المؤلفات » العدل عند مذهب أهل البیت (علیهم السلام)

الفصل السابع

الجبر والتفويض

معنى الجبر والاختيار
مذهب الجبرية
أقسام الجبر
الأدلة المبطلة للجبر والمثبتة للاختيار
ردّ أدلة القول بالجبر
رأي الأشاعرة حول خلق اللّه لأفعال الإنسان
الاستطاعة وأثر قدرة الإنسان في أفعاله
الكسب عند الأشاعرة
التفويض عند المعتزلة
مناقشة نظرية التفويض
القدرية
أفعال العباد عند مذهب أهل البيت(عليهم السلام)
الأمر بين الأمرين


الصفحة 176

الصفحة 177

المبحث الأوّل

معنى الجبر والاختيار (لغة واصطلاحاً)

معنى الجبر (في اللغة) :

الجبر هو الإكراه والإرغام والقهر .

والجبر في الفعل هو الحمل على الفعل بالقسر والغلبة(1) .

معنى الجبر (في الاصطلاح العقائدي) :

هو إجبار اللّه العباد على ما يفعلون ، خيراً كان أو شراً، حسناً كان أو قبيحاً، دون أن يكون للعباد أية إرادة أو قدرة أو اختيار على الرفض والامتناع(2).

بعبارة أُخرى :

إنّ أفعال الإنسان كلّها للّه تعالى ، والإنسان كالآلة الجامدة يسيّره اللّه بإرادته واختياره ، من دون أن يمتلك الإنسان أية إرادة أو اختيار في أفعاله ، وإنّما يصدر الفعل منه وهو مجبر عليه .

معنى الاختيار (في اللغة والاصطلاح العقائدي) :

الاختيار هو التمكّن من فعل الشيء وتركه(3) .

____________

1- راجع: لسان العرب ، ابن منظور: مادّة (جبر) .

2- انظر: المصطلحات الإسلامية ، مرتضى العسكري: 148 .

3- راجع: لسان العرب ، ابن منظور: مادّة (خير) .

وللمزيد راجع: المصطلحات الإسلامية ، مرتضى العسكري: 149 .


الصفحة 178

المبحث الثاني

مذهب الجبرية

ذهب المذهب الجبري إلى أنّ الإنسان مجبور في جميع أفعاله ، وهو كالريشة في مهب الريح، أو كالخشبة بين يدي الأمواج ، وأنّ نسبة الأفعال إلى الإنسان مجازية كما تنسب إلى النباتات والجمادات ، فيقال: أثمرت الشجرة، وجرى الماء، وتحرّك الحجر، وطلعت الشمس وما شابه ذلك(1).

أوّل طائفة إسلامية قالت بالجبر :

الجهمية

أصحاب جهم بن صفوان(2) وكانت عقيدتهم بأنّ الإنسان لا يقدر على شيء، ولا يوصف بالاستطاعة ، وإنّما هو مجبور في أفعاله ; لا قدرة له ولا إرادة ولا اختيار، وإنّما يخلق اللّه تعالى فيه الأفعال كما يخلقها في سائر الجمادات، وتنسب الأفعال إلى الإنسان مجازاً كما تنسب إلى الجمادات، فيقال: أثمرت الشجرة، وتحرّك الحجر و ...(3) .

____________

1- انظر: مقالات الإسلاميين ، أبو الحسن الأشعري: ذكر قول الجهمية، ص279 .

الملل والنحل ، الشهرستاني: ج1 ، الباب الأوّل ، الفصل الثاني: الجبرية ، 1 ـ الجهمية، ص87 .

2- جهم بن صفوان: هو أبو محرز جهم بن صفوان الراسبي.

قال عنه الذهبي في تذكرة الحفاظ (رقم 1584):

"الضال المبتدع ، رأس الجهمية ، هلك في زمان صغار التابعين ، وما علمته روى شيئاً، ولكنه زرع شراً عظيماً" .

وذكر عنه الطبري في تاريخه (حوادث سنة 128):

كان كاتباً للحارث بن سريج الذي خرج في خراسان في آخر دولة بني أمية .

3- انظر: مقالات الإسلاميين ، أبو الحسن الأشعري: ذكر قول الجهمية، ص279 .

الفرق بين الفرق ، عبد القادر الاسفرائيني: الباب الثالث ، الفصل السادس ، ص211 .

الملل والنحل ، الشهرستاني: ج1 ، الباب الأوّل ، الفصل الثاني: ص86 .


الصفحة 179

تنبيهان :

1 ـ انقرض هذا المذهب في أواخر القرن الرابع الهجري، ولم يبق له أثر(1).

2 ـ إنّ نظرية الجبر ـ بصورة عامة ـ لها جذور تاريخية قبل الإسلام ، ثمّ بقيت هذه النظرية بعد مجيء الإسلام معشعشة في عقول بعض المسلمين الذين لم يؤسّسوا معتقداتهم على أساس المباني الإسلامية الصحيحة .

دوافع القول بالجبر :

أوّلاً ـ اللجوء إلى أصل يرفع عن كاهل الإنسان مسؤولية الالتزام ، ومن ثمّ الحصول على الحرّية المطلقة ، والانحلال عن كلّ قيد، واتّباع الأهواء وتلبية الرغبات والشهوات النفسانية من دون الالتزام بأي مبدأ .

ثانياً ـ مبادرة بعض السلطات الجائرة إلى ترويج هذا المفهوم من أجل:

1 ـ تبرير أعمالهم المنحرفة والإجرامية .

2 ـ الاستمرار بسياسة التنكيل والبطش ضدّ مخالفيهم .

3 ـ إخماد الثورات التي تقوم ضدّهم من قبل الجهات المعارضة لهم .

4 ـ توفير الأجواء المناسبة لاستقرار عروشهم وانغماسهم في ملذّاتهم الدنيوية .

مفاسد القول بالجبر :

1 ـ تحطيم أركان أساسية من المنظومة الدينية، سنذكرها في المبحث الرابع من هذا الفصل عند بيان الأدلة المبطلة للجبر والمثبتة للاختيار .

2 ـ اندفاع الإنسان إلى الكسل والخمول والانقياد للوضع المتردّي، وعدم بذل الجهد والسعي لتغيير هذا الوضع نتيجة عدم الاعتقاد بامتلاك القدرة على التأثير والتغيير .

3 ـ تبرئة النفس عن ارتكاب الأعمال المخالفة للدين والأخلاق ، وجعل هذه

____________

1- انظر: العروة الوثقى ، جمال الدين الأفغاني ومحمّد عبده ، إعداد: هادي خسرو شاهي: ص115 .


الصفحة 180

العقيدة ذريعة للاتّجاه نحو الفساد والانحلال .

4 ـ إطلاق أيدي الظالمين لإهلاك الحرث والنسل ، وارتكاب كلّ ما يؤدّي إلى الدمار والفساد ، وتقييد أيدي المظلومين والمستضعفين عن القيام بأي ردّ فعل أمام الظالمين .


الصفحة 181

المبحث الثالث

أقسام الجبر

1 ـ الجبر الديني :

يتمّ تصويره عن طريق جعل الفعل البشري محكوماً بإرادة إلهية تتحكّم به كيفما تشاء .

2 ـ الجبر الفلسفي :

يتمّ تصويره عن طريق طرح مجموعة شبهات فلسفية تؤدّي إلى القول بالجبر .

3 ـ الجبر المادي :

يتم تصويره عن طريق جعل الفعل البشري محكوماً بالعلل المادية من قبيل الوراثة والتعليم والعوامل المحيطيّة و ... .

توضيح الجبر المادي :

إنّ ملاحظة العوامل المكوّنة لشخصية الإنسان تفرض الحكم بأنّ الإنسان ليس له سوى الانقياد لما تملي عليه هذه العوامل .

العوامل المكوّنة لشخصية الإنسان :

1 ـ الوراثة :

إنّ الإنسان يتلقّى عن طريق الوراثة السجايا والصفات الحسنة أو الدنيئة لتكون العامل الأساس في بلورة سلوكه في المستقبل .

2 ـ الثقافة والتعليم :

إنّ التعليم يحدّد للإنسان زاوية رؤيته إلى الحياة، فيكون سلوكه بعد ذلك وفق هذه الرؤية المفروضة عليه .


الصفحة 182

3 ـ المحيط والبيئة :

إنّ الأجواء التي يترعرع فيها الإنسان هي التي تحدّد نفسيته، وتحدّد له الطريق الذي ينبغي السير فيه .

يلاحظ عليه :

لا يوجد شكّ في تأثير هذه العوامل على تكوين شخصية الإنسان ، ولكن لا يبلغ تأثير هذه العوامل درجة سلب الاختيار من الإنسان ، بل تبقى لإرادة الإنسان واختياره القدرة على مواجهة هذه العوامل وعدم الانقياد لها عن طريق:

1 ـ التفكّر والتدبّر في صالح أعماله وطالح أفعاله وما يترتّب عليهما من آثار .

2 ـ ترك الأجواء السلبية التي يعيش فيها، والهجرة إلى أجواء إيجابية(1) .

بعبارة أُخرى :

إنّ هذه العوامل ليس لها أي أثر في سلب اختيار الإنسان ، لأ نّها لا تشكّل العلّة التامّة في صدور الفعل البشري ، بل هي عوامل تحفّز الإنسان على القيام ببعض الأفعال، ويبقى الإنسان قادراً على مخالفة هذه العوامل والصمود أمام ضغوطاتها .

____________

1- انظر: الإلهيات ، محاضرات: جعفر السبحاني، بقلم: حسن محمّد مكي العاملي: 2 / 317 ـ 318 .


الصفحة 183

المبحث الرابع

الأدلة المبطلة للجبر والمثبتة للاختيار

الأدلة المبطلة للجبر :

1 ـ بطلان الشرايع والتكليف :

إنّ من وظائف الأنبياء إرشاد الناس إلى التكاليف الإلهية ، ولا يمكن أداء هذه التكاليف إلاّ إذا كان الإنسان قادراً على فعل الشيء وتركه ، ولهذا يكون مجيئ الأنبياء وإتيانهم بالشرائع والتكاليف دليلا على نفي الجبر عن ساحة أفعال وسلوك الإنسان ، لأنّ القول بالجبر يؤدّي إلى القول ببطلان الشرائع والتكليف .

2 ـ سقوط الثواب والعقاب :

لا يصح إثابة شخص أو معاقبته على فعل ليس من صُنعه ، فإذا كان الإنسان مجبوراً في أفعاله وليس له دور في الفعل الذي يصدر عنه ، فكيف يمكن إثابته على طاعة لم يفعلها ، أو معاقبته على معصية لم يرتكبها .

3 ـ التساوي بين المحسن والمسيئ :

لو كان الإنسان مجبراً في أفعاله لم يكن للمحسن ميزة على المسيء، ولم يكن فرقٌ بين المؤمن والكافر، بل سيكونان متساويين لأ نّهما ليسا إلاّ أداة تعكس ما أُجبرا عليه ، فلهذا لا يصح بعد ذلك مدح أو ذم أحد على أفعاله .

4 ـ عبثية الترغيب والتخويف :

إنّ ترغيب العباد على الأعمال الصالحة وتخويفهم من تركها لا داعي له فيما لو كان الإنسان مجبوراً في أفعاله ، لأنّ الترغيب والترهيب لا ينفعان إلاّ إذا كان


الصفحة 184

الإنسان مختاراً وقادراً على فعل أو عدم فعل ما يؤمر به أو يُنهى عنه .

5 ـ عبثية مساعي المربّين :

إنّ القول بالجبر يؤدّي إلى أن تكون مساعي المربّين لإصلاح المجتمعات وحثّهم الناس على الفضيلة والأخلاق أمراً عبثياً لا فائدة منه، فتذهب جهود هؤلاء أدراج الرياح نتيجة عدم امتلاك الناس القدرة والاختيار على تغيير سلوكهم وأفعالهم .

6 ـ نسبة الظلم إلى اللّه تعالى :

يلزم القول بالجبر أن يكون اللّه تعالى ظالماً ـ والعياذ باللّه ـ نتيجة جبره للعباد على المعصية ثمّ معاقبته إياهم إزاء المعاصي التي أجبرهم عليها، كما سينسب ظلم العباد بعضهم لبعض إلى اللّه فيما لو قلنا بأنّ اللّه تعالى هو الفاعل وليس للإنسان أي دور وأثر في صدور أفعاله ، لأنّ فاعل الظلم يسمّى ظالماً .

7 ـ احتجاج العاصي على اللّه تعالى :

لو كان الإنسان مجبوراً في أفعاله، فإنّ العاصي سيكون من حقّه الاحتجاج على اللّه تعالى حينما يريد اللّه تعالى معاقبته على معاصيه ، لأ نّه سيقول: كنت مجبوراً على فعل المعاصي، فكيف تعذّبني على أمر لم يكن لي الاختيار في فعله ؟ في حين لا يصح احتجاج الإنسان على اللّه تعالى .

الأدلة المثبتة للاختيار :

1 ـ يجد كلّ إنسان من صميم ذاته أ نّه قادر على فعل بعض الأعمال أو تركها حسب ما يراه من مصلحة أو مفسدة أو نفع أو ضرر .

2 ـ يفرّق كلّ إنسان عاقل بين الفعل الاختياري الذي يصدر عنه كتحريك يده ، وبين أفعاله الاضطرارية كحركة يد المرتعش وحركة الدم في العروق وعملية الهضم وإفرازات الغدد وغيرها من الأفعال التي لا اختيار له في صدورها(1).

____________

1- انظر: نهج الحقّ، العلاّمة الحلّي: المسألة الثانية، مبحث: مكابرة الجبرية بضرورة العقل ، ص102 .


الصفحة 185

ردّ القرآن الكريم على القائلين بالجبر :

1 ـ { سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْء كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْم فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاّ تَخْرُصُونَ } [ الأنعام: 148 ]

توضيح :

قال الذين أشركوا: إنّ اللّه تعالى أجبرنا على الشرك ، ولو شاء اللّه ما أشركنا، فردّ اللّه تعالى على مقولتهم هذه ، وبيّن بأنّ هذه المقولة غير مبتنية على الأسس العلمية ، وإنّما هي ناشئة من الظنون غير المعتبرة والادّعاءات الكاذبة .

2 ـ { وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْم إِنْ هُمْ إِلاّ يَخْرُصُونَ } [ الزخرف: 20 ]

توضيح :

هذه الآية تشبه الآية السابقة، وقد بيّنت بأنّ الذين أشركوا باللّه تعالى ، ثمّ قالوا بأنّ اللّه أجبرهم على ما فعلوا ولو شاء اللّه ما أشركوا ، فإنّهم ذهبوا إلى هذا القول نتيجة جهلهم بالواقع ونتيجة قولهم الكذب على اللّه تعالى .

3 ـ إنّ إبليس أوّل من قال بالجبر، فقال كما جاء في القرآن الكريم حكاية عنه:

{ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ الحجر: 39 ]

وكان هذا الأمر من جملة أسباب طرده عن رحمة اللّه تعالى .

بعض الآيات القرآنية النافية للجبر والمثبتة للاختيار :

إنّ القرآن الكريم مليء بالآيات البيّنات الدالة على نفي الجبر عن أفعال الإنسان وإثبات الاختيار له في سلوكه وتصرفاته، منها(1) :

الصنف الأوّل :

الآيات الدالة على إضافة الفعل إلى العبد ونسبته إليه ، وأ نّه يمتلك الاختيار فيما

____________

1- انظر: نهج الحقّ، العلاّمة الحلّي: المسألة الثالثة، ص105 ـ 112 .


الصفحة 186

يفعله من خير أو شر ، منها:

1 ـ { فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا يَكْسِبُونَ } [ البقرة: 79 ]

2 ـ { إِنَّ اللّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْم حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ } [ الرعد: 11 ]

3 ـ { قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ } [ يوسف: 18 ]

4 ـ { فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ } [ المائدة: 30 ]

5 ـ { كُلُّ نَفْس بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ } [ المدّثّر: 38 ]

6 ـ { كُلُّ امْرِئ بِما كَسَبَ رَهِينٌ } [ الطور: 21 ]

7 ـ { مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَـلاّم لِلْعَبِيدِ }[ فصّلت: 46 ]

8 ـ { لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ }[ البقرة: 286 ]

الصنف الثاني :

الآيات الدالة على نسبة أفعال العباد إليهم، ونفي الظلم عن اللّه تعالى ، منها :

1 ـ { ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَـلاّم لِلْعَبِيدِ } [ آل عمران: 182 ]

2 ـ { ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَـلاّم لِلْعَبِيدِ } [ الحجّ: 10 ]

3 ـ { الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْس بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ }[ غافر: 17 ]

4 ـ { إِنَّ اللّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّة وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً } [ النساء: 40 ]


الصفحة 187

5 ـ { وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ النحل: 118 ]

6 ـ { وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } [ النساء: 49 ]

7 ـ { فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [ يس: 54 ]

الصنف الثالث :

الآيات الدالة على وجود الإرادة والاختيار في العباد على إحداث أفعالهم ، وأ نّهم مخيّرون في ما يعملونه من خير أو شر، منها :

1 ـ { اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [ فصّلت: 40 ]

2 ـ { لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ } [ المدّثّر: 37 ]

3 ـ { فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنّا أَعْتَدْنا لِلظّالِمِينَ ناراً }[ الكهف:29 ]

4 ـ { كَـلاّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ } [ المدّثّر: 54 ـ 55 ]

5 ـ { إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً } [ المزمل: 19 ]

الصنف الرابع :

الآيات الدالة على ذمّ المخالفين لأوامر اللّه تعالى، ومعاتبتهم عن طريق الاستفهام الإنكاري، وهذا مايدل على أنّ الإنسان يمتلك الاختيار في أفعاله ، لأ نّه لو كان مجبوراً لما صح ذمه أو معاتبته إزاء مخالفته لأوامر اللّه تعالى ، ومن هذه الآيات:

1 ـ { وَما مَنَعَ النّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاّ أَنْ قالُوا أَ بَعَثَ اللّهُ بَشَراً رَسُولاً } [ الإسراء: 94 ]

2 ـ { وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } [ النساء : 39 ]

3 ـ { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ البقرة: 28 ]

4 ـ { فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ } [ المدّثّر: 49 ]


الصفحة 188

5 ـ { لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [ آل عمران :71]

الصنف الخامس :

الآيات الدالة على أنّ اللّه تعالى يجزي العباد على أعمالهم وما كسبته أيديهم ، وهذا ما يدل على أ نّهم أصحاب اختيار في أفعالهم ، لأ نّهم لو كانوا مجبورين لما صحّت مجازاتهم ، ومن هذه الآيات :

1 ـ { الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْس بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ }[ غافر: 17 ]

2 ـ { الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [ الجاثية: 28 ]

3 ـ { مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها } [ الأنعام: 160 ]

4 ـ { لِتُجْزى كُلُّ نَفْس بِما تَسْعى } [ طه: 15 ]

5 ـ { الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ }[ الأنعام: 93 ]

6 ـ { لِيَجْزِيَ اللّهُ كُلَّ نَفْس ما كَسَبَتْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ } [ إبراهيم: 51 ]

7 ـ { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً } [ طه: 124 ]

الصنف السادس :

الآيات الدالة على المسارعة إلى الأعمال الخيرية لطلب المغفرة من اللّه تعالى ، وتلبية أوامره وتعاليمه ، وهذا ما يدل على إثبات الاختيار للإنسان ، لأ نّه لو كان مجبوراً لما صح تشجيعه على عمل الخير وطلب المغفرة ، لأنّ هذا التشجيع سيكون عبثاً فيما لو لم يستطع الإنسان القيام بتلبيته ، ومن هذه الآيات :

1 ـ { وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَة مِنْ رَبِّكُمْ } [ آل عمران: 133 ]

2 ـ { وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِز فِي الأَرْضِ } [ الأحقاف: 32 ]

3 ـ { وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ } [ الزمر: 54 ]


الصفحة 189

4 ـ { وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ } [ الزمر: 55 ]

الصنف السابع :

الآيات الدالة على اعتراف المجرمين بذنوبهم في يوم القيامة، وهذا ما يدل على أ نّهم كانوا أصحاب اختيار حين ارتكابهم للذنوب، لأ نّهم لو كانوا مجبورين لأنكروا فعلهم للذنب، ونسبوا ذلك إلى اللّه تعالى ، ومن هذه الآيات :

1 ـ { كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللّهُ مِنْ شَيْء إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ فِي ضَلال كَبِير } [ الملك: 8 ـ 9 ]

2 ـ { فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لأَصْحابِ السَّعِيرِ } [ الملك: 11 ]

3 ـ { ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ * وَكُنّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتّى أَتانَا الْيَقِينُ * فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشّافِعِينَ } [ المدّثّر: 42 ـ 48 ]

الصنف الثامن :

الآيات الدالة على ندم المجرمين وطلبهم العودة إلى الدنيا ليعملوا الصالحات عندما يحدق بهم العذاب ، واعترافهم بذنوبهم وما عملوا من سيّئات ، وهذا ما يدل على أ نّهم كانوا يعلمون بأ نّهم أصحاب اختيار في أفعالهم ، لأ نّهم لو كانوا مجبورين لما ندموا، بل كان موقفهم تبرئة أنفسهم مما أجبروا عليه ، ومن هذه الآيات :

1 ـ { قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوج مِنْ سَبِيل } [ غافر: 11 ]

2 ـ { رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً } [ المؤمنون: 99 ـ 100 ]

3 ـ { وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنّا مُوقِنُونَ } [ السجدة: 12 ]

4 ـ { أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ }[ الزمر: 58 ]


الصفحة 190

5 ـ { رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنّا نَعْمَلُ } [ فاطر: 37 ]

الصنف التاسع :

الآيات الدالة على الاستعانة باللّه وطلب الرحمة والهداية منه على الأعمال الخيّرة ، فلو كان الإنسان مجبوراً في أفعاله لم يصح تشجيعه على الاستعانة باللّه ، لأنّ التشجيع يكون لمن يمتلك الاختيار في الفعل والترك ، فيتم تشجيعه ليكون ذلك محفزّاً له للقيام بفعل معيّن أو ترك فعل معين، ومن هذه الآيات :

1 ـ { اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُوا } [ الأعراف: 128 ]

2 ـ { وَإِمّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }[ الأعراف: 200 ]

3 ـ { فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ } [ النحل: 98 ]

4 ـ { إِيّاكَ نَعْبُدُ وَإِيّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الحمد: 5 ]

الصنف العاشر :

الآيات الدالة على طلب العباد المغفرة من اللّه تعالى إزاء مخالفتهم لأوامره تعالى، فلو كان هؤلاء مجبورين في أفعالهم ، فلا داعي لهم لطلب المغفرة ، لأنّ ذلك يكون لمن يشعر بالتقصير ، والمجبور لا يشعر بذلك . ومن هذه الآيات :

1 ـ { قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ }[ الأعراف: 23 ]

2 ـ { وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } [ البقرة: 285 ]

3 ـ { فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ } [ ص: 24 ]

4 ـ { وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ } [ آل عمران: 135 ]


الصفحة 191

بعض الأحاديث الشريفة المبطلة للجبر والمثبتة للاختيار :

1 ـ قال الإمام علي(عليه السلام) ردّاً على نظرية الجبر في الأفعال: " ... لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب والأمر والنهي والزجر من اللّه ، وسقط معنى الوعد والوعيد، فلم تكن لائمة للمذنب ولا محمدة للمحسن ..."(1) .

2 ـ الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): " ... اللّه أعدل من أن يجبرهم [ أي: يجبر العباد ] على المعاصي ثمّ يعذبّهم عليها ..."(2) .

3 ـ الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): " ... إنّ اللّه عزّ وجلّ أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب ثمّ يعذّبهم عليها ..."(3) .

4 ـ الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): " ... رجل يزعم أنّ اللّه عزّ وجلّ أجبر الناس على المعاصي، فهذا قد ظلم اللّه في حكمه ..."(4) .

5 ـ الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): "إنّ اللّه خلق الخلق ، فعلم ما هم صائرون إليه ، وأمرهم ونهاهم ، فما أمرهم به من شيء فقد جعل لهم السبيل إلى تركه، ولا يكونون آخذين ولا تاركين إلاّ بإذن اللّه"(5) .

أثر الاختيار في أفعال الإنسان :

1 ـ تكمن قيمة الإنسان وأفضليته على سائر الخلق في كونه كائناً يمتلك العقل والاختيار ، فلو قلنا بأنّ الإنسان مجبور في أفعاله ، فإنّ ذلك سيؤدّي إلى سلب قيمته وجعله بمثابة الجمادات في هذا العالم .

2 ـ إنّ الاختيار هو الذي يجعل الإنسان مسؤولا عن أفعاله وتصرّفاته .

3 ـ إنّ الاختيار هو الذي يجعل الإنسان مستحقاً للمدح والذم والثواب والعقاب .

____________

1- الأصول من الكافي، الكليني: ج1، كتاب التوحيد، باب: الجبر والقدر و ... ، ح1 ، ص155 .

2- الأصول من الكافي، الكليني: ج1، كتاب التوحيد، باب: الجبر والقدر و...، ح11، ص159 .

3- التوحيد، الشيخ الصدوق: باب نفي الجبر والتفويض، ح3، ص350 .

4- المصدر السابق: ح5، ص351 .

5- الأصول من الكافي، الكليني: ج1، كتاب التوحيد، باب: الجبر والقدر و ... ، ح5، ص158 .


الصفحة 192

الصفحة 193

المبحث الخامس

أدلة القول بالجبر والردّ عليها

الدليل الأوّل :

إنّ إرادة الإنسان لا تمتلك القوام الذاتي ، ولا يمتلك الإنسان القدرة على إيجاد إرادته بنفسه ، بل هو محتاج في إيجاد إرادته إلى إرادة اللّه تعالى ، ولا تحدث ارادة الإنسان إلاّ بإرادة اللّه تعالى(1) .

يرد عليه :

1 ـ اختار اللّه تعالى أن يكون العباد أصحاب إرادة في أفعالهم ، فأعطاهم الإرادة ، ثمّ أعطاهم قدرة الاختيار لتوجيه إرادتهم كيفما يشاؤون .

بعبارة أُخرى :

إنّ اللّه تعالى هو الذي منح العباد هذه الميزة بأن تكون لهم الإرادة في أفعالهم ، فالإرادة ـ في الواقع ـ آلة لصدور الفعل من العبد ، وإذا كانت آلة الاختيار من اللّه تعالى ، فإنّ ذلك لا يستلزم الجبر .

2 ـ إنّ إرادة اللّه عزّ وجلّ لم تتعلّق بصدور أفعال العباد منه تعالى بصورة مباشرة ومن دون واسطة ، بل تعلّقت إرادة اللّه تعالى في مجال أفعال الإنسان الاختيارية أن لا تصدر من الإنسان إلاّ بعد إرادة الإنسان واختياره لها(2) .

الدليل الثاني :

إنّ اللّه تعالى يعلم بأفعال العباد التي ستقع في المستقبل .

وما علم اللّه تعالى وقوعه فهو واجب الوقوع .

____________

1- انظر: المواقف، عضد الدين الإيجي : ج3، الموقف 5 ، المرصد 6 ، المقصد 1 ، ص223 ـ 224 .

2- انظر: الميزان ، العلاّمة الطباطبائي: ج1 ، تفسير سورة البقرة، آية 26 ـ 27 ، ص99 ـ 100 .


الصفحة 194

وما علم اللّه تعالى عدم وقوعه فهو ممتنع الوقوع .

ودون ذلك ينقلب العلم الإلهي إلى الجهل ، وهو محال .

ومن هنا يثبت بأنّ الإنسان مجبور على فعل ما هو في علم اللّه تعالى(1) .

يرد عليه :

1 ـ لو صحّ القول بأنّ الإنسان مجبور في أفعاله نتيجة علم اللّه تعالى بها، فسيكون اللّه تعالى أيضاً مجبوراً في أفعاله نتيجة علمه تعالى بما سيقع من أفعاله ، فيلزم ذلك أن نقول بأنّ اللّه تعالى مجبور بأن يفعل ما يعلم! وهذا باطل(2) .

2 ـ إنّ اللّه تعالى لا يختار أن يعلم بأنّ الشخص الفلاني سيفعل كذا ، ليكون هذا العلم علّة لذلك الفعل ، وإنّما علمه تعالى عبارة عن انكشاف المعلوم عنده كما سيكون في الواقع(3) .

3 ـ يتعلّق علمه تعالى بكل شيء حسب الخصوصيات المتوفّرة في ذلك الشيء .

ومن هنا يكون تعلّق العلم الإلهي بأفعال الإنسان باعتبارها أفعال تصدر من فاعل يمتلك الاختيار ، وهذا ما يؤكد وقوع أفعال الإنسان باختياره .

بعبارة أُخرى :

قال المجبّرة بأنّ ما علم اللّه وقوعه فهو واجب الوقوع .

فنقول لهم: علم اللّه تعالى بأنّ أفعال العباد لا تقع إلاّ باختيارهم ، لأ نّه شاء أن يكون العباد أصحاب اختيار .

إذن يجب أن تقع أفعال العباد باختيارهم ، لأنّ عدم وقوعها بهذه الصفة يوجب ـ

____________

1- انظر: المواقف ، عضد الدين الإيجي: ج3، الموقف 5، المرصد 6، المقصد 1 ، ص223 .

2- انظر: تلخيص المحصل ، نصير الدين الطوسي: الركن الثالث ، القسم الثالث: ص340 .

إشراق اللاهوت ، عبد المطلب العُبيدلي: المقصد العاشر، المسألة الرابعة ، ص390 .

3- انظر: المنقذ من التقليد ، سديد الدين الحمصي: ج1، الكلام في التكليف وحسنه و ... ، ص247 .

إشراق اللاهوت ، عبد المطلب العُبيدلي: المقصد العاشر، المسألة الثالثة ، المبحث الثالث ، ص389 .


الصفحة 195

حسب ادّعاء المجبرة ـ انقلاب علم اللّه إلى الجهل .

وبهذا يثبت أنّ الإنسان مختار وغير مجبور في أفعاله .

النتيجة :

إنّ "العلم" مجرّد انكشاف يحكي المعلوم ويبيّنه كما هو عليه، وليس للعلم أي تأثير على المعلوم في الواقع الخارجي .

مثال توضيحي :

إنّ نسبة المعلوم إلى العلم كنسبة الشيء إلى المرآة .

فالمرآة لا تؤثّر في الشيء، وإنّما تبيّنه كما هو عليه في الواقع الخارجي .

فإذا أرتنا المرآة شيئاً بصورة قبيحة ، فليس هذا القبح مفروضاً من المرآة على ذلك الشيء ، بل لأنّ ذلك الشيء قبيح في نفسه ، عكست المرآة ما هو عليه ، فأرتنا ذلك الشيء بصورة قبيحة(1) .

أمثلة عدم تأثير العلم في المعلوم :

1 ـ إخبار المتخصص عن الأنواء الجوية وتقلّبات الهواء ، فلو كان العلم عاملا من عوامل إيجاد الشيء، لكان هذا المخبر من جملة أسباب وقوع هذه التقلّبات الجوّية .

2 ـ إخبار الفلكي عن وقوع الكسوف أو الخسوف ، إذ لو كان العلم مؤثّراً في إيجاد المعلوم، لكان هذا الفلكي من جملة أسباب وقوع هذا الكسوف والخسوف .

3 ـ إخبار المدرّس عن مستوى الطالب في الامتحان القادم نتيجة معرفته به خلال فترة التدريس ، فإذا صدق إخبار المدرّس ، فلا يعني أنّ علم المدرِّس هو السبب في وصول الطالب إلى النتيجة التي أخبرها المدرِّس .

4 ـ إخبار الطبيب الحاذق عن الحالة التي سيواجهها المريض ، فإذا وقع الأمر كما قال الطبيب، فلا يعني أنّ الطبيب كان سبباً فيما أصاب المريض .

____________

1- انظر: المنقذ من التقليد ، سديد الدين الحمصي: ج1، الكلام في التكليف وحسنه و ... ص246 .


الصفحة 196

الصفحة 197

المبحث السادس

رأي الأشاعرة حول خلق اللّه لأفعال العباد

إنّ اللّه عزّ وجلّ هو المتفرّد بالخلق والإيجاد ، وهو خالق كلّ شيء بلا استثناء، ولا خالق في الكون سوى اللّه تعالى ، واللّه هو الخالق لأفعال الإنسان .

من أقوال أبي الحسن الأشعري حول خلق اللّه لأفعال العباد :

1 ـ " ... لا خالق إلاّ اللّه ، وإنّ أعمال العباد مخلوقة للّه بقدرته ... وإنّ العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئاً ..."(1) .

2 ـ " ... لا خالق إلاّ اللّه ، وإنّ سيئات العباد يخلقها اللّه ، وإنّ أعمال العباد يخلقها اللّه عزّ وجلّ ، وإنّ العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئاً"(2) .

3 ـ " ... من قضاء اللّه تعالى هو خلق ما هو جور كالكفر والمعاصي ..."(3) .

4 ـ " ... أمّا أنا فأقول: إنّ الشر من اللّه تعالى بأن خلقه شراً لغيره لا له"(4) .

أدلة الأشاعرة على خلقه تعالى لأفعال العباد :

الدليل الأوّل :

الآيات القرآنية الدالة على خلقه تعالى لكلّ شيء، فإنّ هذه الآيات تفيد العموم، فيشمل ذلك أفعال العباد، فتكون أفعال العباد مخلوقة للّه .

ومن هذه الآيات قوله تعالى :

1 ـ { اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْء } [ الزمر: 62 ]

____________

1- الإبانة، أبو الحسن الأشعري: الفصل الثاني ، ص37 .

2- مقالات الإسلاميين ، أبو الحسن الأشعري: حكاية جملة قول أصحاب الحديث وأهل السنة ، ص291 .

3- اللمع ، أبو الحسن الأشعري: الباب الخامس، ص81 .

4- المصدر السابق: ص84 .


الصفحة 198

2 ـ { ذلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْء } [ غافر: 62 ]

3 ـ { يا أَيُّهَا النّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِق غَيْرُ اللّهِ } [ فاطر: 3 ]

4 ـ { أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ } [ الأعراف: 54 ]

5 ـ { إِنّا كُلَّ شَيْء خَلَقْناهُ بِقَدَر } [ القمر: 49 ]

يرد عليه :

1 ـ إنّ المنهج السليم يقتضي شمولية النظر إلى آيات القرآن الكريم ، وعدم الاقتصار على الآيات الدالة على خلقه تعالى لكلّ شيء وإهمال الآيات التي تنسب الخالقية إلى غير اللّه تعالى ، من قبيل :

أوّلاً: قوله تعالى حكاية عن عيسى(عليه السلام): { أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ }[ آل عمران: 49 ]

ثانياً: قوله تعالى لعيسى(عليه السلام): { وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ }[ المائدة: 110 ]

ثالثاً: قوله تعالى للسامري وجماعته: { وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً } [ العنكبوت: 17 ]

رابعاً: قوله تعالى: { فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ } [ المؤمنون: 14 ]

خامساً: قوله تعالى: { وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ } [ الصّافات: 125 ]

النتيجة :

إنّ الأشاعرة اتّبعوا منهجية التجزئة والتبعيض في التعاطي مع الآيات القرآنية ، فتمسّكوا بالآيات التي تتلائم مع نظريتهم في خلق أفعال العباد ، وأعرضوا عما يتغاير مع ما ذهبوا إليه .

2 ـ يدرك الباحث عند نظرته الشمولية إلى الآيات القرآنية بأنّ الآيات التي تنسب خلق كلّ شيء إلى اللّه عزّ وجلّ ليست إلاّ في مقام بيان إحاطته تعالى الكاملة وقدرته التامّة ونفوذ أمره الشامل لجميع الكون بلا استثناء ، ولا يوجد أي


الصفحة 199

تناف بين هذه الشمولية وبين قدرة العباد على الخلق ، لأنّ قدرة العباد تستمد وجودها من اللّه تعالى ، واللّه تعالى قادر على سلبها في كلّ آن .

3 ـ سُئل الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) عن أفعال العباد: أهي مخلوقة للّه تعالى، فقال (عليه السلام) :

"لو كان خالقاً لها لما تبرّأ منها، وقد قال سبحانه: { أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }[ التوبة: 3 ] ، ولم يرد البراءة من خلق ذواتهم ، وإنّما تبرّأ من شركهم وقبائحهم"(1) .

4 ـ سُئل الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام): هل غير الخالق الجليل خالق ؟

قال(عليه السلام): "إن اللّه تبارك وتعالى يقول: { تَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ } فقد أخبر أنّ في عباده خالقين وغير خالقين ، منهم عيسى صلى اللّه عليه، خلق من الطين كهيئة الطير بإذن اللّه ، فنفخ فيه ، فصار طائراً بإذن اللّه ، والسامري خلق لهم عجلا جسداً له خوار"(2) .

5 ـ إنّ القول بأنّ اللّه تعالى خالق كلّ شيء لا يعني أ نّه تعالى هو السبب المباشر لخلق كلّ شيء، بل قد يكون الخلق صادراً من الإنسان ، ولكنه يُنسب إلى اللّه عزّ وجلّ ، لأ نّه تعالى هو الذي أعطى الإنسان القدرة على الخلق .

مثال ذلك :

يبيّن القرآن الكريم هذه الحقيقة بأنّ مجرّد نسبة الفعل إلى اللّه عزّ وجلّ لا يعني كونه تعالى هو السبب المباشر لهذا الفعل ، بل قد يصدر الفعل من غير اللّه ، ولكنّه ينسب إلى اللّه تعالى للعلّة التي ذكرناها .

ومن هذه الموارد :

أوّلاً ـ فعل التوفّي :

1 ـ نسبته إلى ملك الموت: { قُلْ يَتَوَفّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ }[ السجدة: 11 ]

2 ـ نسبته إلى اللّه تعالى: { اللّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها } [ الزمر: 42 ]

____________

1- بحار الأنوار ، العلاّمة المجلسي: ج5، كتاب العدل والمعاد ، باب 1 ، ذيل ح29 ، ص20 .

2- المصدر السابق: ج4، كتاب التوحيد، باب5 ، ح1 ، ص147 ـ 148 .


الصفحة 200

ثانياً ـ فعل الرزق :

1 ـ نسبته إلى العباد: { وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً } [ النساء: 5 ]

2 ـ نسبته إلى اللّه تعالى: { إِنَّ اللّهَ هُوَ الرَّزّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } [ الذاريات: 58 ]

ثالثاً ـ فعل الزرع :

1 ـ نسبته إلى العباد: { كَزَرْع أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرّاعَ(1) } [ الفتح: 29 ]

2 ـ نسبته إلى اللّه تعالى: { أَ فَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ * أَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزّارِعُونَ } [ الواقعة: 63 ـ 64 ]

رابعاً ـ فعل الغلبة :

1 ـ نسبته إلى العباد: { كَتَبَ اللّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي } [ المجادلة: 21 ]

2 ـ نسبته إلى اللّه تعالى: { كَتَبَ اللّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا ... } [ المجادلة: 21 ]

فنسب اللّه عزّ وجلّ فعل الغلبة لنفسه ولرسله في وقت واحد .

خامساً ـ فعل الخلق (وهو المرتبط بهذا المبحث)

1 ـ نسبته إلى العباد: { أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ } [ آل عمران: 49 ]

{ فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ } [ المؤمنون: 14 ]

2 ـ نسبته إلى اللّه تعالى: { اللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْء } [ الزمر: 62 ]

ملاحظة مهمة :

ذكرنا بأنّ الفعل الذي يصدر من الإنسان ينسب أيضاً إلى اللّه تعالى ، وذلك لأ نّه

____________

1- قوله: (الزُّرّاعَ ) تتضمن نسبة فعل الزراعة إلى الإنسان .


الصفحة 201

تعالى هو الذي أعطى الإنسان القدرة على القيام بالفعل .

ولكن لا يخفى بأنّ هذه النسبة لا تصح إلاّ في الأفعال الحسنة التي يرتضيها اللّه تعالى، وأمّا الأفعال القبيحة الصادرة من الإنسان، فلا تصحُّ نسبتها إلى اللّه تعالى أبداً .

دليل ذلك :

إنّ اللّه تعالى أعطى الإنسان القدرة ليصرفها في الأُمور الحسنة ، فإذا صرفها الإنسان في الأُمور القبيحة ، فإنّ هذه الأفعال لا تصح نسبتها إلى اللّه تعالى، وإنّما تُنسب إلى الإنسان ، ويكون الإنسان هو المتحمّل لمسؤوليتها .

آيات قرآنية أُخرى استدل بها الأشاعرة على خلقه تعالى لأفعال العباد :

الآية الأُولى :

قوله تعالى: { وَاللّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ } [ الصّافات: 96 ]

استدلال الأشاعرة: إنّ هذه الآية صريحة بأنّ اللّه هو الخالق للإنسان ، وهو الخالق لأفعاله وأعماله وما يصدر عنه(1) .

يرد عليه :

1 ـ إنّ هذه الآية وردت في سياق آيات احتجاج النبي إبراهيم(عليه السلام) على قومه الذين كانوا ينحتون الأصنام ، ثمّ يعبدونها من دون اللّه ، فقال لهم إبراهيم(عليه السلام): { أَ تَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ * وَاللّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ } .

2 ـ ليس لهذه الآية أية صلة بمسألة أفعال العباد ، لأنّ وحدة السياق في هذه الآية والتي قبلها تقضي كون "ما" موصولة فيكون معنى الآية: أتعبدون الأصنام التي تنحتونها واللّه خلقكم وخلق المادة التي منها تنحتون أصنامكم(2) .

3 ـ إنّ الآية في مقام محاججة إبراهيم(عليه السلام) لقومه واستنكاره على عبادتهم

____________

1- انظر: المواقف، عضد الدين الإيجي: ج3، الموقف 5، المرصد 6 ، المقصد 1 ، ص226 .

شرح المقاصد، سعد الدين التفتازاني: ج4، المقصد 5 ، الفصل 5 ، المبحث 1 ، ص240 ـ 241 .

2- وهذه المادة هي الحجر أو الخشب أو غير ذلك مما كان يصنع المشركون منه أصنامهم .


الصفحة 202

للأصنام ، وليس من المعقول أن يقول إبراهيم(عليه السلام) لقومه في هذا المقام: لماذا تعبدون الأصنام وقد خلق اللّه عبادتكم للأصنام؟!

الآية الثانية :

قوله تعالى: { وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ } [ النساء: 78 ]

استدلال الأشاعرة: إنّ هذه الآية تدل على أنّ جميع أفعال الإنسان ـ حسنة كانت أو سيئة ـ هي من عند اللّه، وأنّ اللّه هو الذي يخلقها(1) .

يرد عليه :

إنّ "الحسنة" في اللغة لا تنحصر في معنى "الطاعة والإيمان" .

كما أنّ "السيئة" في اللغة لا تنحصر في معنى "المعصية والكفر" .

فمن معاني "الحسنة" في اللغة: النعم، الرحمة، الخير والشيء الحسن .

ومن معاني "السيئة" في اللغة: القحط، الكوارث ، والمحن والعذاب .

معنى الحسنة والسيئة في هذا المقام :

إنّ معنى الحسنة في هذا المقام هو النعم والخير ، ومعنى السيئة هو القحط والكوارث(2)، لأنّ النعم والخير والقحط والكوارث تصيب الإنسان من الغير .

ولكن الطاعة والمعصية والكفر والإيمان تصدر من الإنسان نفسه .

وهناك فرق بين ما "يصيب الإنسان" وما "يصدر منه" .

وقد جاء في هذه الآية التعبير بكلمة "تصبهم" ولم يقل الباري عزّ وجلّ "تصدر منهم" .

تتمة :

____________

1- انظر: التفسير الكبير، الفخر الرازي: ج4، تفسير آية 78 من سورة النساء، ص145 .

2- انظر: مجمع البيان ، الطبرسي: ج3، تفسير آية 78 من سورة النساء ، ص120 ـ 121 .


الصفحة 203

وردت "الحسنة" بمعنى النعم والخير والرخاء ، ووردت "السيئة" بمعنى القحط والبلاء والعذاب في آيات قرآنية أُخرى منها:

1 ـ { إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها } [ آل عمران : 120 ]

2 ـ { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ } [ الرعد: 6 ]

3 ـ { فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ } [ الأعراف: 131 ]

تكملة أدلّة الأشاعرة على خلقه تعالى لأفعال العباد :

الدليل الثاني :

إنّ القول بوجود خالق غير اللّه يستلزم إثبات خالق آخر مع اللّه تعالى ، ومن ادّعى ذلك فقد أشرك في خالقيّة اللّه تعالى ، لأنّ اللّه عزّ وجلّ منزّه عن الشريك في الخلق والإيجاد(1).

يرد عليه :

1 ـ إنّ هذا الاشتراك في إطلاق بعض الصفات على اللّه تعالى والعبد لا يوجب الشرك ، ولهذا لا يوجد أي مانع من اشتراك العبد مع الباري عزّ وجلّ في بعض الأوصاف، من قبيل: الوجود، العلم ، الإرادة، القدرة والتملّك(2).

2 ـ المذموم هو إثبات تعدّد خالقَين مستقلين بقدرتهم وتمام شؤون أفعالهم ، أمّا إثبات خالق غير اللّه، وهو محتاج إلى اللّه عزّ وجلّ في أصل وجوده وقدرته وتمكّنه وفعله ، فلا محذور ولا إشكال فيه أبداً(3).

3 ـ إنّ عبيد السلطان إذا فعلوا شيئاً بمعونة السلطان ، لا يقال إنّهم سلاطين مثله ،

____________

1- انظر: بحر الكلام، ميمون النسفي: الباب الثالث ، الفصل الثاني، المبحث الثالث ، ص167 .

2- انظر: دلائل الصدق، محمّد حسن المظفر: ج1، مبحث: إنّا فاعلون، مناقشة المظفر، ص437 .

3- انظر: المصدر السابق، ص436 .


الصفحة 204

ولا يكون ذلك عيباً في السلطان ، فلهذا لا يوجد أي مانع أن يكون الإنسان خالقاً لشيء عن طريق القدرة التي منحها اللّه تعالى له(1) .

4 ـ لو كان مجرّد إطلاق وصف الخالقية لغير اللّه تعالى شركاً، لكان عيسى ـ والعياذ باللّه ـ مشركاً في قوله: { أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ }[ آل عمران: 49 ] ولكان عيباً في قوله تعالى { فَتَبارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ }[ المؤمنون: 14 ] ، لأنّ هذه الآية تثبت بوضوح وجود من يوصف بالخالقية غير اللّه تعالى .

الدليل الثالث للأشاعرة :

لو كان الإنسان خالقاً لأفعال نفسه ، لكان عالماً بتفاصيل أفعاله ، وهذا معنى قوله سبحانه: { أَ لا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } [ الملك: 14 ] ، وبما أنّ الإنسان غير عالم بتفاصيل أفعاله وجب القطع بأنّ الإنسان غير خالق لها(2) .

يرد عليه :

إنّ العلم بتفاصيل الخلق يشمل الخلق من اللاشيء ، ولكن الإنسان لا يقوم بخلق أفعاله من اللاشيء ، بل يقوم بتركيب مجموعة أشياء للوصول إلى شيء جديد له من الخصائص ما تفترق عن خصائص أجزائه .

وكلّما يكون الإنسان أعرف بخصائص الأجزاء التي يتعامل معها لتكوين الأشياء الجديدة يكون أكثر علماً بتفاصيل ما يقوم بخلقه(3) .

____________

1- انظر: المصدر السابق .

2- انظر: الأربعين في أصول الدين، فخر الدين الرازي: ج1، المسألة الثانية والعشرون، ص323 ـ 324 .

كتاب المواقف، عضد الدين الإيجي: ج3، الموقف 5 ، المرصد 6، المقصد 1 ، ص209 .

3- قال المحقّق نصير الدين الطوسي في ردّه على إشكال الأشاعرة في هذا المقام: "الإيجاد لا يستلزم العلم إلاّ مع اقتران القصد، فيكفي الإجمال" .

تجريد الاعتقاد ، نصير الدين الطوسي: المقصد الثالث ، الفصل الثالث، مبحث: نفي الجبر ، ص199 .


الصفحة 205

الدليل الرابع للأشاعرة :

لو جاز أن يكون المؤمن خالقاً للإيمان لخلقه ممتعاً مريحاً .

ولو جاز أن يكون الكافر خالقاً للكفر لخلقه حسناً .

ولكن المؤمن والكافر لا يستطيعان ذلك .

ومن هنا يثبت بأنّ للإيمان والكفر خالقاً آخر، وهو اللّه تعالى(1) .

يرد عليه :

إنّ الصفات تنقسم إلى قسمين :

1 ـ الصفات الواقعية: وهي الصفات التي تحتاج إلى خالق ، من قبيل الحرارة والبرودة .

2 ـ الصفات الانتزاعية: وهي الصفات التي لا تحتاج إلى خالق، بل هي صفات تُنتزع من مقايسة شيء مع شيء آخر من قبيل صفتي الصغر والكبر .

فإنّ وصف "الصغر" أو "الكبر" للشيء لا يحتاج إلى خلق .

وإنّ ما يحتاج إلى خلق فهو "الشيء" .

وأمّا "الصغر" أو "الكبر" فهو صفة تنتزع من مقايسة شيء مع شيء آخر .

وبالنسبة إلى دليل الأشاعرة:

فإنّ وصف "التعب" للإيمان لا يحتاج إلى خلق .

وإنّ وصف "القُبح" للكفر لا يحتاج إلى خلق .

وإنّ ما يحتاج إلى خلق فهو "الفعل" الذي يجعل الإنسان مؤمناً أو كافراً .

وأمّا "التعب" فهو صفة تنتزع من فعل "الإيمان" لأنّ "الإيمان" يجعل الإنسان مسؤولا أمام اللّه تعالى ، فيستتبع الإتعاب .

وأمّا "القبح" فهو صفة تُنتزع من فعل "الكفر" لأنّ "الكفر" على خلاف الفطرة

____________

1- انظر: اللمع ، أبو الحسن الأشعري: الباب الخامس، ص71 ـ 72 .


الصفحة 206

والحقيقة(1) .

توضيح ذلك :

إنّ "التعب" الذي يتّصف به الإيمان ، أو "القبح" الذي يتّصف به الكفر يكون خارج الإيمان والكفر ، وهو شيء خارج اختيار الإنسان ، وما هو في دائرة اختيار الإنسان هو خلق العمل الذي يجعله في عداد المؤمنين أو الكافرين ، وأمّا الأثر الذي سيتركه هذا العمل في الواقع الخارجي وردود الأفعال التي سيواجهها الإنسان نتيجة خلقه لهذا العمل فهي أُمور خارجة عن اختياره .

الدليل الخامس للأشاعرة :

لا شكّ في أنّ "الحركة الاضطرارية" التي تصدر من الإنسان مخلوقة للّه تعالى ، فما دلّ على أنّ "الحركة الاضطرارية" مخلوقة للّه تعالى، هو الدليل على أنّ "الحركة الاختيارية" أيضاً مخلوقة للّه تعالى ، وذلك لوحدة ملاكهما، وهو "الحدوث"(2).

يرد عليه :

إنّ اشتراك "الحركة الاضطرارية" و"الحركة الاختيارية" في الملاك إنّما يدل

على وجود خالق لكلتا هاتين الحركتين ، وأمّا أن يكون خالق "الحركة الاضطرارية" هو نفس خالق "الحركة الاختيارية" فلا يوجد عليه دليل(3) .

توضيح ذلك :

إنّ سبب نسبة "الحركة الاضطرارية" إلى اللّه تعالى هو خروجها عن اختيار

____________

1- انظر: الإلهيات، محاضرات: جعفر السبحاني، بقلم: حسن محمّد مكي العاملي: 2 / 271 .

2- انظر: اللمع ، أبو الحسن الأشعري: الباب الخامس ، ص74 ـ 75 .

3- انظر: الإلهيات ، محاضرات: جعفر السبحاني، بقلم: حسن محمّد مكي العاملي: 2 / 272 .


الصفحة 207

الإنسان وإرادته ، وأمّا "الحركة الاختيارية" فهي واقعة باختيار الإنسان وإرادته ، فلا وجه لمقايسة إحداهما بالأخرى(1) .

____________

1- انظر: المصدر السابق .


الصفحة 208

المبحث السابع

الاستطاعة وأثر قدرة الإنسان في أفعاله عند الأشاعرة

إنّ استطاعة الإنسان عبارة عن قدرته على الفعل على أساس "إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل" .

رأي الأشاعرة حول قدرة العبد في أفعاله :

1 ـ "إنّ أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة اللّه سبحانه وتعالى ، وليس لقدرتهم تأثير فيها، بل اللّه سبحانه أجرى عادته بأن يوجد في العبد قدرة واختياراً، فإذا لم يكن هناك مانع أوجد [ تعالى ] فيه [ أي: في العبد ] فعله المقدور مقارناً لهما [ أي: يخلق اللّه بقدرته فعل العبد مقارناً للقدرة غير المؤثّرة التي يخلقها في العبد ] ... وهذا مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري"(1).

2 ـ إنّ الاستطاعة من اللّه تعالى يخلقها في العبد مقارنة مع خلقه تعالى للفعل الذي يصدر من العبد ، ولهذا تكون هذه الاستطاعة ليست متقدّمة على الفعل ولا متأخّرة عنه(2) .

3 ـ "إنّ المؤثّر في حصول هذا الفعل [ فعل العبد ] هو قدرة اللّه تعالى ، وليس لقدرة العبد في وجوده أثر، وهذا قول أبي الحسن الأشعري"(3) .

خلاصة رأي الأشاعرة :

إنّ اللّه تعالى هو الذي يخلق أفعال الإنسان، وهو الذي يخلق في نفس الوقت القدرة في الإنسان .

____________

1- المواقف ، عضد الدين الإيجي: ج3، الموقف 5 ، المرصد 6 ، المقصد 1 ، ص214 .

2- انظر: بحر الكلام ، ميمون النسفي: الباب الثالث ، الفصل الثاني، المبحث الثالث، ص166 ـ 167 .

3- القضاء والقدر، فخر الدين الرازي: خلق الأفعال ، ص31 .


الصفحة 209

ولكن هذه القدرة التي يخلقها اللّه تعالى في الإنسان هي قدرة معطّلة ومشلولة لا يستند إليها فعل أو ترك ، وليس للإنسان أي قدرة أو استطاعة في حدوث أفعاله، وإنّما هو مجرّد وعاء للفعل الذي يخلقه اللّه تعالى فيه .

يرد عليه :

1 ـ إنّ إنكار تأثير قدرة العبد على فعله الاختياري مكابرة وإنكار لأوضح الواضحات .

2 ـ إنّ الضرورة كما تحكم بوجود القدرة في أفعال الإنسان الاختيارية ، فهي تحكم بتأثيرها في هذه الأفعال .

3 ـ إذا لم يكن لقدرة الإنسان أي تأثير في أفعاله الاختيارية ، فسوف يكون خلق اللّه تعالى لهذه القدرة في العبد أمراً عبثاً لا فائدة فيه .

4 ـ إنّ إثبات القدرة بلا تأثير يشبه إثبات الباصرة للأعمى بلا إبصار ، وإثبات السامعة للأصم بلا سمع !

5 ـ إذا لم يكن لقدرة الإنسان أي تأثير في أفعاله الاختيارية ، فمن أين يعلم وجود هذه القدرة، إذ لا دليل عليها غيره ؟

6 ـ قال أبو المعالي الجويني (ت 478هـ ) :

"أمّا نفي هذه القدرة والاستطاعة فمما يأباه العقل والحس ، وأمّا إثبات قدرة لا أثر لها بوجه فهو كنفي القدرة أصلا ... فلابدّ إذن من نسبة فعل العبد إلى قدرته حقيقة ... فالفعل يستند وجوده إلى القدرة، والقدرة يستند وجودها إلى سبب آخر ... حتّى ينتهي إلى سبب الأسباب [ وهو اللّه تعالى ]"(1) .

7 ـ قال سعد الدين التفتازاني (ت 791هـ ):

"بالضرورة إنّ لقدرة العبد وإرادته مدخلا في بعض الأفعال ، كحركة البطش دون

____________

1- الملل والنحل ، الشهرستاني: ج1، الباب الأوّل ، الفصل الثالث: الصفاتية، 1 ـ الأشعرية، ص98 ـ99 .


الصفحة 210

البعض كحركة الارتعاش"(1) .

أدلة الأشاعرة على نفي تأثير قدرة العبد :

الدليل الأوّل :

إنّ فعل العبد لا يقع بقدرته، بل يقع بقدرة اللّه عزّ وجلّ ، وذلك لشمول قدرته تعالى ، فلهذا لا تؤثّر قدرة العبد في أفعاله ، لامتناع اجتماع قدرتين مؤثّرتين على مقدور واحد(2) .

يرد عليه :

1 ـ إنّ عموم قدرته عزّ وجلّ لا تعني قيامه تعالى بكلّ شيء بصورة مباشرة وبلا واسطة ، بل اللّه سبحانه شاء أن يمنح بعض مخلوقاته القدرة على التأثير بإذنه .

2 ـ إنّ قدرة الإنسان تستمد وجودها من قدرة اللّه تعالى ، فإذا أراد اللّه شيئاً وأراد الإنسان نقيضه ، وقع مراد اللّه تعالى دون مراد الإنسان ، لأنّ قدرة اللّه تعالى فوق قدرة الإنسان ، فلا يقع أي تعارض بين القدرتين .

الدليل الثاني للأشاعرة :

إذا كان الإنسان موجداً لفعله بقدرته، فلابدّ أن يتمكّن من فعله وتركه، ويتوقف هذا التمكّن على وجود سبب يرجّح أَحد طرفي الفعل أو الترك ، وهذا السبب :

1 ـ إذا كان من الإنسان: لزم التسلسل ، لأنّ إيجاد هذا السبب أيضاً يحتاج إلى سبب آخر ، وهكذا إلى ما لا نهاية، وهو باطل .

2 ـ إذا كان من اللّه عزّ وجلّ ، فيلزم:

حصول الفعل عند خلق اللّه تعالى للسبب .

____________

1- شرح العقائد النسفية، سعد الدين التفتازاني: القول في أنّ للعباد أفعالا اختيارية، ص58 .

2- انظر: المواقف ، عضد الدين الإيجي: ج3، الموقف 5 ، المرصد 6 ، المقصد 1 ، ص209 .

شرح المقاصد، سعد الدين التفتازاني: ج4 ، المقصد 5 ، الفصل 5 ، المبحث 1، ص227 .


الصفحة 211

وعدم حصول الفعل عند عدم خلقه تعالى لهذا السبب .

فلا يكون لقدرة الإنسان أي أثر في إيجاد الفعل(1) .

يرد عليه :

1 ـ لو كانت إرادة الإنسان متوقفة على وجود إرادة ثانية، فإنّ هذا الكلام أيضاً ينطبق على إرادة اللّه عزّ وجلّ ، فيلزم فيها التسلسل والاحتياج إلى إرادات لا نهاية لها، وهو باطل .

2 ـ إنّ وجود الفعل يتوقّف على وجود العلّة التامة لإيجاده ، وصدور فعل الإنسان يتوقّف على مجموعة مقدّمات وعلى إرادة غير مسبوقة بإرادة أُخرى ، بل هي إرادة مستندة إلى الاختيار الذاتي الثابت للنفس الإنسانية .

الدليل الثالث للأشاعرة :

استدلّت الأشاعرة على نفي استطاعة الإنسان بقوله تعالى: { قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاّ ما شاءَ اللّهُ } [ الأعراف: 188 ](2) .

يرد عليه :

1 ـ إنّ الاستثناء الموجود في هذه الآية يدلّ على بطلان مذهب الأشاعرة ، لأنّ هذا الاستثناء يدل على أنّ الإنسان يمتلك الاستطاعة ، ولكن هذه الاستطاعة مستثناة بشرط وهو المشيئة الإلهية ، في حين يرى الأشاعرة بأنّ الإنسان لا يمتلك الاستطاعة أبداً .

2 ـ إنّ الآية تدل على أنّ الإنسان يمتلك لنفسه الاستطاعة ، ولكن هذه الاستطاعة إنّما تكون في إطار مشيئة اللّه تعالى، وهو معنى "لا حول ولا قوة إلاّ باللّه" وعبارة "إلاّ باللّه" تفيد ثبوت حول وقوة للإنسان ، ولكن هذا "الحول" لا يكون إلاّ بعد أن يمكّن اللّه تعالى الإنسان منه .

____________

1- انظر: المواقف ، عضد الدين الإيجي: ج3، الموقف 5 ، المرصد 6 ، المقصد 1 ، ص217 .

2- انظر: التفسير الكبير ، الفخر الرازي: ج5، تفسير آية 188 من سورة الأعراف ، ص425 ـ 426 .


الصفحة 212

الصفحة 213

المبحث الثامن

الكسب عند الأشاعرة

الكسب في اللغة: هو السعي والعمل(1) .

الكسب عند الأشاعرة :

المراد من "كسب العبد للفعل" هو مقارنة خلق اللّه تعالى لفعل العبد مع القدرة التي يمنحها اللّه للعبد، من غير أن يكون لقدرة العبد أي تأثير أو مدخل في وجود الفعل، لأنّ العبد ليس إلاّ محلاً للفعل الذي يخلقه اللّه تعالى فيه، وهذا مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري(2).

توضيح ذلك :

1 ـ إذا قصد الإنسان فعلاً من الأفعال، فسيخلق اللّه تعالى في تلك اللحظة شيئين:

الأوّل: ذلك الفعل المقصود.

الثاني: قدرة للإنسان تقترن بذلك الفعل.

فالموجد لفعل الإنسان في الواقع هو اللّه تعالى، وليس لقدرة الإنسان أي أثر في إيجاد فعله سوى اقترانها بذلك الفعل، وهذا الاقتران هو الكسب.

2 ـ الكسب هو "الاقتران العادي بين القدرة المحدثة [ أي: قدرة الإنسان ]والفعل، فاللّه تعالى أجرى العادة بخلق الفعل عند قدرة العبد وإرادته، لا بقدرة العبد وإرادته، فهذا الاقتران هو الكسب"(3).

____________

1- انظر: لسان العرب، ابن منظور: مادة (كسب).

2- انظر: المواقف، عضد الدين الايجي: ج3، الموقف 5 ، المرصد 6 ، المقصد 1 ، ص214 .

3- ضحى الإسلام، أحمد أمين: ج3، الفصل الأوّل: المعتزلة، العدل ص57 .


الصفحة 214

خلاصة رأي الأشعري حول أفعال العباد :

1 ـ أفعال العباد مخلوقة للّه تعالى.

2 ـ يخلق اللّه في العبد قدرة عند خلقه تعالى لفعل العبد.

3 ـ هذه القدرة التي يخلقها اللّه تعالى غير مؤثّرة.

4 ـ ليس للعبد أي تأثير في إيجاد فعله.

5 ـ فعل العبد يخلقه اللّه تعالى ويكسبه العبد.

6 ـ الكسب هو اقتران قدرة العبد بخلق اللّه تعالى لذلك الفعل.

رد نظرية الكسب عند الأشاعرة :

1 ـ إنّ هذا الكسب لا يستطيع أن يكون ملاكاً للطاعة والعصيان أو مناطاً للثواب والعقاب، لأنّه عبارة عن المقارنة الواقعة بين خلقه تعالى لفعل العبد وبين خلقه تعالى للقدرة في العبد، وهذه المقارنة خارجة عن اختيار الإنسان، فلا تصحُّ إناطة الثواب والعقاب عليها.

2 ـ إنّ القول بالكسب لا ينقذ الموقف الأشعري من الجبر، لأنّ الأصل عند الأشعري هو أنّ اللّه تعالى خالق لكلّ شيء، والكسب شيء، فيكون اللّه تعالى هو الخالق للكسب، فلا يبقى للعبد أي دور في الأفعال التي تصدر عنه(1).

3 ـ إنّ الكسب لايدل على كون الإنسان فاعلاً لفعله، لأنّ فعل الشيء عبارة عن إيجاده والتأثير في وجوده، والأشاعرة لايقولون به، وإنّما يقولون:

إنّنا محل فعل اللّه سبحانه، والمحل ليس بفاعل، فإنّ من بنى في محل بناءً، لايقال إنّ المحل بان(2).

4 ـ من أقوال أحد علماء أهل السنّة حول الكسب(3):

____________

1- وقد صرح عبد القادر الاسفراييني بذلك قائلاً: "إنّ اللّه سبحانه خالق الأجسام والأعراض خيرها وشرها، وأنّه خالق أكساب العباد، ولا خالق غير اللّه".

الفرق بين الفرق، الاسفراييني: الباب الخامس، الفصل الثالث، الركن السادس ص338.

2- انظر: دلائل الصدق، محمّد حسن المظفر: ج1، إنّا فاعلون ص435.

3- من العقيدة إلى الثورة، د.حسن حنفي: ج3، الباب الثالث: الإنسان المتعيّن، الفصل السابع: خلق الأفعال، ص117، 118، 126، 128، 129.


الصفحة 215

"لفظة الكسب قد لا تعني شيئاً على الإطلاق، إنّما أُريد بها التمويه على الجمهور أنّها تفيد شيئاً غير الجبر، وهي في الحقيقة لا تفيد إلاّ الجبر".

"الكسب اسم بلا مسمى، لفظ بلا معنى... وتكشف عن مجرّد الرغبة في إثبات الجبر بطريقة ملتوية".

"الحقيقة أنّ الكسب نظرية في الجبر، لأنّ كليهما ينفي استقلال قدرة العبد وتأثيرها في العالم".

"الكسب الأشعري في ذاته غير معقول وليس له أساس نظري".

"يعتمد الكسب على عدّة حجج كلّها خاطئة، وكلّها تثبت أنّ الإنسان ليس صاحب أفعاله، وأنّ هناك قوة أُخرى مسيطرة عليها".

دور قدرة الإنسان في الكسب عند الأشاعرة :

نفي تأثير قدرة الإنسان :

"والمراد بكسبه [ العبد ] إيّاه [ الفعل ] مقارنته لقدرته وإرادته من غير أن يكون هناك منه [ العبد ] تأثير أو مدخل في وجوده سوى كونه محلاً له، وهذا مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري"(1).

يرد عليه :

لا يمتلك الإنسان وفق هذه النظرية أي دور في حدوث أفعاله، وإذا كان اللّه خالقاً لفعل العبد من دون أن يكون لقدرة العبد أي أثر في ذلك، فكيف يصح نسبة الفعل إلى العبد، وكيف يتحمّل الإنسان مسؤولية عمله إذا لم يكن لقدرته أي تأثير في وقوع فعله.

ولهذا ناقش جماعة من أعلام الأشاعرة هذا الرأي منهم :

1 ـ فخرالدين الرازي :

قال: "زعم أبو الحسن الأشعري أنّه لا تأثير لقدرة العبد في مقدوره أصلاً، بل

____________

1- كتاب المواقف، عضد الدين الايجي: ج3، الموقف 5 ، المرصد 6 ، المقصد 1 ، ص214.


الصفحة 216

القدرة والمقدور واقعان بقدرة اللّه تعالى" .

ثم قال :

"إنّ العبد إمّا أن يكون مستقلاً بإدخال الشيء في الوجود، وإمّا لا يكون، فهذا نفي وإثبات ولا واسطة بينهما.

فإن كان الأوّل فقد سلّمتم قول المعتزلة.

وإن كان الثاني كان العبد مضطراً، لأنّ اللّه تعالى:

إذا خلقه في العبد حصل لا محالة.

وإذا لم يخلقه فيه فقد استحال حصوله، وكان العبد مضطراً، فتعود الإشكالات وعند هذا التحقيق يظهر أنّ الكسب اسم بلا مسمى"(1).

2 ـ الشيخ شلتوت :

قال: "إنّ هذه المقارنة الحاصلة بخلق اللّه للفعل عند قدرة العبد، ليست من مقدور العبد ولا من فعله حتّى ينسب الفعل بها إليه ويجازى عليه،...فأيّ مزيّة للقدرة بهذه المقارنة في نسبة الأفعال إلى العبد؟ وبذلك يكون العبد في واقع أمره مجبوراً لا اختيار له"(2).

3 ـ أحمد أمين :

قال: "هو [ الكسب الأشعري ] شكل جديد في التعبير عن الجبر، فهو [ أبو الحسن الأشعري ] يرى أنّ القدرة الحادثة لا تؤثّر في المقدور، ولم ينكر أنّ هذا الذي سماه كسباً من خلق اللّه، فلِمَ هذا الدوران، والنتيجة القول بالجبر؟"(3).

4 ـ الشيخ الشعراني:

مضمون كلامه: كان أبو الحسن الأشعري ، يقول: ليس للقدرة الحادثة أثر، وإنّما

____________

1- محصّل أفكار المتقدمين والمتأخرين، فخرالدين الرازي: القسم الثالث: في الأفعال، ص199 .

2- تفسير القرآن الكريم، الشيخ شلتوت: ص240، نقلاً عن: بحوث في الملل والنحل، جعفر سبحاني: 2 / 153 .

3- ضحى الإسلام، أحمد أمين: ج3، الفصل الأوّل: المعتزلة، العدل ص57.


الصفحة 217

تعلّقها بالمقدور مثل تعلّق العلم بالمعلوم في عدم التأثير. وقد اعتُرض عليه بأنّ القدرة الحادثة إذا لم يكن لها أثر، فوجودها وعدمها سواء، فإنّ القدرة التي لا يقع بها المقدور تكون بمثابة العجز ، ولقوّة هذا الاعتراض فإنّ قول بعض أصحاب الأشعري يلزمه الجبر(1).

آراء بعض أهل علماء السنة القائلين بتأثير قدرة العبد :

1 ـ رأى القاضي أبي بكر الباقلاني (ت403هـ ):

إنّ قدرة العبد الحادثة وإرادته الحادثة لها تأثير في فعله، ولكن هذا التأثير لا يكون في أصل إيجاد الفعل وحدوثه، بل يكون في صفات الفعل.

بعبارة أُخرى :

إنّ إيجاد الفعل من اللّه سبحانه، وليس للقدرة الحادثة دور في إيجاد الفعل، ولكنّها مؤثّرة في صفة الفعل من كونه حركة اختيارية(2).

يلاحظ عليه :

1 ـ إنّ التفكيك بين صفة الفعل ووجوده وإن كان صحيحاً في وعاء الذهن وعالم الاعتبار، ولكنه غير صحيح في الواقع الخارجي.

2 ـ إنّ صفات الفعل لا تخلو من صورتين:

الأولى : أن تكون من الأمور الوجودية، فتكون ـ عندئذ ـ مخلوقة للّه سبحانه ولا يكون للعبد نصيب فيها.

الثانية : أن تكون من الأمور العدمية، فلا يكون ـ عندئذ ـ للكسب واقعية خارجية، بل يكون أمراً ذهنياً غنياً عن الإيجاد والقدرة. فحينئذ لا يكون العبد مصدراً لشيء حتّى يثاب أو يعاقب عليه.

____________

1- انظر: اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر، عبد الوهاب الشعراني: الفصل الرابع، المبحث الرابع والعشرون: في بيان أنّ اللّه تعالى خالق لأفعال العباد كما هو خالق لذواتهم ، ص251 ـ 252 .

2- انظر: الملل والنحل، الشهرستاني: ج1، الباب الأوّل: المسلمون، الفصل الثالث، ص97 .


الصفحة 218

2 ـ رأي الجويني (ت 478هـ ) :

ذهب الجويني إلى(1) :

1 ـ أنّ نفي أثر قدرة الإنسان واستطاعته ممّا يأباه العقل والحس .

2 ـ إنّ إثبات قدرة لا أثر لها بوجه يكون كنفي القدرة أصلا .

3 ـ لابدّ من نسبة فعل العبد إلى قدرته حقيقة .

4 ـ إنّ نسبة فعل العبد إلى قدرته حقيقة، لا تكون على وجه الإحداث والخلق، لأنّ الخلق يشعر باستقلال إيجاده من العدم والإنسان غير مستقل .

5 ـ الفعل يستند وجوده إلى القدرة، والقدرة يستند وجودها إلى سبب آخر حتّى ينتهي الأمر إلى مسبّب الأسباب الذي هو الخالق للأسباب ومسبباتها .

6 ـ إنّ كلّ سبب مهما استغنى من وجه، فهو محتاج من وجه، والباري تعالى هو الغني المطلق الذي لا حاجة له ولا فقر .

تنبيهان :

1 ـ لا يصح إطلاق لفظ "الكسب" الوارد في القرآن الكريم على المعنى الذي اصطلحه الأشاعرة، لأنّ اصطلاح الأشاعرة متأخّر عن عصر النزول، فاللازم حمل هذا اللفظ الوارد في القرآن الكريم على معناه اللغوي وهو "السعي والعمل" .

مثال :

قال تعالى: { وَقِيلَ لِلظّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ } [ الزمر: 24 ]

فإنّ المقصود من "الكسب" في هذه الآية هو "السعي والعمل" .

ولا تعني هذه الآية: ذوقوا العذاب بما كنتم محلا للفعل الذي خلقه اللّه فيكم بقدرته، لأ نّه ليس من العدل أن يذيق اللّه عباده العذاب لأ نّه جعلهم محلا لأفعاله تعالى(2) .

2 ـ ذهب بعض الأشاعرة إلى أنّ معنى "الكسب" هو أنّ اللّه تعالى يخلق

____________

1- انظر: المصدر السابق: ص98 ـ 99 .

2- انظر: دلائل الصدق ، محمّد حسن المظفر: ج1، مخالفة الجبرية لنصوص القرآن ، ص474 .


الصفحة 219

بقدرته فعل العبد بعد قصد واختيار العبد لذلك الفعل، والكسب هو إجراء العادة بخلقه تعالى لفعل الإنسان عند اختيار الإنسان لذلك الفعل، وبهذا يكون الإنسان هو المسؤول في دائرة قصده واختياره(1) .

يلاحظ عليه:

إنّ القصد والاختيار من جملة الأفعال، فإذا جاز صدورهما من العبد فليجز صدور أصل الفعل منه، وأي فرق بينهما؟ وأي حاجة وضرورة إلى هذا التفريق الذي يؤدّي إلى نسبة خلق جميع الأفعال القبيحة إليه تعالى(2) .

____________

1- انظر: نهج الحقّ، العلاّمة الحلّي: المسألة الثالثة: في صفاته تعالى، في إبطال الكسب، ص126 .

2- انظر: نهج الحقّ، العلاّمة الحلّي: المسألة الثالثة: في صفاته تعالى، في إبطال الكسب، ص126 .


الصفحة 220

المبحث التاسع

رأي المعتزلة حول أفعال العباد

1 ـ إنّ اللّه تعالى حكيم وعادل، ولا يجوز أن يضاف إليه شرٌّ ولا ظلم، والذي يخلق الظلم يقال له ظالم، واللّه تعالى منزّه عن نسبة الظلم إليه(1).

2 ـ قال تعالى: { ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُت } [ الملك: 3 ]

إنّ المقصود من التفاوت في هذه الآية ليس التفاوت في أصل المخلوقات، لأنّ هذا التفاوت موجود نراه بوضوح، بل المقصود التفاوت من جهة الحكمة، ومن هنا لا يصح نسبة أفعال العباد إلى اللّه تعالى لأ نّها متفاوتة وفيها العدل والظلم(2).

3 ـ إنّ نسبة الفعل البشري إلى اللّه تعالى تستلزم نسبة القبائح إليه تعالى، وهذا لا يتناسب مع جلالة شأنه تعالى.

4 ـ المستفاد من الآيات القرآنية الكثيرة هو إسناد أفعال العباد إليهم دون اللّه عزّ وجلّ، منها قوله تعالى:

{ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ } [ البقرة: 79 ]

{ إِنَّ اللّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْم حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ } [ الرعد: 11 ]

قال القاضي عبد الجبار المعتزلي :

1 ـ "إنّ أفعال العباد غير مخلوقة فيهم، وأنّهم المحدثون لها"(3) .

____________

1- انظر: شرح الأصول الخمسة، القاضي عبد الجبار: الأصل الثاني، فصل: في خلق الأفعال ، ص345 .

الملل والنحل، الشهرستاني: ج1، الباب الأوّل: المسلمون، الفصل الأوّل: المعتزلة، ص45 و47 .

2- انظر: شرح الأصول الخمسة، القاضي عبدالجبار: الأصل الثاني، فصل: في خلق الأفعال ص355.

3- شرح الأصول الخمسة، القاضي عبد الجبار: الأصل الثاني، فصل: في خلق الأفعال، ص323.


الصفحة 221

2 ـ "اتّفق كلّ أهل العدل على أنّ أفعال العباد من تصرّفهم وقيامهم وقعودهم حادثة من جهتهم، وأنّ اللّه عز وجل أقدرهم على ذلك، ولا فاعل لها ولا محدث سواهم"(1) .

3 ـ "إنّ تصرفاتنا محتاجة إلينا ومتعلّقة بنا لحدوثها"(2) .

____________

1- المغني في أبواب التوحيد والعدل، القاضي عبد الجبار: ج8، الكلام في المخلوق، ص3.

2- شرح الأصول الخمسة، القاضي عبد الجبار، الأصل الثاني، فصل: في خلق الأفعال، ص363.


الصفحة 222

المبحث العاشر

التفويض عند المعتزلة

معنى التفويض (في اللغة) :

التفويض هو إيكال فعل الشيء إلى الآخرين على وجه الاستقلال في التصرّف دون أن يكون للمفوِّض (بكسر الواو) سلطان في فعل المفوَّض إليه (بفتح الواو)، وورد: فوّض إليه الأمر: "صيّره إليه وجعله الحاكم فيه"(1).

معنى التفويض (في الاصطلاح العقائدي) :

إنّ اللّه تعالى فوّض أفعال العباد إليهم وتركهم لحالهم يفعلون على وجه الاستقلال التام دون أن يكون له تعالى سلطان على أفعالهم(2).

نظرية التفويض(3) :

1 ـ خلق اللّه تعالى العالم على أساس نظام الأسباب، وأتمّ عمله بذلك، وكلّ مايحدث بعد ذلك في العالم لا علاقة له باللّه تعالى أبداً.

____________

1- لسان العرب: مادة (فوض).

2- انظر: المصطلحات الإسلامية، مرتضى العسكري: 148.

3- المشهور نسبة هذه النظرية إلى المعتزلة .

تنبيه: لم أجد في كلام القاضي عبد الجبار المعتزلي مايدل على نفي إضافة أفعال العباد إلى اللّه تعالى بصورة مطلقة، بل قال القاضي عبد الجبار :

"لا يجوز إضافتها [ أي: إضافة أفعال العباد ] إلى اللّه تعالى إلاّ على ضرب من التوسّع والمجاز، وذلك بأن تقيّد بالطاعات، فيقال أنّها من جهة اللّه تعالى ومن قبله، على معنى أنّه أعاننا على ذلك، ولطف لنا ووفّقنا، وعصمنا عن خلافه".

شرح الأصول الخمسة، القاضي عبد الجبار: الأصل الخامس، فصل: في القضاء والقدر، ص778 ـ 779.

وهذا مايدل على اعتقاد القاضي عبد الجبار بتدخّل اللّه في أفعال العباد الحسنة عن طريق إعانتهم وتوفيقهم واللطف بهم وعصمتهم عن خلافه.


الصفحة 223

2 ـ نقل اللّه تعالى القدرة من سلطانه القاهر إلى سلطان الإنسان، وقطع كلّ علاقة بينه وبينها، كما تنقل ملكية المتاع من البائع إلى المشتري، إلاّ أنّه تعالى طلب من الإنسان أن يستعمل قدرته في الخير لا في الشر.

3 ـ خلق اللّه تعالى الإنسان وأقدره على خلق أفعاله وفوّض إليه الاختيار والإرادة، فالعبد مستقل في إيجاد أفعاله وفق مشيئته وإرادته، وتستند أفعاله إليه بشكل تامّ ومستقل(1)، ولا توجد أيّة صلة بين فعل الإنسان وبينه تعالى سوى القوة التي أودعها في العبد للمرّة الأُولى.

من أقوال القاضي عبد الجبار :

1 ـ قال في تفسيره لقوله تعالى: { فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ }[ الكهف : 29 ] : "فقد فوّض الأمر في ذلك إلى اختيارنا"(2).

2 ـ "إنّ هذه التصرفات محتاجة إلينا ومتعلّقة بنا في الاحتياج إلى محدث وفاعل، وإنّما احتاجت إلينا لحدوثها"(3).

من دوافع القول بالتفويض :

1 ـ الحرص على حريم العدل الإلهي، وتنزيه اللّه تبارك وتعالى عما يصدر من العباد من ظلم وقبائح.

2 ـ رد فعل إزاء انتشار التيار الفكري القائل بالجبر، بحيث أدّى هذا الأمر إلى الإفراط في الدفاع عن اختيار الإنسان، والمبادرة إلى قطع العلاقة بين الإنسان وبين اللّه تعالى.

3 ـ التأكيد على القدرة البشرية وتحمّل مسؤولية الاختيار من أجل استنهاض

____________

1- ورد هذا المعنى في: المواقف، عضد الدين الايجي: ج3، الموقف 5 ، المرصد 6 ، المقصد 1، ص214.

2- شرح الأصول الخمسة، القاضي عبد الجبار: الأصل الثاني: العدل، ص362.

3- المصدر السابق: ص340.


الصفحة 224

المظلومين ومواجهتهم للحكومات الجائرة لاسترداد حقوقهم.


الصفحة 225

المبحث الحادي عشر

مناقشة نظرية التفويض

أدلة التفويض :

لولا استقلال العبد بالفعل على سبيل الاختيار(1):

1 ـ بطل التكليف بالأوامر والنواهي، لأنّ العبد إذا لم يكن موجداً لفعله، مستقلاً في إيجاده، لم يصح عقلاً أن يقال له: افعل كذا ولا تفعل كذا .

2 ـ بطل التأديب الذي ورد به الشرع، إذ لا معنى لتأديب من لا يستقل بإيجاد فعله .

3 ـ ارتفع المدح والذم والثواب والعقاب عن العبد، إذ ليس الفعل مستنداً إليه مطلقاً حتّى يمدح به أو يذم، أو يثاب عليه أو يعاقب .

يرد عليه :

لا يشترط في صحة التكليف والتأديب والمدح والذم والثواب والعقاب أن يكون الإنسان مستقلاً في فعله، بل الملاك في صحة جميع هذه الأمور هو صدور الفعل من الإنسان بقدرته واختياره فحسب.

أساس نظرية التفويض :

إنّ الإنسان يحتاج إلى اللّه تعالى في أصل وجوده وقدرته، ثمّ يكون مستقلاً في استخدام هذه القدرة في الفعل والترك.

____________

1- انظر: المواقف، عضد الدين الإيجي: ج3، الموقف 5، المرصد 6، المقصد 1، ص222 .


الصفحة 226

معنى ذلك :

إنّ الممكن يحتاج إلى الواجب عند حدوثه فقط، ثم يستغني عنه في البقاء، لأنّ "الحدوث" شيء و"البقاء" شيء آخر، وإنّ الأشياء لا تحتاج في بقاء ذاتها إلى العلّة الموجدة لها.

مثال حاجة الممكن إلى العلة حدوثاً واستغنائه عنها بقاءً:

البيت المشيّد، فإنّه بحاجة إلى البنّاء ليبنيه ويقيم جدرانه في بداية أمره، فإذا وُجد البيت، استغنى البيت عن البنّاء، وسيستمر وجوده وإن مات البنّاء، لأنّ ذلك لا يؤثّر على وجود البيت المشيّد.

يرد عليه :

تنقسم العلل إلى قسمين:

أ ـ العلّة الحقيقية: وهي العلّة التي تخلق الوجود من العدم.

ب - العلّة المعدّة: وهي العلّة التي ليس من شأنها سوى تحقّق عدد من المقدّمات.

وإنّ البنّاء هو "علّة معدّة" وليس "علّة حقيقية"، ومهمته تجميع الأجزاء من موضع إلى آخر، فيكون اجتماع الأجزاء واستقرارها في مواضعها علّة لحدوث شكل البناء، ثمّ تكون الخصائص الماديّة الكامنة في مادة البناء من قابلية التماسك ونحوها هي العلّة المبقية للبناء إلى مدّة معيّنة.

بعبارة أُخرى :

إنّ عمل البنّاء في الفعل هو ضمّ بعض الأجزاء إلى بعض، والحركة تنتهي بانتهاء عمله، وأمّا بقاء المبنى فهو مرهون بالقوّة الكامنة التي أودعها اللّه تعالى في أجزائه، وليس للبنّاء أيّ صنع فيها(1).

____________

1- للمزيد راجع: الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، صدر الدين الشيرازي: ج1، فصل 14، احتياج الممكن إلى العلة حدوثاً وبقاءً، ص215 ـ 221.


الصفحة 227

الآثار السلبية لنظرية التفويض :

1 ـ تستلزم هذه النظرية الشرك في الخالقية، لأنّها توجب الاعتقاد بوجود خالقين مستقلين أحدهما اللّه تعالى والثاني الإنسان الذي يكون خالقاً مستقلاً من دون احتياجه إلى اللّه تعالى في بقائه وتأثيراته.

ولهذا قال الإمام علي(عليه السلام):

" ... وإن زعمت أنّك مع اللّه تستطيع، فقد زعمت أنّك شريك معه في ملكه ... "(1) .

2 ـ تنافي هذه النظرية أصل احتياج الإنسان إلى اللّه عز وجل، فتؤدّي بالإنسان إلى الشعور بالغنى عن ذات الخالق، والحرمان من دوام الاتّصال باللّه تعالى والتوكّل عليه والاستعانة به.

3 ـ تؤدّي هذه النظرية إلى تحديد القدرة الإلهية وسلب سلطانه تعالى على عباده في مجال أفعالهم، فيؤدّي هذا الأمر إلى إنكار أن يكون للّه تعالى صنع في أفعال العباد بالتوفيق والخذلان.

رد التفويض في القرآن الكريم :

1 ـ { يا أَيُّهَا النّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللّهِ وَاللّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } [ فاطر: 15 ]

2 ـ { وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَد إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ } [ البقرة: 102 ]

3 ـ { كَمْ مِنْ فِئَة قَلِيلَة غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ } [ البقرة: 249 ]

4 ـ { وَما كانَ لِنَفْس أَنْ تُؤْمِنَ إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ } [ يونس: 100 ]

5 ـ { وَما كانَ لِنَفْس أَنْ تَمُوتَ إِلاّ بِإِذْنِ اللّهِ } [ آل عمران: 145 ]

الآيات الدالة على تصرّفه تعالى في أمور عباده :

1 ـ { وَلَوْ لا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاّ قَلِيلاً } [ النساء:83 ]

2 ـ { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَ يَكْشِفُ السُّوءَ } [ النمل: 62 ]

____________

1- التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 56: باب الاستطاعة، ح23، ص343 .


الصفحة 228

3 ـ { إِيّاكَ نَعْبُدُ وَإِيّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الحمد: 5 ]

4 ـ { وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [ غافر: 60 ]

5 ـ { وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } [ البقرة: 186 ]

6 ـ { وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ }[ الأنبياء: 76 ]

7 ـ { وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنا لَهُ } [ الأنبياء : 83 ـ 84 ]

8 ـ { وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً ... * فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ } [ الأنبياء: 87 ـ 88 ]

9 ـ { قُلِ اللّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ } [ آل عمران: 26 ]

10 ـ { إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } [ آل عمران: 160 ]

ردّ التفويض في أحاديث أئمة أهل البيت(عليهم السلام) :

1 ـ الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): " ... ورجل يزعم أنّ الأمر مفوّض إليهم ، فهذا وهّن اللّه في سلطانه ..."(1) .

2 ـ الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام) قال: قال رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم): " ... من زعم أنّ الخير والشر بغير مشيّة اللّه فقد أخرج اللّه من سلطانه ..."(2) .

3 ـ الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): "إنّ القدرية مجوس هذه الأمة ، وهم الذين أرادوا أن يصفوا اللّه بعدله فأخرجوه من سلطانه ..."(3) .

____________

1- بحار الأنوار ، العلاّمة المجلسي: ج5، كتاب العدل والمعاد ، أبواب العدل ، ب1 ، ح14، ص9 ـ 10 .

2- التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 59: باب نفي الجبر والتفويض، ح2، ص350 .

3- المصدر السابق: باب60: باب القضاء والقدر ، ح29 ، ص372 .


الصفحة 229

4 ـ الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام) سأله محمّد بن عَجْلان: فوّض اللّه الأمر إلى العباد ؟ فقال(عليه السلام): "اللّه أكرم من أن يفوّض إليهم"(1).

5 ـ الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام) قال للحسن البصري: " ... إيّاك أن تقول بالتفويض! فإنّ اللّه جلّ وعزّ لم يفوّض الأمر إلى خلقه وهناً منه وضعفاً ..."(2) .

6 ـ الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): "لعن اللّه المعتزلة أرادت أن توحّد فألحدت ، ورامت أن ترفع التشبيه فأثبتت"(3) .

7 ـ وقال(عليه السلام): "مساكين القدرية، أرادوا أن يصفوا اللّه عزّ وجلّ بعدله فأخرجوه من قدرته وسلطانه"(4) .

8 ـ الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): " ... من زعم أ نّه يقوى على عمل لم يرده اللّه عزّ وجلّ ، فقد زعم أنّ إرادته تغلب إرادة اللّه ..."(5).

9 ـ الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام)، سأله الوشاء: اللّه فوّض الأمر إلى العباد؟ فقال(عليه السلام): "اللّه أعزّ من ذلك"(6) .

____________

1- المصدر السابق: باب59: باب نفي الجبر والتفويض ، ح6، ص351 .

2- بحار الأنوار ، العلاّمة المجلسي: ج24، كتاب الإمامة، باب59، ح1 ، ص233 .

3- المصدر السابق: ج5، كتاب العدل والمعاد، أبواب العدل، ب1، ح8 ، ص8 .

4- المصدر السابق: ج5، كتاب العدل والمعاد، أبواب العدل، ب1، ح93 ، ص54 .

5- بحار الأنوار، العلاّمة المجلسي ج4، كتاب التوحيد، أبواب أسمائه تعالى، باب1، ح6 ، ص161 .

6- المصدر السابق: ج5، كتاب العدل والمعاد، أبواب العدل، ب1، ح20 ، ص16 .


الصفحة 230

المبحث الثاني عشر

القـدرية

قال رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم): "القدرية مجوس هذه الأمة"(1) .

من هم القدرية ؟

قال القاضي عبد الجبار المعتزلي: "اعلم أنّ القدرية عندنا إنّما هم المجبرة والمشبّهة، وعندهم المعتزلة ، فنحن نرميهم بهذا اللقب وهم يرموننا به"(2).

أدلة نسبة القدرية إلى القائلين بالقدر (الجبرية) :

1 ـ إنّ اسم القدرية هو اسم إثبات ، ولا يستحقه إلاّ المثبت للقدر ، والمجبرة هم الذين يثبتون القدر، ويقولون كلّ شيء بقدر اللّه(3) .

2 ـ إنّ الجبرية هم الذين يولعون بالإكثار من قولهم : لا يكون شيء إلاّ بقضاء اللّه تعالى وقدره ، وهم أشدّ الناس حرصاً على استخدام مصطلح القدر، فلهذا يجب أن يكونوا هم القدرية(4).

3 ـ إنّ المتبادر من القدرية هم القائلون بالقدر، كما أنّ المتبادر من العدلية أ نّهم مثبتو العدل لا منكريه ، لأنّ تفسير القدرية بمنكري القدر بعيد جدّاً وهو غير مأنوس في اللغة العربية .

____________

1- عوالي اللئالي،ابن أبي جمهور الاحسائي، ج1، الفصل الثامن ، ح175، ص166 .

بحار الأنوار ، العلاّمة المجلسي: ج5، كتاب العدل والمعاد، أبواب العدل، باب 1، ذيل ح4، والنص المروي عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم): "القدرية مجوس أمتي" .

المعجم الأوسط ، الطبراني: 3/65 .

كنز العمال ، المتقي الهندي: الفصل الأوّل ، ح553، ص118 .

2- شرح الأصول الخمسة، القاضي عبد الجبار: الأصل الرابع ، ص772 .

3- انظر: المصدر السابق: ص775 ـ 776 .

4- شرح الأصول الخمسة، القاضي عبد الجبار: الأصل الرابع ، ص775 ـ 776 .


الصفحة 231

4 ـ ذكر الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّ القدرية خصماء الرحمن ، والمجبرة هم الذين يخاصمون اللّه تعالى إذا عاقبهم على المعاصي، فيقولون: إنّك أنت الذي خلقت فينا المعصية وأردتها منّا ، فمالك تعذّبنا وتعاقبنا على ذلك(1) .

أدلة نسبة القدرية إلى النافين للقدر (المفوّضة) :

1 ـ إنّ القدري هو الذي يثبت القدر لنفسه دون ربّه عزّ وجلّ ، ويقول بأ نّه هو الخالق والمقدّر لأفعاله دون اللّه تعالى .

2 ـ إنّ المفوّضة هم القدرية لأ نّهم أفرطوا وبالغوا في نفيه(2).

3 ـ إنّ من يضيف القدر إلى نفسه ، ويدّعي كونه الفاعل والمقدّر أولى باسم القدري ممن يضيفه إلى ربّه(3) .

4 ـ ذكر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّ القدرية خصماء الرحمن ، والمفوّضة يسلبون حقّ اللّه تعالى في خلقه لأفعال العباد، وينسبون هذا الخلق إلى أنفسهم ، ومن يكون كذلك فهم المخاصمون للّه تعالى .

وجه تشبيه المجبرة بالمجوس :

1 ـ قال المجوس بأنّ اللّه تعالى يخلق ثمّ يتبرّأ ممّا خلق ، وقال المجبرة بأنّ اللّه تعالى يخلق القبائح ثمّ يتبرّأ منها(4) .

2 ـ قال المجوس بأنّ القادر على فعل الخير لا يقدر على فعل الشر وبالعكس ، فوافقهم المجبرة وقالوا بأنّ الإنسان الذي يخلق اللّه فيه الإيمان لا يقدر على الكفر وبالعكس(5) .

3 ـ قال المجوس بأنّ مزاج العالم شيء واحد، وهو حَسَن من النور ، وقبيح من

____________

1- انظر: المصدر السابق: ص774 .

2- شرح المقاصد، سعد الدين التفتازاني: ج4، المقصد 5 ، الفصل 5 ، المبحث 1 ، ص267 ـ 268 .

3- المصدر السابق .

4- انظر: كشف المراد ، العلاّمة الحلّي: المقصد الثالث ، الفصل الثالث ، المسألة الثامنة، ص435 .

5- انظر: المصدر السابق .


الصفحة 232

الظلمة ، وشاركهم المجبرة وقالوا: إنّ الكفر شيء واحد، وهو يَحسُن من اللّه تعالى من حيث خلقه تعالى له ويقبح من العبد من حيث كسبه له(1) .

4 ـ جوّز المجوس تكليف ما لا يطاق ، وقال المجبّرة أيضاً بأنّ اللّه تعالى كلّف الكافر بالإيمان مع أ نّه لا يمكنه فعله ، ونهاه عن الكفر مع أ نّه لا يتصوّر الانفكاك عنه(2).

5 ـ إنّ الأمر الظاهر في المجوس عملهم الفواحش ثمّ إسنادها إلى اللّه تعالى ، وهو ما يذهب إليه المجبرة .

وجه تشبيه المفوّضة بالمجوس :

1 ـ قال المفوّضة بأنّ الإنسان هو المستقل في خلق أفعاله ، فأثبتوا خالقين ، والمجوس أيضاً ذهبوا إلى وجود خالقين ، أحدهما خالق الخير والآخر خالق الشر .

2 ـ قال المفوّضة كالمجوس بأنّ اللّه تعالى خير محض وهو غير قادر على خلق الشرّ والفساد(3) .

3 ـ إنّ المفوّضة كالمجوس لم يجعلوا للّه إرادة ولا سلطاناً في بعض الأُمور(4).

القدرية في الأحاديث الشريفة :

وردت "القدرية" في أحاديث رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته(عليهم السلام) تارة في القائلين بالقدر وهم "المجبّرة"، وأُخرى في النافين للقدر وهم "المفوّضة" .

ويبدو أنّ المراد من القدرية عند الرسول وأهل بيته(عليهم السلام) هم الذين يقولون في القدر بخلاف الحقّ ، وهو يشمل "المجبّرة" و"المفوّضة" .

____________

1- انظر: شرح الأصول الخمسة، القاضي عبد الجبار: الأصل الرابع ، فصل: في القضاء والقدر ، ص773 .

2- انظر: المصدر السابق .

3- كتاب التوحيد، أبو منصور الماتريدي: مسألة في ذم القدرية، ص314 .

4- المصدر السابق: ص315 .


الصفحة 233

الأحاديث الدالة على أنّ القدرية هم المجبّرة :

1 ـ قال رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم): "لُعنت القدرية والمرجئة على لسان سبعين نبياً" ، قيل: ومن هم القدرية يا رسول اللّه؟

فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): "قوم يزعمون أنّ اللّه سبحانه وتعالى قدّر عليهم المعاصي وعذّبهم عليها"(1) .

2 ـ ورد أنّ رجلا قدم على النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فقال له رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم): "أخبرني بأعجب شيء رأيت" . قال: رأيت قوماً ينكحون أمهاتهم وبناتهم وأخواتهم ، فإذا قيل لهم: لم تفعلون ذلك ؟ قالوا: قضاء اللّه تعالى علينا وقدره .

فقال النبي(صلى الله عليه وآله وسلم): "سيكون من أُمتي أقوام يقولون مثل مقالتهم ، أولئك مجوس أمّتي"(2) .

3 ـ قال الإمام علي(عليه السلام) عند انصرافه من صفين: " ... فو اللّه ما علوتم تلعة ولا هبطتم بطن واد إلاّ بقضاء من اللّه وقدر" ، فقاله له شيخ شامي: عند اللّه أحتسب عنائي .

فقال(عليه السلام): "مهلا يا شيخ ، لعلّك تظن قضاءً حتماً وقدراً لازماً ... تلك مقالة عبدة الأوثان وخصماء الرحمن وقدرية هذه الأمة ومجوسها"(3) .

الأحاديث الدالة على أنّ القدرية هم المفوّضة :

1 ـ قال رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم): "إنّ لكلّ أمة مجوس ، ومجوس هذه الأمة الذين يقولون لا قدر ، ويزعمون أنّ المشية والقدرة إليهم ولهم"(4) .

2 ـ قال الإمام محمّد بن علي الباقر(عليه السلام): " ... القدرية الذين يقولون: لا قدر ، ويزعمون أ نّهم قادرون على الهدى والضلالة"(5) .

3 ـ قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): "إنّ القدرية مجوس هذه الأمة، وهم الذين أرادوا أن يصفوا اللّه بعدله، فأخرجوه من سلطانه ..."(6) .

____________

1- بحار الأنوار ، العلاّمة المجلسي: ج5، كتاب العدل والمعاد، أبواب العدل ، ب1، ح73، ص47 .

2- بحار الأنوار ، العلاّمة المجلسي: ج5، كتاب العدل والمعاد، أبواب العدل ، ب1، ح74، ص47 .

3- التوحيد ، الشيخ الصدوق : باب60: باب القضاء والقدر و ... ، ح28، ص369 ـ 370 .

4- بحار الأنوار ، العلاّمة المجلسي: ج5، كتاب العدل والمعاد، أبواب العدل ، ب7، ح14، ص197 .

5- المصدر السابق: ب1، ح13، ص9 .

6- المصدر السابق: ج5 ، ب3 ، هامش ص98 .


الصفحة 234

4 ـ قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام) لقدري: "اقرأ سورة الحمد ..." فجعل القدري يقرأ سورة الحمد حتّى بلغ قول اللّه تبارك وتعالى: { إيّاكَ نَعْبُدُ وَإيّاكَ نَسْتَعينُ } .

فقال له الإمام الصادق: "قف، من تستعين ؟ وما حاجتك إلى المعونة إن [ كان ] الأمر إليك؟" ، فبهت الذي كفر ، واللّه لا يهدي القوم الظالمين(1) .

5 ـ عن علي بن موسى الرضا(عليه السلام) حول قوله تعالى: { إِنَّ اللّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْم حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ } [ الرعد: 11 ] .

قال(عليه السلام): "إنّ القدرية يحتجون بأوّلها وليس كما يقولون، ألا ترى أنّ اللّه تبارك وتعالى يقول: { وَإِذا أَرادَ اللّهُ بِقَوْم سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ } ..."(2) .

____________

1- بحار الأنوار ، العلاّمة المجلسي: ج92، كتاب القرآن، باب29، ح44، ص239 ـ 240 .

2- المصدر السابق: ج5، كتاب العدل والمعاد، أبواب العدل ، ب1، ح4، ص5 .


الصفحة 235

المبحث الثالث عشر

أفعال العباد عند مذهب أهل البيت (عليهم السلام)

رأي مذهب أهل البيت(عليهم السلام) حول خلق أفعال العباد :

1 ـ سُئل الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) عن أفعال العباد: أهي مخلوقة للّه تعالى؟ فقال(عليه السلام): "لو كان خالقاً لها لما تبرّء منها، وقد قال سبحانه: { أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } ولم يرد البراءة من خلق ذواتهم ، وإنّما تبرّء من شركهم وقبائحهم"(1).

2 ـ إنّ الإنسان هو الذي يخلق أفعاله بالقدرة التي منحها اللّه تعالى له ، "والضرورة قاضية بإسناد الأفعال إلينا"(2) .

3 ـ قال الشيخ الحرّ العاملي: "مذهب الإمامية والمعتزلة أنّ أفعال العباد صادرة عنهم وهم خالقون لها"(3) .

تنبيه مهم :

إنّ "الخلق" ينقسم إلى قسمين :

الأوّل: إيجاد "شيء" من "لا شيء" .

وهذا القسم من الخلق مختص باللّه تعالى فقط ، ولا يقدر عليه إلاّ اللّه عزّ وجلّ .

____________

1- تصحيح اعتقادات الإمامية ، الشيخ المفيد: ج5، فصل في أفعال العباد ، ص44 .

الفصول المهمة، الشيخ الحرّ العاملي: ج1، أبواب أصول الدين، باب 47، ح7 [ 266 ] ، ص258 ـ 259 .

بحار الأنوار ، العلاّمة المجلسي: ج5 ، كتاب العدل والمعاد، باب 1، ذيل ح29، ص20 .

2- تجريد الاعتقاد، نصير الدين الطوسي: المقصد الثالث ، الفصل الثالث ، نفي الجبر، ص199 .

3- الفصول المهمة، الحرّ العاملي: ج1، أبواب أصول الدين ، باب 47، ذيل ح4 [ 263 ] ، ص257 .


الصفحة 236

من الآيات القرآنية المشيرة إلى هذا الخلق :

قال تعالى: { أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ } [ الأعراف: 54 ]

والخلق هنا بمعنى إيجاد "شيء" من "لا شيء"(1).

الثاني: الخلق بمعنى التقدير والتصوير والصنع ، من قبيل القيام بتركيب مجموعة أشياء للوصول إلى شيء جديد له من الخصائص ما تفترق عن خصائص أجزائه ، أو من قبيل وقوع الأحداث التي تتم عن طريق تحريك جزء من مكان إلى مكان آخر .

وهذا القسم من "الخلق" يدخل في مقدور الإنسان .

من الآيات القرآنية المشيرة إلى هذا الخلق :

قوله تعالى حكاية عن عيسى(عليه السلام): { أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ }[ آل عمران: 49 ] .

أي: أنّي أقدّر لكم وأصوّر لكم من الطين مثل صورة الطير(2)، وليس المراد من "الخلق" هنا "إيجاد شيء من لا شيء" .

النتيجة :

إنّ خلق الإنسان لأفعاله يكون من قبيل القسم الثاني للخلق، وهو عبارة عن القيام بتركيب مجموعة أشياء أو تحريكها للوصول إلى شيء جديد ، ولا يكون خلق الإنسان من قبيل القسم الأوّل للخلق وهو خلق "شيء" من "لا شيء" ، لأنّ هذا الخلق من مختصات اللّه تعالى فحسب .

قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام):

"في الربوبية العظمى والإلهية الكبرى:

لا يكوّن الشيء لا من شيء إلاّ اللّه .

____________

1- انظر: التبيان في تفسير القرآن ، الشيخ الطوسي: ج4، تفسير آية 54 من سورة الأعراف ، وقد عبّر الشيخ الطوسي عن معنى إيجاد شيء من لا شيء بكلمة "الاختراع" .

2- انظر: المصدر السابق: ج2، تفسير آية 49 من سورة آل عمران .


الصفحة 237

ولا ينقل الشيء من جوهريته إلى جوهر آخر إلاّ اللّه .

ولا ينقل الشيء من الوجود إلى العدم إلاّ اللّه"(1) .

أقوال أئمة أهل البيت(عليهم السلام) حول أفعال العباد :

1 ـ الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): "لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين"(2) .

2 ـ الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام): "إنّ اللّه عزّ وجلّ لم يطع بإكراه ، ولم يعص بغلبة، ولم يهمل العباد في ملكه ، هو المالك لما ملّكهم والقادر على ما أقدرهم عليه ..."(3) .

3 ـ الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): "ما استطعت أن تلوم العبد عليه فهو منه، وما لم تستطع أن تلوم العبد عليه فهو من فعل اللّه"(4) .

4 ـ الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام)، قال لأبي حنيفة عندما سأله عن مصدر المعصية:

" ... لا تخلو من ثلاث :

[ أوّلاً ] إمّا أن تكون من اللّه وليس من العبد شيء، فليس للحكيم أن يأخذ عبده بما لم يفعله.

[ ثانياً ] وإمّا أن تكون من العبد ومن اللّه ، واللّه أقوى الشريكين ، فليس للشريك الأكبر أن يأخذ الشريك الأصغر بذنبه .

[ ثالثاً ] وإما أن تكون من العبد ، وليس من اللّه شيء، فإن شاء عفى ، وإن شاء عاقب"(5) .

5 ـ الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام):

"العمل الصالح: العبد يفعله واللّه به أمره .

والعمل الشرّ: العبد يفعله واللّه عنه نهاه".

فقال السائل: أليس فعله بالآلة التي ركّبها فيه ؟

____________

1- بحار الأنوار ، العلاّمة المجلسي: ج4، كتاب التوحيد، باب5، ح2، ص148 .

2- المصدر السابق: ب3، شرح ح2 ، ص197 .

3- المصدر السابق: ج5، كتاب العدل والمعاد، أبواب العدل، ب1، ح22، ص16 .

4- المصدر السابق: ح109، ص59 .

5- المصدر السابق: ج5، كتاب العدل والمعاد، أبواب العدل، ب1، ح33 ص27 .


الصفحة 238

قال(عليه السلام): "نعم، ولكن بالآلة التي عمل بها الخير قدر بها على الشر الذي نهاه عنه"(1) .

رأي مذهب أهل البيت(عليهم السلام) حول قدرة العبد :

1 ـ إنّ اللّه تعالى هو الذي منح الإنسان القدرة والاستطاعة بحيث تكون مالكية الإنسان لهذه القدرة والاستطاعة في طول مالكيته تعالى ، أي: لا يكون الباري عزّ وجلّ منعزلا عن هذه القدرة والاستطاعة ، بل يكون هو المالك لما ملّك الإنسان، وهو القادر على ما أقدره .

2 ـ إنّ قوّة الإنسان قوّة مؤثّرة ، ولكنها ليست مستقلة ، بل هي قوّة تفتقر في ذاتها إلى اللّه تعالى .

أقوال أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) حول قدرة العبد :

1 ـ قال الإمام علي(عليه السلام) لأحد الأشخاص حول الاستطاعة التي يملكها الإنسان: " [ إنّك ] تملكها باللّه الذي يملكها من دونك ، فإن ملّككها كان ذلك من عطائه ، وإن سلبكها كان ذلك من بلائه ، وهو المالك لما ملّكك والمالك لما عليه أقدرك"(2) .

2 ـ قال الإمام علي(عليه السلام) عن معنى "لا حول ولا قوة إلاّ باللّه":

"إنّا لا نملك مع اللّه شيئاً ، ولا نملك إلاّ ما ملّكنا ، فمتى ملّكنا ما هو أملك به منّا كلّفنا ، ومتى أخذه منّا ، وضع تكليفه عنّا"(3) .

3 ـ قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): "ما كلّف اللّه العباد كلفة فعل، ولا نهاهم عن شيء حتّى جعل لهم الاستطاعة ، ثمّ أمرهم ونهاهم ، فلا يكون العبد آخذاً ولا تاركاً إلاّ باستطاعة متقدّمة قبل الأمر والنهي، وقبل الأخذ والترك ، وقبل القبض والبسط"(4) .

4 ـ قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): "لا يكون العبد فاعلا ولا متحرّكاً إلاّ والاستطاعة معه من اللّه عزّ وجلّ، وإنّما وقع التكليف من اللّه عزّ وجلّ بعد الاستطاعة، فلا يكون

____________

1- المصدر السابق: ح29، ص19 .

2- بحار الأنوار ، العلاّمة المجلسي: ج5، كتاب العدل والمعاد، أبواب العدل، باب1، ح30، ص24 .

3- نهج البلاغة ، الشريف الرضي: باب المختار من حكم أمير المؤمنين(عليه السلام)، الحكمة رقم 404، ص742 .

4- بحار الأنوار ، العلاّمة المجلسي: ج5، كتاب العدل والمعاد، أبواب العدل، باب1، ح57، ص38 .


الصفحة 239

مكلّفاً للفعل إلاّ مستطيعاً"(1) .

5 ـ قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): "إنّ اللّه عزّ وجلّ خلق الخلق فعلم ما هم صائرون إليه ، وأمرهم ونهاهم ، فما أمرهم به من شيء فقد جعل لهم السبيل إلى الأخذ به، وما نهاهم عنه فقد جعل لهم السبيل إلى تركه ، ولا يكونون فيه آخذين ولا تاركين إلاّ بإذن اللّه عزّ وجلّ"(2) .

6 ـ قال الإمام علي بن محمّد الهادي(عليه السلام): "إنّ اللّه ـ عزّ وجلّ ـ يجازي العباد على أعمالهم، ويعاقبهم على أفعالهم بالاستطاعة التي ملّكهم إيّاها، فأمرهم ونهاهم ..."(3) .

خصائص قدرة الإنسان:

1 ـ إنّ اللّه تعالى منح الإنسان قدرة محدودة، لكي يستخدم هذه القدرة في ما طلب اللّه تعالى منه .

2 ـ إنّ لكلّ إنسان دائرة محدودة من القدرة، وهذه المحدودية هي السبب في نيله الحدّ المحدود من أهدافه ومبتغياته ، وهي العامل في عدم وصوله إلى تحقّق جميع آماله .

3 ـ إنّ الإنسان مكلّف بالجدّ والاجتهاد واستخدام قدرته في سبيل الخير ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وقد حثّه الباري عزّ وجلّ على استعمال قدرته المحدودة في أوسع نطاقها وفي أبعد مداها، فقال تعالى: { وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسانِ إِلاّ ما سَعى }[ النجم: 39 ]

4 ـ إذا تمكّن الإنسان بقدرته أن يصل إلى أهدافه السامية فبهاونعمت ، وإن لم يتمكّن من ذلك بعد استعمال كلّ الوسائل وبذل كلّ ما في وسعه، فعليه أن يعلم بأنّ

____________

1- المصدر السابق: ح46، ص35 .

2- المصدر السابق: ح55، ص37 .

3- تحف العقول، أبو محمّدالحسن بن علي الحرّاني: ما روي عن الإمام أبي الحسن علي بن محمّد(عليه السلام)، رسالته ؤفي الرد على أهل الجبر والتفويض ، ص341 .


الصفحة 240

اللّه تعالى لا يكلّف نفساً إلاّ وسعها .

5 ـ شاءت الإرادة الإلهية أن يكون التقاعس والتواكل والكسل والخمول وعدم استعمال القوة سبباً للعجز والتسافل ، وأن يكون الإقدام والسعي والمحاولة واستعمال القوة في نطاقها الصحيح سبباً إلى الإنتاج المثمر .

رأي مذهب أهل البيت(عليهم السلام) حول نسبة أفعال العبد إلى اللّه تعالى :

إنّ فعل الخير الذي يفعله الإنسان يُنسب إلى اللّه تعالى ، لأ نّه منح الإنسان القدرة وأمره به ، وأمّا فعل الشرّ فإنّه لا ينسب إلى اللّه تعالى ، لأ نّه عزّ وجلّ نهى عنه وأمر بتركه .

قال الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام): " [ جاء في الحديث القدسي ] ... قال اللّه: يابن آدم أنا أولى بحسناتك منك ، وأنت أولى بسيئاتك منّي، عملت المعاصي بقوّتي التي جعلتها فيك"(1) .

توضيح ذلك :

السبب في أولوية نسبة سيئات الإنسان إلى نفسه :

إنّ اللّه تعالى وهب للإنسان القدرة، ونهاه عن ارتكاب السيئات ، فإذا صرف الإنسان هذه القدرة في السيئات ، صار أولى بها، لأ نّه صرف الشيء في ما نهاه اللّه تعالى عنه .

____________

1- الكافي، الشيخ الكليني: ج1، كتاب التوحيد، باب: الجبر والقدر والأمر بين الأمرين ، ح3، ص157 .


الصفحة 241

المبحث الرابع عشر

الأمر بين الأمرين

1 ـ قال الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) في جواب مَن سأله عن القدر: " ... أ نّه أمر بين أمرين ، لا جبر ولا تفويض"(1) .

2 ـ قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): "لا جبر ولا تفويض ، بل أمر بين أمرين"(2) .

3 ـ سُئل الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): هل بين الجبر والقدر منزلة ثالثة؟ فقال(عليه السلام): "نعم ، أوسع مما بين السماء والأرض"(3) .

خصائص مقولة "الأمر بين الأمرين" :

1 ـ بلغت الأحاديث المروية عن أئمة أهل البيت(عليهم السلام) في ذم الاتّجاهين الجبري والتفويضي وإثبات الأمر بين الأمرين حدّ التواتر(4) .

2 ـ إنّ مقولة الأمر بين الأمرين مقولة مستقلة وليست تلفيقاً بين نظريتي الجبر والتفويض، ولا يعني الأمر بين الأمرين أنّ الإنسان مجبور في جانب من جوانب أفعاله ، ومفوّض إليه الأمر في جانب آخر، لأنّ الجبر في الأفعال التكليفيّة باطل بجميع مراتبه ، والتفويض أيضاً باطل بأيّ نحو كان .

3 ـ تُقدِّم مقولة "الأمر بين الأمرين" صياغة تجمع بين "العدل الإلهي" و"السلطة

____________

1- بحار الأنوار ، العلاّمة المجلسي: ج5، كتاب العدل والمعاد، أبواب العدل ، ب1، ح103، ص57 .

2- الكافي، الشيخ الكليني: ج1، كتاب التوحيد، باب: الجبر والقدر والأمر بين الأمرين ، ح13، ص160 .

3- التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 59، باب نفي الجبر والتفويض، ح3، ص350 .

4- انظر: محاضرات في أصول الفقه، السيّد الخوئي: 2 / 77 ، نقلا عن: التوحيد، دروس السيّد كمال الحيدري، بقلم جواد علي كسّار: 2 / 87 .


الصفحة 242

الربانية" ، لأنّ هذه المقولة:

تمنع ـ من جهة ـ نسبة الظلم والقبح إلى اللّه تعالى .

وتحفظ ـ من جهة أُخرى ـ سلطنة اللّه في دائرة ملكه .

4 ـ إنّ هذه المقولة تجمع بين نسبة الفعل إلى اللّه تعالى ونسبته إلى الإنسان ، وتحافظ في نفس الوقت على الاختيار الإنساني في إطار يوجِد التوازن بين أصل "العدل الإلهي" وبين أصل "السلطنة الإلهية" من دون أي تفريط لإحدى الجهات على حساب الأخرى .

أهم معاني الأمر بين الأمرين :

المعنى الأوّل :

إنّ أفعال الإنسان تنسب إليه حقيقة ، لأ نّه السبب لها، وهي تحت قدرته واختياره، ولكنها من جهة أُخرى داخلة في سلطان اللّه تعالى، لأنّ اللّه تعالى له الهيمنة على قدرة الإنسان، وهو المالك لما ملّكه، والقادر على ما أقدره .

مثال :

1 ـ إذا أصيبت يد إنسان بالشلل ، فلم يقدر على تحريكها بنفسه ، فبعث الطبيب عن طريق جهاز كهربائي الحركة في يد هذا الشخص ، بحيث أصبح هذا الشخص عند اتّصال يده بذلك الجهاز قادراً على تحريكها بنفسه :

فإنّ حركة يد هذا الشخص ستكون ـ في هذه الحالة ـ أمراً بين أمرين .

فهي لا تستند إلى صاحبها بنفسه كلّ الاستناد، لأنّ قدرته بحاجة إلى الاتّصال بالجهاز .

وهي لا تستند إلى الجهاز وحده ، لأنّ الحركة إنّما تكون باختيار هذا الشخص وإرادته(1).

____________

1- انظر: محاضرات في أصول الفقه ، السيّد الخوئي، بقلم: محمّد إسحاق الفياض: 2/87 ـ 89 . نقلا عن: التوحيد ، دروس السيّد كمال الحيدري، بقلم: جواد علي كسّار: 2/111 ـ 112 .


الصفحة 243

2 ـ إذا ملّك المولى عبده مالا ليتصرّف به :

فإذا قلنا: إنّ هذا التمليك لا يوجب أي مالكية للعبد، والمولى باق على مالكيته كما كان ، فإنّ ذلك هو القول بالجبر .

وإذا قلنا: إنّ هذا التمليك يبطل ملك المولى، كان قولا بالتفويض .

وإذا قلنا: إنّ العبد يكون مالكاً، ولكن المولى ـ في نفس الوقت ـ مالك لجميع ما يملكه العبد، كان ذلك قولا بالأمر بين الأمرين(1) .

المعنى الثاني :

إنّ المقصود من نفي الجبر والتفويض هو نفيهما في التكليف .

ونفي الجبر في التكليف يعني أنّ اللّه تعالى لم يجبر أحداً على الالتزام بالتكاليف .

ونفي التفويض في التكليف يعني أ نّه تعالى لم يفوّض أمر التكليف للعباد ، ليستلزم ذلك نفي التكليف، بل جعله أمراً بين أمرين ، وهو أنّ الإنسان يمتلك الاختيار في أداء التكاليف الإلهية(2) .

قال الشيخ المفيد:

"إنّ اللّه تعالى أقدر الخلق على أفعالهم، ومكّنهم من أعمالهم ، وحدّ لهم الحدود في ذلك ... فلم يكن بتمكينهم من الأعمال مجبراً لهم عليها، ولم يفوّض إليهم الأعمال لمنعهم من أكثرها، ووضع الحدود لهم فيها وأمرهم بحسنها ونهاهم عن قبيحها ، فهذا هو الفصل بين الجبر والتفويض"(3) .

المعنى الثالث :

إنّ لهداية اللّه تعالى وتوفيقاته مدخلا في أفعال العباد وطاعاتهم من غير أن تصل إلى حدّ الإلجاء والاضطرار وسلب القوة.

____________

1- انظر: الميزان ، العلاّمة الطباطبائي: ج1، تفسير سورة البقرة آية 26 ـ 27، ص100 .

2- انظر: هداية الأمة إلى معارف الأئمة، محمّد جواد الخراساني: المقصد الرابع: في أفعاله تعالى شأنه ، فصل: تفسير الأمر بين الأمرين بما ورد عنهم(عليهم السلام) ، ص654 ـ 658 .

3- تصحيح اعتقادات الإمامية، الشيخ المفيد: فصل: في الفرق بين الجبر والاختيار ، ص47 .


الصفحة 244

كما أنّ لخذلانه تعالى لهم وإيكالهم إلى أنفسهم مدخلا في فعل المعاصي وترك الطاعات من غير أن تصل إلى حدّ الإلجاء والاضطرار، ومن دون صحة نسبة تلك الأفعال إلى اللّه تعالى(1) .

المعنى الرابع :

إنّ المقصود من الأمر بين الأمرين هو تدخّل اللّه تعالى في أفعال العباد بإيجاد بعض مقدماتها، كما هو واقع في أكثر المقدمات الخارجية التي منها تهيئة الأسباب ورفع الموانع، فحينئذ لا يكون العبد مجبوراً على الفعل ولا مفوّضاً إليه بمقدماته(2) .

أقوال أئمة أهل البيت(عليهم السلام) حول معنى الأمر بين الأمرين :

1 ـ قال الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) حول معنى "أمر بين أمرين": "وجود السبيل إلى إتيان ما أمروا به ، وترك ما نهوا عنه"(3) .

2 ـ قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام) حول الأمر بين الأمرين: "مثل ذلك: رجل رأيته على معصية، فنهيته، فلم ينته، فتركته ، ففعل تلك المعصية، فليس حيث لم يقبل منك فتركته، كنت أنت الذي أمرته بالمعصية"(4) .

3 ـ سُئل الإمام جعفر بن محمّد الصادق(عليه السلام): أأجبر اللّه العباد على المعاصي؟

فقال(عليه السلام): " لا " .

فقال السائل: ففوّض إليهم الأمر ؟

فقال(عليه السلام): " لا " .

فقال السائل: فماذا؟

فقال الإمام الصادق(عليه السلام): "لطف من ربّك بين ذلك"(5) .

____________

1- انظر: بحار الأنوار ، العلاّمة المجلسي: ج5، كتاب العدل والمعاد، أبواب العدل، ب2، ذيل ح1، ص83 .

2- انظر: دلائل الصدق، محمّد حسن المظفر: ج1، إنّا فاعلون ، مناقشة المظفر ، ص440 ـ 441 .

3- بحار الأنوار ، العلاّمة المجلسي: ج5، كتاب العدل والمعاد، أبواب العدل ، ب1، ح18، ص12 .

4- الكافي، الشيخ الكليني: ج1، كتاب التوحيد، باب: الجبر والقدر والأمر بين الأمرين، ح13، ص160 .

5- المصدر السابق: ح8 ، ص159 .


الصفحة 245

4 ـ قال الإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) حول معنى الأمر بين الأمرين:

"إنّ اللّه عزّ وجلّ لم يطع بإكراه ، ولم يعص بغلبة، ولم يهمل العباد في ملكه ، هو المالك لما ملّكهم والقادر على ما أقدرهم عليه .

فإن ائتمر العباد بطاعته لم يكن اللّه عنها صاداً ولا منها مانعاً.

وإن ائتمروا بمعصيته، فشاء أن يحول بينهم وبين ذلك فعل، وإن لم يَحُل ، وفعلوه ، فليس هو الذي أدخلهم فيه"(1) .

5 ـ قال الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام):

"لا تقولوا: وكّلهم اللّه إلى أنفسهم، فتوهنوه .

ولا تقولوا: أجبرهم على المعاصي فتظلموه .

ولكن قولوا: الخير بتوفيق اللّه .

والشر بخذلان اللّه .

وكلّ سابق في علم اللّه"(2) .

6 ـ قال الإمام علي بن محمّد الهادي(عليه السلام) حول معنى الأمر بين الأمرين:

"هو الامتحان والاختبار بالاستطاعة التي ملّكنا اللّه وتعبّدنا بها ..."(3) .

____________

1- التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 59: باب نفي الجبر والتفويض، ح7، ص351 .

2- الاحتجاج ، الطبرسي: ج1، احتجاجه(عليه السلام) في القضاء والقدر ، ص493 .

3- تحف العقول ، الحسن بن علي الحرّاني: ما روى عن الإمام أبي الحسن علي بن محمّد(عليه السلام)، رسالته في الرد على أهل الجبر والتفويض، ص345 .


الصفحة 246

الصفحة 247

فهرس المطالب / تحميل الكتاب

فهرس المطالب

zip pdf doc