المؤلفات » العدل عند مذهب أهل البیت (علیهم السلام)

الفصل الثامن

التكليف

معنى التكليف
متعلّق التكليف
حسن التكليف
وجوب التكليف
غرض التكليف
شروط حسن التكليف
تكليف من لم تتّم عليه الحجّة
التكليف بما لا يطاق


الصفحة 248

الصفحة 249

المبحث الأوّل

معنى التكليف

معنى التكليف (في اللغة) :

التكليف مأخوذ من الكُلفة ، وهو عبارة عن الأمر بما فيه المشقّة(1) .

معنى التكليف (في الاصطلاح العقائدي) :

التكليف هو بَعْثُ من تجب طاعته ـ ابتداءً ـ على ما فيه مشقة بشرط الإعلام(2) .

توضيح قيود معنى التكليف :

القيد الأوّل: " بعث "

البعث على الفعل هو الحمل عليه والحثّ عليه بالأمر والنهي(3).

أقسام البعث(4) :

أوّلاً: البعث على الفعل ، وهو:

____________

1- انظر: لسان العرب ، ابن منظور: مادة (كلف) .

كشف المراد، العلاّمة الحلّي: المقصد الثالث ، الفصل الثالث ، المسألة الحادية عشر ، ص437 .

النافع يوم الحشر، مقداد السيوري: الفصل الرابع، ص71 .

2- انظر: المسلك في أصول الدين، المحقّق الحلّي: البحث الرابع، المطلب الأوّل ، المقام الثاني، ص95 .

قواعد المرام ، ميثم البحراني: القاعدة الخامسة ، الركن الثاني ، البحث الأوّل ، ص114 .

النافع يوم الحشر: مقداد السيوري: الفصل الرابع، ص71 .

مناهج اليقين، العلاّمة الحلّي: المنهج السادس ، البحث الرابع، ص247 .

3- انظر: النافع يوم الحشر، مقداد السيوري: الفصل الرابع، ص71 .

4- انظر: المنقذ من التقليد، سديد الدين الحمصي: ج1 ، ص253 ـ 254 .


الصفحة 250

1 ـ الواجب: الفعل الذي يجب فعله .

2 ـ الندب: الفعل الذي من الأفضل فعله .

ثانياً: البعث على ترك الفعل ، وهو:

1 ـ المحرّم: الفعل الذي لا يجوز فعله .

2 ـ المكروه: الفعل الذي من الأفضل عدم فعله .

تنبيهان :

1 ـ إنّ التكليف ـ بصورة عامة ـ ينبغي أن يكون بعثاً على ما يستحق فعله المدح، من قبيل فعل الواجب والمستحب وترك القبيح، وعلى هذا يخرج المباح ، لأنّ فعله أو تركه لا يستحق المدح .

2 ـ إنّما ورد في تعريف التكليف كلمة "بعث" ليندرج في هذا التعريف: "الإرادة" و"الأمر" و"الإلزام" و"النهي" و"الإعلام"، فإنّها بأجمعها تشترك في كونها باعثة(1).

القيد الثاني: " من تجب طاعته "

يدخل بهذا القيد من تجب طاعته من قبيل اللّه تعالى والنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والإمام(عليه السلام)والوالدين والسيّد والمنعم ، ويخرج من لا تجب طاعته، لأنّ بَعث غير واجب الطاعة لا يسمّى تكليفاً(2) .

القيد الثالث: " الابتداء "

يكون التكليف بهذا القيد محصوراً بطاعة اللّه تعالى فقط، لأنّ البعث الإلهي هو البعث الوحيد الذي يكون من جهة الابتداء ، وغيره تابع له .

ولهذا لا تسمّى أوامر ونواهي النبي والإمام ومن تجب طاعتهم من العباد تكليفاً، لأنّ طاعتهم متفرّعة عن طاعة اللّه تعالى ، فلا يعتبر بعثهم على ما أمر به اللّه تعالى

____________

1- انظر: إشراق اللاهوت، عميد الدين العبيدلي، المقصد العاشر، المسألة الأُولى ، ص379 .

2- انظر: إرشاد الطالبين، مقداد السيوري: مباحث العدل ، تعريف التكليف ، ص271 .

إشراق اللاهوت، عميد الدين العُبيدلي: المقصد العاشر، المسألة الأولى ، ص379 .


الصفحة 251

تكليفاً(1) .

مثال :

لا يسمّى بعث وأمر الوالد ولده على الصلاة تكليفاً لسبق بعثه تعالى وأمره بها، وإنّما يقال للوالد: "أمر ولده بها"، ولا يقال: "هذا تكليف من الأب لولده"(2) .

القيد الرابع : " المشقّة "

يتمّ بهذا القيد الاحتراز عما لا مشقة فيه ، لأنّ ما لا مشقة فيه لا يسمّى تكليفاً(3) .

تنبيهات :

1 ـ ورد قيد "المشقّة" في تعريف التكليف ، لأنّ التكليف مأخوذ من الكلفة ـ وهي المشقّة ـ فلابدّ من اعتبارها(4) .

2 ـ ليس المراد من المشقّة العسر الذي يؤدّي إلى نفي الحكم، بل المراد ما يوجب الزحمة ، ويحتاج فعله إلى مؤونة(5) .

3 ـ قد استشكل البعض بأنّ جملة مما تشتهيه النفس من قبيل النكاح وتناول الطعام يقع في دائرة التكليف ، وهو ليس فيه مشقة، فكيف أصبحت المشقّة من لوازم التكليف ؟

الجواب: إنّ المشقة الموجودة في هذا المقام عبارة عن اقتصار النفس على النكاح والطعام الحلال وترك الحرام ، وردع النفس عن تلبية الهوى واتّباع

____________

1- انظر: قواعد المرام، ميثم البحراني: القاعدة الخامسة، الركن الثاني، البحث الأوّل ، ص114 .

النافع يوم الحشر، مقداد السيوري: الفصل الرابع، ص71 ـ 72 .

إرشاد الطالبين ، مقداد السيوري: مباحث العدل ، تعريف التكليف ، ص271 .

اللوامع الإلهية، مقداد السيوري: اللامع التاسع، المقصد الرابع، النوع الأوّل ، المبحث الأوّل ، ص222 .

2- انظر: مناهج اليقين ، العلاّمة الحلّي: المنهج السادس ، البحث الرابع، ص247 .

3- انظر: قواعد المرام ، ميثم البحراني: القاعدة الخامسة، الركن الثاني، ص114 .

4- انظر: إشراق اللاهوت، عميد الدين العُبيدلي: المقصد العاشر ، المسألة الأولى ، ص379 .

5- انظر: بداية المعارف، محسن الخرازي: ج1 ، عقيدتنا في التكليف ، ص144 .


الصفحة 252

الشهوات .

القيد الخامس: " الإعلام "

يشترط في التكليف إعلام المُكلَّف ما كُلِّف به ، لأنّ البعث الفاقد للإعلام لا يسمّى تكليفاً(1).

بعبارة أُخرى :

إنّ التكليف لا يكون تكليفاً لأحد إلاّ بعد إعلامه بما كُلِّف به(2) .

وإنّ المكلَّف لا يكون مكلّفاً إلاّ بعد إعلامه بما يُطلب منه(3) .

تنبيهان :

1 ـ إنّ "اشتراط الإعلام" لا يرتبط بحقيقة التكليف ، بل يعتبر شرطاً من شروط القيام بالتكليف(4) .

2 ـ إنّ اللّه تعالى يعلم العباد بتكاليفهم عن طريق :

أوّلاً: تكميل عقولهم، ليمكنهم الاستدلال بها .

ثانياً: إرسال الرسل وإنزال الكتب السماوية إليهم(5) .

____________

1- انظر: تكملة شوارق الإلهام ، محمّد المحمدي الجيلاني: المقصد 3 ، الفصل 3 ، المسألة 11، ص55 .

2- انظر: قواعد المرام، ميثم البحراني: القاعدة الخامسة، الركن الثاني، البحث الأوّل ، ص114 .

3- انظر: إرشاد الطالبين ، مقداد السيوري: مباحث العدل ،تعريف التكليف ، ص271 .

4- انظر : اللوامع الإلهية ، مقداد السيوري : اللامع 9 ، المقصد 4 ، النوع 1 ، المبحث 1 ، ص222 .

5- انظر: إرشاد الطالبين ، مقداد السيوري: مباحث العدل، تعريف التكليف ، ص271 .


الصفحة 253

المبحث الثاني

متعلّق التكليف(1)

ينقسم متعلّق التكليف إلى علم وظن وعمل :

أوّلاً: علم ، وهو ينقسم نتيجة لحاظ مصدر العلم إلى :

1 ـ عقلي .

2 ـ شرعي .

3 ـ عقلي شرعي .

توضيح ذلك :

1 ـ عقلي: وهو أن يكون متعلّق التكليف علماً يتمّ الحصول عليه عن طريق النظر والاستدلال ونحوها مما يستقل العقل بحكمه .

مثال : التكليف بمعرفة اللّه تعالى وصفاته.

2 ـ شرعي: وهو أن يكون متعلّق التكليف علماً يتمّ الحصول عليه عن طريق الشرع ، لأ نّه يكون مما لا يستقل العقل بدركه .

مثال : التكليف بمعرفة الأُمور الشرعية، أي: العلم بالواجبات والمحرّمات

____________

1- انظر: قواعد المرام ، ميثم البحراني: القاعدة الخامسة، الركن الثاني، البحث الخامس، ص117 .

تجريد الاعتقاد ، نصير الدين الطوسي: المقصد الثالث ، الفصل الثالث، ص204 .

المسلك في أصول الدين، المحقّق الحلّي: النظر الثاني، البحث الرابع، المطلب الأوّل، المقام الثاني، ص96.

المنقذ من التقليد، سديد الدين الحمصي: ج1، ص254 .

مناهج اليقين ، العلاّمة الحلّي: المنهج السادس ، البحث الرابع، ص250 ـ 251 .

النافع يوم الحشر، مقداد السيوري: الفصل الرابع، ص73 .

إرشاد الطالبين ، مقداد السيوري: مباحث العدل، ص275 ـ 276 .

اللوامع الإلهية، مقداد السيوري: اللامع التاسع ، المقصد الرابع، النوع الأوّل ، المبحث الأوّل ، ص222 .


الصفحة 254

والمستحبات، والمكروهات والمباحات التي يعلم الإنسان بها عن طريق الشرع .

ومنه أيضاً العلم بوجود الملائكة وتفاصيل البرزخ والمعاد وكلّ الاُمور الغيبية .

3 ـ عقلي شرعي: وهو أن يكون متعلّق التكليف علماً يتمّ الحصول عليه عن طريق العقل والشرع .

مثال: التكليف بمعرفة وحدانية اللّه تعالى .

ثانياً: ظن ، وهو أن يكون متعلّق التكليف ظناً أقيم الدليل على اعتباره .

مثال :

التكليف ـ في بعض الموارد ـ بظواهر الكتاب والأخبار الآحاد والبيّنة

ونحوها.

ثالثاً: عمل ، وهو ينقسم إلى :

1 ـ عقلي: وهو أن يكون متعلّق التكليف عملا يأمر العقل به أو ينهى عنه .

مثال :

وجوب شكر المنعم والإنصاف والإحسان وبرّ الوالدين وردّ الوديعة .

2 ـ شرعي: وهو أن يكون متعلّق التكليف عملا يأمر الشرع به أو ينهى عنه .

مثال :

فعل العبادات كالصلاة والزكاة والصوم والحجّ والجهاد وغيرها من الأعمال الشرعية .


الصفحة 255

المبحث الثالث

حسن التكليف

دليل حسن التكليف :

إنّ التكليف من فعل اللّه سبحانه وتعالى ، ولا شكّ في حُسن جميع أفعاله تعالى(1) .

وجه حسن التكليف :

إنّ التكليف حسن ، لأ نّه يشتمل على مصلحة ، وهذه المصلحة هي التعريض لنفع عظيم لا يمكن الحصول عليه إلاّ عن طريق التكليف ، وهذا النفع هو الثواب(2) .

____________

1- انظر: الذخيرة، الشريف المرتضى: فصل: في حسن تكليف اللّه تعالى ... ، ص135 .

قواعد المرام ، ميثم البحراني: القاعدة الخامسة، الركن الثاني ، البحث الثاني، ص115 .

المسلك في أصول الدين، المحقّق الحلّي: النظرالثاني، البحث الرابع، المطلب الأوّل، المقام الأوّل، ص93 .

إرشاد الطالبين ، مقداد السيوري: مباحث العدل ، كون التكليف حسن ، ص272 .

اللوامع الإلهية، مقداد السيوري: اللامع التاسع، المقصد الرابع، النوع الأوّل ، المبحث الثالث ، ص223 .

2- انظر: شرح جمل العلم والعمل ، الشريف المرتضى: أبواب العدل ، حسن التكليف ... ، ص100 ـ 101 .

الذخيرة، الشريف المرتضى: باب الكلام في التكليف، فصل في بيان العرض بالتكليف، ص108 .

تقريب المعارف، أبو صلاح الحلبي: مسائل العدل ، مسألة في التكليف ، ص112 .

الاقتصاد، الشيخ الطوسي: القسم الثاني، الفصل الثالث ، حسن التكليف ، ص109 .

غنية النزوع، ابن زهرة الحلبي: ج2 ، فصل في التكليف وما يتعلّق به، ص106 .

تجريد الاعتقاد ، نصير الدين الطوسي: المقصد الثالث ، الفصل الثالث ، ص202 .

تلخيص المحصل ، نصير الدين الطوسي: الركن الثالث ، القسم الثالث ، ص345 .

كشف المراد، العلاّمة الحلّي: المقصد الثالث ، الفصل الثالث ، المسألة الحادية عشر، ص437 .

كشف الفوائد، العلاّمة الحلّي: الباب الثالث ، الفصل الأوّل ، حسن التكليف ، ص254 .

النافع يوم الحشر، مقداد السيوري: الفصل الرابع: في العدل، ص74 .

المنقذ من التقليد ، سديد الدين الحمصي: الكلام في التكليف و ... ، ص241 .


الصفحة 256

معنى التعريض :

إنّ التعريض في التكليف هو جعل المُكلَّف بحيث يتمكّن من الوصول إلى الثواب الذي عُرِّض له(1) .

ويكون التعريض للشيء في حكم إيصاله(2) .

تنبيهات :

1 ـ لا يمكن القول بأنّ التكليف حسن لكونه شكراً للمنعم ، لأنّ "الشكر" لا يشترط فيه المشقّة ، ولكن "التكليف" فيه مشقّة(3).

2 ـ لا يشترط في التكليف المراضاة بين المُكلِّف (وهو اللّه تعالى) وبين المكلَّف (وهو الإنسان أو غيره من المكلَّفين) ، لأنّ مقدار النفع الذي أعدّه اللّه تعالى لمن يلتزم بالتكليف يبلغ حدّاً يكون الممتنع عنه سفيهاً عند العقلاء ، ولهذا لا يشترط المراضاة في هذا المجال(4) .

3 ـ إنّ حسن التكليف عام يشمل المؤمن والكافر، لأنّ فائدة التكليف هي التعريض للثواب وإراءة طريق السعادة، وهذه الفائدة ثابتة في حقّ الكافركماهي ثابتة في حقّ المؤمن ، وإنّ المؤمن والكافر متساويان في التعريض للثواب والنفع، إلاّ أنّ خسران الكافر من سوء اختياره(5) .

____________

1- انظر: الذخيرة، الشريف المرتضى: باب الكلام في التكليف ، ص108 .

الاقتصاد ، الشيخ الطوسي: القسم الثاني، الفصل الثالث ، حسن التكليف ، ص109 .

إرشاد الطالبين ، مقداد السيوري: مباحث العدل، كون التكليف حسن، ص273 .

2- انظر: شرح جمل العلم والعمل ، الشريف المرتضى: أبواب العدل، حسن التكليف، ص101 .

الاقتصاد ، الشيخ الطوسي: القسم الثاني، الفصل الثالث: ص109 .

المنقذ من التقليد، سديد الدين الحمصي: ج1 ، الكلام في التكليف و ... ، ص241 .

3- انظر: تكملة شوارق الإلهام، محمّد المحمدي الجيلاني: المقصد 3 ، الفصل 3 ، المسألة 11، ص55 .

4- انظر: المنقذ من التقليد، سديد الدين الحمصي: ج1، الكلام في التكليف و ... ، ص242 .

5- انظر: الذخيرة، الشريف المرتضى: باب الكلام في التكليف ، فصل في حسن تكليف اللّه ، ص129 .

تقريب المعارف ، أبو الصلاح الحلبي: مسائل العدل ، مسألة في التكليف ، ص116 .

الاقتصاد، الشيخ الطوسي: القسم الثاني، الفصل الثالث: الكلام في التكليف، حسن تكليف الكافر، ص123 .

تجريد الاعتقاد ، نصير الدين الطوسي، المقصد الثالث ، الفصل الثالث، ص204 .

المسلك في أصول الدين، المحقّق الحلّي: النظر الثاني، البحث الرابع، المطلب الأوّل ، ص94 .

المنقذ من التقليد، سديد الدين الحمصي: ج1، الكلام في التكليف و ... ، ص243 و247 .

مناهج اليقين ، العلاّمة الحلّي: المنهج السادس ، البحث الرابع، ص250 .

اللوامع الإلهية، مقداد السيوري: اللامع التاسع، المقصد الرابع، النوع الأوّل ، المبحث الرابع، ص224 .


الصفحة 257

بعبارة أُخرى :

إنّ صيرورة التكليف وبالٌ ومفسدةٌ على الكافر ناشئة من اختياره ، لا من نفس التكليف .

مثال :

لو أنّ طبيباً :

أخبر شخصاً بما يضرّه ويفني حياته، وأمره بالاجتناب عنه .

وأخبره بما ينفعه ويبقي حياته، وأمره بتناوله أو فعله .

فإنّ هذا الطبيب سيكون محسناً في حقّ هذا الشخص .

فإذا خالف هذا الشخص أوامر الطبيب ، وفعل عكس ما أمره، ثمّ تضرّر أو هلك ،فإنّ الطبيب لا يكون مسيئاً في حقّه ، بل يكون هذا الشخص هو السبب في إلحاق الضرر والهلاك بنفسه نتيجة سوء اختياره ومخالفته لأوامر الطبيب(1) .

____________

1- انظر: الفوائد البهية، محمّد العاملي: ج1 ، الفصل الأوّل ، الباب الخامس ، الأمر الرابع ، ص311 .


الصفحة 258

المبحث الرابع

وجوب التكليف من اللّه تعالى للعباد

اتّفقت العدلية على وجوب التكليف من اللّه تعالى للعباد(1).

تنبيه :

لا يخفى بأنّ وجوب التكليف على اللّه تعالى لا يعني فرض الوجوب عليه تعالى من غيره ، بل يعني: أنّ الحكمة الإلهية تقتضي ذلك(2) .

أدلة وجوب التكليف من اللّه تعالى للعباد :

1 ـ إنّ العباد يجهلون الكثير:

مما يعود عليهم بالنفع والصلاح .

ومما يعود عليهم بالضرر والخسران .

ولهذا تقتضي رحمة اللّه تعالى ولطفه أن:

يبيّن اللّه تعالى للعباد ما فيه النفع والصلاح لهم ، ويرشدهم إلى طرق الخير والسعادة ، ويأمرهم باتّباعها.

ويبيّن اللّه تعالى للعباد ما فيه الضرر والخسران لهم، ويزجرهم عن طريق الشرّ والشقاء، وينهاهم عن اتّباعها .

وهذا هو التكليف .

2 ـ إنّ اللّه تعالى هو الذي خلق الشهوات والميل إلى القبيح في العباد ، فلو لم يكلّفهم ، فإنّه تعالى سيكون عابثاً أو مغرياً لهم بالقبيح ، وذلك لا يجوز عليه

____________

1- انظر : كشف الفوائد ، العلاّمة الحلّي : الباب الثالث ، الفصل الأوّل ، حسن التكليف ، ص254 .

2- انظر: إرشاد الطالبين ، مقداد السيوري: مباحث العدل ، كون التكليف حسن ، ص274 .


الصفحة 259

تعالى(1) .

3 ـ إنّ الغرض الإلهي من خلق العباد هو أن يصلوا إلى الكمال .

ويعتبر التكليف هو السبيل الوحيد الذي يصل به العباد إلى هذا الغرض الإلهي.

فلولا هذا التكليف لانتقض الغرض الإلهي .

ولا يخفى أنّ نقض الغرض قبيح .

ولهذا تقتضي الحكمة الإلهية لزوم تكليف العباد .

تنبيه :

إنّ العلم باستحقاق المدح على الفعل الحسن لا يكفي لبعث العباد على هذا الفعل .

وإنّ العلم باستحقاق الذم على الفعل القبيح لا يكفي لزجر العباد عن فعل القبيح .

ولهذا لا يكون المدح والذم بديلا عن التكليف .

بعبارة أُخرى :

إنّ الكثير من العباد لا يعبؤون بالمدح والذم، فيرجّحون شهواتهم على مدح وذم العقلاء، ولاسيما مع حصول الدواعي الحسّية التي تكون في أغلب الأحيان قاهرة للدواعي العقلية .

ولهذا لا يمكن القول بأنّ المدح داعي والذم زاجر ولا حاجة إلى التكليف ، بل التكليف هو السبيل الوحيد لتحفيز العباد على الفعل الحسن، وزجرهم عن الفعل

____________

1- انظر: الذخيرة ، الشريف المرتضى: باب الكلام في التكليف ، فصل: في بيان الغرض ، ص110 .

تقريب المعارف ، أبو الصلاح الحلبي: مسائل العدل، في الغرض من التكليف ، ص119 .

الاقتصاد، الشيخ الطوسي: القسم الثاني، الفصل الثالث: في الكلام في التكليف ، ص111 ـ 112 .

غنية النزوع ، ابن زهرة الحلبي: ج2، فصل في التكليف وما يتعلّق به، ص106 .

قواعد المرام ، ميثم البحراني: القاعدة الخامسة، الركن الثاني ، البحث الثالث ، ص115 .

مناهج اليقين ، العلاّمة الحلّي: المنهج السادس ، البحث الرابع، مسألة: التكليف واجب ، ص249 .

النافع يوم الحشر، مقداد السيوري: الفصل الرابع، في العدل، ص73 .

إرشاد الطالبين ، مقداد السيوري: مباحث العدل ، كون التكليف واجب على الباري تعالى ، ص273 .


الصفحة 260

القبيح(1) .

____________

1- انظر: قواعد المرام، ميثم البحراني: القاعدة الخامسة، الركن الثاني، البحث الثالث ، ص116 .

مناهج اليقين ، العلاّمة الحلّي: المنهج السادس ، البحث الرابع، مسألة: التكليف واجب ، ص249 .

النافع يوم الحشر، مقداد السيوري: الفصل الرابع: في العدل، ص74 .

إرشاد الطالبين، مقداد السيوري: مباحث العدل، كون التكليف واجب على الباري تعالى ، ص274 .

اللوامع الإلهية، مقداد السيوري: اللامع التاسع، المقصد الرابع ، النوع الأوّل ، المبحث الثالث ، ص224 .


الصفحة 261

المبحث الخامس

غرض التكليف(1)

إنّ تكليف اللّه تعالى للعباد :

1 ـ ليس فيه غرض: وهو محال ، لأنّ التكليف لغير غرض عبث، وفعل العبث قبيح ، واللّه تعالى منزّه من فعل القبيح .

2 ـ فيه غرض: وهو الصحيح .

وهذا الغرض:

1 ـ مضرّ: وهو محال، لأ نّه قبيح ، واللّه تعالى منزّه من فعل القبيح .

2 ـ مفيد: وهو الصحيح .

وهذه الفائدة :

1 ـ تعود للّه تعالى ، وهو محال، لأ نّه يستلزم النقص والحاجة في ذاته تعالى ، واللّه تعالى كامل وغني في ذاته وصفاته .

____________

1- انظر : الذخيرة ، الشريف المرتضى : باب الكلام في التكليف ، فصل في بيان الغرض ، ص 110 .

تقريب المعارف ، أبو الصلاح الحلبي: مسألة العدل ، في الغرض من التكليف ، ص115 .

الاقتصاد، الشيخ الطوسي: القسم الثاني ، الفصل الثالث، ص111 .

غنية النزوع ، ابن زهرة الحلبي: ج2، فصل في التكليف وما يتعلّق به، ص106، 107 .

قواعد المرام، ميثم البحراني: القاعدة السابعة، الركن الثالث ، البحث الثاني، ص158 ـ 159 .

المنقذ من التقليد ، سديد الدين الحمصي: ج1، الكلام في التكليف و ... ، ص248 .

مناهج اليقين ، العلاّمة الحلّي: المنهج السادس ، البحث الرابع، ص250 .

النافع يوم الحشر، مقداد السيوري: الفصل الرابع: في العدل، ص71 .

إشراق اللاهوت ، عميد الدين العُبيدي: المقصدالعاشر، المسألة الثالثة ، المبحث الثاني، ص338 .

إرشاد الطالبيين، مقداد السيوري: مباحث العدل، كون التكليف حسن ، ص272 ـ 273 .


الصفحة 262

2 ـ تعود لغير اللّه تعالى: وهو الصحيح .

وهذا الغير هو:

1 ـ غير المكلَّف: وهو غير صحيح ، لأنّ المكلَّف هو المتحمّل مشقة التكليف ، فينبغي أن يكون هو المنتفع لا غيره .

2 ـ المكلَّف: وهو الصحيح .

وهذه الفائدة التي يحصل عليها المكلَّف هي:

1 ـ جلب نفع أو دفع ضرر (أي: الحصول على الثواب والاجتناب عن العقاب): وهو غير صحيح ، لأنّ الكافر الذي يموت على كفره مكلّف مع أنّ تكليفه لا يجلب له نفعاً ولا يدفع عنه ضرراً .

2 ـ تعريض(1) للنفع وتحذير من الضرر (أي: تعريض للثواب وتحذير من العقاب): وهو الصحيح .

حديث شريف :

قال الإمام علي(عليه السلام) :

"أ يّها الناس !

إنّ اللّه تبارك وتعالى لمّا خلق خلقه أراد أن يكونوا على آداب رفيعة وأخلاق شريفة .

فعلم أنّهم لم يكونوا كذلك إلاّ بأن يعرّفهم ما لهم وما عليهم .

والتعريف لا يكون إلاّ بالأمر والنهي .

والأمر والنهي لا يجتمعان إلاّ بالوعد والوعيد .

والوعد لا يكون إلاّ بالترغيب .

والوعيد لا يكون إلاّ بالترهيب .

والترغيب لا يكون إلاّ بما تشتهيه أنفسهم وتلذّه أعينهم .

والترهيب لا يكون إلاّ بضدّ ذلك .

____________

1- معنى التعريض ـ كما ذكرنا سابقاً ـ هو جعل المكلّف بحيث يتمكّن من الوصول إلى النفع الذي عُرِّض له .


الصفحة 263

ثمّ خلقهم في داره .

وأراهم طرفاً من اللذات، ليستدلّوا به على ما ورائهم من اللذات الخالصة التي لا يشوبها ألم ، ألا وهي الجنة .

وأراهم طرفاً من الآلام، ليستدلوا به على ما ورائهم من الآلام الخالصة التي لا يشوبها لذة، ألا وهي النار .

فمن أجل ذلك ترون نعيم الدنيا مخلوطاً بمحنهم .

وسرورها ممزوجاً بكدرها وغمومها"(1).

انقطاع التكليف :

ينبغي أن يكون التكليف منقطعاً ومحدّداً بفترة زمنية معيّنة ، لأنّ التكليف يتبعه الحصول على الثواب الإلهي، ودوام التكليف يوجب عدم إمكان الحصول على ذلك الثواب، فلهذا ينبغي أن يكون التكليف الذي فيه مشقة منقطعاً، ليصل المكلّف بعد ذلك إلى الثواب الذي لا مشقة فيه(2) .

إشكال وردّ :

أشكل البعض :

إذا كان الغرض الإلهي من تكليف العباد هو أن يعطيهم النفع ، فإنّ اللّه تعالى قادر على إيصال هذا النفع إليهم من غير واسطة التكليف ، فلهذا يكون التكليف عبثاً(3).

يرد عليه :

1 ـ إنّ اللّه تعالى هو الذي خلق نظام الأسباب ، وهو الذي شاءت حكمته أن تتوقّف بعض الأُمور على البعض الآخر في الواقع الخارجي ، ولهذا لا يكون توسّط

____________

1- بحار الأنوار ، العلاّمة المجلسي: ج5، كتاب العدل والمعاد ، باب 15 ، ح13 ، ص316 .

2- انظر : شرح جمل العلم والعمل ، الشريف المرتضى : أبواب العدل ، ص103 ، 104 .

الذخيرة ، الشريف المرتضى: فصل: في وجوب انقطاع التكليف، ص141 .

غنية النزوع ، ابن زهرة الحلبي: ج2، وجوب انقطاع التكليف ، ص109 .

3- انظر: التفسير الكبير، فخر الدين الرازي: ج10، تفسير آية 56 من سورة الذاريات، ص193 .


الصفحة 264

الفعل من أجل الوصول إلى الغرض عبثاً .

2 ـ ليس الغرض الإلهي من تكليف العباد: أن يعطيهم النفع .

وإنّما الغرض الإلهي من تكليف العباد: أن يصلوا إلى الكمال .

والوصول إلى الكمال على نحوين :

أوّلاً: إجباري .

ثانياً: اختياري .

وبما أنّ الوصول إلى الكمال بالإجبار لا قيمة له، فإنّ اللّه تعالى منح العباد الاختيار ، وجعل التكليف سبيلا لتكاملهم .


الصفحة 265

النتيجة :

إنّ الغرض الإلهي من تكليف العباد هو أن يصلوا إلى التكامل الاختياري.

ولا يتحقّق هذا التكامل إلاّ عن طريق اختيار الإنسان الكمال بنفسه .

وقد جعل اللّه تعالى التكليف سبيلا يصل من خلاله الإنسان باختياره إلى الكمال المطلوب .

ولهذا لا يوجد أي عبث في هذا الصعيد .


الصفحة 266

المبحث السادس

شروط حسن التكليف(1)

شروط التكليف :

1 ـ وجود المكلَّف ، لأنّ تكليف المعدوم عبث(2).

2 ـ انتفاء المفسدة فيه، لأنّ وجودها قبيح(3) .

3 ـ تقدّمه على وقت الفعل زماناً يتمكّن فيه المكلَّف من معرفة التكليف والامتثال به بالصورة المطلوبة، لأنّ التكليف يكون في غير هذه الحالة تكليفاً بما لا يطاق، وهو قبيح(4) .

4 ـ إمكان وقوعه ، لأنّ التكليف بالمستحيل قبيح(5) .

5 ـ أن لا يتعلّق التكليف بالمباح ، وإنّما يتعلّق بما يستحق به الثواب كالواجب والمندوب وترك القبيح ، لأنّ التكليف بما لا يستحق الثواب عبث ، وهو قبيح(6) .

____________

1- سنكتفي في هذا المبحث ـ مراعاة للاختصار ـ بذكر المصادر في الهامش بصورة موجزة، ويستطيع القارئ مشاهدة هذه المصادر بصورة مفصّلة في نهاية المبحث .

2- انظر: نهج الحقّ، العلاّمة الحلّي: 134 .

3- انظر: الذخيرة: 110، تقريب المعارف: 121، تجريد الاعتقاد: 203، مناهج اليقين: 251، النافع يوم الحشر: 72، اللوامع الإلهية: 223 .

4- انظر: الذخيرة: 100، تقريب المعارف: 123، تجريد الاعتقاد: 203، مناهج اليقين: 251، اللوامع الإلهية: 222 .

5- انظر: الذخيرة: 112، الاقتصاد: 112، المنقذ من التقليد: 1/ 288 ، مناهج اليقين: 251، إرشاد الطالبين: 274 ـ 275، اللوامع الإلهية: 223 .

6- تجريد الاعتقاد: 203، قواعد المرام: 117، المنقذ من التقليد: 1 / 288، نهج الحقّ: 136، مناهج اليقين: 251، إرشاد الطالبين: 274 ـ 275، اللوامع الإلهية: 223 .


الصفحة 267

شروط المكلِّف :

1 ـ أن يكون حكيماً ومنزّهاً عن فعل القبيح والإخلال بالواجب ، لأ نّه لو كان فاعلا للقبيح ومخلاًّ بالواجب لجاز تكليفه بالقبائح وإخلاله في إعطاء الثواب إزاء التكليف ، وهذا قبيح(1) .

2 ـ أن يكون عالماً بحسن وقبح الفعل الذي يكلّف به، لئلا يكلِّف بالقبيح، من قبيل الأمر بفعل القبيح(2) .

3 ـ أن يكون عالماً بمقدار الثواب والعقاب الذي يستحقه كلّ مكلَّف عند الطاعة أو المعصية، حتّى لا يكون مضيّعاً لحقّ المكلَّفين(3).

4 ـ أن يكون قادراً على إيصال المستحق حقّه ، لأنّ عدم القدرة في هذا المجال تستلزم العجز والظلم ، وكلاهما محال على اللّه تعالى(4) .

5 ـ أن يكون له غرض في التكليف، لأنّ التكليف من دون غرض قبيح ، وقد ذكرنا هذا الأمر في المبحث السابق(5) .

6 ـ أن يقوم بتقوية دواعي المكلَّف فيما يكلِّفه(6) بحيث يمكّنه من فعل ما يؤمر به وترك ما يُنهى عنه(7) .

شروط المكلَّف :

1 ـ أن يكون قادراً على ما يكلَّف به، لأنّ التكليف بما لا يطاق قبيح، واللّه تعالى

____________

1- انظر: الذخيرة: 107، تقريب المعارف: 114، الاقتصاد: 108، تجريد الاعتقاد: 203، قواعد المرام: 116، مناهج اليقين: 251، إرشاد الطالبين: 274، اللوامع الإلهية: 222 .

2- انظر: تجريد الاعتقاد: 203، قواعد المرام: 116، المنقذ من التقليد: 1/289، مناهج اليقين: 251، النافع يوم الحشر: 72، إرشاد الطالبين: 274، اللوامع الإلهية: 222 .

3- انظر: الذخيرة: 107، الاقتصاد: 108، تجريد الاعتقاد: 203، قواعد المرام: 116، المنقذ من التقليد: 1/289 ، مناهج اليقين: 251، إرشاد الطالبين: 274، اللوامع الإلهية: 222 .

4- انظر: المصادر المذكورة في الهامش السابق، ماعدا كتاب المنقذ من التقليد .

5- راجع مبحث غرض التكليف من هذا الفصل .

6- لا يخفى بأنّ المقصود من تقوية الدواعي هي التي لا تبلغ حدّ الإلجاء والجبر المنافي للتكليف .

7- انظر: الذخيرة: 112، تقريب المعارف: 121، الاقتصاد: 112 .


الصفحة 268

منزّه عن فعل القبيح(1)، وسنبيّن تفاصيل هذا الشرط في المبحث الأخير من هذا الفصل .

2 ـ أن يكون متمكّناً من الأدوات التي يحتاج إليها في أداء ما يُكلَّف به، لأنّ التكليف مع فقدان الأدوات يكون بمنزلة التكليف بما لا يطاق ، وهو قبيح(2) .

3 ـ أن لا يكون مجبوراً فيما كُلِّف به، لأنّ من شروط التكليف أن يكون الإنسان مختاراً لفعل الخير أو الشر(3) .

4 ـ أن يكون عالماً أو متمكّناً من العلم بما كُلِّف به(4) ، كما ينبغي أن يكون متمكّناً من التمييز بين ما كلِّف به وبين ما لم يكلّف به(5) ، لأنّ التكليف لا يكون إلاّ بعد إقامة الحجّة .

تنبيه :

لا يخفى أنّ العلم بالتكليف والتمييز بينه وبين غيره يحتاج إلى كمال العقل ، ولهذا يشترط أن يكون المكلَّف كامل العقل(6) .

الجاهل بالتكليف

أقسام الجاهل بالتكليف :

1 ـ الجاهل القاصر: وهو الذي لم يتمكّن من طلب العلم لمانع أو لقصور في ذاته.

2 ـ الجاهل المقصِّر: وهو الذي تمكّن من طلب العلم ، ولكنه ترك ذلك عمداً أو

____________

1- انظر: الذخيرة: 100، تقريب المعارف: 128، الاقتصاد: 116، تجريد الاعتقاد: 203، قواعد المرام: 116، المنقذ من التقليد: 1/252 ، مناهج اليقين: 251، النافع يوم الحشر: 73، إرشاد الطالبين: 274 ـ 275، اللوامع الإلهية: 222 .

2- انظر: الذخيرة: 100 و 123، تقريب المعارف: 128، الاقتصاد: 118، تجريد الاعتقاد: 203، قواعد المرام: 117، مناهج اليقين: 251، إرشاد الطالبين: 275 .

3- انظر: الاقتصاد: 120، المنقذ من التقليد: 1/288 .

4- انظر: الذخيرة: 121، الاقتصاد: 117، تجريد الاعتقاد: 203، المنقذ من التقليد: 1/252 ، اللوامع الإلهية: 222 .

5- انظر: قواعد المرام: 116، مناهج اليقين: 251، إرشاد الطالبين: 275 .

6- انظر: الذخيرة: 121، الاقتصاد: 117، المنقذ من التقليد: 1/289 ، نهج الحقّ: 135 .


الصفحة 269

إهمالا .

حكم الجاهل بالتكليف :

1 ـ إنّ الجاهل القاصر معذور عند اللّه تعالى ولا عقاب عليه، لأنّ اللّه تعالى لا يعاقب أحداً إلاّ بعد البيان ووصول البرهان ، وقد ورد في أحاديث أهل البيت(عليهم السلام)بأنّ الذين لم تتمّ عليهم الحجّة في الدنيا يُكلَّفون في الآخرة، ويُحدّد هناك مصيرهم عن طريق ذلك التكليف(1) .

2 ـ إنّ الجاهل المقصِّر في معرفة التكليف غير معذور ، وهو مسؤول عند اللّه تعالى ومعاقب على تقصيره .

قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام) حول قوله تعالى: { قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ } [ الأنعام: 149 ] :

"إنّ اللّه تعالى يقول للعبد يوم القيامة: عبدي أكنت عالماً؟

فإن قال: نعم .

قال له: أفلا عملت بما علمت ؟

وإن قال: كنت جاهلا .

قال له: أفلا تعلّمت حتّى تعمل ؟

فتلك الحجّة البالغة"(2) .

تتمة :

إنّ الحجّة ـ عند المتكلّمين ـ هي ما توجب القطع وتفيد العلم وتقطع العذر(3) .

وتنقسم الحجّة إلى قسمين :

1 ـ باطنية: وهي العقول .

____________

1- انظر: بحار الأنوار ، العلاّمة المجلسي: ج5، كتاب العدل والمعاد، باب 13: الأطفال ومن لم يتم عليهم الحجّة في الدنيا، ص 288 ـ 297 .

2- الأمالي، الشيخ الطوسي: المجلس الأوّل ، ح14، ص11 .

3- انظر: الفوائد البهية، محمّد حمود العاملي: ج1، الفصل الأوّل ، الباب الخامس، ص302 .


الصفحة 270

2 ـ ظاهرية: وهي الرسل والكتب السماوية.

قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام):

"حجّة اللّه على العباد النبي، والحجّة فيما بين العباد وبين اللّه العقل"(1) .

____________

1- الكافي، الشيخ الكليني: ج1، كتاب العقل والجهل، ح22، ص25 .


الصفحة 271

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مصادر هذا المبحث بصورة مفصّلة :

انظر: الذخيرة ، الشريف المرتضى: باب: الكلام في الاستطاعة و ... ، فصل: في إبطال تكليف ما لا يطاق ، ص100، وباب: الكلام في التكليف ، فصل في صفات المكلِّف تعالى، ص 107، وفصل: في بيان الغرض بالتكليف و ... ، ص110، وفصل: في بيان صفات الأفعال التي يتناولها التكليف ، ص112، وفصل: في الصفات والشرائط التي يكون عليها المكلَّف، ص121 و123 .

تقريب المعارف ، أبو الصلاح الحلبي: مسائل العدل ، مسألة: في التكليف ، ص114، 121، 123، 128 .

الاقتصاد ، الشيخ الطوسي: القسم الثاني ، الفصل الثالث: في الكلام في التكليف ، صفات المكلّف، ص108، الفعل الذي يتناوله التكليف، ص112، الصفات التي يجب أن يكون عليها المكلَّف، ص116، 117 و 120 .

تجريد الاعتقاد ، نصيرالدين الطوسي: المقصد الثالث ، الفصل الثالث: في أفعاله ، التكليف ، ص203 .

قواعد المرام، ميثم البحراني: القاعدة الخامسة، الركن الثاني، البحث الرابع والبحث الخامس، ص116، 117 .

المنقذ من التقليد، سديد الدين الحمصي: ج1، القول في أن اللّه تعالى كلّف كلّ من أكمل شروط التكليف فيه، ص252، القول في الشروط التي باعتبارها يحسن التكليف ، ص288، 289 .

نهج الحقّ: العلاّمة الحلّي: المسألة الثالثة، المطلب الثامن عشر، ص135، 136 .

مناهج اليقين ، العلاّمة الحلّي: المنهج السادس، البحث الرابع، ص251 .

إرشاد الطالبين: مقداد السيوري: مباحث العدل، شرائط التكليف: 274، 275 .

اللوامع الإلهية، مقداد السيوري: اللامع التاسع، المقصد الرابع، النوع الأوّل ، ص222، 223 .


الصفحة 272

المبحث السابع

تكليف من لم تتمّ عليهم الحجّة في الدنيا

إنّ الذين لم تتمّ عليهم الحجّة في الدنيا، ولم يتحقّق تكليفهم فيها، فإنّ تكليفهم سيكون في الآخرة.

وبذلك التكليف يتمّ تحديد مصيرهم :

فإن فازوا في ذلك التكليف الإلهي فمصيرهم الجنة .

وإن خسروا في ذلك التكليف الإلهي فمصيرهم النار .

أحاديث شريفة واردة في هذا المجال :

1 ـ قال الإمام محمّد بن على الباقر(عليه السلام): "إذا كان يوم القيامة احتجّ اللّه عزّ وجلّ على خمسة :

على الطفل .

والذي مات بين النبيين .

والذي أدرك النبي وهو لا يعقل .

والأبله .

والمجنون الذي لا يعقل .

والأصم والأبكم .

فكلّ واحد منهم يحتجّ على اللّه عزّ وجلّ .

قال: فيبعث اللّه إليهم رسولا فيؤجّج لهم ناراً فيقول لهم :

ربّكم يأمركم أن تثبوا فيها .

فمن وثب فيها كانت عليه برداً وسلاماً .


الصفحة 273

ومن عصى سيق إلى النار"(1) .

2 ـ قال الإمام محمّد بن علي الباقر(عليه السلام):

" ... إذا كان يوم القيامة اُتِيَ:

بالأطفال

والشيخ الكبير الذي قد أدرك السنّ(2) ولم يعقل من الكبر والخرف

والذي مات في الفترة بين النبيين

والمجنون

والأبله الذي لا يعقل

فكلّ واحد [ منهم ] يحتجّ على اللّه عزّ وجلّ

فيبعث اللّه تعالى إليهم ملكاً من الملائكة

فيؤجّج ناراً

فيقول: إنّ ربّكم يأمركم أن تثبوا فيها

فمن وثب فيها كانت عليه برداً وسلاماً

ومن عصاه سيق إلى النار"(3) .

تنبيهات :

1 ـ قال الشيخ الصدوق: "إنّ قوماً من أصحاب الكلام ينكرون ذلك ويقولون:

إنّه لا يجوز أن يكون في دار الجزاء تكليف

____________

1- الخصال ، الشيخ الصدوق: باب الخمسة، ح31، ص283.

الفصول المهمة، الشيخ الحرّ العاملي: ج1، باب 56، ح8 [ 311 ] ، ص282 .

بحار الأنوار ، العلاّمة المجلسي: ج5، باب 13، ح2، ص289 ـ 290 .

2- وردت عبارة "أدرك النبي" بدل "أدرك السن" في :

الفصول المهمة ، الشيخ الحرّ العاملي: ج1، باب 56، ح1 [ 304 ] ، ص278 .

بحار الأنوار ، العلاّمة المجلسي: ج5، باب 13، ح3، ص290 .

3- معاني الأخبار ، الشيخ الصدوق: نوادر الأخبار ، ح86 ، ص408 .


الصفحة 274

ودار الجزاء للمؤمنين إنّما هي الجنة

ودار الجزاء للكافرين إنّما هي النار .

وإنّما يكون هذا التكليف من اللّه عزّ وجلّ في غير الجنة والنار، فلا يكون كلّفهم في دار الجزاء، ثمّ يصيّرهم إلى الدار التي يستحقونها بطاعتهم أو معصيتهم.

فلا وجه لإنكار ذلك"(1) .

2 ـ قال الشيخ الصدوق حول الأحاديث الشريفة المبيّنة بأنّ أولاد المشركين والكفار مع آبائهم في النار :

" ... أطفال المشركين والكفار مع آبائهم في النار لا يصيبهم من حرّها لتكون الحجّة أوكد عليهم متى أمروا يوم القيامة بدخول نار تؤجّج لهم مع ضمان السلامة متى لم يثقوا به ولم يصدّقوا وعده في شيء قد شاهدوا مثله"(2).

3 ـ قال العلاّمة الحلّي: "ذهب بعض الحشوية(3) إلى أنّ اللّه تعالى يعذّب أطفال المشركين ، ويلزم الأشاعرة تجويزه ، والعدلية كافة على منعه، والدليل عليه أنّه قبيح عقلا، فلا يصدر منه تعالى"(4) .

4 ـ إنّ قوله تعالى: { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمان أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } [ الطور: 21 ] لا تدل على إلحاق مطلق الذرية بآبائهم المؤمنين، بل تدل على إلحاق الذرية المؤمنة بآبائهم المؤمنين .

والذرية التي لم ينكشف إيمانها في الدنيا، فإنّ الاختبار الإلهي لها في الآخرة يبيّن إيمانها وعدم إيمانها .

فإن اتّبعت هذه الذرية آباءها في الإيمان، فإنّها ستلحق بآبائها .

____________

1- الخصال ، الشيخ الصدوق: باب الخمسة، ذيل ح31، ص283 .

2- من لا يحضره الفقيه ، الشيخ الصدوق : ج3 ، أبواب القضايا والأحكام ، ب 151 ، ذيل ح 4 [ 1546 ] ، ص318 .

3- للتعرّف على الحشوية راجع: بحوث في الملل والنحل ، جعفر سبحاني: ج1، ص124 والفصل الخامس .

4- كشف المراد، العلاّمة الحلّي: المقصد الثالث ، الفصل الثالث ، المسألة العاشرة، ص436 .


الصفحة 275

وإن لم تتبع هذه الذرية آباءها في الإيمان ، فإنّها لا تلحق بآبائها.

بعبارة أُخرى :

تبيّن هذه الآية بأنّ الذرية إذا اتّبعت آباءها بالإيمان ولكنها لم تبلغ درجة الآباء في الإيمان ، فإنّ اللّه تعالى سيلحق هذه الذرية بالآباء ، وذلك لتقرّ عين الآباء باجتماعهم معهم في الجنة(1) .

"فإن قيل: كيف يلحقون بهم في الثواب ولم يستحقوه.

فالجواب: إنّهم يلحقون بهم في الجمع لا في الثواب والمرتبة"(2) .

تتمة :

تكليف ولد الزنا :

إنّ ولد الزنا غير مقصّر أبداً، ولا يمكن التنقيص منه نتيجة سوء فعل أبويه .

قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام) :

"إنّ ولد الزنا يستعمل ، إن عمل خيراً جُزي به ، وإن عمل شراً جُزي به"(3) .

قال العلاّمة المجلسي بعد ذكره لهذا الحديث الشريف:

"هذا الخبر موافق لما هو المشهور بين الإمامية من أنّ ولد الزنا كسائر الناس مكلّف بأصول الدين وفروعه، ويجري عليه أحكام المسلمين من إظهار الإسلام ، ويثاب على الطاعات ويعاقب على المعاصي"(4) .

تنبيه :

لا يمكن الأخذ ببعض الأحاديث الدالة على أنّ في ولد الزنا منقصة تنافي

____________

1- قال الإمام الصادق(عليه السلام) في تفسير هذه الآية: "قصرت الأبناء عن عمل الآباء فألحق اللّه عزّ وجلّ الأبناء بالآباء لتقرّ بذلك أعينهم" .

التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 61، ح7، ص383 .

2- مجمع البيان، الشيخ الطبرسي: ج9، تفسير آية 21 من سورة الطور .

3- بحار الأنوار ، العلاّمة المجلسي: ج5، كتاب العدل والمعاد ، باب 12، ح14، ص287 .

4- المصدر السابق: ص 287 ـ 288 .


الصفحة 276

الاختيار، لأنّ هذه الأحاديث معارضة للآيات القرآنية الدالة على أنّه تعالى ليس بظلاّم للعبيد(1) .

____________

1- للمزيد راجع: صراط الحقّ، محمّد آصف المحسني: ج2، المقصد 5، القاعدة 12، ص403 ـ 411 .


الصفحة 277

المبحث الثامن

التكليف بما لا يطاق

ذكرنا فيما سبق بأنّ من شروط حسن التكليف أن يكون المكلَّف قادراً على ما يُكلَّف به، لأنّ تكليف ما لا يطاق قبيح ، واللّه تعالى منزّه عن فعل القبيح، ولكن ذهب الأشاعرة إلى عكس هذا القول ، ولهذا تطلّب الأمر تسليط المزيد من الأضواء على هذا الموضوع .

أدلة قبح التكليف بما لا يطاق :

1 ـ إنّ العقل يحكم على نحو البداهة والضرورة بقبح التكليف بما لا يطاق(1) .

2 ـ إنّ المكلَّف عاجز عن امتثال التكليف بما لا يطاق ، وتكليف العاجز ومؤاخذته عليه ينافي العدل والحكمة الإلهية(2) .

3 ـ إنّ غاية التكليف هي أن يفعل المكلَّف ما كُلِّف به، وتنتفي هذه الغاية فيما لو كان التكليف فوق استطاعة المكلَّف، فيكون التكليف ـ في هذه الحالة ـ عبثاً، والعبث قبيح(3) .

____________

1- انظر: الذخيرة، الشريف المرتضى: باب الكلام في الاستطاعة و ... ، ص100 .

شرح جمل العلم والعمل، الشريف المرتضى: أبواب العدل وما يتّصل بذلك ، ص99 .

تقريب المعارف، أبو الصلاح الحلبي: مسائل العدل، مسألة في التكليف ، ص112 .

المنقذ من التقليد، سديد الدين الحمصي: ج1، القول في تكليف ما لا يطاق ، ص203 .

2- انظر: شرح جمل العلم والعمل، الشريف المرتضى: أبواب العدل، قبح تكليف ... ، ص98 ـ 99 .

نهج الحقّ، العلاّمة الحلّي: المسألة الثالثة، المطلب الثامن ، ص99 .

غنية النزوع، ابن زهرة الحلبي: ج2، قبح تكليف من ليس بقادر، ص105 .

3- انظر: إشراق اللاهوت ، عميد الدين العُبيدلي: المقصد العاشر، المسألة الرابعة ، ص389 .


الصفحة 278

نفي التكليف بما لا يطاق في القرآن الكريم :

ورد في القرآن الكريم جملة من الآيات الدالة بوضوح على أنّ اللّه تعالى لا يكلِّف العباد إلاّ قدر وسعهم وطاقتهم ، منها قوله تعالى :

1 ـ { لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها } [ البقرة: 286 ]

2 ـ { لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ ما آتاها } [ الطلاق: 7 ]

3 ـ { وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج } [ الحج: 78 ]

4 ـ { يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } [ البقرة: 185 ]

نفي التكليف بما لا يطاق في أحاديث أئمة أهل البيت(عليهم السلام) :

ورد في أحاديث أئمة أهل البيت(عليهم السلام) العديد من النصوص الدالة بوضوح على أنّ اللّه تعالى لا يكلّف العباد إلاّ قدر وسعهم وطاقتهم ، ومن هذه الأحاديث الشريفة :

1 ـ الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): "ما كلّف اللّه العباد إلاّ ما يطيقون"(1) .

2 ـ الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): " ... ليس من صفته [ عزّ وجلّ ] الجور والعبث والظلم وتكليف العباد ما لا يطيقون"(2) .

3 ـ الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): " ... كلّ شيء أُمر الناس بأخذه فهم متّسعون له، وما لا يتّسعون له فهو موضوع عنهم ..."(3) .

4 ـ الإمام موسى بن جعفر الكاظم(عليه السلام): " ... إنّ اللّه تبارك وتعالى لا يكلّف نفساً إلاّ وسعها، ولا يحمّلها فوق طاقتها ..."(4).

5 ـ الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام): سأله الراوي عن اللّه عزّ وجلّ هل يكلّف

____________

1- بحار الأنوار ، العلاّمة المجلسي: ج5، كتاب العدل والمعاد، أبواب العدل، ب1، ح66، ص41 .

2- المصدر السابق: ح29، ص19 .

3- بحار الأنوار، العلاّمة المجلسي: ج5، كتاب العدل والمعاد، أبواب العدل، ب1، ح51، ص36 .

4- التوحيد ، الشيخ الصدوق: باب 59: باب نفي الجبر والتفويض، ح9، ص352 .


الصفحة 279

عباده ما لا يطيقون؟ فقال(عليه السلام): "كيف يفعل ذلك وهو يقول: { وَما رَبُّكَ بِظَـلاّم لِلْعَبِيدِ } "(1) .

تنبيهان :

1 ـ إنّ التكليف بما لا يطاق قبيح ، من غير فرق بين :

أوّلاً: أن يكون نفس التكليف بذاته محال .

ثانياً: أن يكون التكليف ممكناً بالذات، ولكنّه خارج عن إطار قدرة المكلَّف .

2 ـ إنّ القيام بالتكاليف الإلهية يختلف باختلاف طاقة العباد، وكلّ إنسان مكلّف بأداء الواجبات وترك المحرمات بقدر طاقته .

رأي الأشاعرة حول التكليف بما لا يطاق :

جوّز الأشاعرة أن يكلّف اللّه تعالى العباد بما لا يطيقون ، وقالوا بأنّ التكليف بما لا يطاق جائز، ولا يمتنع عليه تعالى أن يكلّف العباد بما هو فوق وسعهم وطاقتهم وما لا يقدرون عليه(2) .

تنبيه :

ذكر بعض الأشاعرة بأنّ مرادهم من القول بجواز تكليف اللّه العباد بما لا يطيقون هو "إمكان الوقوع" فقط، وأمّا "الوقوع" فإنّه لم يقع في نطاق التشريع، وذلك لقوله تعالى: { لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها } (3) .

بعبارة أُخرى :

إنّ اللّه تعالى يجوز له أن يكلّف العباد فوق وسعهم وطاقتهم ، ولكنه لم يفعل

____________

1- بحار الأنوار ، العلاّمة المجلسي: ج5، كتاب العدل والمعاد، أبواب العدل، ب1، ح17، ص11 .

2- انظر: المواقف، عضد الدين الإيجي: ج3، الموقف 5، المرصد 6، المقصد 7 ، ص290 و292 .

شرح المقاصد، سعد الدين التفتازاني: ج4، المقصد 5 ، الفصل 5، المبحث 4، ص296 .

دلائل الصدق، محمّد حسن المظفر: ج1، المسألة 3 ، المبحث 11، المطلب 1، مناقشة الفضل ، ص327، والمطلب 8 ، مناقشة الفضل ، ص425 .

3- انظر: المواقف، عضد الدين الإيجي: ج3، الموقف 5، المرصد 6، المقصد 7، ص291 و293 .

دلائل الصدق، محمّد حسن المظفر: ج1، المسألة 3 ، المبحث 11 ، المطلب 8 ، مناقشة الفضل، ص425 .


الصفحة 280

ذلك .

أدلة الأشاعرة على جواز التكليف بما لا يطاق ومناقشتها :

الدليل الأوّل :

إنّ اللّه تعالى يمتلك الحرّية المطلقة، فلهذا يجوز له أن يكلّف العباد بأيّ وجه أراد ، ولو كان ذلك تكليفاً بما لا يطاق، لأ نّه تعالى يفعل ما يشاء(1) .

يرد عليه :

إذا كان الأمر كذلك ، فينبغي القول بأنّ اللّه تعالى يجوز له الكذب على العباد ، لأ نّه يمتلك الحرّية المطلقة، ويفعل ما يشاء ، فتزول حينئذ الثقة بأنبيائه وكتبه السماوية.

ولكن الأمر ليس كذلك ، لأنّ اللّه تعالى على رغم امتلاكه الحرية المطلقة في الفعل ، فإنّه حكيم وعادل ، ولا يصدر منه ما ينافي جلالة قدره وعظمة شأنه(2).

بعبارة أُخرى :

إنّ أيّ دليل يتمسّك به الأشاعرة لإثبات عدم إخباره تعالى بالكذب ، فهو دليل على عدم تكليفه تعالى بما لا يطاق .

الدليل الثاني :

لو كان تكليف اللّه العباد بما لا يطيقون قبيحاً، لما وقع ذلك ، ولكنه وقع، ومنه أنّ اللّه تعالى كلّف أبا لهب بأن يؤمن بالنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ويصدّق بكلّ ما أخبر به ، ومن جملة ما أخبر به(صلى الله عليه وآله وسلم) هو أنّ أبا لهب لا يؤمن، فيكون تكليف أبي لهب: "أن يؤمن بأ نّه لا يؤمن" ، وهو جمع بين النقيضين ، وهذا تكليف بما لا يطاق، وقد وقع من قبل اللّه

____________

1- انظر: المواقف ، عضد الدين الإيجي: ج3، الموقف 5 ، المرصد 6، المقصد 7، ص290 .

شرح المقاصد، سعد الدين التفتازاني: ج4، المقصد 5، الفصل 5، المبحث 4، ص296 .

دلائل الصدق، محمّد حسن المظفر: ج1، المسألة 3، المبحث 11، المطلب 8 ، مناقشة الفضل، ص425 .

2- انظر: كنز الفوائد، أبو الفتح الكراجكي: ج1، قبح التكليف بما لا يطاق ، ص108 ـ 109 .


الصفحة 281

تعالى ، فيثبت عدم قبح تكليف ما لا يطاق(1) .

يرد عليه :

ورد في مقام الردّ على هذا الدليل مجموعة آراء، منها:

1 ـ إنّ الإخبار عن أبي لهب بأنّه لا يؤمن وقع بعد موته لا قبله(2).

2 ـ إنّ اللّه تعالى لم يخبر بأنّ أبا لهب لا يؤمن أو أ نّه سيموت كافراً، وإنّما أخبر بأ نّه سيصلى ناراً ذات لهب ، وهذا لا يستلزم الكفر، لأنّ العذاب الإلهي أيضاً يشمل الظالم ولو كان مسلماً(3).

3 ـ كان أبو لهب مكلّفاً بالإيمان من حيث كونه مختاراً وقادراً على الإيمان ، وهذا الإيمان أمر ممكن وليس مما لا يطاق .

وأمّا إخباره تعالى بعدم إيمان أبي لهب فهو من حيث العلم، والعلم ـ كما ذكرنا ـ يكشف عن الواقع كما هو عليه، وقد كشف علم اللّه تعالى بأنّ أبا لهب لا يؤمن باختياره .

ولو كان أبو لهب مختاراً للإيمان، لكان في علم اللّه تعالى بأ نّه يؤمن ، والعلم تابع للمعلوم، وليس له أي تأثير على الواقع الخارجي(4).

4 ـ إنّ إخباره تعالى بعدم إيمان أبي لهب ورد بعد أن لم يؤمن أبو لهب بما كُلّف به، فأخبر اللّه تعالى بأ نّه لا يؤمن ، لأ نّه أصبح نتيجة أعماله ممن خُتم على قلبه

____________

1- انظر: شرح المقاصد، سعد الدين التفتازاني: ج4، المقصد 5، الفصل 5، المبحث 5 ، ص297 .

محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخرين ، فخر الدين الرازي: مسألة الحسن والقبح ، ص202 .

دلائل الصدق، محمّد حسن المظفر: ج1، المسألة 31، المبحث 11، المطلب 1، مناقشة الفضل، ص327.

2- انظر: إرشاد الطالبين ، مقداد السيوري: مباحث العدل، احتجاج الأشاعرة، ص257 .

3- انظر : دلائل الصدق ، محمّد حسن المظفر : ج 1 ، المسألة 3 ، المبحث 11 ، المطلب 1 ، مناقشة المظفر ، ص 328 .

4- انظر: مناهج اليقين، العلاّمة الحلّي: المقصد السادس، المبحث الأوّل ، ص234 .

تلخيص المحصّل، نصير الدين الطوسي: الركن الثالث، القسم الثالث ، ص340 .

إشراق اللاهوت، عميد الدين العُبيدلي: المقصد السابع، المسألة الأُولى ، ص310 .


الصفحة 282

وسمعه وبصره(1) .

الآيات القرآنية التي استدل بها القائلون بجواز التكليف بما لا يطاق :

استدل بعض الأشاعرة بآيات قرآنية ظنّوا أ نّها تدل على جواز التكليف بما لا يطاق ، مع أ نّها بعيدة كلّ البُعد عما ذهبوا إليه ، وأبرز هذه الآيات(2):

الآية الأولى :

{ أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ } [ هود: 20 ]

وجه الاستدلال :

إنّ الكافرين أُمروا أن يسمعوا الحقّ وكُلّفوا به مع أ نّهم { ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ } ، فدلّ ذلك على جواز التكليف بما لا يطاق .

يرد عليه :

إنّ سبب عدم استطاعة هؤلاء الكافرين على السمع والبصر المعنوي هو تماديهم في الظلم والغي وإحاطة ظلمة الذنوب على قلوبهم وأعينهم وأسماعهم ، حيث أمات العصيان والطغيان قلوبهم وأصمّ أسماعهم(3) .

بعبارة أُخرى :

إنّ هذه الآية لا تدل على فقدان الكافرين السمع والبصر المعنوي في بداية الأمر ، بل تدل على أ نّهم حرموا أنفسهم من هذا السمع والبصر بذنوبهم ، فصارت

____________

1- انظر: الإنصاف، جعفر السبحاني: ج3، أدلة المنكرين للتحسين والتقبيح العقليين، ص32، 33 .

2- انظر تفاسير علماء أهل السنة، كما أشار سعد الدين التفتازاني في كتابه شرح المقاصد، وأشار ميمون بن محمّد النسفي في كتابه بحر الكلام إلى هذه الآيات ووجه الاستدلال بها، وقد بيّن التفتازاني والنسفي في هذا المجال عدم صحّة الأدلة التي احتج بها القائلون بجواز التكليف بما لا يطاق.

انظر: شرح المقاصد، سعد الدين التفتازاني: ج4، المقصد 5، الفصل 5، المبحث 5، ص299 ـ 301 .

وانظر: بحر الكلام، ميمون بن محمّد النسفي: الباب الرابع، الفصل الأوّل، المبحث الثالث، ص199ـ201 .

3- انظر: الفوائد البهية، محمّد حمّود العاملي: ج1، الفصل الأوّل ، الباب الخامس ، الأمر الثاني، ص305 .


الصفحة 283

الذنوب التي ارتكبوها سبباً لئلا يسمعوا وأن لا يبصروا الحقائق المعنوية .

الآية الثانية :

{ رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ } [ البقرة: 286 ]

وجه الاستدلال :

إنّ هذه الآية تدل بوضوح على جواز تكليف ما لا يطاق ، فلو لم يكن التكليف للعاجز جائزاً لم يكن لهذا الدعاء معنى وفائدة .

يرد عليه :

هذه الآية :

لا تشير إلى "تكليف" ما لا يطاق .

وإنّما تشير إلى "تحميل" ما لا يطاق .

وهناك فرق بين "التكليف" و"التحميل" .

والفرق هو :

إنّ في "التكليف" يطلب المكلِّف من المكلَّف أن يقوم بفعل معيّن .

ولهذا يشترط في هذا المقام أن يمتلك المكلَّف القدرة والطاقة على ذلك الفعل .

ولكن "التحميل" ليس فيه طلب، وإنّما هو عبارة عن مصائب وابتلاءات وكوارث يحمّلها اللّه تعالى على الإنسان لأغراض حكيمة .

وهذه المصائب التي يواجهها الإنسان :

قد يطيقها ويتمكّن من الوقوف بوجهها والمحافظة على تعادله .

وقد لا يطيقها فتربك توازنه وتشل حركته وتدمّر قدراته وقواه .

النتيجة :

الكلام يدور في هذه الآية حول "تحميل المصائب" التي لا يطيق الإنسان صدّها وإبعاد نفسه عنها، وليس الكلام حول "التكليف" بما لا يطاق .


الصفحة 284

الآية الثالثة :

{ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ * قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [} البقرة: 31 ـ 32 ]

وجه الاستدلال :

إنّ اللّه تعالى كلّف الملائكة بأن يذكروا أسماء ما كانوا عالمين بها، ولا طريق لهم إلى علمها، وهذا ما يدل على أ نّه تعالى كلّفهم بما لا يطاق .

يرد عليه :

إنّ الأمر في قوله تعالى: { أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ } للتعجيز لا للتكليف ، وهذا نظير قوله تعالى: { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْب مِمّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَة مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ } [ البقرة: 23 ] .

بعبارة أُخرى :

إنّ الغرض من أمره تعالى في هذا المقام بيان عجز المخاطبين ، وليس هذا الأمر من قبيل الأمر الحقيقي الذي يثاب فاعله ويعاقب تاركه، ولهذا لم يستحق الملائكة العقاب عندما لم ينبئوا ويخبروا اللّه تعالى بهذه الأسماء ، ولم يعدّ عدم تلبيتهم لهذا الأمر الإلهي ذنباً أو عصياناً(1) .

الآية الرابعة :

{ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساق وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ} [ القلم: 42ـ43]

وجه الاستدلال :

إذا جاز تكليف هؤلاء في الآخرة بما لا يستطيعون جاز ذلك في الدنيا .

____________

1- انظر: المنقذ من التقليد، سديد الدين الحمصي: ج1، القول في تكليف ما لا يطاق، ص205 .


الصفحة 285

يرد عليه :

ليس الغرض من هذه الآية التكليف الحقيقي الذي يشترط فيه القدرة، بل الغاية منه إيجاد الحسرة والندامة في نفوس التاركين للسجود على ما فرّطوا في الدنيا عندما كانت أبدانهم تتمتّمع بالصحة والسلامة .

بعبارة أُخرى :

إنّ الآية بصدد بيان أنّ هؤلاء رفضوا امتثال أوامر اللّه تعالى في الدنيا عندما كانوا يستطيعون ذلك ، ولكنهم بعدما كُشف الغطاء عن أعينهم، ورأوا العذاب همّوا بالطاعة والسجود، ولكن أنّى لهم ذلك في الآخرة، فهم لا يستطيعون ذلك لعدم سلامة أبدانهم، أو نتيجة القبائح التي ارتكبوها في الدنيا، أو لاستقرار ملكة الاستكبار في سرائرهم(1) .

الآية الخامسة :

قال تعالى: { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً } [ النساء: 3 ]

وقال تعالى: { وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} [ النساء:129 ]

وجه الاستدلال :

إنّ اللّه عزّ وجلّ جوّز تعدّد الزوجات، وكلّف كلّ من يتزوّج أكثر من واحدة أن يراعي العدل بين زوجاته، ولكنه تعالى بيّن في الآية الثانية بأنّ مراعاة العدل بين الزوجات أمر لا يقدر عليه الإنسان . فنستنتج بأنّ "المتزوّج أكثر من واحدة" مكلّف من قبل اللّه تعالى بما لا يطاق .

يرد عليه :

إنّ المقصود من العدالة في قوله تعالى: { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا } غير المقصود من العدالة في قوله تعالى: { وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا } .

____________

1- انظر: الإلهيات ، محاضرات: جعفر السبحاني، بقلم: حسن محمّد مكي العاملي: 1/305 ـ 306 .


الصفحة 286

توضيح :

أقسام العدالة بين الزوجات :

1 ـ عدالة يمكن مراعاتها ، وهي العدالة في الملبس والمأكل والمسكن وغيرها من حقوق الزوجية التي تقع في دائرة اختيار الإنسان ، وهذه العدالة هي المقصودة في قوله تعالى: { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا } .

2 ـ عدالة لا يمكن مراعاتها، وهي العدالة في إقبال النفس وما يرتبط بالقلب وغيرها من الأُمور التي لا تقع في دائرة اختيار الإنسان ، وهذه العدالة هي المقصودة في قوله تعالى: { وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا } .

التكليف الإلهي حول مراعاة العدالة بين الزوجات :

إنّ "المتزوّج أكثر من واحدة" مكلّف فقط بمراعاة "العدالة" التي يقدر عليها، (وهي العدالة المذكورة في القسم الأوّل) ، وهو غير مكلف بمراعاة "العدالة" التي لا يقدر عليها (وهي العدالة المذكورة في القسم الثاني) . ولهذا لا يوجد في هاتين الآيتين ما يدل على وقوع التكليف بما لا يطاق .


الصفحة 287

الصفحة 288

فهرس المطالب / تحميل الكتاب

فهرس المطالب

zip pdf doc