المؤلفات » التحوّل المذهبي (بحث تحليلي حول رحلة المستبصرين إلى مذهب أهل البيت عليهم السلام)

الفصل الاول
الطريق إلى الاستبصار


الصفحة 8

الصفحة 9

أهمّية العقيدة:

إنّ العقيدة تشكّل في وجود الإنسان القاعدة الفكرية التي منها تنبثق أفكاره وتصوراته وتتبلور أفعاله وتصرفاته، وهي الأساس والبداية والمنطلق للفكر والسلوك، وهي الركن الأساسي في تكوين وبناء شخصية الإنسان، وهي العنصر الأساسي الموجّه لإرادته والمحرّك لعواطفه، وهي حجر الزاوية ومنطلق الوعي في حركة الإنسان نحو الأهداف السامية.

ولا يختلف اثنان بأنّ الإنسان يحتاج إلى عقيدة يقيم بناءً عليها كلّ حياته، ويلجأ إليها طلباً للحماية والشعور بالأمن النفسي الداخلي وضبط السلوك.

لأن الشخص الذي يعيش في فراغ عقائدي، ولا رأي له في الشؤون العقائديّة، أو الذي دفعته الظروف التي عاش فيها إلى تبنّي عقائد معيّنة، فاعتقد بها من دون وعي ولا إعمال للعقل، فهو إنسان خائر القوى، متردّد الخطى، يعيش حالة الخمول والركود.

ولكن المشكلة تكمن في وصول الإنسان إلى العقيدة المبتنية على الأسس والمبادىء القويّة التي تسمو بالفرد إلى أعلى المستويات، وتحفّزه على اتّباع طريق الحق والخير والرشاد، وترفع من شأنه وتصحّح مسار حياته وتنظّم نزعاته ورغباته، وتوجّه طاقاته نحو الاتجاه السليم.

وذلك لأنّ العقيدة الفاسدة التي تستمد وجودها من الأوهام والتخيلات، ليس من شأنها إلاّ تحفيز الإنسان نحو الانحراف و الوغول في الشرّ والفساد.

ولكن العقيدة الصحيحة والسليمة من التحريف والنقيّة من الشوائب ترسم


الصفحة 10
للانسان أفضل المناهج العمليّة لنيل الحياة الطيّبة في الحياة الدنيا والسعادة فيما بعدها، لأنّها تمنح صاحبها القدرة على استبدال الضعف في كيانه بالقوّة والعزم والثبات، وتدفعه إلى استقطاب طاقاته وتسييرها بعزم لخوض غمار الحياة نحو الأهداف النبيلة، وتصوغ شخصيته بحيث يغدو فرداً لا يعرف التردد ولا يرضخ للهوان.

والذي يُوفّق للاستبصار هو الذي يعي بوضوح هذه الأمور ويدرك أن العقيدة تمتلك المكانة الأولى في حياة الإنسان، وأن من حقها أن تلقى من العناية والاهتمام ما يناسب مكانتها ويليق بشأنها.

ولهذا يندفع هكذا شخص إلى مراجعة عقيدته، وتقييم نظرته الكونيّة، ليحاول من جديد تشييدها عن وعي كامل وقناعة تامّة، وعلى أساس الأدلّة والبراهين والاستدلالات العلميّة، ليصل إلى العقيدة التي تبلغ من القوة في الاقناع أن تفرض نفسها على العقل، وأن تستولي على وجود الإنسان، وتهيمن على وجدانه من دون إرادته.

ويعيد هكذا شخص النظر من جديد إلى معتقداته الموروثة والتي تلقاها من البيئة التي عاش فيها، ليرى مدى عنايتها بتقويم تصوراته واغنائه بأسمى وأروع ما يتبناه من الفكر السليم.

ومن هذا المنطلق يقوم هكذا شخص بغربلة أفكاره وتوسيع آفاق رؤيته بالبحث والتنقيب والمطالعة، ليصل إلى عقيدة شاملة تستقي من مشرب الوحي والعقل السليم والهدي القويم، وتستمد وجودها من كلام الله المبين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ومن كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله)الذي لا ينطق عن الهوى، حتى يصل إلى أفكار ورؤي واضحة المفاهيم، جليّة المعالم، لا يكسوها ابهام، ولا يستُرها لغز، وليس فيها تلفيق أو التباس أو تعارض أو تناقض.ليطمئن بعدها أنّه بعيدٌ عن التيّارات الهدّامة التي حملت معها المؤامرة، فانخدع بها الكثير من ابناء المسلمين، وانجرفوا بها حتى سقطوا في أودية التيه والضلال.


الصفحة 11
ودأب صاحب هكذا شخصيّة خلال غربلته لأفكاره أنّه إنْ وجد في معتقداته أوهام أو قضايا مزيّفة أو تقاليد عمياء، فانّه يقوم بتطهير عقيدته من هذه الشوائب وتنقيحها من الادران العالقة بها.

اهتمام المستبصرين بالبحوث العقائديّة:

إنّ عقليّة الشخص الذي يوفّق للاستبصار عقليّة علميّة تحاول باستمرار أن تقف وقفة التأمل والتمحيص عند مرتكزاتها الفكريّة و أصولها العقائديّة، لتستبدل أفكارها الخاطئة بالأفكار الصحيحة وتحفّز عقلها على الانعتاق من دوائر التبعيّة والتقليد الأعمى، لتستطيع عبر البحث المبني على القواعد العلميّة الرّصينة أنْ تكوّن لنفسها عقيدة صادقة وأصول و مبادىء سليمة.

لأنّ عقليّة هكذا شخص تدرك بوضوح أهميّة البحث في المجال العقائدي، وتدرك ما للعقيدة من صلة وثيقة بنشاط الإنسان الحيوي والعملي، وتعي أثر المعتقد على الإنسان نفسياً واجتماعياً وفكرياً.

وبهذه العقليّة يدرك هكذا شخص أنّه ينبغي أن يقوم بدراسة دقيقة لأفكاره و موروثاته العقائديّة، ولا يصلح له أن يتغافل عنها أو يغضّ الطرف دونها، لئلا يسير على المسار الخاطىء وهو لا يشعر، ولئلا يستطيع الانتهازيون صرفه عن الحق وهو جاهل، ولئلا يتعلّق بأذيال فهم خاطىء، أو يقع في شباك فرقة ضالّة، ولئلا يكون "إمّعة" في تصديق الأفكار والمعتقدات التي تعرض عليه.

فلهذا لا يكون هكذا الشخص من الذين يقفون من أمر عقائدهم موقف اللامبالاة، أو من الذين يكون موقفهم موقف من لا يعنيه شيء من أمر عقيدته، أو يقومون باغلاق عقولهم عن التفكير في هذا المجال.

بل يقوم هكذا شخص بعمليّة غربلة معتقداته ليطرح أفكاره الرديئة ويستبدلها بالافكار والرؤى السامية، ويخوض رحلة فكريّة بحثا عن الحقيقة، فيحكّم عقله


الصفحة 12
ويقوم بتمحيص الحقّ ليعرفه من بين ركام الباطل.

و نجد في أقلام المستبصرين، بوضوح الاشارة إلى اهتمامهم بهذا الأمر ودعوتهم الاخرين إلى البحث في المجال العقائدي، ومنهم يقول طارق زين العابدين:

" إنّ الدين الإسلامي لمّا كان هو نظام الحياة الذي يجب أن يؤسّس كل مؤمن حياته عليه ويبني عليه مصيره، كان لابد أن يقوم اعتقاد كهذا على أساس يبعث اليقين والطمأنينة.

ولا يصحّ أن تُنال المصائر بالظنون والتوهّم، أو تنال بالتقليد الأعمى الذي لا يعرف صاحبه الدليل والحجّة غير ما كان عليه آبائه الأوّلون، فاذا سُئل: لماذا أنت مسلم؟ فانه لا يجيب إلاّ بالصمت والحيرة.

وإذا قيل له لماذا أنت شيعي أو سنّي أو مالكي أو...؟ تراه يخطرف في الإجابة.

كل ذلك لأنّه لم يفكّر في اعتقاده ومصيره من قبل بحريّة، بل قام كل ما عنده من اعتقاد على التقليد الأبوي والاجتماعي، فصار على هذا مسلماً: شيعيّاً أو سنّياً "(1).

ويقول هذا المستبصر في مكان آخر من كتابه حول أهميّة التوجّه إلى البحوث العقائديّة:

" إنّ الحياة الدنيا ليست مجالاً لاكتساب أعمال قد أحيطت بالظنون وطُوّقت بالأوهام إذ أنّها حياة ـ وهي تؤدّي إلى مصير كهذا قطعاً ـ لا تحتمل ذلك لمحدوديّتها وقصرها، فلابدّ إذاً أن يكون كلّ فعل يُكتسب فيها مؤسّساً على اليقين والحق، والفعل الذي يبعث الاطمئنان على النتائج، فتأسيس هذه الحياة على الظن والأوهام لا ينتهي إلاّ إلى هذين "(2).

ثم يضيف هذا المستبصر قائلاً:

____________

1- طارق زين العابدين/ دعوة إلى سبيل المؤمنين: 8.

2- المصدر السابق: 15.


الصفحة 13
" والحصول على هذا اليقين أولى ما يكون في العقيدة، إذ أنّها أصل لكل فرع، وفساده في فسادها الذي هو موجبٌ لكلّ فساد لا محالة، إذ العقيدة هي التي نَعنيها بالتحقيق والتصحيح حتى تبدو وقد تأسّست على الحقيقة واليقين، فلابدّ إذاً من التحقق من سلامتها بالفحص واعادة النظر وتقليب البصر وإعمال الفكر والتدبّر في أحوالها "(1).

ويقول ياسين المعيوف البدراني في هذا الخصوص:

" إنّه من واجب الإنسان الواعي أن يجعل الفكر والتبصر والتأمل رائداً له في سلوك الطريق الذي يوصل إلى الحقّ سبحانه وتعالى آخذاً بالعقائد الصحيحة وتاركاً النزعات القبلية والعنصريّة والقوميّة التي لا تولد عنده إلاّ القلق الدائم والخوف المستمر وعدم الاستقرار النفسي "(2).

ويضيف هذا المستبصر قائلاً:

" يا إخوتي في مثل هذه الحالة العقيمة المرة التي نعيشها وسط مذاهب متعدّدة وطرق إسلاميّة شتى لمَ لا نحاول البحث عن المذهب الحقيقي كي نتمسّك به؟ ولماذا نأخذ الإسلامَ من موقع واحد؟ بينما هناك طرق ومشارب عديدة والله سبحانه وتعالى يقول: ( فَبَشِّرْ عباد الّذينَ يَستَمعُونَ القولَ فَيتَّبعُونَ أحسَنه)(3).

... وعلى هذا فمن واجب المسلم أن يدرس وأن يتأمّل المذاهب المطروحة في السّاحة الإسلاميّة وأن يعتمد على عقله وتفكيره وعلى عوامل الاستدلال والاطمئنان المتوافرة لديه، وعند الاختلاف فإنّ الحق بيّن واضح لا يتعدّد ولا يأخذ مظاهراً وصوراً وأشكالاً شتى خلافاً لما يرى ويقول المصوّبة المغرضون "(4).

____________

1- المصدر السابق: 16 2- ياسين المعيوف البدراني/ ياليت قومي يعلمون: 49.

3- الزمر: 17.

4- ياسين المعيوف البدراني / ياليت قومي يعلمون:49.


الصفحة 14

دوافع اهتمام المستبصرين بالبحوث العقائديّة:

إنّ الشخص الذي يوفّق للاستبصار ـ كما ذكرنا ـ دأبه التطلّع نحو المعرفة المُبتنية على الأدلّة الرّصينة والبراهين السديدة، وديدَنه السير في طريق البحث من أجل الوصول إلى الحقيقة.

وهذه الحركة نحو البحث من أجل فهم الواقع لا تتقدّم إلاّ عبر وجود ما يحفّزها، ومن جملة الدوافع الكثيرة التي تستثير همّة الانسان للبحث العقائدي، الحقيقة، وتشعل في صدره جذوة البحث عن الحقيقة، يمكننا ذكر الأمور التالية:

1 ـ حبّ المعرفة والاستطلاع والشعور بالرغبة في تلمّس الحقيقة، وتوسيع دائرة الوعي، والنهوض بالمستوى العلمي، والاستزادة من معرفة الحق، والوقوف على كنهه وحقيقته.

وهذا هو السبب الذي دفع ياسين المعيوف البدراني للبحث، حيث أنّه يقول:

" طلباً للمعرفة واستزادةً منها التقيت بعينات من أهل القرى والمدن مما جعل بيني وبينهم بعض المناقشات والمحاورات التي ولّدت عندي حافزاً جديداً لأن أعيد النظر في قراءاتي السابقة وأن أقارن بينها وبين كتب أخرى وما تحمل في طيّاتها من قضايا التاريخ ومجرياته.

ولقد وجدت عند الكثير ممّن كنت أحاورهم وآخذ منهم تقاعساً عن اقتحام الحقيقة وصمتاً أمام الدّليل الواضح متمشين في ذلك مع ما يطلب الواقع ومع ما هو موروث عن الآباء والأجداد، لكنّني عزمت على العمل الدؤوب والاستمرار في تقصّي الحقيقة ومعرفتها "(1).

2 ـ التوجّه بعد سموّ الوعي إلى الاهتمام بتنقيح القناعات وبنائها على ضوء الفكر السليم، والبحث الجادّ من أجل تطهير العقل من الخرافات المحتملة التي تأخذ بيده إلى

____________

1- ياسين المعيوف البدراني/ ياليت قومي يعلمون: 5.


الصفحة 15
عالم الأوهام، لأن الرأي الفاسد الواحد يكفي لتهيئة العقل لتقبّل المزيد من شاكلته.

3 ـ إيقاظ روح الجري وراء الحقيقة وتقصّيها، والتطلّع إلى كسب البراهين، من أجل الوصول إلى العقيدة والرؤى الفكريّة التي لم ينسجها الخيال البشري وفق ما تقتضي مصالحه ومآربه وأهواءه النفسيّة، ومن ثم التمكّن من صيانة النفس من الاتجاهات الباطلة والوصول إلى العقيدة السليمة التي تحفظ الإنسان من قبول الأفكار الضالة والمنحرفة.

وبعبارة أخرى، الوصول إلى العقيدة التي تقدّم لصاحبها الحقيقة بصورة مقنعة وشاملة، وتعينه ليحصل على اليقين الكامل والتفسير النهائي، بحيث تهديه إلى الصراط المستقيم وتوصله إلى سبيل الرشاد.

ولهذا يقول إدريس الحسيني:

" والسؤال الذي يجب أن يطرحه كلّ مسلم على نفسه: لماذا أنا من هذه الفرقة ولست مع تلك؟

هل الوراثة هي السبب أم الاجتهاد والقناعة؟

إذا كانت القناعة كما يدّعي البعض، فهي تعني الانسحاب من المذهب والبدء في مسيرة بحث محايدة ومتكافأة، أو قراءة التاريخ من أجل البحث عن الصواب، والاستعداد النفسي لخسران الكثير من المسلّمات. والقراءة عن هذه الفرقة وكأنّها فرقة القارىء.. ثم تحكيم العقل، والقرآن والوجدان.. وجدير بنا القول آنئذ: (اللهمّ ما عَرّفتَنا من الحَقّ فحمّلناه وما قَصُرنا عَنه فبلّغناه).

أمّا أن نصم الأذان، ونعمي الأبصار، بحجة الايمان والتقوى هو خداع نفسي، وهروب من ضغوط الحق، ودفن للرأس في الرمال "(1).

4 ـ إبراء الذمّة أمام الله سبحانه وتعالى، لأن الرسول (صلى الله عليه وآله) حذّر أمته بأنّها ستفترق

____________

1- إدريس الحسيني/ لقد شيّعني الحسين: 96ـ97.


الصفحة 16
إلى ثلاث وسبعين فرقة كلّها في النار إلاّ واحدة، وهذا ما يوجب على المسلم الاهتمام بمعرفة الحقّ.

ولهذا يقول محمد علي المتوكّل:

" فالأمر كما ترى جد خطير، فمجرّد أن يكون هناك احتمال، ولو بنسبة 1%، أنْ تكون من الأغلبيّة الضالّة هو أمر يدعو إلى الخوف ويدفع إلى التدقيق وإمعان النظر في كلّ الموروث ومراجعته، علّه يكون زائفاً.

وطالما أن الأمر أمرُ جنّة أو نار، فهو جدير بأن ينذر المرء ما تبقى من أيّام عمره- إذا تطلب الأمر- للبحث والتحقيق وتحري السبيل التي تقود إلى النجاة والطريق التي تنتهي به إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله).

ثم التصميم على اتّباع نتائج البحث حتى ولو كانت نسفاً لكلّ التراث الفكري والعقائدي، وخروجاً على الأسرة والمجتمع.

قد لاتكون في شك من سلامة أيٍّ من معتقداتك ومسلّماتك التاريخيّة، مع أنّها في الغالب تكون مجرّد تقليد أعمى وتبعيّة ساذجة للاسرة والمجتمع، فلماذا لا تخصّص جزءاً من وقتك واهتمامك للتحقق من مطابقة معتقداتك لحقائق الدين، ومسلّماتك التاريخيّة للواقع التاريخي؟ فإنّك إن فعلت لن تخسر شيئاً، بل تكون لك الحجة إذا ما سئلت عن مصدر قناعاتك، ولا تكون من الذين يقولون إنّا وجدنا آباءنا على ملّة وإنّا على آثارهم مقتدون، وعندئذ تكون حجّتك داحضة وعذرك مردوداً "(1).

ويقول طارق زين العابدين في هذا المجال:

" إنّ الاختلاف الذي وقع بين المسلمين إلى اليوم يؤيّد ما ذهبنا إليه في وجوب التحقيق والبحث في ما بلغنا من اعتقاد، وإلاّ فكيف نطمئن على حصول السلامة وبلوغ النجاة؟ وكيف نثبت ذلك ونقيم عليه الدليل والحجّة؟

____________

1- محمد علي المتوكّل/ ودخلنا التشيّع سجّداً: 8.


الصفحة 17
هذا امر لا أظنّ سيَستَهونَه مسلم ارتبط مصيره بيوم فيه حساب ثمّ ثواب أو عقاب، ولا أظنّ إنساناً صدّق باليوم الآخر ولا يرجو فيه النّجاة والسلامة. فالتحقيق والبحث هو سبيل إلى بلوغ هذه الغاية والحصول على النجاة المطلوبة "(1).

ويقول مروان خليفات أيضاً في هذا المجال:

" ونحن نرى اليوم أن المسلمين فرق عديدة، وكلّ واحدة تدّعي أنّها على الحق، وقد رأيت أن هذا الأمر مهم جدّاً، وعليه يتوقّف مصير الإنسان، لذا فحري بكلّ مسلم يرجو الخلاص يوم القيامة أن يجتهد في معرفة هذه الفرقة فيتبعها.

... ومن الغريب أن المسلم يقرأ حديث الافتراق هذا ولا يقوم بواجبه الشرعي في البحث عن هذه الطائفة بحريّة و موضوعية، كي تبرأ ذمّته ويلقى ربّه بقلب سليم "(2).

ويقول إدريس الحسيني حول أهمية الوصول إلى القطع الذي تثبت به براءة الذمّة:

" وليكن ما يكون، ولكن لابدّ لي أن أفكّر، وأمارس كينونتي في الوجود، لأبرىء ذمّتي، طلباً للحقّ والتماساً للنجاة، وبعدها أطلب العذر على تقصيري.

المهم هو الوصول إلى (القطع) الذي تثبت به المعذريّة.

وهذا القطع لابدّ أن يحصل بالاجتهاد والبحث الحثيث "(3).

ويقول التيجاني السماوي حول تأثّره بحديث الافتراق والأهميّة التي يحظاها هذا الحديث:

" قرأت الحديث الشريف الذي قال فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله): (افترقت بنو اسرائيل إلى إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النّصارى إلى اثنين وسبعين فرقة، وستفترق أمّتي إلى ثلاثة وسبعين فرقة، كلّها في النار إلاّ فرقة واحدة).

فلا كلام لنا مع الأديان المتعدّدة التي يدّعي كلّ منها أنه هو الحق وغيره الباطل،

____________

1- طارق زين العابدين/ دعوة إلى سبيل المؤمنين: 16ـ17.

2- مروان خليفات/ وركبت السفينة: 19.

3- إدريس الحسيني/ لقد شيّعني الحسين: 94.


الصفحة 18
ولكن أعجب واندهش واحتار عند قراءة هذا الحديث.

وليس عجبي واندهاشي وحيرتي للحديث نفسه، ولكن للمسلمين الذين يقرؤون هذا الحديث ويردّدونه في خطبهم ويمرّون عليه مرّ الكرام بدون تحليل ولا بحث في مدلوله لكي يتبيّنوا الفرقة الناجية من الفرق الضالة.

والغريب أنّ كلُّ فرقة تدّعي أنّها هي وحدها النّاجية وقد جاء في ذيل الحديث:

(قالوا: من هم يارسول الله: قال (صلى الله عليه وآله): من هم على ما أنا عليه، أنا وأصحابي).

فهل هناك فرقة إلاّ وهي متمسّكة بالكتاب والسنة؟

وهل هناك فرقة إسلاميّة تدّعي غير هذا؟

فلو سئل الامام مالك أو أبو حنيفة أو الإمام الشافعي أو أحمد بن حنبل، فهل يدّعي أي واحد منهم إلاّ التمسّك بالقرآن والسنّة الصحيحة؟!

فهذه المذاهب السنيّة، وإذا أضفنا إليها الفرق الشيعيّة التي كنت أعتقد بفسادها وانحرافها، فها هي الأخرى تدّعي أيضاً أنّها متمسّكة بالقرآن والسنّة الصحيحة المنقولة عن أهل البيت الطّاهرين (عليهم السلام)، وأهل البيت أدرى بما فيه كما يقولون.

فهل يمكن أن يكون كلّهم على حق كما يدّعون؟

وهذا غير ممكن، لأن الحديث الشريف يفيد العكس، اللهمّ إلاّ إذا كان الحديث موضوع، مكذوب، وهذا لا سبيل إليه، لأنّ الحديث متواتر عند السنّة والشيعة، أم أن الحديث لا معنى له ولا مدلول؟ وحاشى لرسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يقول شيئاً لا معنى له ولا مدلول وهو الذي لا ينطق عن الهوى وكل أحاديثه حكمة وعبر.

إذاً لم يبق أمامنا إلاّ الاعتراف بأن هنا فرقة واحدة على الحق وما بقي فهو الباطل، فالحديث يبعث على الحيرة كما يبعث على البحث والتنقيب لمن يريد لنفسه النجاة.

ومن أجل هذا داخلني الشك والحيرة بعد لقائي بالشيعة فمن يدري لعلّهم يقولون حقّاً وينطقون صدقاً؟!

ولماذا لا أبحث ولا أنقب، وقد كلّفني الإسلام بقرآنه وسنّته أن أبحث


الصفحة 19
وأقارن وأتبيّن.

قال الله تعالى: ( والّذينَ جَاهَدُوا فينَا لَنَهْديَنَّهُم سُبُلَنا)(1).

وقال أيضاً: ( الّذينَ يَستَمعوُنَ القَولَ فَيَتَّبعوُنَ أحْسَنَه أوْلئكَ الَّذينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأوْلئِكَ هُم أوْلُوا الألْبَابِ)(2).

وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (ابحث عن دينك حتى يقال عنك مجنون); فالبحث والمقارنة واجب شرعي على كلّ مكلّف "(3).

5 ـ الرغبة في توسيع آفاق الرؤية والمعرفة وازدياد البصيرة و رفع مستوى الثقافة الدينيّة من خلال الانفتاح على باقي المذاهب.

ويندفع الباحث إلى هذه الأمور لتكون زاوية رؤيته للامور الدينيّة رحبة ومتسمة بالشموليّة، وليتسنّى له بعد الالمام بالرؤية الدينية ان يتّبع أحسنها وأن يسلك أفضلها، ولعلّه يجد ضالّته المنشودة في مذهب آخر!

6 ـ انقاذ النفس من التيه والضياع والتخبّط والفوضى في الصعيد الفكري والفراغ العقائدي والخواء الروحي، و ملئه بعقيدة تعيد للإنسان توازنه المفقود، وتمدّه بالعطاء والغذاء الروحي، وتأخذ بيده إلى الكمال والتسامي، بحيث يترك ذلك أثره الإيجابي في سلوكه وتصرفاته وتوجّهاته.

7 ـ ارتقاء المستوى الفكري وبلوغ مرتبة النضج في الادراك والتفكير، والتمكّن من الموازنة بين الأمور بتعقّل وحكمة، ومن ثم التوجّه انطلاقاً من الشعور بالثقة والاحساس بالجدارة نحو البحث عن معين يغذّي العقل بمفاهيم نقيّة لا تشوبها أيّة شائبة.

لأنّ الإنسان نتيجة تراكم التجارب التي يتلقّاها خلال حياته، تنشأ في سريرته مجموعة منبّهات تدفعه ليعيش حالة اليقظة والوعي والبصيرة، فيبدأ الإنسان بعد ذلك

____________

1- العنكبوت / 69.

2- الزمر: 18.

3- محمد التيجاني السماوي/ ثم اهتديت: 64ـ65.


الصفحة 20
بامعان النظر فيما يدور حوله وما يتلقاه من أفكار ومفاهيم، ويندفع إلى غربلة خزين أفكاره وتنقية ذهنه من المفاهيم الخاطئة والعقائد الضالة.

8 ـ عدم الاكتفاء بما تملي الاجواء من انتماء، بل ربّما الشك في صحّتها بعد إمعان النظر فيها، والشعور بوجود شيء ينقصها، ومن ثم اتّخاذ قرار البحث والتنقيب ليكون المرء على بصيرة من أمر دينه، وعالماً بقضايا مذهبه، وليكون انتماؤه مرتكزاً على الأدلّة الساطعة، ومبتنياً وفق ما تملي عليه الحجج والبراهين الواضحة.

9 ـ الاقتناع بأنّ حب الاستطلاع في الأمور الدينيّة بحاجة إلى فكر ينفتح ويتّسع في آفاق البحث، ليتحرّر من حالة التقليد الأعمى والجمود واحترام المقدّسات المزيّفة، ومن ثم الانطلاق بقوّة وبجدّية نحو البحث وتحدّي كلَّ العقبات التي تعتري حركة البحث باتجاه الوصول إلى الحقيقة التي يطمئن إليها القلب.

10 ـ الشعور بحالة سلبية نتيجة تراكم الشبهات والتساؤلات العقائديّة في الذهن، ومن ثم الاحساس بلزوم التوجه إلى مصدر يجيب عن هذه الأسئلة والاستفسارات من أجل التمكّن من اقتحام جميع المجاهيل المقفلة بعد الحصول على الأجوبة المقنعة للاسئلة الحائرة.

لأن الإنسان حينما يسمو وعيه تساوره بعض الشكوك حول المبادىء التي يعتنقها وتخطر على باله بعض الأسئلة والشبهات، فتعتريه حالة قلق المعرفة، وتبدأ هذه الحالة تستشري في نفسه وتلح عليه ليتطلّع نحو الحقيقة ولينطلق بفكر منفتح وعقلية واعية ليعبّد لنفسه طريق الوصول إلى العقيدة الحقّة.

11 ـ الانتباه إلى النفس ورؤيتها بأنّها لا تعتمد على ركن وثيق في أهم جانب من جوانبها الحياتيّة وهي العقيدة، والاقتناع على أثر النظر إلى البنية الفكرية بالحاجة إلى إعادة النظر في المرتكزات الفكريّة، ومن ثم العزم على تشييد عقيدة مبتنية على الأسس المتينة والدعائم الراسخة.

12 ـ هنالك حالات خاصّة دفعت بعض المستبصرين للبحث في المجال


الصفحة 21
العقائدي، منها:

يذكر أحد المستبصرين قائلاً: ذهبت قبل الاستبصار إلى العلماء من أهل السنّة لعلّي أجد عندهم ما يدلّني على الانتماء العقائدي الصحيح، وطلبت منهم الاجابة عن الشكوك العالقة بذهني واقناعي بردود واجابات شافية ومقنعة تسكن حيرتي وتشفي غليلي وتريح ضميري، لكنّهم ثاروا بوجهي واتّهموني بالضلال، فقرّرت بعدها الاعتماد على نفسي، فانفردت بنفسي، فوجدت أنّني بحاجة ماسّة إلى التزوّد من المعرفة، ومن هنا نشأت في نفسي رغبة ملحة للبحث والمطالعة في الأمور العقائديّة.

وهذا ماحدث مع إدريس الحسيني الذي أراد جملة ممّن حوله أن يمنعوه عن البحث، لكن باءت محاولاتهم بالفشل، بل أدّت عكس ما أرادوه، فيقول إدريس الحسيني حول هؤلاء:

" إنّ الّذين لم يكونوا يجيبونني عن تساؤلاتي، وينصحونني بأن لا أقرأ التاريخ إطلاقاً، كانوا بمثابة حافز لي لالتماس الجواب بنفسي "(1).

ويذكر مستبصر آخر حول ما دفعه للبحث في المجال العقائدي:

سمعت ذات مرّة عن طريق المحاورات التي تجري بين أوساط أبناء منطقتنا بعض الأمور والقضايا الإسلاميّة بحيث نالت اعجابي، لأنّني وجدتها آراء كاملة ورائعة، فاستفسرت عن القائلين بها، فقيل لي أنّها تابعة للشيعة.

فقررت من ذلك الحين البحث حول التشيّع لطلب المزيد من أمثال هذه الرؤى الإسلاميّة التي اثلجت صدري وروت ضميري المتعطّش للحقائق الدينيّة.

ويقول صالح الورداني حول الدافع الأول الذي دفعه للبحث:

" إنّ ما عايشته وواجهته من قِبل التيّارات الإسلاميّة في مصر، كان الدافع الأول والأساس الذي أدّى بي للغوص في التراث الإسلامي المصدر الأساس لهذه التيّارات

____________

1- مجلّة المنبر/ العدد: 3.


الصفحة 22
كمحاولة للوصول إلى الخلل الذي أوجد التناحر والتكاثر بين هذه التيّارات.. لم أجد هذا الخلل من الحاضر، بل وجدته من الماضي "(1).

ويقول هشام آل قطيط حول إحدى العوامل التي حفّزته للبحث:

" إنّ قصّة الانتقال في العصر الحاضر من السنّة إلى الشيعة، زادتني حيرة وتأمّلاً وتفكّراً في هذا المجال العقائدي، فصرت أتساءل مع نفسي ما هذا الانتقال الضخم والتحوّل الهائل من التسنن إلى التشيّع; من علماء أهل السنّة ومثقّفيهم ولم أجد العكس...؟!!

لماذا...؟!!

فقلت لو لم تكن الأدلة مقنعة لما انتقل هؤلاء بهذه الكثرة وتركوا التسنن وأصبحوا شيعة "(2).

شروط البحث في المجال العقائدي:

إنّ البحث ومحاولة توسيع دائرة المعرفة والقيام بجولة فكريّة في رحاب المذاهب الإسلاميّة من أجل الوصول إلى الحقيقة لا تأتي ثمارها إلاّ إذا تمّ خلالها مراعاة جملة من الشروط التي تؤدّي إلى سلامة المنهج وتضمن صحّة نتائجه وثماره.

ويمكننا عدّ الأمور التالية من جملة الشروط التي ينبغي للباحث الذي يطمح للوصول إلى النتائج الصحيحة أن يقوم بمراعاتها خلال البحث:

1 ـ التحلّي بالرؤية الشموليّة:

وهي أن يتوجّه الباحث في دراسته للقضايا العقائديّة توجّهاً شاملاً بحيث يتناولها

____________

1- صالح الورداني/ الخدعة: 4.

2- هشام آل قطيط / ومن الحوار اكتشفت الحقيقة: 217.


الصفحة 23
من جميع جوانبها، ويلحظ جميع ما يرتبط بها، لأن تقصي المعطيات والاحاطة بكل ما له صلة بموضوع البحث من شأنه ان يتيح للباحث القدرة على أداء عمليات التحليل والنقد والتفسير في نطاق واسع وشامل، وبهذا يتمكّن الباحث من كشف الحقيقة بصورة كاملة.

أما النظرة الجزئيّة أو الضيّقة التي يقتصر فيها نظر الباحث إلى الموضوع من زاوية محدّدة، فإنّها تفضي في الغالب إلى النتائج الخاطئة، وتكون النتائج عموماً قاصرة نتيجة قلّة المعلومات التي يمتلكها الباحث حول الموضوع المطروح على طاولة البحث.

ومن أهم السبل للحصول على الشموليّة في الرؤية العقائديّة هي الوقوف على مختلف الاتّجاهات المذهبيّة، والانفتاح على الأفكار والرؤى المختلفة، وتحليلها ومعرفة أدلّتها وتبيين إيجابيّاتها وسلبياتها، لأن ذلك يتيح للباحث أن يوسّع دائرة معارفه من خلال تعرّفه على الرأي الآخر.

وهذا ما توجّه إليه إدريس الحسيني خلال رحلته المضنية في البحث عن الحقيقة، حيث أنّه يقول:

" وأنّه لجدير أن أكشف عن مدى الفجاجة التي لمستها في كل المذاهب التي انفتحت عليها، لقد قادني التفكير إلى مراجعة كل معتقداتي.

وامتدّت محاولاتي في البحث والتنقيب في كل المذاهب بل والديانات بما فيها الديانات الاسطوريّة. إنّني حاكمت نفسي يوماً في خلوتها، واشترطت عليها التجرّد الكامل في البحث عن الحقيقة العُليا.

عن (الله) الحقيقي، وعن وحيه الأخير! لقد انفتحت على الانجيل باحثاً فيه عمّا ما يشفي غليلي، فرجعت أجرّ أذيال البؤس ويدي بيضاء من ذلّ السؤال. وكذلك سارت بي الراحلة، من مذهب إلى آخر، من دين إلى آخر، أنقلب، أبحث فراوحت إلى


الصفحة 24
حضيرة الثقلين، منبت الهداية، وموطن الحق... "(1).

كما أنّه يقول:

" تعلّمت أنّ من شروط البحث عن الحقيقة، عدم الاستماع إلى القول الواحد، وإلى الفرقة الواحدة، ولكن ( الّذينَ يَسْتَمِعوُنَ القَوْلَ فيتَّبِعُون أحسَنه)(2) "(3).

فعلى هذا، لا سبيل لمعرفة الحقّ إلاّ عن طريق البحث الشمولي الذي يفتح أمام بصيرة الإنسان آفاقاً رحبة تُعينه على غربلة معتقداته وتمييز الصحيح منها عن السقيم.

أمّا الّذين اقتصرت رؤيتهم على ما توارثوه من معتقدات، فهم على غير بيّنة من أمر دينهم، وعليهم أن يلمّوا بما لدى الآخرين من المذاهب الإسلاميّة، ليكون انتماؤهم المذهبي عن وعي و قناعة و حجّة وبرهان.

وهذا ما قام به أغلبيّة المستبصرين حيث أنّهم أحاطوا بصورة إجماليّة على آراء المذاهب الإسلاميّة، ثمّ اتّخذوا قرارهم النهائي عن وعي فيما يخصّ انتمائهم المذهبي.

وفي هذا الصعيد ينبغي لكلّ باحث يستهدف التعرّف على عقائد وأفكار باقي المدارس الفكريّة والمذاهب الإسلاميّة، أن يعي بان أفضل السبل لمعرفة آراء الغير ومعتقداته هي أقواله وتصريحاته، وعليه أن يبحثها بنفسه ويطّلع عليها من مصادرها المعتبرة والمعتمدة والموثوقة عندهم، لا من كتب ومصادر غيرهم أو ما كتبه عنهم خصومهم.

لأنّ الخصم قد يكون جاهلا متطفّلاً، فيحرف الواقع عن غير قصد، أو قد يكون حاقداً متحاملا يفتري بقصد التنكيل و التشهير، أو قد يكون متطرّفاً يلجأ إلى المغالطات في تقييمه دون علم ودراية، أو قد يكون خائناً مستأجراً من قبل الأيادي

____________

1- إدريس الحسيني/ لقد شيّعني الحسين: 407.

2- الزمر: 18.

3- إدريس الحسيني/ لقد شيّعني الحسين: 35.


الصفحة 25
الأثيمة، فيكذب ويدسّ بقصد التفرقة وإيقاظ الفتنة.

وهذا ما يتحتّم مراعاته عند دراسة مذهب التشيّع، لأن هذا المذهب قد تعرّض للهجمات الشرسة من قبل السلطات الحاكمة على مرّ العصور، وقد استغلّ الحاقدون ذلك من أجل الكيد بهذا المذهب والوقيعة به على غير دليل وبرهان، وقد نُسب إلى هذا المذهب الكثير من الأفكار والرؤى التي هو بريء منها.

فلهذا ليس من الحقّ والانصاف أن يُدان مذهب أهل البيت (عليهم السلام) بما ينسبه إليه غيره، أو بما يقوله الشواذ الّذين لا وزن لكلمتهم، بل الصحيح أن يقوم الباحث بمطالعة كتب الشيعة المعتبرة بنفسه، ليتعرّف بصورة مباشرة على ما هو متّفق عليه عند علمائهم، أو ما هو متسالم عليه عندهم.

وإلاّ فمن المؤسف أن نجد باحثين ومحقّقين يقومون بإدانة مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، وهم ممن قد خفي عليهم أصول ومبادىء وفكر هذا المذهب، وقد اكتفوا بما قيل عن هذا المذهب، ولم يبادروا للتعرّف عليه من كتبه المعتبرة.

ولهذا دعى الهاشمي بن علي بعد استبصاره أن يتعرّف الباحثون على التراث الشيعي من كتبهم أنفسهم، فقال:

" وصيّتي لكلّ قارىء حرّ عنده عقل يميّز به الحق من الباطل، أن يقرأ عن الشيعة والتشيّع من كتب أهل الشيعة أنفسهم.. "(1).

و اكّد هذا المستبصر على هذا الأمر في موضع آخر من كتابه قائلاً:

" عرفت الحديث القائل: (النّاسُ أعْداءُ مَا جَهلوا)(2).

وأنا من موقعي هذا أدعو كل إنسان حرّ أن يطّلع على كتب الشيعة وعلى آرائهم دون واسطة "(3).

____________

1- الهاشمي بن علي/ الصحابة في حجمهم الحقيقي: 83.

2- نهج البلاغة: 172، الكلمات القصار.

3- الهاشمي بن علي / الصحابة في حجمهم الحقيقي:12.



الصفحة 26

2 ـ الموضوعيّة:

من أهمّ شروط الدراسة في المجال العقائدي أن يكون البحث موضوعيّاً، بحيث يتناسى الباحث انتماءه المذهبي ويصعد إلى أعلى درجات التجرّد، ومن ثم يقوم بالمقارنة القائمة على توثيق الحقائق، ليستطيع أن يصل إلى فكر موضوعي لا تحكمه عاطفة متحيّزة أو نزعة متعصبة أو رؤية موروثة أو تصوّرات سابقة.

ومن أهم سمات البحث الموضوعي في هذا المجال، هو التحلّل من القيود والمجاملات وانتحاء منحى الصراحة والتوجّه إلى البحث العلميّ المجرّد من التحيّز، والترفّع عن التعصّب البغيض والتمسّك بالحقائق مهما كانت مزعجة ومؤلمة، واستعمال العقل والتفكير العلمي المجرّد عن ضباب الانحراف النفسي والتعتيم الدعائي المخرّب، ودراسة المذاهب الأخرى دراسة واعية متأمّلة من منابعها الأصليّة.

وفي ظل هكذا أجواء يتمكّن الباحث بسهولة ومن دون أي توجّهات سلبيّة أن يعيد النظر في مصادر هدايته، وأن يقرأ من جديد وبروح بنّاءة قراءة المتدبر المستهدي المستفيد.

وهذا ما اتّبعه محمد عبد العال خلال بحوثه العقائديّة، حيث أنّه يقول:

" قرّرت بعد أن وقعت في هذه الحيرة العقائديّة أن أقف وأكف عن البحث، ثمّ أضع معياراً يصلح أن يكون قاعدة للآتي ممّا سأتبنى، وكان المعيار هو التجرّد، فالتجرّد عين ذات الحكمة; ( وَمَن يُؤتَ الحِكمَةَ فَقَد أوْتيَ خَيراً كَثيراً)، ولم يكن التجرّد مجرد كلمة، بل كان تجرّداً عميقاً، لصيقاً في أعماقي، حرصت على أن أطمئن له "(1) وهذا أيضاً ما قام به التيجاني السماوي خلال بحثه عن الحقيقة، حيث أنّه يقول:

" اقتحمت نفسي في البحث، بغية الوصول للحقيقة...، وتجرّدت من كلّ الأفكار

____________

1- مجلّة المنبر/ العدد:26.


الصفحة 27
المسبقة بكل إخلاص "(1).

ويرى التيجاني السماوي أن من مصاديق الموضوعيّة أن يشكّك الفرد في انتمائه الموروث، ليحفّزه ذلك على البحث بدقّة عن صحّة ما ينتمي إليه.

فيقول في هذا المجال:

" وعلى الباحث المحقّق أن لا يأخذ الأشياء على ما هي عليه بأنّها من المسلّمات، بل عليه أن يعكسها ويشكّك فيها في أغلب الأحيان، ليصل إلى الحقيقة المطموسة التي لعبت فيها السياسة كلّ أدوارها.

وعليه أن لا يغتر بالمظاهر ولا بكثرة العدد، فقد قال تعالى في كتابة العزيز: ( وَإنْ تُطِع أكثَر مَنْ في الأرضِ يُضلّوكَ عن سَبيلِ اللهِ إن يَتَّبِعُونَ إلاّ الظنّ وإن هُم إلاّ يَخرُصوُنَ)(2)"(3).

ويقول التيجاني السماوي حول المنهج الذي اتّبعه في بحثه العقائدي:

" عاهدت ربّي ـ إن هداني ـ أن أتجرّد من العاطفة لأكون حيادياً، موضوعياً، ولأسمع القول من الطرفين فأتّبع أحسنه، ومرجعي في ذلك:

1 ـ القاعدة المنطقيّة السليمة: وهي أن لا اعتمد إلاّ ما اتّفقوا عليه جميعاً في خصوص التفسير لكتاب الله والصحيح من السنّة النبويّة الشريفة.

2 ـ العقل: فهو أكبر نعمة من نعم الله عزّوجل على الإنسان، إذ به كرّمه وفضّله على سائر مخلوقاته، ألا ترى أن الله سبحانه عندما يحتجّ على عباده يدعوهم للتعقّل بقوله: أفَلا يَعقِلُون، أفَلا يَفْقَهُون، أفَلا يَتَدَبَّرُون، أفَلا يُبصِرُونَ... الخ "(4).

وله أيضاً في موضع آخر:

____________

1- محمد التيجاني السماوي/ ثمّ اهتديت: 80.

2- الأنعام: 116.

3- محمّد التيجاني السماوي/ الشيعة هم أهل السنّة: 11.

4- محمد التيجاني السماوي/ ثمّ اهتديت: 80.


الصفحة 28
" وقد عاهدت ربّي أن أكون منصفاً، فلا اتصعّب لمذهبي ولا أقيم وزناً لغير الحق، والحقُّ هنا مُرّ كما يُقال، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (قل الحقّ وَلَو على نَفسِك، وقل الحقّ ولو كان مرّاً)"(1).

ويقول التيجاني في موضع آخر:

" وأخذت على نفسي عهداً وأنا أدخل هذا البحث الطويل العسير، أن أعتمد الأحاديث الصحيحة التي اتّفق عليها السنّة والشيعة، وأن أطرح الأحاديث التي انفرد بها فريق دون آخر.

بهذه الطريقة المعتدلة، أكون قد ابتعدت عن المؤثّرات العاطفيّة، والتعصّبات المذهبيّة، والنّزعات القوميّة أو الوطنيّة، وفي نفس الوقت أقطع طريق الشكّ لأصل إلى جبل اليقين وهو صراط الله المستقيم "(2).

ويرى طارق زين العابدين أنّ من جملة مصاديق الموضوعيّة هو الاحتزاز عن التعصّب والتقليد، فيقول:

" إنّ من حَزَم الأمر على التحقيق والبحث في اعتقاده فهو لا يستطيع إحراز شيء من تحقيقه إن كان مفعماً بالتعصّب وتقليد الذين لا يتيحان الفرصة للتحقيق الحرّ، فلابد له لكي يكون حرّ الحركة والتفكير، أن يفرّغ نفسه من كلّ ما يمكن أن يتسبب في إفساد التحقيق عليه والحيلولة بينه وبين ما يصبو إليه من بحثه، وأن يهىّء نفسه جيّداً لتقبّل الحقيقة التي يصل اليها، بعد إنجاز التحقيق والاطمئنان إلى سلامته من حيث المنهج السليم والأدلّة المقنعة بلا شكّ.

لأنّ الخوف من خوض التحقيق أو الخوف من تقبّل النتيجة عدوّ المحقّق النزيه، فالنتيجة تحتّم عليه رحابة الصدر لتقبّلها باعتبار أنّها الحقّ، بل تحتّم عليه الدفاع عنها

____________

1- المصدر السابق: 88.

2- المصدر السابق: 76.


الصفحة 29
وعرضها على الآخرين.

ومن لا يهدف إلى هذا من تحقيقه وبحثه فعليه ألاّ يشرع في شيء من التحقيق، لأنّه يكون عندئذ مضيعة لوقته، بل يكون عبثاً ولعباً، ولماذا يتحمّل المشاق ويقطع الحجّة على نفسه، ثمّ لا يقبل نتيجة بحثه وتحقيقه ولا يدافع عنها؟! "(1).

ويقول صالح الورداني حول أهمّية اتّباع الموضوعيّة في البحث:

" لاتستطيع أن تجرّد الحقيقة في دائرة الفكر السني وأن تستخلصها من هذه التراكمات الطويلة العميقة المعقدة إلاّ بصفة التجرّد.

والذين يقرؤون التراث السنّي بدون تجرّد لن يصلوا إلى شيء، لأنه الخطوة الضروريّة لاستخلاص الحقيقة وسط هذه التراكمات "(2).

ويقول عبد المحسن السراوي في هذا المجال:

" ومن أراد أن يبحث ويقارن بين المذاهب، فعليه أن يلقي جلباب التعصّب المذهبي، ويكون هدفه مرضات الله تعالى، ولم شمل هذه الأمة التي لا تزال تتخبّط في العصبيّة المذهبيّة.

ولا يستفيد من هذا التخبّط إلاّ أعداء الدّين الذين يريدون أن تبقى الخلافات ليبقوا هم القدوة ولو على حساب التفرقة بين أبناء هذه الأمة "(3).

ويقول مصطفى خميس حول المنهج الذي ينبغي أن يتبعه من يبتغي الوصول إلى الحقيقة:

" إنّنا نبحث عن الحقيقة ونأخذ بها أينما وجدت، ونتوخّى في ذلك الدليل والنقل الصحيح، مسترشدين بقول مولانا الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام):

(نحن أبناء الدّليل، نميل حيث يميل)، بعيدا عن نهج أولئك الذين تلقّوا الّدينَ

____________

1- طارق زين العابدين/ دعوة إلى سبيل المؤمنين: 19.

2- مجلّة المنبر/ العدد: 22.

3- عبد المحسن السراوي/ القطوف الدانية في المسائل الثمانية: 16.


الصفحة 30
من الرّجال لا من النّصوص التي ورثوها عن النبي (صلى الله عليه وآله).

ولابدّ من رسم قاعدة أساسيّة تكون منهجاً في البحث; وهي:

معرفة الرجال بالحق وليس معرفة الحقّ بالرجال; أيّ أن الرجال يُعرّفون بالحق، وليس العكس صحيحاً "(1).

3 ـ اتّباع المنهج العلمي الرصين:

إنّ الجهد الذي يبذله الباحث خلال تحرّي الحقيقة لا يؤدي ثماره إلاّ إذا سار الباحث في حركته طلبا للحقيقة وفق دراسة منهجيّة واضحة تخضع لخطّة مدروسة ومحدّدة، يلتزم فيها الباحث حين النظر إلى ما يطرحه من أحداث و مواقف تاريخيّة وقضايا فكريّة لها صلة بالعقيدة منهجا غايته الوصول إلى الحق فيما يخص دينه ومعتقده.

ومن فوائد اتّباع هكذا منهج أنّه يصون الباحث من التأثّر بالعواطف الهائجة والشعارات المغرية التي تدغدغ العواطف والأحاسيس والهتافات الخادعة التي تزيّن الأمور دون سماح بالنظر إلى الجوهر والحقيقة.

لأن الذي لا يمتلك المنهج المحدّد والخطّة المرسومة في بحثه عن الحقيقة، فانّه من السهولة أن ينساق وراء الزخرف، أو يكون مصيره حين التقائه بشخصيّة ضالّة، تعي ما تفعل، أن يكون لعبة بيدها; لأن الشخصيّة الضالّة تكون قادرة على أن تحوّل جهد هكذا شخص لصالحها وتقوّي بذلك جبهتها وتدخله في لوائها وتحت بيرقها.

فلهذا ينبغي لكلّ باحث أن لا يسير خلال بحثه بصورة عفويّة أو ارتجاليّة طائشة، بل عليه أن يتّبع منهجيّة تدفعه لينهل من المنابع العلميّة الأصليّة التي لم تكدرها الأهواء ولم تعبث بها الشبهات، ليصون بذلك عقله من الاضطراب والتخبّط

____________

1- مصطفى خميس/ لا تضيّعوا السنّة: 10.


الصفحة 31
وتضارب التصوّرات والاجتهادات، وليحترس خلال حركة بحثه من الأجواء التي تموج فيها الأهواء وتضطرب فيها المصالح والشهوات، والتي يتصدّى فيها بعض الشخصيّات لتسويغ باطلهم عن طريق تحريف الكلم عن مواضعه وتأويل الحديث في غير محلّه وتفسير الآيات الكريمة بما تهوى أنفسهم.

وبصورة عامة، فإنّ من أهم الأمور التي ينبغي أن يتّسم بها الباحث خلال دراسته العقائديّة، ليتمكّن من نيل المطلوب من بحثه هو:

1 ـ الدراسة بإمعان وبعقل واع وفكر ثاقب وعقليّة منفتحة وبصيرة نافذة، والتوجّه إلى البحث بصورة متأنّية ومعمّقة ومستفيضة من أجل معرفة الحقيقة وتلمّس خطاها والاندفاع نحوها.

ولهذا يقول صائب عبد الحميد خلال وقفه له مع بحث عقائدي:

" ثم ليس من حقّنا أن ننتظر أيّ فائدة ترجى من وراء هذه الوقفة مالم يصحبها شرطان متلازمان على طول الطريق وحتى النهاية، وهما:

أ - الجدّ في التأمّل والنظر والمتابعة.

ب - الحياد التّام في التعامل مع المفاهيم والأحداث "(1).

2 ـ التوجّه بشوق ولهفة بحيث يشعر الفرد بمقدار ازدياد مستواه المعرفي خلال البحث أنّه يهفو إلى المزيد ويرغب في الاستزادة من العلم.

3 ـ تلقي العلم من المصادر الموثوقة وغير المغرضة من أجل الاستيعاب والالمام بالحقائق الدينيّة وعدم أخذ الاشياء بعفويّة، والحرص على توثيق المراجع ونسبة الآراء إلى أصحابها.

4 ـ ابتغاء الشموليّة عن طريق الالتقاء بالعديد من العلماء والقراءات المستفيضة لعدد كبير من الكتب العقائديّة، واجراء الموازنة والمقارنة بين الآراء المختلفة

____________

1- صائب عبد الحميد/ حوار في العمق من أجل التقريب الحقيقي: 20.


الصفحة 32
وغربلتها من أجل تمييز الأفكار والرؤى السقيمة عن الصحيحة، والتمكّن من خلال هذه المقارنة من معرفة وجه الحقيقة العلميّة وفق ما يمليه العقل السليم والمنطق السديد، أيّ وفق ما يشير إليه الدليل العقلي والبرهان المنطقي.

5 ـ التمتّع بعلوّ الهمّة والاستعداد للتضحية في سبيل الوصول إلى الحقيقة من قبيل التغرّب لطلب العلم وتحمّل العناء من أجل رفع المستوى المعرفي.

6 ـ بذل الوسع واستنفاد الطاقة والعمل بجد واجتهاد وكدّ وكدح ومتابعة ومواصلة بغية الوصول إلى عالم المعرفة وتجلية الحقيقة والوصول إلى الوعي الكامل والقناعة التامّة، وبناء منظومة فكريّة مشيّدة على الأسس العلميّة الرصينة.

7 ـ إعادة قراءة التراث الإسلامي، قراءة سليمة وفق منهجيّة معرفيّة تصون صاحبها من الرفض المطلق له أو القبول المطلق له أو المبادرة إلى التلفيق والانتقاء العشوائي منه.

8 ـ نبذ الاكتفاء بالظواهر في فهم النصوص والاجتناب عن التمسّك بحرفيّة النصوص، بل المبادرة إلى فهم محتوى النصوص ومعرفة مقاصدها.

9 ـ تفعيل الفكر وشحنه بالحيويّة وجعله متوثّباً لا يركن إلى الجمود، وذلك من خلال الابتعاد عن الأجواء التي تحاول تحديد فكر الإنسان بأطر لا يمكن تجاوزها أو الحيد عنها، لأن البقاء في هكذا أجواء يؤدّي إلى اقفال العقل، ويمنع المرء من التقدّم العلمي في مجال البحث، وهذا ما يؤدي بصاحبه إلى الإفلاس العقائدي والمعيشة في ظل الآفاق المعرفيّة الضيّقة.

موانع البحث في المجال العقائدي:

قد يظنّ البعض أن البحث من أجل تصحيح العقيدة أو التثبّت من صحّتها طريق مفروش بالزهور، وأنّ الأمور كلّها تسير فيه على ما يرام، ولكن الواقع يشير إلى خلاف ذلك، لأن هذا الطريق شائك و مضني، وأن الباحث يواجه فيه الكثير من الموانع


الصفحة 33
والعراقيل التي تحاول أن تسلب اهتمامه بالبحث أو تصرّفه عن مواصلة بحثه.

ومن هذه الموانع يمكننا ذكر الموارد التالية:

1 ـ تحذير الآخرين من التعرّف على رأي المخالفين.

ويذكر الكثير من المستبصرين أنّهم واجهوا العديد من العراقيل التي خلّفها من كان يعيش حولهم، ليصدّوهم عن مواصلة البحث والتعرّف على فكر مذهب أهل البيت (عليهم السلام).

وليس خشية الكثير من أهل السنّة من الكتاب والفكر الشيعي إلاّ وليد هذا التحذير المنتشر في أوساطهم من قبل علمائهم ومَن تبعهم.

ويشير الهاشمي بن علي إلى هذه الحقيقة قائلاً:

" والواقع أن هناك مسألة مهمّة نلفت اليها النظر، وهي خوف بعض اخواننا السنّة من مطالعة كتبنا حتى أنّ البعض منهم يشتريها ويحرقها كما سمعت!!

من يخاف من قراءة كتاب فلن يبلغ الغاية لا في الدين ولا في الدنيا.

اقرؤوا كتبنا، فإن كنّا ضالّين فهاتوا بُرهانَكم وأرشدونا لتكسبوا الثواب، وإن كنّا على الحقّ فتعالوا إليه وإن كان مرّاً "(1).

ومن هذا المنطلق يدعو محمد الكثيري أبناء الصحوة إلى توسيع آفاق معارفهم بقراءة تراث سائر المذاهب، فيقول:

" على أبناء الصحوة ألا يخافوا من البحث والقراءة واستخدام العقل في التمحيص والمقارنة، لأن هذا هو السبيل الوحيد، الذي يحفظهم من السقوط في أحابيل المصالح السياسيّة المختلفة والمتناقضة، والتي لا يعلمون عنها شيئاً "(2).

ويصف معتصم سيّد أحمد حركة التحذير من الانفتاح على باقي المذاهب بأنّها

____________

1- جريدة المبلّغ الرسالي/ 27 صفر 1419 هـ ق.

2- محمد الكثيري/ السلفيّة: 669.


الصفحة 34
حركة نابعة من عقول منغلقة تحاول باغلاق المنافذ المطلة على الواقع الخارجي أن تبقى في دائرة ماهي عليها.

فيقول حول هذه الدعوة:

" فكل دعوى تأمر بالانغلاق وعدم البحث وتحصيل المعرفة، فإنّها دعوى تقصد تكريس الجهل وإبعاد النّاس عن الحق.

إن ما يقوم به الوهابيّة من تحصّن بعد الإطّلاع على الكتب الشيعيّة وعدم مجالسة أفراد الشيعة والنقاش معهم، هو الأسلوب العاجز وهو منطق غير سليم، وقد عارض القرآن الكريم هذه الفكرة بقوله:

( قُلْ هَاتُوا بُرهنَكُم إنْ كُنتُم صَادقينَ)(1)"(2).

ويقول عالم سنّي من الفيليبين:

" نشأت من صغري على الحسّاسيّة من الشيعة وكرههم والحذر الشديد من كتبهم، لأنها كتب ضلال، حرام قراءتها وبيعها وشراؤها.

وفي لحظة فكرت في نفسي وقلت: أليس من المنطقي أن يطّلع الإنسان على وجهة النظر الأخرى ويفهمها، ثم يناقشها ويردّها؟

أليس موقفنا شبيهاً بموقف الذين يقول الله تعالى عنهم: ( جَعَلُوا أصَابِعَهم في آذانِهِم)؟ ومن ذلك اليوم قررت أن أقرأ كتب الشيعة، وليقل الناس عنّي ما يقولون! "(3).

2 ـ تفشّي روح اللامبالات بالبحوث الدينيّة ومنها العقائديّة، وهو اتّجاه مطروح في عصرنا الحاضر، وهو يدعو إلى ترك البحث والتفكير فيما يخص الأمور العقائديّة، ويرى أن هذا الأمر لا جدوى فيه، لأنّه لم ولن يؤدّ يوماً ما إلى قرار حاسم أو فكرة

____________

1- البقرة: 111.

2- معتصم سيّد أحمد/ الحقيقة الضائعة: 30 ـ 31.

3- الإمامة والقيادة/ أحمد عِزّ الدّين ـ مقدّمة الناشر.


الصفحة 35
يتّفق عليها أصحاب المدارس الفكريّة المتجادلة في هذا المجال.

ويدعو هذا الاتّجاه أن يصرف الإنسان تفكيره إلى ما هو أجدى في حياته من الرفاهيّة وإلى ما يعود عليه بالفائدة الملموسة بمختلف جوانبها.

وهذا الإتّجاه ـ في الحقيقة ـ قد نشأ نتيجة الجهل بأهمية العقيدة والغفلة عن أمر الآخرة والانغماس في الملذات الدنيويّة.

و أفكار هذا الاتجاه لم تترعرع إلاّ في نفوس الذين حجبت التقنيّة الحديثة بصائرهم وأحاطتهم أوهام الدنيا من كلّ جانب واسرتهم بين مخالبها واحكمت سيطرتها ـ بقوّة ـ على نفوسهم، فجعلتهم لاهثين وراء الجانب المادّي وملذات الحياة الدنيا تاركين وراء ظهورهم كل القيم والعقائد والجوانب الروحيّة، بل حتى الجوانب الخُلقيّة، محبذين امضاء اوقاتهم في اشباع انفسهم بالملذات وتلبية ميولهم ورغباتهم المشروعة وغير المشروعة بدل التوجه إلى الجد والاجتهاد في المطالعة والبحث في الأمور الدينيّة.

ويمكننا القاءبعض التقصير في هذا المجال على عاتق بعض رجال الدّين، حيث أنهم نتيجة بعض مواقفهم غير المسؤولة وعدم محاولة فهمهم لعقليّة الجيل المعاصر، خلقوا بين الجيل الجديد وبين العقيدة الدينيّة فجوة دفعت بعض الشباب إلى ادارة ظهورهم للعقيدة الدينيّة وابتعادهم عن البحث في هذا المجال.

ويشير هشام آل قطيط إلى ما عاناه في هذا المجال قائلاً:

" عندما كنت في القرية وأنا طالب في الجامعة أتردد على بعض المساجد في المنطقة فأجد الخطاب عند العلماء متشابها تماماً، بحيث لا يختلف عالم عن آخر بطريقة الخطاب، من حيث المقدمة والموضوع والخاتمة والدعاء.

أشعر بأنّ علماءَنا يتّبعون بطريقة روتينيّة في القاء الكلام، بحيث إذا غاب إمامُ المسجد لمرض أو لظرف معيّن، يكلّف أحد الاخوة المصلّين بالقاء الخطبة، يصعد على المنبر ويقرأ علينا بطريقة الدرج والسرعة، فأنظر من حولي أجد قسم من الناس


الصفحة 36
نيام، والقسم الآخر كأنّه مسافر في حافلة، هذا من جهة الخطاب.

وأمّا من جهة الحوار الموضوعي والانفتاح الفكري، فهو مفقود تماماً. لماذا؟

لأنّنا ترعرعنا على طريقة التفكير التقليدي الموروث الغير قابل للتطور، رغم أن الإسلام دين التطور ودين المرونة ودين الانفتاح ودين المعاملة ودين النصيحة ودين الاخلاق ودين الانسانيّة دين السّماحة والعزة والكبرياء والأنفة، هذه هي مبادىء ديننا الحنيف الذي نزل به الوحي على نبيّنا محمد (صلى الله عليه وآله)بحيث إذا أردت السؤال من أحد العلماء فإجابته على شقّين:

الشقّ الأول: إما يجاوبني وإما يقول لي: ما هذا السؤال الذي تطرح، فيسفّه سؤالي!

والشقّ الثاني: إذا كان سؤالي عن مذهب معيّن ولم يكن الجواب حاضراً في ذهن الشيخ، فيقمّعني، ما يجوز تسأل هكذا سؤال، هذا سؤالك غلط، لا يجوز أن تجادل، الجدلُ فيه إثم، صوم وصلّي وبس، لماذا تقلق نفسك بهكذا أفكار، فالشيخ عندنا في البلد ديكتاتور.

فصرت أتسائل في نفسي يا إلهي إذا أريد أنْ أستفسر عن ديني وعن بعض الأفكار الصعبة التي تدور في ذهني أواجه بالقمع.. والإرهاب، وأهل البلد مع الشيخ وليسوا معي ولا مع أفكاري، فعشت في حيرة "(1).

وقد تكون مسألة اللامبالات للبحث ناشئة من الكسل وحب الراحة كما يشير إلى ذلك التيجاني السماوي قائلا:

" وقد اكتشفت أيضاً أن الكثير من العلماء يمتلكون الكثير من الكتب مما يزينون به غرفهم وبيوتهم، ولكن قد تفتح الكتاب فتجده مغلقاً من الداخل، ولم تفصل أوراقه بعد.

وقد تسأل أحدهم عن حديث فيستنكره ويُقسم بالله أن لا وجود له، ولكن عندما

____________

1- هشام آل قطيط/ ومن الحوار اكتشفت الحقيقة: 19ـ20.


الصفحة 37
تطلعه على ذلك الحديث في كتابه الذي يحمله أو يقتنيه في بيته، يستغرب، ثمّ يَستنكر، ثمّ يُنكر، ثمّ يتكبّر "(1).

ويشير معتصم سيّد أحمد أيضا إلى هذا المانع قائلاً:

" ومن عوامل الخطأ أيضاً، التسرّع، وهو نتاج حبّ الراحة، فمن غير أن يتعّب الإنسان نفسه في البحث والتنقيب يريد أن يصدر حكمه من أول ملاحظة، ومن هنا قلّ المفكّرون في العالم لصعوبة التفكير والبحث، فمن يريد الحق فلابدّ أن يجهد نفسه في البحث.

وغير ذلك من الملاحظات العلميّة التي لابدّ من أن يضعها الباحث نصب عينيه قبل الشروع في البحث، وهذا مع التجرّد التام والتسليم المطلق إذا ظهر الحق، وبالاضافة إلى طلب العون والتضرّع إلى الله تعالى لكي ينير قلبك بنور الحقّ:

(اللهمّ أرنا الحقّ حقّاً وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابَه) حديث شريف "(2).

وقد يكون سبب عدم التوجّه إلى البحوث العقائديّة وعدم المبادرة إلى معرفة أصول ومباني سائر المذاهب نتيجة أسباب أخرى يشير إليها محمد الكثيري قائلا:

" لن أكون مجانباً للصواب إذا قلت بأنّ مسألة التمذهب والمذهبيّة أو الاختيارات الفقهيّة والأصوليّة، كانت قضايا مُبهمة لدينا ولدى غالبيّة الملتزمين الشباب من جيلنا.

أوّلا: لندرة الكتب التي تعالج هذه القضيّة الشائكة.

ثانيا: لعدم معرفتنا بتفاصيلها و خلفياتها التاريخيّة ونحن في بداية التحصيل العلمي الديني.

زد على ذلك خلو الساحة من أيّ تعدد مذهبي فقهي أو أصولي...

____________

1- محمد التيجاني السماوي/ اعرف الحق: 14.

2- معتصم سيّد أحمد/ الحقيقة الضائعة: 32.


الصفحة 38
لذلك كانت معرفتنا بباقي المذاهب الفقهيّة والأصوليّة الأخرى هزيلة، بل نَكاد لا نعرف شيئاً عن المذاهب الإسلاميّة خارج إطار أهل السنّة والجماعة "(1).

وقد يكون سبب إهمال البحث في الأمور العقائدية وعدم الالتفات إلى الاختلافات المذهبية غير ما ذكر، لأن كل انسان قد يكون له دليل خاص به في هذا المجال.

ويقول أسعد وحيد القاسم حول أسباب عدم توجّهه نحو البحوث العقائدية والخلافات المذهبيّة قبل الاستبصار:

" ولم أكن حتى أفرق بين السني والشيعي، لأنني كنت قد غضضت نظري عن تلك الفروق التي بينهما، والتي لا تجعل بأي حال من الأحوال احدهما مسلماً والآخر كافراً، والتي لم أكن أعلم تفاصيلها، ولم أكن مستعدا حتى للتفكير فيها أو حتى البحث عنها لشعوري بعدم الحاجة إلى مثل هذه البحوث التي تطلب التنبيش في التاريخ، والدخول في متاهات قد لا تصل إلى نتيجة، وكنت مقتنعاً في ذلك الحين [قبل الاستبصار] أنّ التقصي لمعرفة مثل هذه الفروق والاختلافات هو من نوع الفتنة التي ينبغي الابتعاد عنها أو الحديث فيها "(2).

وقد يكون سبب عدم التوجّه إلى البحوث العقائديّة هو الجهود المكثّفة التي تبذلها بعض السلطات الحاكمة لتجهيل أبناء مجتمعاتها بأمور دينهم وإحداث حالة من الضياع الفكري والافلاس العقائدي والانحسار الثقافي فيهم، من أجل غرس روح التبعيّة وتهيئة أرضية السيادة عليهم وتسييرهم بكل سهولة!

3 ـ إنّ البعض قد يواجه عراقيل كثيرة في حياته نتيجة الأجواء التي تحيطه، أو الظروف الاقتصاديّة الصعبة التي يمرّ بها، فيمنعه ذلك من تنمية وعيه وارتقاء مستواه

____________

1- محمد الكثيري/ السلفيّة: 11ـ12.

2- أسعد وحيد القاسم/ حقيقة الشيعة الاثنى عشريّة: 10.


الصفحة 39
الفكري واثراء رصيده المعرفي وتوسيع نطاق ثقافته، فلا تتهيّأ لديه الارضيّة المناسبة للبحث العلمي والتعمّق في ظواهره وخوافيه.

وعلاج ذلك هو أن يسعى هكذا إنسان بكلّ وسعه أن يهاجر إلى البلدان التي تتوفّر فيها الأجواء المناسبة لتنمية وعيه ولهذا قال تعالى:

( إنّ الّذينَ تَوفَاهُم الملائِكةُ ظالِمِي أنفُسِهِم قالُوا فيمَ كنتُم قالُوا كُنَّا مُستَضعَفينَ في الأرضِ قالُوا ألَم تَكُن أرضُ اللهِ واسِعةً فتُهاجِروا فِيهَا فأولئِكَ مَأواهُم جَهنّمُ وسَآءَتْ مَصيرا * إلاّ المُستَضعَفينَ مِنَ الرّجالِ والنِّسَاء والوِلْدانِ لا يَسْتَطيعُونَ حِيلةً ولا يَهتَدُونَ سَبيلاً * فأولئك عَسَى اللهُ أنْ يَعفُوا عَنهُم وَكانَ اللهُ عفُوّاً غَفوراً)(1).

4 ـ التلبّس بالعقليّة المنغلقة التي لا تحب البحث، لأنّها تخشى أن يسلب البحث منها المعتقدات التي ألفتها مدّة طويلة من الزمن.

فهؤلاء يحبذون الجمود والعكوف على الأفكار البالية، ويرجّحون البقاء على الكسل الذهني، لئلا يحلّقوا في الأجواء التي لم يألفوها من قبل.

ويمكننا أن نقول بأن الشخص الذي يوفّق للاستبصار هو الذي يتخطّى جميع هذه العقبات ويصمد إزاء كافّة التيّارات المضادّة بقوّة وعزم، ويقتحم كافّة الموانع التي يجدها أمامه ويخوض معترك البحث، بغية أن يصل إلى العقيدة التي تأخذ بيده إلى أعلى مراتب الكمال.

ولكن مع ذلك لا يمكننا انكار المصاعب التي يواجهها هكذا شخص خلال رحلته المضنية في مجال الوصول إلى العقيدة الصحيحة التي يمكن الاطمئنان اليها والوثوق في صحّتها وصدقها، لأن الحقيقة عزيزة المنال وطريق البحث اليها شائك واجتيازه مجهد، والموقف محرج والحق مُرّ ثقيل، وتحوّل الإنسان من فكرة منتمي اليها ومؤمن بصحّتها إلى غيرها يحتاج إلى تحمّل الكثير من الجهد والعناء.

____________

1- النّساء: 97 ـ 99.


الصفحة 40
ولهذا يقول التيجاني السماوي للذين يودّون توسيع دائرة معارفهم:

" وعلى الذين يريدون التوسع أن يتكبّدوا عناء البحث والتنقيب والمقارنة كما فعلت، لتكون هدايتهم بعرق الجبين وعصارة الفكر كما يطلبه الله من كل واحد وما يتطلّبه الوجدان لقناعة راسخة لا تزحزحها الرّياح والعواصف.

ومن المعلوم بالضرورة أن الهداية التي تكون عن قناعة نفسيّة أفضل بكثير من التي تكون بمؤثرات خارجيّة "(1).

ويصف إدريس الحسيني التجربة التي خاضها خلال البحث قائلاً:

" لقد قمت بكلّ ما يمكن أن يفعله باحث عن الحقيقة، ومصر على المضي في دربها الوعر.

لكن، المهمّ، أنّني وصلت إلى البداية حتى لا أقول النّهاية "(2).

ثم يصف ما لاقاه من معاناة خلال البحث قائلاً:

" لقد قضيت فترة في البحث قاسية.. يا الله.. كم كان الأمر صعبا.. إنّني كنت أشعر بالانسلاخ.. إنّه أشبه ما يكون بالمخاض!! "(3).

وفي الحقيقة تكمن صعوبة البحث على الحق في المجال العقائدي، في أنّ الحقيقة لا تتم معرفتها بمجرّد معرفة نصوصها الجزئيّة، أو من خلال العثور على النصوص المتفرّقة والمتناثرة والمفصولة بعضها عن بعض، بل ينبغي ارجاع الفروع إلى الأصول والجزئيّات إلى الكلّيات والمتشابهات إلى المحكمات والظنّيات إلى القطعيّات، ليمكن الوصول اليها جميعاً على نسيج واحد يشكّل هيكليّة مترابطة تكشف الواقع والحق.

كما أنّ الكثير من الحقائق مثقلة بركام من الخلط والخبط، وليس من السهولة

____________

1- محمد التيجاني السماوي/ ثم اهتديت: 99.

2- مجلّة المنبر/ العدد: 3.

3- المصدر السابق.


الصفحة 41
الحصول عليها من بين هذا الركام.

ولهذا يقول التيجاني السماوي:

" فعلى الباحث أن يرجع إلى المصادر الموثوقة، وأن يتجرّد للحقيقة فيمحّص الروايات والأحداث التاريخيّة ليكشف من خلالها الحقائق المكسوّة بثياب الباطل فيجرّدها وينظر اليها في ثوبها الأصلي "(1).

ويقول صالح الورداني أيضاً حول تجربته في البحث:

" كان البحث عن حقيقة الإسلام وسط ركام من الاقوال والفتاوى والأحاديث وأحداث التاريخ أمراً شاقّا وعسيرا.

فمنذ أن توفّى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وحتى اليوم علقت بالاسلام الكثير والكثير من الشوائب التي غطّت على معالمه وموّهت على حقيقته وقضت على ملامحه حتى أنّه تحوّل إلى إسلام آخر غير ذلك الإسلام الذي ورّثه الرّسول (صلى الله عليه وآله)للأمّة.

وبدأ وكأنّ الأمر يحتاج إلى رسول جديد لبعث الإسلام مرّة أخرى.

هذا ما توصّلت إليه من خلال بحثي وقراءاتي وتجاربي الطويلة في دائرة الواقع الإسلامي بمصر والتي استمرّت أكثر من عشرين عاماً "(2).

وتكمن أيضاً صعوبة البحث في أنّه يتطلّب من الباحث أن يكون في موقف الحيطة والحذر من كلّ ما ألفه واعتاده في المجال العقائدي، لئلا ينجرف خلال البحث وراء خلفيته الموروثة، ليحترز من تأثير هذه الخلفيّة على تفكيره وبحثه، فهو على الدوام خلال البحث في صراع مع عواطفه وتصوّراته السابقة وموروثاته التي ألفها من قبل.

____________

1- محمد التيجاني السماوي/ فاسئلوا أهل الذِكر: 257.

2- صالح الورداني/ الخدعة: 4.


الصفحة 42

ثمار يقتطفها المستبصرون من بحوثهم العقائديّة:

يتقبّل الشخص الذى يوفّق للاستبصار كل المصاعب التي يواجهها خلال بحثه برحابة صدر، وتهون عنده كل المشقات التي ينبغي تحملها في هذا السبيل، لأن الثمار التي يقتطفها هكذا الشخص في هذا المجال ثمينة، وتستحق تحمّل جميع أنواع العناء من أجل الحصول عليها.

ومن هذه الثمار يمكننا ذكر الأمور التالية:

1 - العثور على الضالة المنشودة والحقيقة التي طالما كان الباحث يبحث عنها ويسعى لاكتشافها، فانّه لا شكّ سوف يحصد ثمرة جهوده، فيجد آية تهديه وترشده إلى طريق الخلاص من حيرته، ثم تشرق له الحقيقة بكل جلائها، فيستيقظ قلبُه وعقلُه ويشرق وجهه بنور الإيمان.

2 ـ نبذ التخبّط في المعرفة، والاستزادة علماً وفهماً والتعرّف على الكثير من الحقائق الساطعة والالتفات إلى الكثير من المعارف التي ترشد الباحث إلى المعرفة اليقينيّة.

3 ـ معالجة الاشكالات العالقة بالذهن، ورفع الغيوم المتلبّدة فيه نتيجة تراكم الشبهات والحصول على الاجابات المقنعة والشافية للاسئلة التي كانت تدور في الذهن.

4 ـ الاطلال من خلال نوافذ البحث على آفاق جديدة من آفاق المعرفة، والانفتاح على عالم ملؤه المعارف السّامية والرؤى الرفيعة، ومن ثم الحصول على معارف واضحة المعالم، يتمكّن بها الباحث أن يقيّم مفردات أفكاره ومعتقداته، فيفرز الصالح منها عن السقيم، ويميّز الأفكار الصحيحة عن الأفكار الخاطئة، ومن ثم يتأكّد من سلامة الاتّجاه العقائدي الذي هو عليه.

وهذه هي الثمار التي يحصل عليهاالباحثون الذين يوفقون للاستبصار، حيث أنهم بعد استفراغ وسعهم في البحث والتنقيب يصلون إلى قناعة تامّة بأن الكثير من


الصفحة 43
المعتقدات التي كانوا ينتمون اليها لا واقع لها، أو أنّها طُرحت أكبر من حجمها ومُنحت مكانة أعظم ممّا تستحق، أو لم تعط الموقع المناسب لها ولم تمنح القدر اللائق بشأنها.

ومن هنا يلمّ هؤلاء بأن الأهواء والنزعات والسلطات الجائرة كانت هي العامل الأقوى وراء شيوع هذه القضايا وجعلها في حقل الثوابت والمسلّمات.

والحقيقة الأخرى التي يجدر الاشارة إليها في هذا المقام هي أن الكثير من الباحثين يصلون من خلال البحث إلى قدرة التميّز بين الحقّ والباطل، ولكن لما يأتي الحق على غير إتّجاه هوى الباحث، فإنّ الكثير تضعف نفسه عن اتباع الحق، فيختاروا الاقامة على ما هم عليه.

ولكن الباحث الذي يوفّق للاستبصار هو الذي يتجرّد عن هواه، فيشرح الله سبحانه وتعالي صدره للحق وهو على نور من ربّه.

وتخطّي هذه المرحلة يتطلّب الجرأة والشجاعة والاقدام والتضحية ولا يقدر على ذلك إلاّ من شملته العناية الربّانيّة.

فلهذا يقول صائب عبد الحميد حول التصحيح الذي يقوم به المستبصر بعد الاقتناع بخطأ معتقداته:

" إنّ التصحيح ثورة حقيقية، ولا يجرؤ على تقحّم نيران الثورة إلاّ الثوريّون.

فالثّوريون هم الذين امتلأوا استعداداً لتقديم الغالي والنفيس على الطريق الثورة، ولا يشغلهم عن أهدافهم ما سيفقدونه من راحة ونعيم وأموال وبنين وأهلين..

وكذلك من أدرك أن التصحيح ثورة، ومضى على طريقه، فسوف لا يوقف مسيرته مايراه من تساقط الكثير من المعلومات والمفاهيم التي كان قد ورثها وقرأها وترسّخت في ذهنه وأصبحت جزءاً من عواطفه وربّما أصبحت جزءاً من وجوده الاجتماعي أيضاً، لايهمّه أن يرى ذلك كلّه يتساقط على طريق التحقيق العلمي الدقيق.



الصفحة 44

إنّ التصحيح بهذا المعنى سيمرّ من خلال ثورتين:

ـ ثورة على التراث، تُثير كوامنه وتكشف حقائقه..

ـ تسبقها ثورة على اواصر عوجاء أو معكوسة شدّتنا إلى هذا التراث شدّاً مغلوطاً حال حتى دون الإذن بمناقشته "(1).

يقول إدريس الحسيني حول الثمار التي اقتطفها من بحوثه العقائديّة:

" لقد انجلت تلك الصورة التي ورثتها عن (الشيعة) وحل محلها المفهوم الموضوعي الذي يتأسّس على العمق العلمي المتوفر في الكتابات التاريخيّة.

والذين لم يتحرّروا من أصدقائي من هذه النظرة، هم اولئك الذين اكتفوا بالموروث، وسحقاً للموروث!

بل وانهم اليوم لهاربون من السؤال، ويتجاهلون الموضوع حتى لا يتحمّلوا مسؤوليّة البحث ونتائجه. "(2) وأيضاً من ثمار البحث العقائدي للمستبصرين أنّهم في الأعم الأغلب كانوا يظنون أن الشيعة فرقة ضالة ولا يوجد داعي لأن يتعب الإنسان نفسه بقراءة كتبهم، لأن ذلك لا جدوى ولا ثمرة فيه سوى تضييع الوقت، ولكنّهم بعد البحث عرفوا أنّ مذهب أهل البيت (عليهم السلام) يمتلك من أجل إثبات معتقداته أدلّة قاطعة وبراهين ساطعة وقوّة بيان ومتانة استدلال.

ولهذا يقول محمد مرعي الانطاكي حول ما آل به البحث الذي قام به مع أخيه حين التوجه إلى دراسة مذهب أهل البيت (عليهم السلام):

" كنت أنا وأخي نتذاكر في خصوص المذهب الجعفري، فتارة يجعل نفسه من علماء الشيعة وأنا أكون من علماء السنّة، ونباشر بالمناظرة.

____________

1- صائب عبد الحميد/ حوار في العمق من أجل التقريب الحقيقي: 21.

2- إدريس الحسيني/ لقد شيّعني الحسين: 26.


الصفحة 45
فألقي عليه مسائل فيجيبني عنها من الكتاب والسنّة، بحيث أرى نفسي مغلوباً معه، وأرى أن الحق مع الشيعة.

وأخرى أجعل نفسي شيعيّاً وهو سنّي، فنتذاكر في مسائل أيضاً، فيضحك فيرى نفسه مغلوباً، ويقول: الحقّ الصحيح مع الشيعة.

وهكذا مراراً تتكرّر المذاكرة بيننا بهذا الترتيب، ونجد أن الحق مع الشيعة لأن الحقّ يعلو ولا يُعلى عليه.

فهكذا رأينا الحق ثابت بجانب أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى غير ذلك من الأدلة التي تأخذ بعنق المؤمن فتمنعه عن وجهته.

وقد عرفت... بأن الأدلة القاطعة، والبراهين الساطعة من كلا الطرفين طافحة في كتب الفريقين بأحقّية الأخذ بالمذهب الجعفري، إذ أنّه سلسلة ذهبيّة متراصّة حلقاتها بعضها ببعض لا تنفصم...

فاعتنقناه بكلّ فرح وسرور، إذ لا مناص لنا من الأخذ به طلباً للنجاة، وفوزاً إلى الرشاد "(1).

والجدير بالذكر أن المستبصرين لم يقصدوا في بداية توجّههم إلى البحث أن يتخلّوا عن مذهبهم الموروث أو يلتجئوا إلى مذهب آخر، بل معظم المستبصرين الذي التقيت بهم أو قرأت كتبهم يصرحون بأنّهم حين التوجّه إلى البحث لم يكن في بالهم أنّهم سوف يعتنقون مذهب التشيّع قط، وإنّما ساقتهم جملة من الدوافع إلى البحث، ثمّ أملى عليهم البحث جملة من الأدلّة التي دفعتهم إلى اعتناق مذهب أهل البيت (عليهم السلام).

وهذا ما يصرّح به العديد من المستبصرين منهم:

يقول محمد علي المتوكّل: في كتابه (ودخلنا التشيّع سجّداً):

____________

1- محمد مرعي الانطاكي/ لماذا اخترت مذهب الشيعة: 56ـ58.


الصفحة 46
" وهنا لابدّ أن أؤكّد أنّي وحتى ذلك الوقت لم أكن أسعى لاعتناق مذهب جديد أو للتخلي عن ثوابت المذاهب السنيّة في العقائد والفقه والتاريخ، وكل الذي أردته هو التخلّص من الشبهات التي طرأت لي بعد أن أثار الإخوة أمر الخلافات التي كانت بين الصحابة بعيد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله)، ومن جهة أخرى الحصول على المزيد من المعلومات والحقائق حول أهل البيت (عليهم السلام) "(1).

ويقول أسعد وحيد القاسم في هذا المجال:

" إنني حينما بدأت بحثي حول هذه المسألة الحساسة (حقيقة الشيعة)، فإنّ أقصى أهدافي كانت بأن أتحقق من أن الشيعة مسلمون أم لا، ولم يكن عندي أيّ شك بأن الطريقة التي عليها أهل السنّة والجماعة هي الطريقة الصحيحة.

ولكنّه وبعد الاطلاع والتقصي والتفكير مليا في هذا الأمر، فان النتيجة التي توصلت اليها كانت مفارقة مدهشة، ولكنني لم أتردد لحظة واحدة من قبول الحقيقة التي وجدتها، ولماذا لا اقبلها مادام هناك ما يساندها من حجج وبراهين ممّا يعتبر حجة عند أهل السنّة "(2).

دراسة المستبصرين لكتب التاريخ:

إنّ تاريخ كل أمّة له أثر حاسم في صياغة شخصيّة تلك الأمة وتشييد كيانها ودعم وجودها، لأنه يحمل لها تراثا ضخما تعيش على معينه، وتستفيد منه كلبنة قوية وصلبة لبناء نفسها والاعداد لمستقبلها.

وهذا ما يحفّز كل الأمم ولا سيّما الأمة الإسلاميّة على دراسة تاريخها والاهتمام به بجميع الأشكال الممكنة.

____________

1- محمد علي المتوكّل/ ودخلنا التشيّع سجّداً: 40.

2- أسعد وحيد القاسم/ حقيقة الشيعة الاثني عشر: 15.


الصفحة 47
ولهذا يقول معتصم سيّد أحمد حول دور التاريخ في استنهاض الأمم:

" ان الأمم التي تتقدّم هي الأمم التي تستفيد من عبر التاريخ، وتستخلص قمة التجارب في حاضرها، بعد أن تعي سنن التاريخ وقوانينه التي تقود الأمة نحو التحضّر، بالاضافة إلى معرفة أسباب انحلال الأمم وتراجعها، فلم يخصّ الله قوماً بقانون دون قوم، بل هي سنّة واحدة لا تتغيّر.

قال تعالى: ( فَلَن تجِدَ لسُنّة اللهِ تَبديلاً ولَن تجِدَ لسُنّة الله تَحويلاً)(1).

فالحياة قائمة على حقيقة واحدة وهي الصراع الدؤوب بين الحق والباطل وكل الأحداث التي تجري في تاريخ الانسانيّة لاتخرج عن كونها واجهة من واجهات الصراع بين الحقّ والباطل.

فيمكننا بهذه البصيرة أن نغوص في التاريخ ونجعله حيويّاً يتفاعل وحياتنا اليوميّة.

ويمكننا ادراك أعمق ما يمكن ادراكه في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ أمتنا الإسلاميّة التي تعيش أعنف التقسيمات المذهبيّة.

ومن أجل ذلك لابد أن نتجاوز انفعالاتنا النفسيّة وانشداداتنا العاطفيّة ونحكّم قواعدنا وبصائرنا القرآنيّة، حتى نتمكّن من القدرة الموضوعيّة على التحليل والنظر من سطح الأحداث إلى جوهرها، فنصل إلى رؤية واضحة و واقعيّة بدلاً عن الرؤية الخاطئة والمشوّهة "(2).

ويقول إدريس الحسيني في هذا المجال حول أهميّة دراسة تاريخنا الإسلامي:

" ليس ثمة شيء في ديننا، إلاّ وله علاقة بالتاريخ، وما نملكه اليوم من عقائد وأحكام وثقافات إسلامية، كلها جائتنا عن طريق الرواية، فحري بنا، أن يكون التاريخ عندنا، هو أحد المصادر العلمية المهمة "(3).

____________

1- فاطر: 43.

2- معتصم سيّد أحمد/ الحقيقة الضائعة: 171.

3- إدريس الحسيني/ لقد شيّعني الحسين: 19.


الصفحة 48
ويقول ياسين المعيوف البدراني في هذا المجال:

" نحن جميعا وكل مسلم بحاجة إلى دراسة التاريخ دراسة علمية وإلى دراسة المذاهب الفقهية السياسية دراسة عميقة لكي نستطيع أن نتبيّن مواطن الخطأ ونقول يا فلان أنت مخطىء ولكي نتبيّن أيضاً مواطن الحق ونقول يافلان أنت محق وذلك بعد البحث العلمي والتمحيص "(1).

ويوضح عبد المنعم حسن هذه الأهميّة بصورة مفصّلة، شارحاً ابعادها المختلفة بقوله:

" تفصل بيننا وبين النبي (صلى الله عليه وآله) حقبة زمنيّة طويلة نحتاج فيها للتاريخ شئنا أم أبينا، فهو ضروري لفهم شريعة السماء، وكل ما نتعبّد به وصل إلينا عبر التاريخ، القرآن والسنّة والحديث والسيرة والفقه وغيرها.

فكيف يتسنى لنا طي هذه المسافة الزمنيّة التي تجاوزت الأربعة عشر قرناً إذا لم نبحث التاريخ...

بلا شكّ أنّ العقلاء لا يُقرّون إهمال التاريخ وطيّه وإغفال العبر والدروس التي يمكن استخلاصها منه.

ونحن أمة تهيّىء نفسها للانطلاق فلا بد لنا من النظر إلى التاريخ بعقل مستبصر ببصائر الوحي.. لا نقبله بعلاته على أساس أنه مقدس فنقدّسه بأجمعه تقديسا أعمى ولا نرفضه كلّياً، لأن تقديس التاريخ يقودنا إلى تكريس سلبيات السابقين، لأننا نقدّسهم فنتأسّى بهم كما فعلت السلفيّة، وهي نظرية، لكنها في الواقع تصبح منهجا للعمل ينعكس على سلوكنا "(2).

ويضيف عبد المنعم حسن:

" إنّ التقديس الأعمى للتاريخ يجعلنا لانُفرّق بين الظّالم والمظلوم، بين القاتل

____________

1- ياسين المعيوف البدراني/ يا ليت قومي يعلمون: 167.

2- عبد المنعم حسن/ بنور فاطمة اهتديت: 28ـ29.


الصفحة 49
والمقتول، ولا بين الطاغية والمجاهد، وبما أننا عرضة للخطأ ونحن نسعى لحمل أمانة السماء يجب علينا أن نتلافى المزالق التي وقع فيها السالفون، ولا يمكن لنا أن نتلافاها إلاّ بتشخيصها وهذا يتطلّب وضعها تحت مجهر البحث والتنقيب.

كما لا يمكننا الغاء كل التاريخ أو الانتقاء منه بأهوائنا وشهواتنا ورغباتنا، لأنّنا بالغائه نُلغي سنن القرآن والسنّة بل كلّ الإسلام.

إذن عزيزي القارىء يجب علينا أن نتبصّر أحداث التاريخ ونقف على المنعطفات التي مرت عليها الأمّة وأن نحدّد من يصلح لنا قدوة من غيره حتى نستفيد لحاضرنا فنتقدّم لمستقبل مُشرق... فلهذا لا استغناء عن التاريخ الذي له المدخليّة الأولى في فهم الانحراف الذي حدث في الأمّة فتنكبت الطريق وبعدت عن الصّواب "(1).

ويقول سعيد أيوب حول ضرورة التنقيب في أوراق الماضي من أجل معرفة الحاضر:

" إنّ للتاريخ حركة، ولمعرفة الحاضر معرفة حقيقة يجب التنقيب في أوراق الماضي، ثم ترتب المعلومات على إمتداد الرحلة لاستنتاج المجهولات.

والذي فطرت العقول عليه هو أن تستعمل مقدمات حقيقيّة يقينيّة لاستنتاج المعلومات التصديقيّة الواقعيّة، فالحاضر لا يمكنه الوقوف على حقيقة إلاّ بالرجوع القهقري، وبتحليل الحوادث التاريخيّة للحصول على أصول القضايا وأعراقها.

فعند الأصول، تُرى النتيجة على مرآة المقدّمة، ولأن حركة التاريخ على صفحتها الصالح والطالح ويصنع أحداثها المحسن والمسيىء، فلابد من تحديد الدوائر والخطوط بدقّة ليظهر أصحاب كل طريق، وظهور هؤلاء على صفحة الحاضر لا يتحقق إلاّ بعرض حركتهم في أحداث الماضي على قاعدة العلم "(2).

____________

1- المصدر السابق: 29.

2- سعيد أيوب/ ابتلاءات الأمم: 7.


الصفحة 50

عقبات في طريق دراسة التاريخ:

من المؤسف أن أكثر ما كُتب حول التاريخ الإسلامي نالته يد التحريف وتحكمت فيه النظرة الضيّقة، وهيمن عليه التعصّب والهوى المذهبي، وهبّت عليه رياحُ الأهواء والعصبيّات، وعبثت به أيدي الانتهازيين نتيجة سيرهم في اتّجاه التزلّف للحكام.

وإنّ الكثير من تاريخنا لعبت به أيدي السلطات الحاكمة والنزوات العِرقيّة والمذهبية والقوميّة، فابتزّت منه رواءه وصفاءه وألبسته ثوبا من التحريف والتزييف والخلط والتشويه.

وبعبارة أخرى إنّ اكثر ما عندنا هو تاريخ لا يمنحنا صورة كاملة وشاملة عن كل ما سلف من أحداث، ولا يعكس الواقع بأمانة، لأننا نجد الكثير من المؤرّخين طمسوا الحقائق من أجل أن يكون التاريخ موافقاً مع هوى الحكّام والسلاطين ومنسجماً مع ميولهم وخادما لمصالحهم، أو متماشيا مع ما يعتقده المؤرّخ نفسه، ويميل إليه، وإن كان ذلك مخالفاً للواقع.

ويشير سعيد أيّوب إلى هذه الحقيقة قائلاً:

" ولما كانت الانسانية على امتداد المسيرة البشريّة لم تقف عند حال واحد، واختلفت وتفرّقت بعد أن جاءهم العلم بغيا بينهم، فان علوماً كثيرة قد ضاعت أو أهملت على امتداد طريق الاختلاف والافتراق، ومن ذلك علم التاريخ، فهو على شرافته وكثرة منافعه، عمل فيه عاملان للفساد يوجبان انحرافه عن صحة الطبع وصدق البيان، إلى الباطل والكذب.

أحدهما أن كل عصر به حكومة تحكمه، بيدها القوة والقدرة، تميل إلى إظهار ما ينفعها، وتغمض عما يضرها ويفسد الأمر عليها.

وهذ الأمر لم يزل ولا يزال يعمل داخل المسيرة البشريّة، فكل عصر كانت الحكومات تهتمّ بإفشاء ماتنتفع به من الحقائق، وستر ماتستضر به، أو تلبسها بلباس تنتفع به، أو تصوير الباطل والكذب بصورة الحقّ والصدق.


الصفحة 51
وثانيهما أن ما تراه الحكومة حقّا، يسلّم به المتحمّلين للأخبار والناقلين لها والمؤلّفين فيها إلاّ من رحم الله.

وعلى ضوء الرؤية الحكوميّة وعلى ضوء نحلتها وإحساسها المذهبي، يتحرك أهل الأخبار فلا يأخذون شيئاً يخالف ماضبطه لهم القائمين عليهم "(1).

ويشير إدريس الحسيني أيضاً إلى هذه الحقيقة، قائلاً:

" إنّ تراثنا تشكّل من خلال لعبة تاريخيّة وقفت من ورائها سلطة الخلفاء التي كانت تنهج نهجاً تحريفيّا في كل المؤسّسات الإجتماعيّة والثقافيّة من أجل خلق واقع منسجم تتطابق فيه البنى السياسيّة بالاجتماعيّة والثقافيّة.

ولأن القطاع الثقافي والتعليمي يشكل ركيزة المجتمع الحضاري وأساسا للدولة العقائديّة، فإنّ المؤسّسة السلطانيّة لعبت دوراً كبيراً في إعادة ترتيب محتوياتها الداخليّة من أجل سلب العناصر النقيضة لتلك المؤسّسة.

وتفريغ كل ذلك المحتوى... من شأنه أن يكون قنبلة موقوتة تهدد بقاء تلك المؤسّسة.

وليس عجيبا أن يذكر التاريخ أمثلة كثيرة على ذلك، تعكس حرص المؤسسة السلطانيّة على التصرف في الجهاز المعرفي والثقافي للامة، ونزوع حالة من الشموليّة تجعل الفكر محكوما برقابة شديدة وتحت رحمة الرغبة الخلفائيّة "(2).

ويقول صائب عبد الحميد حول هذه الحقيقة مع تبيينها بصورة مفصّلة:

" لقد ابتدأ النزاع في هذه الأمة سياسيّا، ومضى إلى وقت ليس بالقصير نزاعا سياسيّا، ثم كان من شأن السياسة أن تقود هذا النزاع إلى ميادين الفكر والاجتماع الأخرى.

____________

1- سعيد أيّوب/ الرساليّون: 8ـ9.

2- إدريس الحسيني/ الخلافة المغتصبة: 113.


الصفحة 52
حتى تَوالت على الأمّة عهود تتابع فيها حاكمون يتبنّون اتّجاهاً واحداً يتعصّبون له ويوفّرون له الحماية وأسباب الانتشار ويواجهون بالعنف كلّ اتّجاه آخر.

ثمّ وجدوا في كلّ عصر رجالاً ممّن عُرف بالفقه، تقرّبوا إليهم واجتهدوا في توطيد سلطانهم، فتعاظم الشرخُ بين فصائل الأمة، وترسّخت الحواجز التي أصبحت هنا حواجز دينيّة بين فئة تعيش في ظل السلطان ثم تمنحه الشرعيّة في سياساته ومقاصده، وفئات أخرى يطارد رجالها ويؤذى كبراؤها، وربما يقتلون ويحجر على أفكارهم وتعاليمهم وكتبهم "(1).

ويضيف صائب عبد الحميد:

" تلك الأجواء كانت السبب المباشر في ظهور الأخبار المكذوبة والأحاديث الموضوعة والعقائد الدخيلة، التي تسلّحت كلّ فرقة بطائفة منها، ورمت خصومها بطائفة أخرى، ساعدت على ذلك قمع السلطات للعلماء المخلصين والمجاهدين والمصلحين، وابتعاد بعضهم عن المواجهة.

فهل ذهبت تلك النزاعات ودرست مع الزمن، وأختفت آثارها؟!

يغالط نفسه ويخادعها من يزعم ذلك...

إنّ الحقيقة التي ينبغي أن لا تغيب عن أحد أنّ تُراثنا الموجود بين أيدينا إنّما جمع وصنّف في تلك الأحقاب، لا غير..

فكل تراثنا الذي نقرأه: في الحديث، في التّفسير، في الفقه، في الأصول، في العقائد، في التّاريخ كلّه تراث تلك العهود; عهود النّزاع السياسي والمذهبي.

إذن لاشك أن يأتي تراثنا محمّلا بتلك الآثار الخطيرة، وهذه هي الحقيقة التي طغت على تراثنا الإسلامي.

هذه الحقيقة هي أوّل ما ينبغي أن نقف عنده، لاعلى طريق التقريب بين المذاهب

____________

1- صائب عبد الحميد/ حوار في العمق من أجل التقريب الحقيقي: 18.


الصفحة 53
فقط، بل على طريق المطالعة الحرّة أيضاً، وعلى طريق الدرس والتلقي، أو التحقيق أو التصحيح "(1).

ولهذا عانى المستبصرون كثيرا خلال بحوثهم في كتب التاريخ من النسيج الغليظ الذي نسجه التاريخ المحرّف حول الكثير من الحقائق، ومن الهالة المصطنعة والمزيّفة التي أضفاها على الكثير من الرجال والمفاهيم.

ولهذا أشار أغلب المستبصرين إلى هذا الأمر في كتبهم التي ألّفوها بعد الاستبصار، منهم:

يقول سعيد أيوب:

" لاشكّ في أنّ ما يختزنه الماضي من أحداث جرت على امتداد المسيرة البشريّة، قد تعرض لأمور وضعت الباحث عن الحقيقة في دائرة مضنية شاقّة.

وفي جميع الأحوال كان الباحث يصل إلى نقاط بحثه بمراكب العسر لا اليسر.

وكانت الحقائق تظهر إمّا مختصرة ويقام بها حجة، وإمّا بها التباس لا ينسجم مع الفطرة ويتطلب بحثها جهداً جديداً، وإمّا مشوّهة يراد بها فتنة.

ويعود ذلك لعدم الأمانة في النقل أو لسوء الحفظ او لعدم الدقة في النسخ وتخزين المادّة "(2).

ويشير محمد علي المتوكّل إلى هذه الحقيقة، فيقول:

" إنّ القرون الأربعة عشر التي تلت رحيل النبي (صلى الله عليه وآله) كانت حافلة بالفتن والمؤامرات التي استهدفت الإسلام فكراً ونظاماً، وانّ التفسير والحديث والتاريخ، كل ذلك كان خاضعاً لأهواء السلاطين الذين انتحلوا الامامة وإمرة المؤمنين تجاوزاً وعدواناً، ووجدوا من العلماء من يعمل لخدمة مصالحهم بالتزييف والتحريف فلم

____________

1- المصدر السابق.

2- سعيد أيّوب/ زوجات النبي: 5ـ6.


الصفحة 54
يسلم من التراث شيء، وعبر هذه القرون الطويلة، وصل الدين الينا بالغث والسمين، فاقداً لأصالته ونقائه، يغلب الطابع الأموي فيه على النبويّ، ومع ذلك، تجدنا نُقبل عليه بكلّ اطمئنان، ونتلقاه دون أن نتساءل عن حقيقته أو نتثبّت من سلامته.

للتأكّد ممّا نقول يكفي أن تُراجع بعض الموسوعات الحديثة المعروفة بالصحاح أو مصنفات السلف في التفسير والتاريخ، لتجد نفسك في لجة من التناقضات والأكاذيب والخرافات التي لا تشبه الدين في شيء، على أن لا يكون رجوعك اليها من خلال خلفياتك النفسيّة التي تقدس السلف وتتعبد بتقليده والتسليم لتركته وليَكُن مرجعك القرآن والعقل وأنت تتصفح كتب التراث "(1).

ويقول ياسين المعيوف البدراني حول ما كان يتمنّاه من التّاريخ وما وجد فيه:

" ما أشبه التاريخ بمرآة صافية تأخذ الصور ثمّ تحفظها للأجيال من كلّ الأمم وهذه الصور هي مسجّلة كما هي عليه في الحقيقة إذا كانت اليد التي قامت بالتصوير نزيهة وشريفة.

ولكن من المؤسف أنّ المصالح السياسيّة والأهواء الشخصيّة تلعب دوراً هامّاً في تشويه تلك الصور وتسلبه حرّيته في أداء الأمانة، محاولة السيطرة على نظام التاريخ ومنعه من أن يوصل الحقيقة للأجيال "(2).

مظلوميّة مذهب أهل البيت (عليهم السلام):

إنّ مذهب أهل البيت (عليهم السلام) هو المذهب الذي تركزت جهود هائلة من قبل الحكّام والسّلاطين، ولا سيّما بني أميّة وبني العبّاس لظلمه واضطهاده وسنّ الحرب الدعائيّة والدمويّة ضدّه لاخفاء كل ما يبرز أحقّيته ومنهجه في فهم الإسلام و دوره في حفظ

____________

1- محمد علي المتوكّل/ ودخلنا التشيّع سجّداً: 8ـ9.

2- ياسين المعيوف البدراني/ ياليت قومي يعلمون: 169.


الصفحة 55
الشّريعة والعقيدة.

ويشير صالح الورداني إلى هذه الحقيقة قائلاً:

" لقد محت السياسة كل شيء يتعلّق بآل البيت من تراثهم ولم تبقي إلاّ على القشور وما يخدم مآرب وتوجّهات ومصالح الحكام.

فمنذ أن برز معاوية وساد الخط الأموي وبدأت الأمّة تسير في خط آخر مُعاد لأهل البيت بدأ بسبِّ الإمام علي على المنابر وانتهى بذبح وتصفية أبنائه وأشياعهم ومحو تراثهم وعلومهم "(1).

ومن أبرز الأسباب التي ادّت إلى تعرّض مذهب أهل البيت (عليهم السلام) واتباعه للظلم والاضطهادمن قبل السلطات الحاكمة هي المبادىء التي يحملها هذا المذهب من قبيل عدم الاقرار بولاية الحاكم الذي لا يستمد مشروعيّة حكمه من الباري عزّوجلّ، والاعتقاد بأن الإنسان حرّ مختار وهو المسؤول عن اختياره وإرادته، والتي كانت تحفّز الناس على نبذ الجبريّة وعدم الخنوع للسلطات الجائرة.

ويذكر مصطفى خميس في هذا المجال قائلاً:

" كلّ هذا التشويش والافتراء، وكل هذه الأكاذيب التاريخيّة، أدّى إلى الافتراء على التيّار المناهض للسلطة الجائرة الحاكمة التي كُتب التّاريخُ بأقلامها، وأقلام المتكسّبين، والمتسكعين على موائدها، وأدّى إلى اختراع حكايات وأحداث تاريخيّة وشخصيّات خرافيّة، استطاعت بواسطتها أن تسيء إلى تلك الفئة الثائرة عليها والمناهضة لسلطانها. و خاصة أتباع مدرسة أهل البيت النبوي الشريفة الذين... لم يجيزوا لهؤلاء الحاكم الطغاة الظلمة أيّ سلطان على المسلمين، وجرّدوهم من حقّ الولاية العامة، و رفضوا طاعتهم ونصرتهم مكتفين بطاعة و ولاية أئمّة الهدى من أهل البيت (عليهم السلام) الذين أمر الله عزّوجل بطاعتهم...

____________

1- صالح الورداني/ الخدعة: 33.


الصفحة 56
فأدّى ذلك إلى ابتعادهم عن ولاة السوء وحكّام الضلال ونبذهم، كما قادهم ذلك أيضاً إلى استنكار أعمال الحاكمين والولاة الظّلمة الفاسقين والتمرّد عليهم، فأدّى ذلك كلّه إلى نفور الحكّام والسلاطين منهم عبر العصور، والسعي الدائب إلى البطش بهم وتنفير النّاس منهم، واختراع الأكاذيب التي تساعد على ابتعاد الناس عنهم، فأتهموهم بما ليس فيهم، وسعوا إلى إغراء الناس بهم، وتنفير العامّة منهم "(1).

ثم يضيف هذا المستبصر قائلا:

" لقد تحمّل شيعة أهل البيت الكثير الكثير من العَنَت والجور، سواءً من الحكام الظالمين، أو من السماسرة المأجورين والدسّاسين المفترين، أعداء الإسلام، الّذين باعوا دينهم بدنياهم لقاء أجر زهيد، شحنوا القلوب وأوغروا الصّدور بما لفقوا وافتروا على الشيعة المسلمين بما لم يسمع به الشيعة أنفسهم ولم يعرفوه، وما أنزل الله به من سلطان، لا غرض لهم في ذلك سوى إرضاء أسيادهم أولياء نعمتهم، ابتغاء الفتنة، وإذكاءً لنار الفساد، بعد ما خمدت وخبا نورُها، فلعنة الله على من يوقظها، والله تعالى سيظهر دينه رغم كيد الحاقدين، ورغم أنف المنافقين والمستكبرين، وإنّ لله العزّة ولرسوله وللمؤمنين "(2).

ويقول معتصم سيد أحمد حول ما لاقاه أهل البيت (عليهم السلام) وأتباعهم من السلطات الجائرة، والأسباب التي دفعت إلى ذلك:

" بما أنّ التاريخ شاهد عيان ينقل كل ما رأى، فلابدّ للمخطّط أن يسكته أو يعمّي عليه حتى لايفضحه ويكشف حيلته، ومن هنا كان التاريخ تحت قبضة السياسة الحاكمة يدور معها حيث ما دارت، فأصبح المؤرخون تحت تهديد أو إغراء السلاطين ترتعش الريشة في أيديهم لتزييف الحقائق.

____________

1- مصطفى خميس/ شبهات وحقائق: 155.

2- المصدر السابق.


الصفحة 57
وانّ السياسة التي اتّبعها التيّار الأموي ومن بعده العبّاسي كانت تستهدف من الأساس تشويه صورة أهل البيت (عليهم السلام)، فكان مجرّد التظاهر بالحب لعلي بن أبي طالب وأهل بيته كفيلٌ بهدم الدار وقطع الرزق ـ حتى تتبع معاوية شيعة علي قائلاً: اقتلوهم على الشبهة والظنّة ـ وحتى بات ذكر فضائلهم جريمة لا تغتفر.

وللتعرّف على المأساة التي لاقوها أئمة أهل البيت وشيعتهم في التاريخ راجع كتاب (مقاتل الطالبيّين) لأبي الفَرَج الأصفهاني.

فما بال المؤرخين، هل يتسنّى لهم في تلك الظروف القاسية تدوين مناقب وفضائل أهل البيت وذكر سيرتهم العطرة؟!

وهكذا أصبحت الأمة تتوارث جيلاً بعد جيل حقائق مشوهة، بل تطوّر الأمر إلى أكثر من ذلك عندما أصبح العلماء المتأخّرون يبررون للسابقين وينقلون عنهم من غير تأمل أو تدبّر، فتأصّلت حالة العداء لأهل البيت وشيعتهم وحالة الجهل والغفلة في الآخرين "(1).

ضرورة الدراسة الواعية للتاريخ:

إنّ التاريخ على الرغم من تدخل الأهواء والمصالح الدنيويّة وقوى السّياسة في كتابته وتحريف حقائقه، فانّ بعض مصادره قد حفظت للحق بعض وثائقه، وهذا ما يمكّن أهل البصائر من ذوي العلم والوعي والفكر والفطرة السليمة من استخلاص واستكشاف الواقع منه بشكل يمكن الاعتماد عليه.

وكل ما في الأمر هو أن يستعمل الباحث خلال دراسته للتاريخ سبلاً تُعينه على اكتشاف الحقيقة عن طريق تجريد الأحداث التاريخية من التأثيرات السياسيّة التي علقت بها، وتنقيتها من أهواء المؤرخين ونزعاتهم.

____________

1- معتصم سيد أحمد/ الحقيقة الضائعة: 172ـ173.


الصفحة 58
وينبغي للباحث في هذه الحالة أن يكون من أصحاب العقول الواعية والموضوعيّة اليقظة التي تقرأ بحَذر وبدقّة وتأمّل وإمعان، لئلا تقع في فخ التضليل والتجهيل، وعليه أن يتّخذ في بحثه سبيلاً يحرّره من أوهام كثيرة حوّلها التاريخ إلى حقائق.

ويشير سعيد أيوب إلى إحدى الطرق التي تُساعد الباحث على عدم الوقوع في فخّ التضليل، قائلاً:

" إنّ تصرّف السياسة في الأحداث التاريخيّة بالإفشاء والكتمان والتغيير والتبديل، يصبح هباء ضائعاً في خلاء، إذا علم الباحث الحق أوّلا، لأنّ بميزان الحقّ يُعرف الرّجال وتظهر حركة المسيرة ووسائلها وأهدافها.

فقديماً كانت هناك أسباب انتقاليّة لفساد النبع التاريخي، منها فقدان وسائل الضبط والأخذ والنقل والتأليف والحفظ عن التغيير، فهذه الأسباب والنقائص الفرعيّة ارتفعت اليوم بتراكم وسائل الاتصال وسهولة نقل الأخبار وبإمكانيّة بحث وتحليل الرباط بين الماضي والحاضر.

وبهذا الارتفاع يكون معرفة الحق الذي به نعرف الرجال وبه نزن الأحداث أمراً يسيراً في متناول أولي الألباب والأبصار، والله تعالى ينظر إلى عباده كيف يعملون "(1).

ومن الأساليب التي يراها إدريس الحسيني لاكتشاف الحقيقة من بطون كتب التاريخ الإسلامي هي مايذكرها في كتابه (لقد شيّعني الحسين) بقوله:

" أريد هنا، أن أوقف التّاريخ الإسلامي على قَدَميه، بعد أن ظلّ في أذهاننا منقلباً على وجهه، وخطوة واحدة جديرة بإيقافه على رجليه، هي أن نفتح أعيننا مباشرة على كل ما وقع، ونحكّم الوجدان، ليس إلاّ! "(2).

ثمّ يضيف قائلاً:

____________

1- سعيد أيوب/ الرساليّون: 10.

2- إدريس الحسيني/ لقد شيّعني الحسين: 101.


الصفحة 59
" سوف نحفز في كل الاتّجاهات، وفي كل الأبعاد من أجل الوقوف على حقيقة الظّاهرة التاريخيّة، مجرّدة عن أوهامها، وبذلك يمكن للتاريخ الإسلامي أن يتمثل واقفاً على رجليه "(1).

ويرى صالح الورداني في كتابه (السّيف والسياسة) انّ من أهم الأمور التي ينبغي أن يتّبعها الباحث في بطون التاريخ هي وضع النصوص فوق الرجال فيقول:

" إنّ هذا التاريخ قد صبغته السياسة وطغى فيه الرجال على النصوص وتغلبّت فيه النّزعات على القيم الإسلاميّة..

ولقد استمرّ المسلمون منذ وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله) وحتى اليوم يرصدون حركة التاريخ بعين واحدة، هي عين القداسة دون أن ينظروا اليها بعين النقد..

ومنبع هذه النظرة يمكن في تلك الأغلال السلفية التي طوّق بها المسلمون والتي تحول دون رؤيتهم لحركة التاريخ بصورة متكاملة بمعزل عن القداسة التي أضفيت على رموز وشخصيّات معيّنة لعبت دوراً بارزاً في دائرة هذه الحركة.

ونحن لا نهدف من خلال هذه الدراسة إلى التجريح أو الطعن والتشويه وهدم رموز معيّنة هي محلّ قداسة المسلمين، ولكنّ الهدف هو وضع النّصوص فوق الرجال، ثمّ وزن هؤلاء الرجال على ضوء هذه النصوص..

ما نهدف إليه هو أن نرسي قاعدة تعينُنا على قراءة التاريخ قراءة متبصرة من خلال النصوص لا من خلال الرجال.. "(2).

وبهذه الدراسة الواعية يصل الباحث إلى حقائق جديدة، ومن جملة هذه الحقائق ما توصّل إليه صالح الورداني خلال دراسته الواعية للتّاريخ، والتي يذكرها في كتابه (السّيف والسياسة) قائلاً:

____________

1- المصدر السابق.

2- صالح الورداني/ السيف والسياسة: 6.


الصفحة 60
" عليهم [المسلمين] أن يدركوا حقيقة هامّة، وهي أنّ هذا التّاريخ الذي بين أيدينا هو تاريخ المسلمين وليس تاريخ الإسلام.

والفرق كبير وشاسع بين تاريخ الإسلام وتاريخ المسلمين.

تاريخ الإسلام هو كتاب الله.

وتاريخ المسلمين مادون ذلك ممّا يخضع للبحث والأخذ والرد... وعلى ضوء كتاب الله يجب أن يدرس تاريخ المسلمين "(1).

كما أنّ الباحث الواعي يحاول أن لا يقتصر في دراسته للتاريخ مراجعة الكتب التي دوّنت في ظلّ السلطان، بل يحاول أن يقرأ أيضاً الكتب التاريخيّة التي دوّنها من اضطهدتهم السلطة، ليحصل عبر ذلك على صورة اكثر شموليّة حول أحداث التاريخ.

ولهذا يقول التيجاني السماوي:

" إنّ العلماء الأوائل غالباً ما كانوا يكتبون ويؤرخون بالنحو الذي يوافق آراء الحكام من الأمويّين والعبّاسيين الذين عرفوا بعدائهم لأهل البيت النّبويّ، بل ولكن من يشايعهم ويتبع نهجهم.

ولهذا فليس من الإنصاف الاعتماد على أقوالهم دون أقوال غيرهم من علماء المسلمين الذين اضطهدتهم تلك الحكومات وشرّدتهم وقَتَلتهم لأنّهم كانوا أتباع أهل البيت (عليهم السلام) "(2).

وهذا ما قام به أحمد حسين يعقوب، فقرأ كتباً إسلاميّة تنظر إلى التّاريخ من زاوية تختلف عمّا يراه أهل السنّة، فتفتّح بذلك عقلُه وتعرّف على حقائق قلبت عنده الموازين.

ويقول هذا المستبصر حول تجربته في هذا المجال:

____________

1- المصدر السابق: 203.

2- محمد التيجاني السماوي/ ثمّ اهتديت: 77.


الصفحة 61
" وأثناء وجودي في بيروت قرأت كتاب (الشيعة بين الحقائق والأوهام) لمحسن الأمين، و كتاب (المراجعات) للإمام العاملي، وتابعت بشغف بالغ المطالعة في فكر أهل بيت النبوّة وأوليائهم.

لقد تغيّرت فكرتي عن التاريخ كلّه، وانهارت تباعاً كل القناعات الخاطئة التي كانت مستقرّة في ذهني، وتساءلت: إن كانت هذه افعال الظالمين بابن النبي وأهل بيته، فكيف تكون أفعالهم من الناس العاديين؟!

لقد أدركت بأنّ الدولة التاريخيّة ـ وهي دولة عظمى ـ قد سخّرت جميع مواردها ونفوذها من خلال برامجها التربويّة والتعليميّة لغايات قلب الحقائق الشرعيّة، وتسخير الدين الحنيف لخدمة وقائع التاريخ واضفاء الشرعيّة على تلك الوقائع، واظهار الدين والتاريخ كوجهين لعملة واحدة.

وإنّ النّاس قد انطلت عليهم هذه الخطة فأشربوا ثقافة التاريخ متصورين بحكم العادة والتكرار وتبني الدولة لهذه الثقافة، بأن ثقافة التاريخ هي ثقافة الدين.

وبهذا المناخ الثقافي حملت الدولة التاريخ على أهل بيت النبوّة ومَن والاهم، وصوّرتهم بصورة الخارجين على الجماعة الشاقّين لعصا الطاعة، المنحرفين عن إسلام الدولة، وتقوّلت عليهم ما لم يقولوه ونسبت إليهم ما لايؤمنون به، وصدقت العامة دعايات الدولة ضد أهل بيت النبوّة ومن والاهم، وتبنى الأبناء والأحفاد ما آمنت به العامّة دون تدقيق أو تمحيص، ولا دليل لامن كتاب الله ولامن سنّة رسوله "(1).

عقبة الإطار الفكري في فهم التاريخ:

من جملة العقبات الأخرى التي يواجهها المستبصر في مراجعته للتاريخ هي الإطار الفكري الذي املاه عليه المجتمع السنّي حول التاريخ.

____________

1- مجلّة المنبر/ العدد: 10.


الصفحة 62
ويصف إدريس الحسيني هذا الاطار الذي يلقّنه علماء أهل السنّة لاتباعهم:

" لقد تلقّينا دروساً ـ ديماغوجيّة ـ خاصّة، لفهم التّاريخ الإسلامي وأن (نترضى) بعد ذكر كلّ اسم ينتمي إلى جوقة القديم.

وإذا رأينا الدم والفسق والكفر، ليس لنا الحق سوى أن نغمض الأعين، ونكف الألسن خوفا من الغيبة التاريخيّة، ثم نقول: ( تِلك أمّة قَد خَلتْ لَها ما كَسبَتْ ولَكُم ما كَسبْتُم ولاَ تُسألونَ عمّا كانُوا يَعْمَلُون )(1).

عملية لجم مُبرمجة، وقيود توضع على عقل الإنسان، قبل أن يدخل إلى محراب التأريخ المقدّس.

لقد علّمونا أن نرفض عقولنا، لنكون كائنات (روبوت) توجّهنا كمبيوترات مجهولة "(2).

ويضيف هذا المستبصر في هذا المجال:

" من الدّروس ـ الديماغوجيّة ـ التي حقنوا بها وعينا، هو أن ما كان في التاريخ الإسلامي هو الصواب المطلق.

ولم يكن في الامكان أبدع مما كان.. وان الايمان كل الايمان، هو التصديق بما وقع، والخلافة الرشيدة حبكة جملية جداً، بل وأنّها تكاد تطفح ابداعاً، وما زلتُ أضحك على نفسي لتقبلها بسذاجة الأمويين.

لقد تلقّيت منهم واقع الخلافة الراشدة دون مناقشة، وإذا راودتني نفسي بتساؤلات، قمعتها، لتستقيم عل التزام التجاهل.

واذكر أنّ الشك بهذه الحبكة طرأ عليّ وأنا ابن خمسة عشر عاماً غير انني طويت الصفحة عن ذلك الشك وتعمدت نسيانه! "(3).

____________

1- البقرة: 141.

2- إدريس الحسيني/ لقد شيّعني الحسين: 41.

3- المصدر السابق: 43.



الصفحة 63

ويقول هذا المستبصر حول المعاناة التي عاناها في هذا المجال:

" إنّني ورثت مجموعة تقديسات متناقضة، تجرّعتُها على حين غفلة من نضجي ووعيي التاريخي... ولكن التاريخ علّمني ألاّ أكون مناقضاً للحقيقة، وإلاّ كيف يتّسع القلب لحب الشيء ونقيضه؟ "(1).

ويذكر هذا المستبصر حول المعاناة التي عاناها في بداية قراءته لبعض فقرات التاريخ الإسلامي:

" كنت أقرأ صفحة ثم أتوقّف متعوّذاً بالله، وكأنّني أنا المسؤول عن كل ماوقع، أقرأ التاريخ خلسة وخفية، وكأنني أمارس الفحشاء والمنكر، وما زلت اتذكر الأصحاب وقد بدأوا يوجهون لي النقد، لأنني بدأت أخرج عن الايمان، وأهتمّ بالفتن، إنّني كنت أدرك أنّهم لا يقولون إلاّ ما لُقّنوه "(2).

ويقول مصطفى خميس حول تقييمه لهذه الفكرة التي يتبناها البعض حول النظرة القدسيّة إلى التاريخ:

" لم يكن الذين كتبوا التاريخ عدولاً بأجمعهم، كلا، ولا مسدّدين بأمر الله عزّوجل، لكنهم كانوا أناساً عاديين، تأثروا بعواطفهم وبميولهم وسياسات حكامهم، وقد جمعوا روايات التاريخ وأحداثه من أفواه الرواة، وكتابات القصّاصين أحيانا من غير تحقيق ولا تدقيق، وهذا ما حدث عند الكثيرين منهم، بل أكثرهم.

فهذه النظرة القدسيّة إلى التاريخ بكل ما جاء فيه - بعجره وبجره - قادت الكثيرين منهم إلى التجنّي على الحقيقة، كما قادتهم إلى نصرة الباطل على الحق، وذلك باظهار كثير من الأكاذيب والدسائس والافتراءات على أنّها أحداث تاريخيّة، وألبسوها ثوب الحقيقة المزيّف "(3).

____________

1- المصدر السابق: 96.

2- المصدر السابق: 94.

3- مصطفى خميس/ شبهات وحقائق: 154ـ155.


الصفحة 64

التحذير من قراءة التاريخ:

من جملة العقبات الأخرى التي يواجهها المستبصرون حين توجّههم إلى البحث في كتب التاريخ هي التحذير الذي يتلقونه من علمائهم وممن حولهم فيما يخص دراسة التاريخ.

ويشير إدريس الحسيني إلى هذا الأمر قائلاً:

" بعضهم بلغ من الحكمة شأواً بعيداً، فيقول: (لا داعي للبحث عن هذه القضايا القديمة في التاريخ، لأنها باعثة على الفتنة).

لقد تحول البحث عن الحقيقة، فتنة في قاموس هذا الصنف من الناس، وكأنّهم يرون البقاء على التمزّق الباطني، حيث تتشوش الحقيقة، وتغيب، أفضل من الافصاح عن الحق الذي من اجله أُنزل الوحي، وتحركت قافلة الرسل والأنبياء، وكأن مهمة الدين هو أن يأتي بالغموض، وكأن الله عزّوجل أراد أن يبلبل الحقائق، ويقمعها بحكمة: لا تبحث في التاريخ "(1).

ويقول محمد الكثيري حول سبب ممانعة البعض عن قراءة التاريخ:

" إنّ البحث والدراسة العميقة لتاريخ الإسلام بشكل عام وتاريخ المذاهب الفقهيّة والأصوليّة بشكل خاص وعلاقة ذلك بالاجتماع والسياسة، يكشف عن حقائق مهمّة وخطيرة تنزّل أصناماً ذهبيّة براقة من عليائها لترمي بها في مزابل التّاريخ، لأنّها العار الأبدي على جبين الإنسانيّة، ورمز للانحراف والظلم اللذين شيّدا صروح النفاق والكفر "(2).

ويقول التيجاني السماوي حول معاناته أيضاً، في الفترة الزمنيّة التي كان معتنقاً فيها لمذهب أهل السنّة:

____________

1- إدريس الحسيني/ لقد شيّعني الحسين: 19.

2- محمد الكثيري/ السلفيّة: 14.


الصفحة 65
" وفي الحقيقة ما عرفت من التاريخ الإسلامي قليلاً ولا كثيراً، لأنّ أساتذتنا ومعلّمينا كانوا يمنعوننا من ذلك مدّعين بأنّه تاريخٌ أسود مظلم لا فائدة من قراءته "(1).

ويذكر التيجاني السماوي أنّه ذات يوم سأل أستاذه في مادّة البلاغة عندما كان يدرّسهم الخطبة الشقشقيّة حول محتوى هذه الخطبة.

فقال له الأستاذ:

" نحن ندرّس بلاغة ولا ندرّس التّاريخ، وما يهمّنا شيء من أمر التاريخ الذي سوّدت صفحاته الفتن والحروب الدّامية بين المسلمين، وكما طهّر الله سيوفنا من دمائهم، فلنطهّر ألسنتنا من شتمهم "(2).

ويصف التيجاني معاناته في دراسة التاريخ في بداية توجّهه إلى البحث قائلاً:

" وحاولت مراراً عديدة دراسة التاريخ الإسلامي، ولكن لم تتوفّر عندي المصادر والإمكانات لتوفير الكتب، وما وجدت أحداً من شيوخنا وعلمائنا يهتمّ بها وكأنّهم تصافقوا على طيّها وعدم النظر فيها، فلا تجد أحداً يملك كتاباً تاريخيّاً كاملاً "(3).

ويقول التيجاني السماوي أيضاً في هذا الخصوص:

" أما العالم السُنّي تجده قليلاً ما يهتمّ بالتّاريخ فهو يعتبره من المآسي التي لا يريد نبشها والاطّلاع عليها، بل يجب إهمالها وعدم النّظر فيها لأنّها تسيء الظنّ بـ(السلف الصالح)"(4).

تخطّي المستبصرين لهذه العقبات:

إنّ الشخص الذي يوفّق للاستبصار ـ على العموم ـ لا تمنعه امثال هذه العوائق عن

____________

1- محمد التيجاني السماوي/ ثمّ اهتديت: 37.

2- المصدر السابق: 37.

3- المصدر السابق: 37.

4- محمد التيجاني السماوي/ الشيعة هم أهل السنّة: 69.


الصفحة 66
السير في بحثه من أجل معرفة الحقيقة، لأنه يعي بأن غض الطرف عن وقائع التاريخ لا يخدم الحقيقة، ويدرك أنّ عمليّة فصل الواقع الحالي عن تراكمات الماضي غير ممكنة، وانّ كل أمّة بحاجة ماسّة إلى دراسة تاريخها، ليمكنها أن ترى المستقبل بوعي وواقعيّة.

ويعي هكذا شخص أيضاً بأن القضايا التاريخيّة ليست قضايا غاب أشخاصها وطوى الزمن صفحتها، بل هي قضايا لها التأثير الأساسي على حياة الإنسان المسلم، لأن بعضها تعتبر جزءاً من عقيدة الفرد ورؤيته الدينيّة العامّة.

كما أنّ هكذا شخص يعي بأن الدعوة إلى أن نجعل بيننا وبين تاريخنا حجاباً مستوراً مقولة غير مبتنية على دليل أو برهان، بل هي ليست إلاّ مجرّد محاولة من البعض لعدم انكشاف واقعهم الأسود ومعتقداتهم التي يكذّبها الواقع والتاريخ بصراحة.

فلهذا ردّ الكثير من المستبصرين في تصريحاتهم ومؤلفاتهم على هذه الفكرة، منهم عبد المنعم حسن، حيث أنّه قال:

" أمّا أولئك الذين ينادون بعدم البحث في التاريخ بحجّة اثارة الفتن وعدم جدوائيّة ذلك، يخافون من انكشاف الواقع وفضح مآسي الأمة التي اختارتها بكامل ارادتها وهي تبتعد عن نهج الحق.

ولا يهمّنا ونحن نبحث عن الحقيقة في صفحات التاريخ أن تتساقط الشخصيّات ويتعرّى البعض من هالته القدسيّة المصطنعة حوله، لأنه لا ترجيح للشخصيّات في ميزان الحق إلاّ لمن أخلص له والتزم به "(1).

ويقول معتصم سيّد أحمد في هذه المجال:

" كل سؤال أو استنكار في البحث التاريخي بداعي عدم إثارة الفتن القديمة أو أيّ

____________

1- عبد المنعم حسن/ بنور فاطمة اهتديت: 30.


الصفحة 67
داعي آخر لا محل له، وإنْ دلّ فإنّما يدل على جهل صاحبه.

وفي الواقع إن كانت هناك فتنة فهي بسبب ما حدث في التاريخ من تزييف وتحريف، وإلاّ فالتاريخ بما هو، هو مرآة صافية تعكس الماضي للحاضر من غير خُداع أو دَجل، ولكن عندما سقط التاريخ في أيدي السياسات المنحرفة تذبذبت صورته وتبدلت أشكاله، ومن هنا تعددت الآراء واختلفت المذاهب، وإلاّ لو كان التّاريخ سليماً لانكشف زيفها وعُرف باطلها.

وما تعانيه الأمّة الإسلاميّة اليوم من فرقة وشتات وتمزّق في الصفوف ما هو إلاّ نتاج طبيعي للانحرافات التي حدثت في التاريخ من تدليس المؤرخين وكتمهم للحقائق.

فهم جزءٌ لا يتجزّأ من المخطط الذي استهدف مدرسة أهل البيت من أجل مصالح سياسيّة، فقد عمل هذ المخطّط على كافة الأصعدة والمستويات ليشكّل تيّاراً آخر ذا مظهر إسلامي في قبال الإسلام الحقيقي الأصلي "(1).

ويقول إدريس الحسيني:

" إنّ طرح سؤال، من قبيل: لماذا نبحث في التاريخ؟ هو عين التخلّف الفكري، لأنه لم يعد يوجد من يشك في اهميّة التاريخ! ومن القرآن تعلّمت الأمة قيمة النظر في التاريخ، وللتاريخ سننه وقوانينه التي تجري على كل البشر "(2).

ويقول محمّد عبد العال:

" ردّاً على المقولة المزمنة والمستهلكة: (ما لنا وللماضي فنحن أبناء الحاضر)، نقول: أنّ رفض باطل الحاضر باطل مالم يرتكز على رفض باطل الماضي. أيّ أنّ رفض باطل الماضي يشكّل ضرورة حتميّة لضمان صحّة رفض الباطل الحاضر، لأنّ

____________

1- معتصم سيّد أحمد/ الحقيقة الضائعة: 171.

2- إدريس الحسيني/ لقد شيّعني الحسين: 21.


الصفحة 68
أيّ بناء لا يستقيم على أساس معوّج "(1).

ويقول هشام آل قطيط:

" لماذا نعتبر الرجوع إلى التاريخ جريمة أو إثماً في ذلك أو ذنباً عظيماً.

وأقول أنّ في التاريخ حقائق دفينة قد حفظها لنا وسجّلها عبر عصور متراكمة وبعيدة، فلولا التاريخ لما عرفنا العقيدة التي نسير عليها ونستنير من خلالها، ونستلهم منها وجودنا الفكري وسلوكنا البشري.

فالتاريخ في الحقيقة والواقع حارس رقيب لا يغفل ولا يغيب، يراقب الخونة الذين كانوا يبيعون ضمائرهم لولاة الباطل بأبخس الأثمان، لقلب الحقائق رأساً على عقب، ولإظهار الأضاليل الكاذبة، إرضاءً لنفوسهم الخبيثة وحكّامهم الأخسّاء الأذلاّء.

فصاحب العقيدة النقيّة الصحيحة لا يخاف من الرجوع إلى التاريخ، لأنه يرى في التاريخ الصحيح المرآة العاكسة لعقيدته النقيّة.

وأمّا متزلزل العقيدة فالتاريخ يبيّن له الحق بواقعه، ويدَع له الخيار في اتّباعه أو تركه.

وأمّا المسلم القوي العقيدة فإنّ التّاريخ يريه النعمة الوافرة التي قد منّ الله تعالى بها عليه، فأولده من أبوين مسلمين، وكفاه صعوبة مخالفة الآباء، ويتمسّك بدينه الحق المبين فلا تغريه بعد الزخارف بخدعها البرّاقة، فيفوز بسعادة الدارين الدنيا والآخرة.

في الواقع يجب أن نتمسّك بالتاريخ بأسناننا، وأظفارنا، لأنّ التاريخ الصحيح هو منجاة لنا، فلولا التاريخ والتدوين لما عرفنا الصلاة، ولاالصوم ولا أركان الدين.

فالتاريخ معادٌ معنوي يعيد لك العصور التي سلفت وينشرها لأهل عصره، ويرجّع آثارهم التي سلفت أمام أهل زمانه، فتستفيد عقولهم من غررها ما تستضيء بنوره، وتنتعش نفوسهم مما تتنفّسه من مسكه وعبيره.

____________

1- مجلّة المنبر: العدد 26.


الصفحة 69
... فالتاريخ ضالّة الباحث والمفكّر والعالم وطلبة المتفنّن، وبغية الأديب وأُمنية أهل الدّين ومقصد السّاسة والقول الفصل إنّه مأرب المجتمع البشري أجمع، وهو التاريخ الصحيح والمحقق الذي لم يقصد به إلاّ ضبط الحقائق على ما هي عليه.

فلذلك... علينا أن نشجّع الطلبة والباحثين إلى الغوص في اعماق التاريخ ليستخرجوا لنا ما فيه من درر كامنة وأصداف ثمينة وحقائق ثابتة "(1).

ثمّ يضيف هشام آل قطيط:

لماذا نخاف من الغوص بأعماق التاريخ؟

لماذا نخاف من استخراج الحقائق الدفينة في طيّات التاريخ؟

لماذا يَنتابنا الخوفُ والهَلَع عندما نجد حقيقة ثابتة أخرجها لنا الباحثون والمؤرّخون تخالف ما نحن عليه اليوم؟

لماذا نخاف من الواقع؟

أليس الله سبحانه وتعالى أوجدنا أبرياء أنقياء على الفطرة، لا يوجد أي شيء يؤثّر في فطرتنا السليمة.

فلنتأمّل من أين جاءتنا تلك المؤثرات حتى سيطرت على عقولنا وطبعت على قلوبنا.

في الحقيقة تسليم الإنسان للأشياء واستقبالها دون تفكّر وتأمّل وتدبّر مذموم من قبل الخالق، والدّليل قوله تعالى:

( أفلا يعقلون)، ( أفلا يتدبّرون)، ( أفلا يتفكّرون)، وآيات كثيرة من هذا القبيل.

يخاطب الله الإنسان الذي خلقه في أحسن تقويم، وميّزه عن بقيّة الكائنات بالعقل الذي يتفكّر ويتدبّر، فلا يسلم بالأمور على عواهنها أو علاتها.

____________

1- هشام آل قطيط/ وقفة مع الدكتور البوطي في مسائلة: 22.


الصفحة 70
فنفهم من قوله تعالى: أنّه علينا أن نبحث ونفكّر ونمحّص الحقائق، ونتبعها ولو خالفت أهواءنا وطبائعنا وعاداتنا وتقاليدنا، التي ورثناها عبر عصور متراكمة أبّاً عن جد.

لماذا نجد الكثيرين في هذا العصر المتقدّم يستهدفون محاربة فكرة الرجوع إلى التاريخ ونبش الحقائق من بطون التاريخ؟

لماذا يرون هذا العمل جريمة من وجهة نظرهم وكأنهم يرون البقاء على التمزّق الباطني، حيث تتشوّش الحقيقة وتغيب عن أذهان الناس أفضل من الافصاح عن قول الحق الذي من أجله نزل الوحي وتحرّكت قوافل الأنبياء والمرسلين، وكأن مهمّة الدّين هو أنْ يأتي بالغموض، وكأنّ الله عزّوجل أراد أن يبلبل الحقائق "(1).

ثم يؤكّد هشام آل قطيط:

" وليس ثمة شيء في ديننا إلاّ وله علاقة بالتاريخ، وما نملكه اليوم من عقائد وأحكام وثقافات اسلاميّة كلّها جاءتنا عن طريق الرواية، فحريٌّ بنا أن يكون التاريخ عندنا هو أحد المصادر المهمة للبحث.

وبعضهم يرى فيقول: (لا داعي للبحث عن هذه القضايا القديمة في التاريخ لأنّها باعثة على الفتنة).

فأقول لتلك الفئة: هل البقاء على التمزّق الباطني وإخفاء ما نزل الوحي من أجله أفضل من الرجوع إلى هذه القضايا القديمة؟

يا إلهي ما أشدّ ذلك غرابة، فحقّا هذا هو عين التخلّف الفكري والجنوح عن ركب الحضارة "(2).

فلهذا ينبغي للباحث الذي يودّ أن يصل في أمور عقائده إلى نتائج تميط له اللثام

____________

1- المصدر السابق: 24.

2- المصدر السابق: 25.


الصفحة 71
عن حقائق طَمستْها الأجيال، أن ينعم النظر في العصور الإسلاميّة الأولى بدقة، ويدرسها من جميع جوانبها بصورة وافية.

وهذا ما يؤكد عليه التيجاني السماوي بقوله:

" يا أهلي وعشيرتي لنتّجه ـ على هدى الله تعالى ـ إلى البحث عن الحقّ وننبذ التعصّب جانباً فنحن ضحايا بني العبّاس وضحايا التاريخ المظلم وضحايا الجمود الفكري الذي ضربه علينا الأوائل.

إنّنا ولاشك ضحايا الدهاء والمكر الذي اشتهر به معاوية وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة واضرابهم.

ابحثوا في واقع تاريخنا الإسلامي لتبلغوا الحقائق الناصعة وسيؤتيكم الله أجركم مرّتين.

فعسى أن يجمع الله بكم شمل هذه الأمة التي نكبت بعد موت نبيّها وتمزقت إلى ثلاث وسبعين فرقة، هلمّوا لتوحيدها تحت راية لا اله إلاّ الله، محمد رسول الله، والاقتداء بأهل البيت النبويّ الّذين أمرنا رسول الله (صلى الله عليه وآله)باتّباعهم فقال:

(لاتتقدّموهم، فتهلكوا ولاتتخلّفوا عنهم فتهلكوا ولاتعلّموهم فإنّهم أعلم منكم)(1).

ولو فعلنا ذلك، لرفع الله مقته وغضبه عنّا ولأبدلنا من بعد خوفنا أمناً، ولمَكّنَنا في الأرض واستخلفنا فيها ولأظهر لنا وليّه الإمام المهدي (عليه السلام) الذي وعدنا به رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليملأ الأرضَ قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً، وليتمّ به الله نورَه في كلّ المعمورة "(2).

____________

1- الدرّ المنثور للسيوطي: 2/60 ـ أسد الغابة: 3/137 ـ الصواعق المحرقة لابن حجر: 148و226 ـ ينابيع المودّة: 41 و 355 ـ كنز العمال: 1/168 ـ مجمع الزوائد: 9/163.

2- محمد التيجاني السماوي/ ثم اهتديت: 171.


الصفحة 72

الصفحة 73

فهرس المطالب / تحميل الكتاب

فهرس المطالب

zip pdf doc