو الأصل، وإلاّ لما تمسّك بشيء من ذلك ودافع عنه، هذا بصفة عامّة وهناك من يحيد عن الحق ويتمسّك بغيره مدركاً للحقيقة، تحدوه مصالح مادّية أو عقد نفسيّة، وقد عبّر القرآن عن هذا الصنف بقوله تعالى: (وَجَحَدوُا بِهَا واسْتَيقَنَتهَا أنفُسُهمْ ظُلْمَاً)(1)، ولم نكن - ولله الحمد - من هذا الصنف الأخير.

وكأنّه أدرك عمقَ الأزمة التي أعيشها، تجاهل جلّ الكلام الذي قلته و الهجوم الذي واجهته به وأخذ يحدّثني عن العقل ودوره والمنهج السليم في قراءة التاريخ وخطر التعصّب وخطأ التقليد في العقائد، حتى كاد ينسيني الموضوع الأساسي.

____________

1- النمل: 14.


الصفحة 124
وللحقيقة فقد كان بارعاً سلس الحديث مرتّب الفكر، استطاع بلباقته وحكمته أن يمتص حماسي وينتزع تعصّبي، فلم أملك إلاّ أن أصغي إليه بكل جوارحي.

وبعد أن فرغ من حديثه حول مناهج البحث وأصول الفكر، قمت بإطّلاعه على ما كان من أمري وأمر أصحابي وما نحن فيه من الحيرة وتشتت الفكر.

وعلى الأثر تشعّب الحديث بيننا دون أن ينال أيّاً من القضايا التاريخيّة والمذهبيّة، ولم يبدوا الأخ أيّ حرص على استدراجي أو تغيير قناعتي وكان خلاصة الحديث نُصحُه لي أن أبحث عن الحقيقة بتجرّد، وأن أحرّر عقلي من إسار التقليد والموروث.

وعدته بالعمل بنصحه، ولم اكن أتوقّع أن يكون للقائنا ذاك ما بعده، فهو نزيل بالفندق، يغادره بين يوم وليلة، فلا تبقى منه إلاّ ذكرى هذا اللقاء المثير، لذلك سألته أن يعدّ لي قائمة بالكتب الضروريّة للبحث التاريخي والعقائدي.

فقال: هناك كتابان يعّد كل واحد منهما دليلا كاملاً لمراجع البحث، كما يعدّان من أقوى ما كتب حول الإمامة والمذاهب أحدهما (المراجعات) وهو عبارة عن رسائل متبادلة بين عالم شيعي هو سيّد شرف الدين الموسوي من جبل عامل في لبنان والشيخ سليم البشري، عالم مصري وأحد شيوخ الأزهر السابقين.

هذا الكتاب عظيم الفائدة ويخدم بحثكم كثيراً، لأن الجانب الشيعي اعتمد بالكامل في احتجاجه على المصادر المعتمدة عند السنّة، ولم يأت بدليل واحد من غيرها، وقد أقرّ الشيخ البشري، وهو ضليع في علوم الحديث، بصحّة جميع الأدلّة التي أوردها السيّد شرف الدين، وما انتهت المراسلات بينهما إلاّ وكان قد أيقن بولاية أهل البيت (عليهم السلام) وإمامتهم.

ثمّ قال: هذا الكتاب لا أتوقّع وجوده بالمكتبات السودانيّة، وقد طفت على أكثرها ولم أره.

أمّا الغدير فهو موسوعة في التاريخ والعقائد قوامه أحد عشرة مجلّداً يدور حول محور الحديث النبويّ المشهور بل المتواتر الذي قاله النبي (صلى الله عليه وآله)عندما كان راجعاً من


الصفحة 125
حجّة الوداع امتثالاً لقوله تعالى: ( ياأيّها الرَّسُولُ بَلّغْ مَا أَنْزَلَ إلَيكَ مِنْ رَبّك وإنْ لَمْ تَفْعَل فَمَا بلّغْتَ رِسَالَتَه واللهُ يَعصِمُك مِنَ النَّاسِ)(1).

وأهمّ ما في الحديث قوله (صلى الله عليه وآله) أمام مائة صحابي أو يزيدون: (ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلى. قال: من كنتُ مولاه هذا علي مولاه، اللهمَّ وال من والاه و عاد من عاداه، وانصر من نصره وأخذل من خذله).

ثم قال الشيخ إنّ هذا الكتاب موجود بمكتبة الدار السودانيّة للكتب. وهكذا ودّعته وقد عقدت العزم على شراء كتاب الغدير ".

المفاجأة الكبيرة:

ويضيف محمد علي المتوكّل:

" لم يهنّئني المنام في ليلتي تلك، إذ كان ذهني يسترجع محاور الحوار الذي دار بيننا مرّة بعد مرّة، وقد شغلني أمر الكتاب الذي تذكّرت أنه الكتاب ذاته الذي اطلع صديقنا طاهر على أحد أجزائه فدخل و أدخلنا معه في هذه الطرق الشائكة التي لا تؤمن عقباها.

في صباح اليوم التّالي وبينما كنت أتأهّب للذهاب إلى المكتبة لشراء كتاب الغدير كان ساعي البريد يسلم إلى موظّف الاستقبال مجموعة من الرسائل بينها مظروف مرسل عبري إلى أحد أصدقائي وكان على اتّصال بمؤسّسة البلاغ الإيرانيّة التي ترسل له كتيّبات ثقافيّة صغيرة. غير أنّ الأمر كان مختلفاً هذه المرّة فالمظروف أكبر من المعتاد، وكالعادة فضضت الظروف فوراً لأعرف الكتاب الذي بداخله.

وكم كانت المفاجأة كبيرة عندما أخرجت كتابَ المراجعات من المظروف، بصراحة انتابني شيء من الخوف في تلك اللحظة، فالحدث لم يكن بكل المقاييس

____________

1- المائدة: 67.


الصفحة 126
عادياً. في الليلة السابقة تجمعني الأقدار بعالم من علماء الشيعة وكنت من قبل أبحث عن أحد عوامهم! ثمّ أسمع بكتاب المراجعات للمرّة الأولى فأجده في طريقي وأنا ذاهب لشراء الغدير!

فلم يخامرني شك في تلك اللحظة أنّ امراً ما له علاقة بالغيب يتحكّم في اتّجاه بحثنا فليكن ذلك هو توفيق الله وهدايته التي يمنّ بها على من يسعى إليها ( وَالّذينَ جاهَدُوا فِنَا لَنَهديَنَّهم سُبُلَنا)"(1).

السير في ظل العناية الربّانيّة:

يقول محمد علي المتوكّل:

" أخذت أتصفّح الكتاب وأتنقّل بين عناوينه، فما من سؤال راود ذهني قبل ذلك إلاّ وكان الكتاب قد تناوله بشكل أو بآخر، وكأنّه كتب لأمثالي ممن تبيّنوا، في جانب من الطريق أنّ هناك سبلاً أخرى ربما كانت هي الأقرب; بل الأصوب.

عدت بالكتاب إلى غرفتي وقد توقّفتْ تلقائيّاً كل برامجي وأعمالي، وتعطّلت الهموم إلاّ هم واحد; هو اكتشاف الحقيقة.

شرعت بالقراءة، وكان الشيخ سليم البشري يجادل عنّي، ويطرح أسألتي، بل يطرح ما هو أشمل وأعمق منها، فيرد عليه السيّد شرف الدين الموسوي بثقة العارف ويقين المؤمن. وأنا بين هذا وذاك تقذفني موجة من شك إلى أخرى من يقين ثم يحدث العكس، ويخامرني الشك حول الشيخ البشري وبساطة تعاطيه مع مناظره إذ يتنازل دون تردد عن موقفه كلّما واجهه الآخر بالحجج والأدلّة.

وكأني وددت لو أنّه يماري قليلاً أو يبدي إصراراً على رأيه!! فأراجع نفسي وأقول ماذا يضير الرجل إن كان موضوعيّاً ومخلصاً للحقيقة؟ فهو بذاك إلى القوّة أقرب منه

____________

1- القصص: 69.


الصفحة 127
إلى الضعف، إذ لا يجد حرجاً في الاعتراف للطرف الآخر بقوّة الحجّة وسلامة الموقف وصحّة المعتقد حتى ولو كان في ذلك اعتراف بالعكس.

كنت أطوي الصّفحات طيّاً في شبه ذهول عن الوقت وما يجري من حولي، وعندما كان وقت صلاة العصر كنت قد بلغت من الكتاب مداه وقلبت آخر صفحاته. ولقد قرأت من قبله الكثير، وتأثّرت ببعض ما قرأت... بيد أنّ (المراجعات) كان شيئاً آخر!

وساعات من نهار قضيتها متنقلا بين صفحاته أجبرتني على العودة من أوّل الطريق، أرغمتني على وضع كل الماضي وكل الموروث على صدر علامة استفهام كبيرة ".

العودة إلى نقطة الصفر:

يستمرّ محمد علي المتوكّل في سرد حكايته قائلاً:

" والآن على أنْ أرى ذلك الذي أوصاني بهذا الكتاب... لأقول له أنّ الذي جمعني بك قد وضع بين يديّ كتاب المراجعات الذي عهدي باسمه البارحة، فمن أنت؟ وماذا تريد؟ وكيف أتيت إلى هنا؟ ومن ذا الذي أرسلك إلينا؟ أتراك تعي أو تقصد ما تحدثه في حياتنا؟...

كل تلك الأسئلة كانت تتشابك في ذهني بينما كنت أطرق باب غرفته بيد مرتجفة، مددت إليه الكتاب، تناوله قائلاً: نعم، إنّه هو، من أين أتيت به، فأخبرته بقصّته. ثمّ سألني عن رأيي فيما قرأت.

فقلت له: أرجعني المراجعات إلى نقطة الصفر، محا من ذهني و روحي كل الماضي، فما أحوجني الآن إلى من يمسك بيدي ويخرجني مما أنا فيه، وما أحسبه إلاّ أنت.

فردّ بكل تواضع: أستغفر الله، وهل أنا وأنت إلاّ سواسية في طلب الحقّ والبحث عن الهدى، ومع ذلك لابأس في التحاور والتباحث فـ(إنّ أعقل النّاس مَن جمع عقولَ النّاس إلى عقله).


الصفحة 128
عندئذ حدثته عن المجموعة التي أشاركها البحث والتنقيب عن الحقيقة، فبدا متحمّساً لرؤيتهم، وكنت بدوري أتعجل لقياهم حتى أزفّ اليهم الأخبار الجديدة وأطلعهم على (المراجعات).

وهكذا أطلعتهم على المستجدّات التي كانت في نظرهم فتحاً وتوفيقاً إلهيّاً، ودليلاً على سلامة التوجّه واستقامة طريق البحث.

وفي أوّل لقاء للمجموعة مع الشيخ، كان هناك إحساس مشترك يغمر الجميع، الإحساس بآثار رحمة الله ودلائل الاستجابة للدّعاء، وإحساس آخر بالأُلفة تجاه ذاك الرجل الذي كان بمثابة يد امتدّت لغريق ".

البحث بصورة منظّمة:

ويضيف محمد علي المتوكّل:

" انتظمت جلساتنا معه صباحاً ومساء، طيلة شهر كامل، فتحنا خلاله كل الملفّات المغلقة، تنقّلنا بين أطلال الماضي وبحثنا تحت الأنقاض، أيقظنا الكثير من الحقائق النائمة في طيّ النسيان.

تارة لانملك إلاّ أن نسلّم له ونوافقه الرأي، وتارة نعارضه ونقف وإيّاه على طرفي نقيض، ونُثير الشبهات ونطرح الأسئلة.

كنّا، كمجموعة، نتّفق في بعض الأحيان، وأحياناً أخرى نختلف، عندما ينضم بعضنا إلى جانبه ويعارضه الآخرون، وهكذا كانت الرؤية تزداد وضوحاً يوماً بعد يوم، وقد تصدرت القضايا التاريخيّة قائمة الموضوعات المثارة.

كان يتحاشى التطرّق إلى المسائل التي من شأنها استفزاز مشاعرنا، وبالمقابل يسهب في الحديث عن أهل البيت فلا نملّ ولا نسأم، بل نطالب بالمزيد، إذ كنّا لانعرف شيئاً عنهم، ومن لم يعرف أهل البيت لم يعرف شيئاً من الإسلام.

أحياناً كثيرة يلتقي الحديث عن أهل البيت بالحديث عن غيرهم من الصّحابة،


الصفحة 129
فتبدو الصورة على غير ما نحبّ.

فنحن، مثلاً، وقد بدأنا نكتشف بعض جوانب العظمة في شخصيّة الزهراء، ترتسم في مخيّلتنا طبيعة العلاقة التي كانت بينها وبين أصحاب رسول الله المقرّبين، فمن المؤكّد أنّهم أحبّوها كما أحبّوا أباها، وأكرموها إكراماً له وإقراراً بعظمتها وعرفاناً لحقّها، تلك أمانينا، ونتلهّف إلى أن نسمع تصديقها من الشيخ، فيتردّد ويُناور حتى لا يفتح الملف المطلوب، وعندما نلح عليه يبوح بما عنده، فيعتصر الألم قلوبنا، ونكون بين مصدّق ومشكّك، كيف تموت الزّهراء في رفعتها وعظمتها وسموّ مقامها، غاضبة على كبار الصحابة، ومن أين أتوا بالجرأة ليغضبوها؟

وعلي، ذلك الصدّيق الأكبر، والفاروق الأعظم، المأمول من كلّ الذين نحبّهم ونقدّسهم من أصحاب رسول الله أن يكونوا على وفاق كامل معه، ولكن الحقيقة تأتي بعكس ما نهوى، فنعاني التنازع والانفصام في عواطفنا، نحن نقّدرهم جميعاً، وهم يحيف بعضهم على بعض، ويبغض بعضهم عليّا، يبغضه وهو يسمع قول النبي عن علي أنه لا يحبّه إلاّ مؤمن ولا يبغضه إلاّ منافق "(1).

تبدّد الغيوم عن وجه الحقيقة:

يقول محمد علي المتوكّل:

" شيئاً فشيئاً بدأنا ندرك أنّ الكثير من الحقائق المُكتشفة لايمكن قبولها إلاّ بعد التخلّي عن مسلّمات قديمة، وأننا بصدد التوصّل إلى دعائم جديدة يقوم عليها الدّين، وهي أعلى وأسمى من تلك التي توهّمنا أنّ الدّين قائم بها.

بتعبير آخر لقد بتنا على ضوء تلك المستجدّات، مطالبين باتّخاذ موقف فاصل،

____________

1- روى مسلم في صحيحه/ كتاب الإيمان: 1/46; عن الإمام علي قوله: والذي فَلقَ الحبّة وبرأ النّسمة إنّه لعهد النبيّ الأمّي إلى انه لا يحبّني إلاّ مؤمنٌ ولا يبغضني إلاّ منافق.


الصفحة 130
ولامجال للتمييع. وإلاّ كنّا مثل ذلك الانتهازي الذي قال في فترة التمرّد العسكري الذي قاده معاوية ضدّ الإمام علي (عليه السلام): الأكلُ مع معاوية أَدسم، والصّلاة مع على أتمّ، والوقوف على التلّ أسلم.

سارع بعضُنا إلى اجتياز هذه العقبة النفسيّة، واستطاع أن يتخطّى الماضي ومخلّفاته والتقليد وقيوده، فلم يعد يتردّد في القبول بنتائج البحث، مهما كانت قاسية ومريرة.

ولكنّي ومع آخرون، توقفت كثيراً وفكّرت طويلاً لَعَلّي أوفّق بين هذا الولاء الذي أخذ يتجذّر في قلبي لأهل البيت، وبين ولاءات سابقة، انتفت عوامل بقائها، ولم يبق منها سوى بعض الرّواسب النفسيّة. ولكن هيهات، ( مَا جَعَلَ اللهُ لِرجُل مِن قَلبَينِ في جَوفِهِ)(1)، ولا مكان للغير في نفس بات يعمرها الحبُّ والولاء لأهل البيت.

لم يتعرّض الشيخ للمسائل الفقهيّة، ولم يبد ملاحظة على ما نحن عليه من فقه، وبدوري كنت أمنّي نفسي وأرجو أنْ لاتكون هناك اختلافات فقهيّة بين مذهب أهل البيت ومذاهب أخرى.

إذ كَم هو قاس أن تكتشف أنّ الفقه الذي عملت به طيلة سنوات مضت يعاني من خَلَل في بعض جوانبه.

وكم هو عسير أن تتواءم نفسيّاً وعمليّاً مع أحكام جديدة غير التي اعتدت عليها!

لذلك استنكرت نفسي ما شاهدته من تفاوت، لكنّي فوجئت عندما بدأت ألاحظ بعض الأشياء الغريبة في وضوء الشيخ وصلاته، استفسرنا منه عنها فكان عنده على كل حكم دليل، مع ذلك أبت نفسي أن تسلّم.

وكنت أقول للآخرين أنّني لن أتبع الشيعة في كلّ شيء، وكوني أوافقهم الآن فيما يتعلّق بولاية أهل البيت لا يعني أن أقلّدهم في كلّ شيء، لاسيّما هذه المسائل الفقهيّة التي لايؤيّدها العقل، وأيّهما أفضل، غسل الرجل وإزالة ما يعلق بها من غبار وغيره، أم

____________

1- الأحزاب: 4.


الصفحة 131
تمرير اليد المبتلّة عليها فلا تزداد إلاّ اتّساخاً؟!

ولكن الأخوة كان بعضهم قد وطّن نفسه على قبول كل ما يقول به الشيعة، بعد أن أسقط الاعتبار عن السبل الموازية لأهل البيت. وهكذا كنّا في جدل دائم حول القضايا الفرعيّة مع اتفاقنا الكامل على الأصول.

وعندما طرحنا الأمر على الشيخ تجنّب الخوض في التفاصيل الفقهيّة، ولكنّه أرسى قاعدة وأوصى باتّباعها، وهي عدم مناقشة الأحكام الفقهيّة من حيث حِكَمها وعِلَلها إلاّ بعد التّحقق من مصادرها، وما يثبت وروده عن النبيّ وأهل بيته صحيح، حتى ولو خالف المألوف ولم تَستوعبه العقول، إذ ليس للرأي مكان في الفقه ".

مرحلة اقتطاف ثمار البحث:

يقول محمد علي المتوكّل:

" في نهاية المطاف، وبعد شهر من الحوار الدائم، والتحقق من صحّة الأدلّة التي أوردها الشيخ في المصادر السنّيّة، كانت الرؤية قد اتّضحت تماماً، وزالت الشبهات، وتخطّينا الحواجز النفسيّة والعاطفيّة، ولم يبق إلاّ أن نتعرّف إلى الدّين من جديد بعد أن اكتشفنا الطرّيق الموصل له، وحدّدنا الجهة التي منها نأخذ ديننا.

عندئذ قرّر الشيخ الرحيل، تاركاً خلفه خمسة مستبصرين وآخرين على طريق الاستبصار، يكونون فيما بعد نواة للتشيع في السودان، وبداية لحركة استبصار واسعة النطاق تشمل في غضون عشرة أعوام، كافة أنحاء السودان، وتؤسّس العديد من المؤسّسات الثقافيّة التي تضطلع حتى الآن بدور مشهود في تصحيح المسار الفكري والعقائدي الذي تعرّض عبر القرون لمؤامرات الطمس والتحريف "(1).

____________

1- محمد علي المتوكّل/ ودخلنا التشيّع سجّداً: 42ـ50.


الصفحة 132

الدافع الرابع:

قوّة أدلّة الشيعة

إنّ من أهمّ العوامل التي تدفع الباحث السنّي حين التقائه بأحد أتباع مذهب أهل البيت (عليهم السلام) إلى تقبّل كلامه هي الأدلّة التي يستقيها الشيعي من الكتاب والسنّة في بيان معتقدات مذهبه، بحيث تأخذ هذه الأدلّة نتيجة قوّتها بيده حتى تبلغه مرتبة القناعة الكاملة بأحقيّة مذهب أهل البيت (عليهم السلام).

ويقول محمد مرعي الانطاكي في هذا المجال:

" من جملة الأسباب التي دعتنا إلى التشيّع، هي وقوع كثير من المناظرات التي جرت بيني وبين بعض علماء الشيعة.

وفي حال المناظرة كنت أجد نفسي محجوجاً معهم، غير أنّني أتجلّد وأدافع دفاع المغلوب، مع ما أنا عليه بحمد الله تعالى من الاطّلاع الواسع والعلم الغزير في المذهب السنّي الشافعي وغيره، إذ أنّني تلمّذت حوالي ربع قرن على فطاحل العلماء والجهابذة على مشيخة الأزهر حتى حصلت لي شهادات راقية "(1).

ويصف التيجاني السماوي حجج الشيعة الرصينة والواضحة قائلاً:

" وليس دليل الشيعة دليلاً واهياً أو ضعيفاً حتى يمكن التغاضي عنه وتناسيه بسهولة، وإنّما الأمر يتعلّق بآيات من الذّكر الحكيم أنزلت في هذا الشأن وأولاها رسول الله (صلى الله عليه وآله) من العناية والأهميّة ما سارت به الركبان وتناقله الخاص والعام حتى ملأت كتبَ التّاريخ والأحاديث وسجّله الرواةُ جيلاً بعد جيل "(2).

ولهذا يقول التيجاني السماوي في هذا المجال:

" ممّا زاد قناعتي بأنّ الشيعة الإماميّة هي الفرقة الناجية هو أنّ عقائدهم سمحة

____________

1- محمد مرعي الانطاكي/ لماذا اخترت مذهب الشيعة: 51.

2- محمد التيجاني السماوي/ لأكون مع الصّادقين: 44.


الصفحة 133
وسهلة القبول لكلّ ذي عقل حكيم وذوق سليم، ونجد عندهم لكلّ مسئلة من المسائل ولكلّ عقيدة من العقائد تفسيراً شافيا كافياً لأحد أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، قد لا نجد لها حلاًّ عند أهل السنّة وعند الفرق الأخرى "(1).

ويذكر التيجاني السماوي أيضاً في كتابه (كل الحلول عند آل الرسول):

" ونحن إذ قدّمنا في كتبنا السابقة ومن خلال الأبحاث العلميّة والتاريخيّة بأنّ الشيعة الإمامية الإثني عشرية هي الفرقة الناجية التي تمثّل الخطَّ الإسلامي الصّحيح، فليس ذلك الحكم هو وليد الظروف والملابسات التي عشتها وتفاعلتُ معها فحسب، وإنّما هي حقيقة أثبتها النّقلُ من خلال القرآن والسنّة كما أثبتها التاريخ الذي سَلِم من التزييف والتحريف، واهتدى إليها العقل بما وهبه الله سبحانه من قدرة التميّز وإثبات الدّليل.

فقال عزّ من قائل: ( فبَشِّر عِبَادِ * الّذينَ يَستَمعوُنَ القولَ فيَتَّبعوُنَ أحسَنَه أولئِكَ الّذينَ هَداهُم اللهُ وأولئك هم أولُوا الأَ لبابِ)(2).

وقال في حقّ الّذين عطّلوا عقولَهم فاستحقّوا العذاب: ( وقالوا لو كنّا نسمَعُ أو نعقِلُ ما كنّا في أصحابِ السّعير..)(3)"(4).

ويقول محمد الكثيري حول مدى قوّة عقائد الشيعة وأدلّتهم الوضاءة والمشرقة حين مقارنتها مع أدلّة غيرهم:

" إنّ هذه الكتب السلفيّة التي تنشرها المملكة السلفيّة للطعن في عقائد الشيعة، تُساهم من جانب آخر في نشر التشيّع، لأنّه يكفي أن يطّلع أبناء الصَحوة على عقائد الشيعة في كتبهم ومجلاّتهم وعند المقارنه تنهدم صروح الكذب السلفيّ بسرعة،

____________

1- المصدر السابق: 24.

2- الزمر: 18.

3- الملك: 10.

4- محمد التيجاني السماوي/ كل الحلول عند آل الرسول: 17.


الصفحة 134
ويتحوّل أبناءُ الصّحوة بعد اكتشاف الحقيقة إلى أعداء للدعوة السلفيّة ومبادئها، ويعتنقون التشيّع زرافات، وهذا ما يقع حاليّاً "(1).

ويُعلّل محمد الكثيري هذا الأمر قائلاً:

" وبالجملة فليس هناك عقيدة أو فكرة يدعو لها الشيعة الإمامية إلاّ ولها مستند قويّ، ليس في القرآن وما صحّ من السنّة لديهم، بل ما صحّ من السنّة لدى خصومهم.

لذلك ترى المتشيّعين من أبناء السلفيّة أو أهل السنّة اليوم لا يرجعون في الاستدلال على عقائد الشيعة التي اعتنقوها إلى مصادر الشيعة التاريخيّة والحديثيّة، بل يجدون مُبتغاهم في تراث أهل السنّة والسلفيّة، وهذا ممّا يزيدهم اطمئناناً وإيماناً بصحّة عقائد الشّيعة وما يَدعون إليه "(2).

ويشير محمد مرعي الانطاكي إلى قوّة أدلّة الشيعة خلال ذكره الأسباب التي دعته إلى الالتحاق بمذهب أهل البيت (عليهم السلام) قائلاً:

" هي أمور كثيرة، نذكر منها:

أوّلاً: رأيت أنّ العمل بمذهب الشيعة مجز، وتبرأ به الذمّة بلا ريب، وقد أفتى به كثيرٌ من علماء السنّة من السّابقين واللاحقين، وأخيراً منهم الشيخ الأكبر زميلنا الشيخ محمود شلتوت شيخ الجامع الأزهر بفتواه الشهيرة المنتشرة في العالم الإسلامي(3).

____________

1- محمد الكثيري/ السلفيّة: 668.

2- المصدر السابق: 615ـ616.

3- محمد مرعي الانطاكي: وإليك أخي القارىء نص فتواه ـ كما ذكرها الشيخ المظفّر في عقائد الإماميّة ـ في شأن جواز التعبّد بمذهب الشيعة الإماميّة:

أوّلاً: ـ إنّ الإسلام لايوجب على أحد من أتباعه اتّباع مذهب معيّن، بل نقول: انّ لكلّ مسلم الحقّ في أن يقلّد بادىء ذي بدء أيّ مذهب من المذاهب المنقولة نقلاً صحيحاً، والمدوّنة أحكامها في كتبها الخاصّة.

ولمن قلّد مذهباً من هذه المذاهب أن ينتقل إلى غيره ـ أيّ مذهب كان ـ ولا حرج عليه في شيء من ذلك.

ثانياً: ـ إنّ مذهب الجعفريّة المعروف بمذهب الشيعة الإماميّة الاثني عشريّة، مذهب يجوز التعبّد به شرعاً كسائر مذاهب أهل السنّة.

فينبغي للمسلمين أن يعرفوا ذلك، وان يتخلّصوا من العصبيّة بغير الحقّ لمذاهب معيّنة، فما كان دين الله وما كانت شريعته بتابعة لمذهب، أم مقصورة على مذهب، فالكلّ مجتهدون مقبولون عند الله تعالى، يجوز لمن ليس أهلا للنظر والاجتهاد تقليدهم والعمل بما يقرّرون في فقههم، ولافرق في ذلك بين العبادات والمعاملات.


شيـخ الجامـع الأزهـر
محمود شلتوت


الصفحة 135

ثانياً: ثبت عندي بالأدلّة القويّة والبراهين القاطعة والحُجج الدامغة الرّصينة الواضحة التي هي كالشمس الساطعة في ضاحية النهار، ليست دونها سحاب، أحقّية مذهب أهل البيت (عليهم السلام) وأنّه هو المذهب الحقّ الذي أخذه الشيعة عن أئمة أهل البيت عن جدّهم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، عن جبرائيل، عن الربّ الجليل، وليس فيه دخيل، ولن يرضو عنه بديلاً حتى يلقوا الربّ الجليل.

وأخذه الثقاة عن الثقاة من يوم البِعثَة إلى يوم البَعث لا يختلف آخرهم عن أوّلهم.

ثالثاً: إنّ الوحي نزل في بيتهم، وأهل البيت أدرى وأعرف بما في البيت من غيرهم.

فجدير بالعقل المتدبّر أن لا يترك ما صحّ لديه من الأدلّة منهم ويأخذ من الأجانب الدخلاء.

رابعاً: ـ كثير من الآيات الواردة في الذكر الحكيم والقرآن المجيد، دالّة على مدّعانا...

خامساً: كثير من الأحاديث المأثورة، والأخبار الواردة عن لنبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)دالّة على ذلك، وقد ذكرها الفريقان ـ السنّة والشيعة ـ في كتبهم "(1).

وقد أنشد محمد مرعي الانطاكي حول سبب استبصاره قائلاً:

____________

1- محمد مرعي الإنطاكي/ لماذا اخترت مذهب الشيعة: 49ـ51.


الصفحة 136

لـماذا اخـترتُ مذهبَ آل طه وحـاربـت الأقاربَ فـي وِلاها
وعـفـتُ ديـارَ آبائي وأهلي وعـيـشاً كـان مـمـتلأً رفاها
لأنّي قـد رأيـتُ الحقَّ نـصّاً وربّ الـبــيت لم يألف سواها
بالاسـتمساك بالثقلين حـازت بـأولاهـا وأُخـراها نـجـاهـا
وصارت أعظم المخلوق قدراً واورثـهـا الولا عزّاً وجـاهـا
ولا أصـغي لعـذل بعد علمي بأنّ الـلـه للحـقّ اصـطـفاها
ولا أهـتمّ فـي الدّنـيا لإمـر إذا مـا النـّفس وافـاهـا هُداها
فـمـذهبي التـشيّع وهو فَخْرٌ لمـن رام الحـقيقةَ وامـتـطاها
وفـرعي مـن عليّ وهو درّ صـفـا والـدّهرُ فـيه قـد تباها
وهـل يـنجو بيوم الحشر فردٌ مشى في غير مذهبِ آل طه؟!(1)

الدافع الخامس:

قراءة الكتب الشيعيّة أو كتب المستبصرين

كانت المطالعة والانفتاح على التراث الشيعي أحد اسباب استبصار بعض المستبصرين واعتناقهم لمذهب أهل البيت (عليهم السلام)، منهم إدريس الحسيني حيث أنّه يقول:

" لا أحد أخذ بيدي ـ بصورة مباشرة ـ إلى هذه المدرسة. لقد اندفعتُ إلى ذلك بنفسي معتمداً على امكاناتي، ربّما كانت هناك ظروف وملابسات لها مدخليّة كبيرة في هذا الاختيار، كنت يومئذ شابّاً غضّاً طري العود، لكن أسئلتي كانت كبرى.

لقد تعرّفت على هذا المذهب عن طريق البحث والدراسة والإصرار على المعرفة. والحمد لله أصبحت شيعيّاً مواليّاً "(2).

____________

1- محمد مرعي الانطاكي/ لماذا اخترت مذهب الشيعة: 493.

2- مجلّة المنبر/ العدد: 3.


الصفحة 137

أهمّ الكتب التي تأثّر بها المستبصرون:

كتاب المراجعات

يُعتبر كتاب (المراجعات) للسيّد عبد الحسين شرف الدّين رحمه الله من أبرز الكتب التي تركت تأثيراً واضحاً على المستبصرين، ولهذا الكتاب الفضل في تكوين قناعة الكثير بأحقّية مذهب أهل البيت (عليهم السلام).

وقد جاء في كلام المستبصرين حول هذا الكتاب القيّم والأثر الخالد ما فيه الكفاية لتبيين مدى تأثّرهم بهذا السفر العظيم.

يقول التيجاني السماوي في كتابه (ثمّ اهتديت) حول كتاب (المراجعات):

" قرأتُ كتابَ المراجعات للسيّد شرف الدّين الموسوي، وما أنْ قرأت منه بضع صفحات حتى استهواني الكتابُ وشدّني إليه شدّاً، فكنت لا أتركه إلاّ غصباً وكنت أحمله في بعض الأحيان إلى المعهد.

وأدهشني الكتاب بما حواه من صراحة العالم الشيعي وحلّه لما أشكل على العالم السنّي شيخ الأزهر.

وجدت في الكتاب بغيتي لأنه ليس كالكتب التي يكتب فيها المؤلّف ما يشاء بدون معارض ولا مناقش، فالمراجعات هو حوار بين عالمين من مذهبين مختلفين يحاسب كلٍّ منهما صاحبه على كل شاردة و واردة، على كل صغيرة وكبيرة متوخّين في ذلك المرجعين الأساسيين لكافّة المسلمين وهما القرآن الكريم والسنّة الصحيحة المتّفق عليها في صحاح السنّة.

فكان الكتاب بحقّ يمثّل دوري كباحث يفتّش عن الحقيقة ويقبلها أينما وجدت، وعلى هذا كان الكتاب مفيداً جدّاً وله فضلٌ عليّ عميم "(1).

ويصرّح التيجاني السماوي أيضاً في مكان آخر من كتابه (ثمّ اهتديت) بالدور

____________

1- محمد التيجاني السماوي/ ثمّ اهتديت: 75.


الصفحة 138
الأساسي الذي كان لكتاب (المراجعات) في اعتناقه لمذهب أهل البيت (عليهم السلام)، فيقول:

" قرأت كتاب المراجعات للإمام شرف الدين وراجعته عدّة مرّات وقد فتح أمامي آفاقاً سبّبت هدايتي وشرحت صدري لحبّ أهل البيت (عليهم السلام)ومودّتهم "(1).

ويقول محمد مرعي الانطاكي معبّراً عن مشاعره النابعة من أعماق قلبه حول كتاب (المراجعات):

" إنّي لأقدّم نصيحة خالصة لوجه الله لا يشوبها رياء، لكلّ واحد من إخواننا السنّة، أن يرجع إلى كتاب (المراجعات) وغيره من كتب الشيعة الإمامية، وأن يطالعها بدقّة وإمعان، ونظر وإنصاف، من أوّلها إلى آخرها، فإنّه سيجد ما فيه المقنع إن شاء الله، ولا يبقى له أيّ عذر أو مجال ليتّهم شيعة العترة الطّاهرة بما هم بريئون منه، براءة ذئب يوسف من يوسف، إن كان حرّاً من الأقاويل المفتعلة التي لم ترض الله ورسوله "(2).

ويذكر محمد مرعي الانطاكي حول كيفيّة تعرّفه على كتاب (المراجعات) والأثر الذي تركه هذا الكتاب على بنيته الفكريّة، أنّه حاور شيعيّاً يدعى السيّد عبد القادر الحاج موسى، فأتاه هذا الشيعي بكتاب (المراجعات) وقال له: خذ هذا الكتاب.

يقول محمد مرعي الانطاكي:

" قلت: وما هذا الكتاب؟

قال: كتاب من مؤلّفات الشيعة.

قلت: لا حاجة لي به.

فأعاد على القول.

فقلت له: إنّ الكتاب لا يقرأ في مجلس واحد!

فقال: خذه معك عارية.

____________

1- المصدر السابق: 130.

2- محمد مرعي الانطاكي/ لماذا اخترت مذهب الشيعة: 53.


الصفحة 139
وكان الوقت بعد العصر، فحملته وذهبت إلى منزلي، وبعد أن نام الأولاد وأمّهم، خلوت بنفسي، وبدأت بالمطالعة، وهذا أوّل كتاب وصل إلى من كتب الشيعة، وما أنْ بدأتُ بقراءة المقدّمة حتى أخذتني دهشة لما فيها من البلاغة، وتركيب الألفاظ، وسبك جملها(1)... وعذوبة ألفاظه، وحسن معانيه التي قلّ أن يأتي كاتب بمثلها، فقمت أفكّر في هذا الأثر القيّم والسفر العظيم، وما فيه من الحكميات والمحاكمات بين مؤلّفه المفدّى، وبين الشيخ الأكبر الشيخ (سليم البشري) شيخ الجامع الأزهر، وذلك بأدلّته القاطعة، وحججه البالغة، ممّا يفحم الخصم، ويقطع عليه حجّته.

وقد رأيت مؤلّفه العظيم لم يعتمد في احتجاجه على الخصم من كتب الشيعة، بل يكون اعتماده على كتب السنّة والجماعة، ليكون أبلغ في الردّ على الخصم، فبذلك زدت إعجاباً على إعجاب مما جرى به قلمه الشريف "(2).

ويضيف محمد مرعي الانطاكي:

" وزادت دهشتي عند وصولي إلى (المراجعة الرّابعة) إذ فيها القول الفصل لمن كان له عقل أو ألقى السّمع وهو شهيد.

ولم أقتصر عليها، بل أخذت كلّما انتهيت من واحدة بدأت في الأخرى، وهكذا إلى أن مضى عليّ أكثر من ثلثي الليل، وأنا لا أشعر بملل ولا كلل، لما وجدت فيه من حلاوة ألفاظه وطلاوة عباراته، وحينئذ تفتّحت امامي أبواب الصدق والصواب الصائب الذي لامرية فيه، ولست بمغال إن قلت: كأنّي صهرت في بودقة، وفقدت شعوري لأنه قد استدرجني الكتاب، وقادني إليه، فسرت معه مختاراً أو غير مختار(3).

هذا ولم يمض عليَّ الليل إلاّ وأنا مقتنع تماماً، بأنّ الحقّ والصواب مع الشيعة، وأنّهم على المذهب الحقّ الثابت عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن أهل بيته الطاهرين (عليهم السلام)، ولم

____________

1- محمد مرعي الانطاكي/ لماذا اخترت مذهب الشيعة: 439.

2- المصدر السابق: 52ـ54.

3- المصدر السابق: 439.


الصفحة 140
يبق لي أدنى شبهة البتّة، واعتقدت بأنّهم على خلاف ما يقال فيهم من المطاعن والأقاويل المفتعلة الباطلة.

ثمّ في صبيحة تلك الليلة، عرضت الكتاب الشريف على أخي وشقيقي، فضيلة العلاّمة الفذّ الحافظ الشيخ (أحمد أمين الانطاكي) حفظه الله، فقال لي:

ما هذا؟

فقلت: كتاب شيعي، لمؤلّف شيعي.

فقال: أبعده عنّي، أبعده عنّي، أبعده عنّي ـ ثلاثاً ـ فإنّه من كتب الضلال، وليس لي به حاجة، وإنّي أكره الشيعة وما هم عليه!!

فقلت: خذه واقرأه، ولا تعمل به، وماذا يضرّك إن قرأته؟

فأخذ الكتاب ودرسه وطالعه بدقّة وإمعان; وحصل له ما حصل لي من الاعتراف بأحقّية المذهب الشيعي، وقال:

إنّ الشيعة على الحقّ والصواب، وغيرهم خاطئون، ثمّ تركت أنا وأخي المذهب الشافعي، واعتنقنا المذهب الشيعي الجعفري الإمامي وذلك لقيام الأدلّة الكثيرة الواضحة، والبراهين الرّصينة الناصعة "(1).

ويصف هشام آل قطيط رحلته مع كتاب (المراجعات) بعد استعارته من أحد أصدقائه قائلاً:

" بدأت في القراءة في هذا الكتاب، وكنت واثقاً من نفسي بأنّه كتاب ضلال سوف أرد عليه وأفهم الشيعي من هو السنّي؟!

فقرأت ترجمة الكتاب. واستمريت بالقراءة وقطعت منه تقريباً أكثر من مائتين صفحة، ففوجئت وتشنّجت من هذا الكتاب المدسوس، واستغربت من هذه المعلومات الغريبة التي لأول مرّة تطرقُ ذهني، وخاصّة علمائنا دائماً يحذّرونا من

____________

1- المصدر السابق: 53ـ54.


الصفحة 141
قراءة كتب الضلال، فقلت إن استمريت في القراءة في هذا الكتاب سوف يحرفني لاشكّ في ذلك إطلاقاً، وإذا أردت أنْ اتتبّع الأدلّة ليس لديّ المصادر وليس لديّ الفراغ الكافي للبحث في هذه القضيّة الشائكة، فأغلقت الكتاب لأنّه شوّش تفكيري "(1).

ويقول هشام آل قطيط في المرّة الأخرى التي وقع هذا الكتاب بيده:

" راجعت المصادر ووقفت عليها و وجدت صدق ما يأتي به العالم الشيعي، فاستغربت من قوّة استدلال هذا العالم وإحاطته الدّقيقة بالتاريخ والسيرة والصّحاح واستهواني الكتاب بأسلوبه الجذّاب وثوبه الناعم المُزركش وصرت أفكّر: يا إلهي أين كنت أنا؟

أين علماؤنا من هذه الكتب؟ فهل يعرف علماؤنا ما في هذه الكتب من أدلّة ويتعمدون طمس هذه الحقائق عنّا؟ لأنّه ليس من اختصاصنا البحث في الدين، وإنّما هو حكر على الشيوخ والعلماء فقط، أم انّهم لا يعلمون حقيقة هذه الكتب؟! "(2).

ويقول عبد المنعم حسن حول إعجابه بهذا الكتاب وما لاقاه من ردود أفعال ممن حوله بعد تأثّره بهذا الكتاب:

" ولا أظنّني سأجد كتاباً على أديم الأرض أكثر قوّة وحجّة ومنطقاً من كتاب المراجعات الذي أماط اللثام وأبطل كل حُجَج الشيخ البشري بأدب و وقار.

وأذكر ذات يوم أن أحد الأشخاص استعار كتاب المراجعات من أحد الأصدقاء وبعد فترة وجيزة جاء بالكتاب وهو يقول ـ محاولاً الاستهزاء به كردّة فعل طبيعيّة ـ إنّه مختلق، انّ هذه المناظرة أساساً لم تقم.

فأجابه الأخ: يا شيخنا فلنفرض جدلاً أنّ هذه المناظرة لم تكن، وأنّ هذه

____________

1- هشام آل قطيط/ ومن الحوار اكتشفت الحقيقة: 23.

2- المصدر السابق: 39.


الصفحة 142
الشخصيّات لاوجود لها في الحقيقة، ما رأيك فيما ورد في الكتاب من الأدلّة، نحن كلامنا ليس حول الشخصيّات وما يهمّنا محتوى الكتاب إذا كنت تملك ردّاً عليه فتفضّل ( هَاتوُا بُرهَانَكُم إنْ كُنتُم صَادقينَ) وإلاّ فالزم الصمت... فصمت صاحبنا.

والحال إنّنا نثق بأن هذه المناظرة والحوار بين السيّد عبد الحسين والشيخ سليم حدثت حقيقة، والشخصيّتان علمان بارزان في سماء الأوساط الدينيّة عند الشيعة والسنّة "(1).

ويذكر أسعد وحيد القاسم حول تقييمه لهذا الكتاب، وفيما يخصّ انطباعه حول هذا الأثر الخالد:

" وكتاب المراجعات هذا، وبالرغم أن كاتبه شيعي إلاّ أنّه ولدهشتي الكبيرة فإنّه يحتجّ بما يعتقده الشيعة من خلال كتب الحديث التي عند أهل السنّة لا سيّما الصّحيحَين منها...

ولا أخفي بأنّ ما قرأته في ذلك الكتاب كان مفاجأة كبيرة لي، ولا أُبالغ بالقول أنّه كان صدمة العمر، فلم أكن اتوقّع أبداً بأنّ الخلافات بين أهل السنّة والشيعة هو بتلك الصورة التي رأيتها فعلاً من خلال ذلك الكتاب، واكتشفتُ بأنّني كنت جاهلا بالتاريخ والحديث "(2).

ويقول معتصم سيّد أحمد حول الدور الأساسي الذي كان لهذا الكتاب في استبصاره:

" وبعد قراءتي لكتاب المراجعات ومعالم المدرستين وبعض الكتب الأخرى، اتّضح لي الحقّ وانكشف الباطل، لما في هذين السفرين من أدلّة واضحة وبراهين ساطعة بأحقّية مذهب أهل البيت، وازدادت قوّتي في النقاش والبحث، حتى كشف الله نور الحقّ في قلبي، وأعلنت تشيّعي "(3).

____________

1- عبد المنعم حسن/ بنور فاطمة اهتديت: 119.

2- أسعد وحيد القاسم/ حقيقة الشيعة الإثني عشريّة: 12ـ13.

3- معتصم سيد أحمد/ الحقيقة الضائعة: 23.


الصفحة 143
ويقول سعيد السّامرائي حول كتاب المراجعات:

" لم أعجب بقلم كإعجابي بقلم السيّد عبد الحسين شرف الدّين الموسوي العاملي رحمه الله.

وعلى الرغم من أنّ كتبه كانت من أوائل الكتب التي قرأت في طريق التعّرف على مذهب أهل البيت (عليهم السلام); لم تترك بعدها أيّة بحوث أخرى فيَّ ذلك التأثير الذي تركته بحوث السيد شرف الدين.

ولئن كان قلمه السّاحر يمثّل جزءاً كبيراً من ذلك التأثير الأكبر، كان لمنهجه في البحث الذي يأخذ بالألباب ويشدّها أكثر فأكثر كلّما تدرجت في القراءة التي لابد وأن تكون متّصلة بلا توقّف مهما كانت المشاغل! "(1).

كتاب ثمّ اهتديت

طُبع هذا الكتاب القيّم أكثر من عشرين مرّة، وقد ترجم إلى سبعة عشر لغة في العالم، وقد أهتدى به إلى الحقّ الآلاف من المسلمين في كلّ بقاع العالم.

ويقول مؤلّف هذا الكتاب التيجاني السماوي حول أسباب نجاح هذا الكتاب:

" إنّ أهل البيت سلام الله عليهم هم السِرّ وراء نجاح الكتاب بلا شكّ، فما لقيت إنساناً إلاّ وأبدى إعجابه للكتاب "(2).

ويقول التيجاني السماوي حول ردود الأفعال التي لاقاها هذا الكتاب في وسط أهل السنّة:

" بعض المتعصّبين كان يروّج في أوساطه بأنّ كتاب (ثمّ اهتديت) يشبه كتاب سلمان رشدي، ليصدّ الناس عن قراءته بل ويحثّهم على لعن كاتبه.

____________

1- سعيد السامرّائي/ حجج النهج: 5.

2- محمد التيجاني السماوي/ كل الحلول عند آل الرسول: 330.


الصفحة 144
إنّه الدسّ والتزوير والبهتان العظيم الذي سوف يحاسبه عليه ربّ العالمين، وإلاّ كيف يُقارن كتاب (ثمّ اهتديت) الذي يدعو إلى القول بعصمة الرّسول (صلى الله عليه وآله)وتنزيهه والاقتداء بأئمة أهل البيت الّذين أذهبَ اللهُ عنهم الرّجسَ وطهَّرَهُم تَطهيراً بكتاب (الآيات الشيطانيّة) الذي يشتُمُ فيه صاحبه الملعون الإسلام ونبيَ الإسلام (صلى الله عليه وآله) ويعتبر أنّ الدّين الإسلامي هو نفثة الشياطين؟ "(1).

وأيضاً من ردود الأفعال التي لاقاها هذا الكتاب أنّه شاع في بعض أوساط أهل السنّة بأنّ مؤلّف هذا الكتاب شخصيّة وهميّة.

ويذكر هشام آل قطيط أنّ أحد مشايخ أهل السنّة سألني قبل أن أتعرّف على كتاب (ثمّ اهتديت):

" هل قرأت كتاب: (ثمّ اهتديت) للضال التونسي؟ إذا قرأته أو موجود عندك فاحرقه!!

قلت له: لأوّل مرّة أسمع باسم هذا الكتاب.

فقال لي: مؤلّفه خيالي غير وجود، اسمه التيجاني السماوي، كتبوه الشيعة باسمه على أنّه سنّي وتشيّع وبدأ يدعو لمذهبهم، ونحن اتّصلنا في تونس، فقالوا لنا أنّ هذا الاسم غير موجود "(2).

ويشير الهاشمي بن علي إلى هذا الأمر أيضاً في كتابه (حوار مع صديقي الشيعي) قائلا:

" ومن الأشياء العجيبة التي اطلعت عليها قول من يقول أنّ التيجاني التونسي شخصيّة وهميّة وكذلك غيره من المتشيّعين.

وعلى افتراض أنّ ذلك صحيح - وهو غير صحيح قطعاً - فانظروا إلى ما قيل ولا

____________

1- محمد التيجاني السماوي/ فسألوا أهل الذكر: 174.

2- هشام آل قطيط/ ومن الحوار اكتشفت الحقيقة: 27.


الصفحة 145
تنظروا إلى من قال.

فهل ماجاء في تلكم الكتب صحيح أم باطل؟

وإذا كان باطلاً فبأيّ دليل؟! أمّا التشكيك والجدل فلن يجدي شيئاً "(1).

ومن الطرائف التي يذكرها التيجاني السماوي حول كتابه (ثمّ اهتديت) أنّه حينما كان في بيروت: دار بينه وبين سائق ركب معه - ليوصله بالقرب من بئر العبد - حديث عام، فلمّا عرف السائق أن من معه من تونس قال له:

يمكن أسألك عن شخص تونسي؟

يقول التيجاني السماوي: قلت: من هو؟

" قال: الدكتور محمد التيجاني السماوي.

وخفق قلبي وأنا أستمع لرجل يسأل عنّي وأنا إلى جانبه وهو لا يعرفني وظننت أنّه من شيعة لبنان الذين يعرفونني من خلال كتبي.

فقلت بدون تردّد: أنا هو الدكتور التيجاني.

فقال: لا مش معقول!

قلت: لماذا مش معقول؟

قال: قيل لنا أنّه شخص وهمي لا وجود له.

قلت: كيف عرفته وتسأل عنه إذاً؟

قال: أنا عرفته في كتاب (ثمّ اهتديت)، وهو كتاب رائع وكلّه حقائق، ولكن شيخنا قال بأن هذا الشخص لا وجود له.

اطمأنّ قلبي لكلامه وقلت له: سبحان الله، ربّ صدفة خير من ألف ميعاد، يا أخي أنت تكلم الدكتور التيجاني وهو أمامك بلحمه ودمه وعظمه.

قال: كيف أصدّق وأنت لازلت شابّاً وبهذا اللباس!؟

____________

1- الهاشمي بن علي/ حوار مع صديقي الشيعي: 161.


الصفحة 146
أخرجت له جواز السفر وقلت: هاك الدليل.

فتح الجواز وقرأ هويّتي ونظر صورتي وهو يقول: الآن تشيّعت، وصافحني بحرارة وأخذ يقبّلني ويعتذر إلي "(1).

كتب أخرى تأثّر بها المستبصرون:

من الكتب الأخرى التي كان لها الأثر البالغ في اعتناق المستبصرين لمذهب أهل البيت (عليهم السلام) يمكننا ذكر الكتب التالية التي أشار اليها التيجاني السماوي في كتابه ثمّ اهتديت:

" وقرأت كتاب الغدير للشيخ الأميني وأعدته ثلاث مرّات لما فيه من حقائق دامغة واضحة جليّة، وقرأت كتاب فدك في التاريخ للسيد محمد باقر الصّدر، وكتاب السّقيفة للشيخ محمد رضا المظفّر، وفهمت منها أسراراً غامضة اتّضحت، كما قرأت كتاب النص والاجتهاد فازددت يقيناً، ثم قرأت كتاب أبي هريرة لشرف الدين وشيخ المضيرة للشيخ محمود أبو ريّة المصري...

ثمّ قرأت كتاب الإمام الصادق والمذاهب الأربعة لأسد حيدر وعرفت الفرق بين العلم الموهوب والعلم المكسوب، عرفت الفرق بين حكمة الله التي يؤتيها من يشاء وبين التطفّل على العلم والاجتهاد بالرأي الذي أبعد الأمّةَ عن روح الإسلام.

وقرأت كتباً أخرى عديدة للسيّد جعفر مرتضى العاملي، والسيّد مرتضى العسكري، والسيّد الخوئي والسيد الطباطبائي والشيخ محمد أمين زين الدّين وللفيروز آبادي "(2).

ومن الكتب الأخرى التي تأثّر بها المستبصرون كتاب (لماذا اخترت مذهب

____________

1- محمد التيجاني السماوي/ فسيروا في الأرض فانظروا: 98.

2- محمد التيجاني السماوي/ ثمّ اهتديت: 130ـ131.


الصفحة 147
الشيعة مذهب أهل البيت) تأليف محمد مرعي الانطاكي، حيث يقول عنه أحمد راسم النفيس بعد عثوره عليه في إحدى المكتبات:

" أخذت الكتاب وقرأته، تعجّبت، ثم تعجّبت كيف يمكن لعالم أزهري هو الشيخ الانطاكي مؤلّف الكتاب أن يتحوّل إلى مذهب اهل البيت (عليهم السلام)، أرقتني هذه الفكرة آونةً، وقلت في نفسي: هذا الرجل له وجهة نظر ينبغي احترمها "(1).

وللسيّد إدريس الحسيني مقولة تُشير إلى أن الباحث عن الحقيقة ليس بحاجة إلى قراءة كتب الشيعة من أجل الاقتناع بأحقّية مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، بل ان كتب أهل السنّة المعتبرة هي خير دليل على ذلك.

ويقول إدريس الحسيني في هذا المجال:

" قال لي أحد المقرّبين: من الذي شيّعك وأيّ الكتب اعتمدتها؟

قلت له: أما بالنسبة لمن شيّعني فإنّه جدّي الحسين (عليه السلام) ومأساته الأليمة، أمّا عن الكتب فقد شيّعني صحيحُ البخاري والصّحاحُ الأخرى!!

قال: كيف ذلك؟

قلت له: اقرأها، ولا تدع تناقضاً إلاّ أحصيه، ولا (رطانة) إلاّ وقِف عندها مليّاً، إذ ذاك ستجد بغيتَك "(2).

ويؤكّد إدريس الحسيني على هذا الأمر، قائلاً:

" ويعلم الله، أنّني رسّخت قناعتي الشيعيّة من خلال مستندات أهل السنّة والجماعة أنفسهم. ومن خلال ما رزحت به من متناقضات. وكان الكتاب أحياناً يتعرّض بالشتم والسباب للشيعة، وإذا بي أزدادُ بصيرة، كما لاأخفي واقع روحي التي تمزّقت، وهي تلهث خلف المخرج من هذه التناقضات ببراءتهم.!

____________

1- احمد راسم النفيس/ الطريق إلى مذهب أهل البيت: 17ـ18.

2- إدريس الحسيني/ لقد شيّعني الحسين: 63.


الصفحة 148
ويشهد الخالق وهو حسبي، أنّني كنت أسهر الليالي وأنا أقرأ وأدعو الله أن يجد لي مخرجاً، وكان دعائي الذي يلازمني اللهمّ أرني الحقَّ حقّاً وارزقني اتّباعه، وأرني الباطلَ باطلاً وارزقني اجتنابه "(1).

وكان السبب الذي دعا إدريس الحسيني لاتّباع هذا المنهج والبحث عن الحقيقة من بطون كتب أهل السنّة هو قلّة المصادر الشيعيّة في متناول يديه.

ولهذا يقول: " لم تكن عندي يومها المراجع الكافية لاستقصاء المذهب الشيعي "(2).

وهذه المشكلة ليست مشكلة إدريس الحسيني فحسب، بل هي مشكلة يعاني منها الكثير من متعطّشي التعرّف على أفكار ورؤي مدرسة أهل البيت (عليهم السلام).

ولهذا يقول محمد علي المتوكّل:

" كانت المشكلة الأساسيّة التي تعترض طريقنا هي عدم وجود المصادر الشيعيّة التي اعتقدنا أنّها وحدها التي تعرض الخلافات التاريخيّة وتذكر فضائل أهل البيت وما وقع عليهم من ظلم.

وكان بين أيدينا مجموعة من الكتيّبات الصغيرة ذات الطابع الثقافي تزودنا بها مؤسّسة البلاغ الإيرانيّة عن طريق المراسلة، ولكنّها لم تكن تفي بالغرض إذ لا تتعرّض كثيراً للمسائل الخلافيّة.

وكان أحد أفراد مجموعتنا، وهو أوّل من طرق هذا الباب، قد اطّلع على جزء من موسوعة شيعيّة اسمها (الغدير) وذلك في المكتبة الملحقة بمسجد جامعة الخرطوم، وعندما أردنا الرجوع إليه بعد ذلك لم يكن في مكانه،! وهكذا فقدنا مصدراً أساسيّاً ونادراً كنّا في أمسّ الحاجة إليه.

____________

1- المصدر السابق.

2- المصدر السابق.


الصفحة 149
مرّت أشهر ونحن لا نزال نراوح في أماكننا، ولا زالت رياح الشك تعصف بنا "(1).

ولكن رغم ذلك تبقى هذه الميّزة للشيعة بأنّها قادرة على إثبات أحقّية أصول معتقداتها من كتب أهل السنّة.

ويشير معتصم سيّد أحمد إلى هذه الحقيقة التي توصّل اليها عن طريق حواره مع ابن عمّه المستبصر عبد المنعم، فيذكر في كتابه (الحقيقة الضائعة):

قال لي ابن عمّي:

" لماذا لا تبحث أنت بتأمّل وصبر؟ وخاصّة أنّ لكم مكتبة في الجامعة تفيدك في هذا الأمر كثيراً.

قلت (متعجّباً): مكتبتنا سنّية، فكيف أبحث فيها عن الشيعة؟!

قال: من دلائل صدق التشيّع أنّه يستدل على صحّته من كتب و روايات علماء السنّة فإنّ فيها ما يظهر حقّهم بأجلى الصور.

قلت: إذن مصادر الشيعة هي نفس مصادر أهل السنّة؟!

قال: لا، فإنّ للشيعة مصادر خاصّة تفوق أضعافاً مضاعفة مصادر السنّة، كلّها مرويّة عن أهل البيت (عليهم السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولكنّهم لا يحتجّون على أهل السنّة بروايات مصادرهم، لأنّها غير ملزمة لهم فلابدّ أن يحتجّوا عليهم بما يثقون به، أيّ ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم.

سرّني كلامه وزاد تفاعلى للبحث، قلت له: إذن كيف أبدأ؟

قال: هل يوجد في مكتبتكم صحيح البخاري وصحيح مسلم ومسند أحمد والترمذي والنسائي؟

قلت: نعم، عندنا قسم ضخم لمصادر الحديث.

قال: من هذه ابدأ، ثمّ تأتي بعد ذلك التفاسير وكتب التاريخ، فان في هذه الكتب

____________

1- محمد علي المتوكّل/ ودخلنا التشيّع سجّداً: 35.


الصفحة 150
أحاديث دالّة على وجوب اتباع مدرسة أهل البيت.

وبدأ يسرد لي أمثلة منها، مع ذكر المصدر ورقم المجلّد والصفحة..

توقّفت حائراً أستمع إلى هذه الأحاديث التي لم أسمع بها من قبل مما جعلني أشك في أنّها موجودة في كتب السنة.. ولكن سرعان ما قطع عنّي هذا الشك، بقوله: سجّل هذه الأحاديث عندك، ثمّ ابحثها في المكتبة ونلتقي يوم الخميس القادم بإذن الله "(1) ويضيف معتصم سيّد أحمد:

" بعد مراجعة تلك الأحاديث في البخاري ومسلم والترمذي.. في مكتبة جامعتنا، تأكّد لي صدق مقالته، وفوجئت بأحاديث أخرى أكثر منها دلالة على وجوب اتّباع أهل البيت، مما جعلني أعيش في حالة من الصدمة..

لمَ لم نسمع بهذه الأحاديث من قبل؟!

فعرضتها على بعض زملائي في الكلّية حتى يشاركونني في هذه الأزمة، فتفاعل البعض ولم يكترث لها البعض الآخر، ولكنّني صمّمت على مواصلة البحث ولو كلّفني ذلك كل عمري.. وعندما جاء يوم الخميس، انطلقت لعبد المنعم... فاستقبلني بكلّ ترحاب وهدوء وقال: يجب عليك ألاّ تتعجّل، وأن تواصل البحث بكلّ وعي "(2) ثمّ يذكر معتصم سيّد أحمد: وبهذه الصورة وبمزيد من البحث انكشفت أمامي كثير من الحقائق لم أكن اتوقّعها.

دوافع عامّة محفّزة على الاستبصار:

إنّ من أهم التساؤلات التي تدفع الباحث السنّي إلى دراسة مذهب التشيّع ومن ثمّ الالتحاق به، هي الاستفسار حول أسباب، اهمال النبي (صلى الله عليه وآله) لمسؤوليّة الخلافة من بعده

____________

1- معتصم سيّد أحمد / الحقيقة الضائعة: 19.

2- المصدر السابق: 20.


الصفحة 151
كما يذهب إليه المذهب السنّي، فينتهي به البحث إلى عدم، اهمال الرسول (صلى الله عليه وآله)لهذا الأمر على ضوء مذهب أهل البيت (عليهم السلام).

ويشير محمّد عبد الحفيظ إلى هذا الأمر بعد ذكره اهتمام أبي بكر وعمر بأمر قيادة الأمّة بعدهما:

" إنّ الخلافة قيادة تتعلّق بها مصالح الإسلام والمسلمين، ولا يصلح أن يسكت عنها... لأنّ عامّة الناس لا يعرفون المؤهّلات المعتبرة عندهم، وإنّما يعرفها مَن سبقت له نفس المسؤوليّة.

فإذا كان الخليفتان يهتمّان بهذه الدرجة بمصلحة الإسلام والمسلمين، أيصح أن يهمل النبيّ (صلى الله عليه وآله) هذه المسؤوليّة؟ وهو الذي إذا خرج من المدينة ـ عاصمته ـ أمّر عليها أميراً، وإذا أرسل جيشاً جعل عليه قائداً "(1).

هذا من جهة، ومن جهة أخرى يشير صالح الورداني بصورة مفصّلة إلى مجموعة دوافع دفعته إلى الاستبصار، ويمكننا أن نقول بأن هذه الدوافع عامّة لهامدخليّة في تخلّي الكثير من أهل السنّة عن مذهبهم وانجذابهم نحو مذهب أهل البيت (عليهم السلام).

وهذه الدوافع كما يذكرها صالح الورداني هي:

" هناك عدّة عوامل جذبتني لخط آل البيت وللاطروحة الشيعيّة.

وهذه العوامل منها مايتعلّق بالأطروحة السنّية..

ومنها ما يتعلّق بالواقع الإسلامي..

ومنها ما يتعلّق بشخصي..

ومنها ما يتعلّق بالأطروحة الشيعيّة..

أمّا ما يتعلّق بالأطروحة السنّية فهو ما قد بيّناه من أن هذه الأطروحة إنّما هي وليدة السياسة وتقديم فقه الرّجال على فقه النّصوص، وهذا الخلل الحقيقي فيها والذي

____________

1- محمّد عبد الحفيظ/ لماذا أنا جعفري: 58.


الصفحة 152
يتجنّب القوم علاجه.

وأمّا ما يتعلّق بالواقع الإسلامي فهو يتمثّل في تلك التجربة الطويلة التي عشتها مع التيّارات الإسلاميّة ولمست فيها عن قرب مدى المأزق الفكري والحركي الذي تعيشه هذه التيّارات بسبب هذه الأطروحة، وبالنسبة لشخصي فقد عشتُ فترتي السنّية رافعاً شعار العقل فلم أجد لي مكاناً بين القوم ولاحقتني الإشاعات والاتّهامات، وأدركت فيما بعد أنّ استخدام العقل عند القوم يعني الزندقة والضلال، ولقد كنت أدرك جيّداً أنّ التنازل عن العقل يعني الذوبان في الماضي، وبالتّالي يصبح المرء بلا شخصيّة يواجه بها الواقع... "(1).

ويضيف صالح الورداني:

" إنّ التسلّح بالعقل سوف يمنح المرء القدرة على الاختيار، ومن ثمّ فقد كان تسلّحي بالعقل العامل الأساس في دفعي نحو خطّ آل البيت واختياره. ولم يكن هذا ليُتمّ لولا تسلّحي بالعقل الذي أعانني على تحطيم الأغلال التي كان يكبلني بها الخطُّ السنّي...

أمّا ما جذبني لخط آل البيت ودفعني نحو التشيّع فيما يتعلّق بالأطروحة الشيعيّة فهو ما يلي:

1 ـ القرآن والعقل:

إنّ تحكيم القرآن والعقل في دائرة الأطروحة الشيعيّة قد منحها القدرة على تجديد محتوياتها ومواكبة الواقع والمتغيّرات. بينما بقيت الأطروحة السنّية جامدة منغلقة لرفضها الخضوع لحكم القرآن والعقل مما ولّد قداسة غير مباشرة لجميع محتوياتها وفي مقدّمتها كتب الأحاديث خاصّة كتابا البخاري ومسلم اللذان حظيا بقداسة خاصّة من دون الكتب الأخرى...

____________

1- صالح الورداني/ الخدعة: 145.


الصفحة 153

2 ـ الإمام علي:

لفت نظري أثناء قراءتي لكتب التراث السنّي قول ابن حنبل: أنّ عليّاً كثير الأعداء ففتّش أعداءه له عيباً فلم يجدوا، فعمدوا إلى رجل قد حاربه فأطّروه كيداً منهم لعلي.فهذا القول يلخّص حركة التاريخ الخاص بالصّراع بين آل البيت والقوى المتربّصة بهم "(1).

ويضيف صالح الورداني:

" إنّ القوم قد تآمروا على الإمام من بعد الرسول (صلى الله عليه وآله)، وأنّ هذا التآمر قد اضطرّهم إلى تحريف النّصوص الواردة فيه وفي آل البيت وطمس معالمها بل واختراع نصوص تناقضها..

إلاّ أنّ القوم على الرّغم من موقفهم هذا نطق لسانهم بما يفيد الشبهة فيهم.

فقد لاحظت أنّهم يطلقون لفظة (إمام) على عليّ وحده من دون بقيّة الصحابة، ثمّ أنّهم يدّعون أن الإمام عليّاً قام بتحريق اناس قالوا بألوهيّة.

وكنت كلّما مررت على هذين الأمرين تساءت:

لماذا يطلق القوم هذه اللفظة على الإمام خاصّة.

ولماذا قال هؤلاء بألوهيّة الإمام دون غيره؟..

إنّ الإجابة على هذين السؤالين قد كلّفتني الكثير من الوقت في البحث والتأمل حتى اهتديت أن هناك من النصوص ما يعطي للإمام عليّ خاصّية ترفعه فوق الجميع.

وإنّ هذه الخاصّية كان يتنزل بها القرآن ويبشّر بها الرّسول.

وهذه الخاصّية هي الطهارة من الرّجس لتسلّم مهمّة الإمامة من بعد الرّسول.

وهذا هو ما توارثه القوم عن عليّ وحجبته السياسيّة، وما بقي منه سوى وصفه له بالإمام.

وهذا هو ما دفع بالبعض للقول بألوهيّته لما يرون من تحقّق المعجزات على يديه

____________

1- المصدر السابق: 146ـ148.


الصفحة 154
إنْ سلّمنا بصحّة هذه الرواية..

إنّ القوم لم يخبرونا لماذا أُلّه علي؟

فهم على الرّغم من تبنّيهم هذه الرواية لا يقصدون من ورائها سوى الطعن في شيعة الإمام ونبذ أيّ تصوّر يطرأ على ذهن المُسلم حول خصوصيّته، وكانّهم يريدون أن يثبتوا من وراء هذه الرواية أنّ الإمام كان يبارك الخطّ السائد، وأنّ من حاول الانشقاق عن هذا الخط ومنحه خصوصيّة تمّيزه عن القوم فقد أحرقه بيده.

فدعوى ألوهيّة الإمام قضى عليها في مهدها على يده، ولم تظهر بعدها أيّة دعاوي أخرى لتمييز الإمام، أما الشيعة هؤلاء ففرقة مختلقة لا أصل لها ويقف من ورائها أعداء الإسلام..

ثمّ أنّ القوم بعد هذا لا يذكرون الإمام إلاّ ويقولون كرّم الله وجهه.

وعند ما سألت عن معنى هذه الكلمة قالوا:

إنّه لم يسجد لصنم بينما جميع الصحابة قد وقعوا في هذا.

فقلت في نفسي إنّ هذه الخاصيّة التي جائت على لسان القوم إنّما تؤكّد مكانة الإمام وموقعه الشرعي كما أكّدته رواية ادّعاء ألوهيّته ونَعتهم له بالإمام..

لقد استفزّتني كثيراً تلك المكانة المتواضعة جدّاً التي يضع أهل السنّة فيها الإمام علياً.

واستفزّني تقديم عثمان عليه، على الرغم من أفاعيله ومنكراته..

واستفزّني مساواته بمعاوية الطليق الذي لا وزن له..

واستفزّني ما يلصقون به من صغائر وموبقات..

وكان هذا كلّه مبرّرا للنفور من فقه القوم وأطروحتم والبحث عن الحقيقة في دائرة الأطروحات الأخرى حتى اهتديت للأطروحة الشيعيّة ووجدت فيها ما أراح عقلي وطمأن نفسي بخصوص الإمام علي (عليه السلام)..

وجدت فيها مكانته وخصوصيّته..

ووجدت فيها علمه الذي دثره القوم..


الصفحة 155
وجدت عليّاً الإمام المعصوم وهي الصّفة التي تعكس خصوصيّته وتمييزه والتي فُسّرت على ضوئها جميع الأمور التي استشكلت عليَّ في فقه القوم حول الموقف من الإمام..

فسّرت لماذا يقولون عنه إمام..؟

ولماذا يقولون كرّم الله وجهه..؟

ولماذا حاول تأليهه البعض..؟

إنّ مكانة الإمام كانت ساطعة سطوع الشّمس، بحيث لم يتمكّن القوم من حَجبها عن أعين المسلمين بتأويلاتهم وتبريراتهم.

وقد كنت واحداً من هؤلاء الّذين سطعت عليهم شمس الحقيقة، فأضات لي الطريق نحو الصراط المستقيم خط آل البيت، محطّماً من طريقي جميع القواعد والأغلال التي صنعها القوم لتكبيل العقل وحجب الحقائق.

3 ـ الاجتهاد:

وما لفت نظري في الطرح الشيعي أيضاً قضيّة فتح باب الاجتهاد الذي ضلّ مغلقاً منذ قرون طويلة لدى الطرف الآخر ولا يزال..

وتميّزت المؤسّسة الدينيّة المعاصرة عند الشيعة بوجود عدد من المجتهدين البارزين الذين اجتهدوا في كثير من القضايا الملحّة والعاجلة، والتي لازال يتخبّط فيها الطّرف السنّي.

ومن الطريف أنّ هذا التقليد إنّما هو مرتبط بحياة المجتهد، فإذا مات فعلى المقلّد أن ينتقل لتقليد الأعلم من بين المجتهدين الأحياء.

وهذا يعني ارتباط المقلّد بقضاياه المعاشة والمعاصرة، ويجعل نظرته على الدوام نحو اليوم والغد.

فتقليد الميّت يعني التحجّر على خط ثابت ويورث الانغلاق والتعصّب، وهو مانراه واقعاً عند الطرف السنّي الذي لازال يعيش على استفتاء أهل القبور.


الصفحة 156
ومن أهمّ نتائج فتح باب الاجتهاد عند الشّيعة المرونة في مواجهة الواقع والارتباط به، فلم أجد عند الشيعة تلك القضايا الهامشيّة والسطحيّة التي ينشغل بها الواقع السنّي...

4 ـ المؤسّسة الدينيّة:

وما يميّز المؤسّسة الدينيّة عند الشيعة هو استقلالها عن الحكّام وبُعدها عن سيطرتهم مماأكسبها مواقف سياسيّة شجاعة أسهمت في إحداث تغييرات فعّالة في مجتمعاتها..

وهذه الاستقلاليّة إنّما يعود سببها إلى ارتباط المؤسّسة الدينيّة بالشارع والجماهير التي تدين لها بالطاعة والولاء وتسلّمها أموالها وتذعن لأحكامها.

إنّ رجال الدّين عند الشيعة إنّما يتقاضون أجورهم من الجماهير لامِن الدّولة.

فمن ثمّ فإن المؤسّسة الدينيّة إنّما تعتمد على الجماهير وتعبّر عنهم ولا تخشى الحاكم لكونه لا سلطان له عليها...

وحال المؤسّسة الدينيّة عند السنّة على العكس من ذلك.

وهي مؤسّسة مرتبطة بالحكّام وواقعة في دائرة نفوذهم ويتقاضا منهم الفقهاء أجورهم.

فمن ثمّ فإنّ ولاءهم يتّجه على الدوام نحو الحاكم وليس نحو الجماهير، وفتاواهم إنّما تصدر لحساب الحاكم لا لحساب الجماهير.. وهذا ما دفع بالجماعات الإسلاميّة وتيّارات الحركة الإسلاميّة المختلفة إلى نبذ المؤسّسة الدينيّة باعتبارها مؤسّسة حكوميّة في خدمة الحاكم لا في خدمة الإسلام..

ومن هنا فإنّ المؤسّسة الدينيّة السنّية تعيش مأزقاً خطيراً يهدّد وجودها ومستقبلها، موانع الاستبصار فهي قد فقدت ثقة الجماهير المسلمة والتيّارات الإسلاميّة بها من جهة. ومن جهة أخرى فقدت القدرة على المبادرة وهي أسيرة الحكم وأسيرة فقه الماضي.."(1).

____________

1- المصدر السابق: 148ـ153.


الصفحة 157

فهرس المطالب / تحميل الكتاب

فهرس المطالب

zip pdf doc